وذكر القلب نوعان:
أحدهما: هو أرفع الأذكار وأجلها، وهو إعمال الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سمواته وأرضه.
والثاني: ذكر القلب عند الأمر والنهي؛ فيتمثل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه؛ طمعًا في ثواب الله تعالى وخوفًا من عقابه.
أما ذكر الجوارح: فهو أن تصير مستغرقة في الطاعات؛ ومن ذلك سميت الصلاة ذكرًا؛ فقال تعالى: }فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ { [الجمعة: 9]، قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا { [الأحزاب: 41].
أمر الله تعالى عباده بأن يذكروه ويشكروه، وأن يشغلوا ألسنتهم في معظم أحوالهم بالتسبيح و التهليل، والتحميد والتكبر.
قال مجاهد: هذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب، وقال: لا يكون ذاكرًا الله تعالى كثيرًا حتى يذكره قائمًا وجالسًا ومضطجعًا.
وقال ابن عباس– رضي الله عنه-: إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضةً إلا جعل لها حدًا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر؛ فإن الله تعالى لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على تركه؛ فقال تعالى: }فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ{ [النساء: 103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال، فإذا فعلتم ذلك، صلى الله عليكم وملائكته.
وقال معاذ بن جبل – رضي الله عنه: «ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله».
لقد ذكر الله – عز وجل – الذكر في آيات كثيرة جدًا في القرآن، وجعل ذكره للذاكر جزاءً لذكره له، وأنه أكبر من كل شيء، وختم الأعمال الصالحة به.
قال رسول الله r: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟! قالوا: بلى! قال: ذكر الله تعالى» [أخرجه الترمذي].
وقال رسول الله r: «أحب الكلام إلي الله أربع؛ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ لا يضرك بأيهن بدأت» [أخرجه مسلم].
فائدة في «لا إله إلا الله»: قيل: إن هذه الكلمة فيها خاصيتان:
إحداهما: أن جميع حروفها جوفية، والحروف الجوفية: هي التي يكون مخرج نطقها من الجوف، وليس فيها حرف من الحروف الشفهية التي يكون مخرجها من الشفتين؛ مثل الباء، والفاء، والميم، إشارة إلى الإتيان بها من خالص الجوف، وهو القلب، لا من الشفتين.
الثانية: أنه ليس فيها حرف ذو نقط؛ بل جميعها متجردة عن النقط؛ إشارة إلى التجرد عن كل معبودٍ سوى الله تعالى.
ثامنًا: حسن الخلق:
قال رسول الله r: «أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا». حسنُ الخُلق: الخُلُقُ والخَلْق عبارتان مستعملتان معًا، يقال: فلان حَسَنُ الخُلُقِ والخَلْق؛ أي حسَنُ الباطن والظاهر.
والإنسان: مركَّب من جسد مدركٍ بالبصر، ومن روحٍ ونفسٍ مدركةٍ بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيئة وصورة: إما قبيحة، وإما جميلة.
فالخُلُقُ: عبارة عن هيئة في النفس راسخةٍ؛ عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسرٍ، من غير حاجةٍ إلى فكر ورويَّة، ولا يوصف الإنسان بخلق حسن ما حتى يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخٍ، وتصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية؛ أما من تكلف عملاً ما بجهدٍ ورويَّة فلا يقال: إن هذا خُلُقُه. ومثال ذلك: الذي يتكلف بذل المال لحاجةٍ عارضة، أو يسكت عند الغضب بجهد وروية؛ لا يقال: خلقه السخاء والحلم.
إن الخلقة الظاهرة لا يمكن تغييرها؛ بينما الأخلاق على العكس من ذلك؛ حيث تقبل التغيير؛ ولهذا أوجِد الدينُ، وكانت الدعوة إلى مكارم الأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجدت الوصايا والمواعظ والتأديبات، وقد قال الله تعالى: }إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ{ [الرعد: 11].
واكتساب أخلاقٍ حسنةٍ جديدة ممكن بالمجاهدة ورياضة النفس، وقد كان النبي r يدعو ربه؛ ليرشده إلى أحسن الأخلاق، ويوفقه للتخلق بها: «اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت». [أخرجه النسائي]، وكان r يوصي: «وخالق الناس بخُلُق حسن».
وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العلم، قليل الزلل، قليل الفضول، براً وصولاً، وقورًا صبورًا شكورًا، رضيًا حليمًا رفيقًا، عفيفًا شفيقًا، لا لعانًا ولا سبابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولاً ولا حقودًا، ولا بخيلاً ولا حسودًا، بشاشًا هشاشًا، يحب في الله، ويبغض في الله، ويرضى في الله، ويغضب في الله.
قال رسول الله r: «ما من شيءٍ يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة». [أخرجه الترمذي].
وإنما أعطي صاحب الخلق الحسن هذا الفضل العظيم؛ لأن الصائم والمصلي في الليل يجاهدان أنفسهما في مخالفة حظهما؛ أما من يحسن خلقه مع الناس مع تباين طبائعهم وأخلاقهم فكأنه يجاهد نفوسًا كثيرة، فأدرك ما أدركه الصائم والقائم في الليل في الطاعة فاستويا في الدرجة؛ بل ربما زاد.
إن لحسن الخلق ثمراتٍ، وهي علامات تدل عليه؛ قيل: أن لا يخاصم من شدة معرفته بالله، وقيل: أن يكون من الناس قريبًا، وفيما بينهم غريبًا. وقيل: هو الرضا عن الله تعالى. وقيل: أدناه الاحتمال، وترك المكافأة، والرحمة للظالم، والاستغفار له، والشفقة عليه.
تاسعًا: يحب الله التقي الغني الخفي:
قال رسول الله r: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
التقي: هو الذي يؤمن بالغيب، ويقيم الصلاة، وينفق مما رزقه الله، ويتقي محارم الله، ويطيع ويتَّبع شريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم r.
والمراد بالغني: الغني غنى النفس؛ هذا هو الغنى المحبوب؛ لقوله r: «ليس الغنى عن كثرة العرض؛ ولكن الغنى غنى النفس» [أخرجه البخاري].
قال ابن بطال: معنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسَّع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي؛ فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه؛ فكأنه فقير لشدة حرصه؛ وإنما حقيقة الغنى غنى النفس؛ وهو من استغنى بما أوتي، وقنع به ورضي، ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب؛ فكأنه غني.
وغنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره؛ علمًا بأن الذي عند الله خير وأبقى، قال ابن حجر: «وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب؛ بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره؛ فيتحقق أنه المعطي المانع؛ فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه تعالى».
والخفي: هو المنقطع إلى العبادة والاشتغال بأمور نفسه؛ قال رسول الله r: «رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» [أخرجه مسلم].
إن الله يحب التقي الخفي الذي إن غاب لم يفقد، وإن حضر لم يعرف؛ لا يتظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم، ولا يطلب الجاه في قلوب الخلق؛ يقنع باطلاع الخلق على طاعته دون اطلاع الخلق، ويقنع بحمد الله وحده دون حمد الناس.
عاشرًا: يحب الله الرجل السمح:
قال رسول الله r: «إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء» [أخرجه الترمذي].
السماحة: هي السهولة والجود، و«سمحًا» أي: سهلاً جوادًا، والسماحة من الإيمان؛ قال r: «الإيمان الصبر والسماحة» [أخرجه أحمد].
وسمح البيع والشراء: هو الذي يكون سهلاً جوادًا إذا باع، وإذا اشترى، ويتجاوز عن بعض حقه إذا باع.
وسمح القضاء: هو الذي يطلب حقه بسهولةٍ ورفقٍ ولين جانبٍ، وعدم إلحاحٍ أو إضرار؛ فالسمح: هو الذي يتعامل مع الناس بسماحةٍ وسهولة، ويستعمل معالي الأخلاق، ويترك الخلاف.
والله يحب الرجل السمح؛ لشرف نفسه، وحسن خلقه بما ظهر من قطع علاقة قلبه بالمال الذي هو رمز الدنيا، وإفضاله على عباد الله، ونفعه لهم؛ فلذلك استوجب محبة الله تعالى.
حادي عشر: يحب الله العفو:
قال r: «إن الله يحب العفو»، وقال الله تعالى: }خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{ [الأعراف: 199]، وقال تعالى:
}وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { [آل عمران: 134]، وقال تعالى: }وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى{ [البقرة: 237].
والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح: إزالة أثره في النفس، ويكون العفو ممن له حق فيسقطه؛ في مال أو عرض أو دم ونحوه.
وقد مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم؛ فقال تعالى: }وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ{ [الشورى: 37].
العفو: اسم من أسماء الله الحسنى، والعفو: صفة من صفات الله تعالى، وهو يعفو عن عباده، مع قدرته على عقابهم.
وقال تعالى: }وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [النور: 24]؛ فالجزاء من جنس العمل؛ فكما تعفو عمن أساء إليك يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك.
وحث رسول الله r على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وملك النفس عند الغضب؛ وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس؛ فقال r: «ما من جرعةٍ أعظم أجرًا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» [أخرجه ابن ماجه].
وقال r: «من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء» [أخرجه الترمذي]، أي: شهره بين الناس، وأثنى عليه، وتباهى به حتى يجعله مخيرًا في أخذ أي الحور العين.
وقال المصطفي r: «وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».
فيه وجهان:
1- أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح، عظم في القلوب، وزاد عره وإكرامه.
2- أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك.
وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعهما في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله r: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» [أخرجه البخاري].
وقال r: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» [أخرجه مسلم].
والرفق سبب كل خير؛ قال r: «من يحرم الرفق يحرم الخير».
وقوله: «إن الله رفيق» أي: لطيف بعباده، يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر؛ فلا يكلفهم فوق طاقتهم «يعطى على الرفق» أي: يثيب عليه ما لا يثيب على غيره؛ فيعطى عليه في الدنيا من الثناء الجميل ونيل المطالب وتسهيل المقاصد، وفي الآخرة من الثواب الجزيل: «ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه».
والرفق واللين: نتيجة حسن الخلق وثمرته.
وقيل: الحكمة أن تضع الأمور في مواضعها؛ الشدة في موضعها، واللين في موضعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعة؛ فالمحمود وسط بين العنف واللين؛ كما في سائر الأخلاق؛ ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل، كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر؛ فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف.
والكامل: من ميز مواقع الرفق عن مواقع العنف؛ فيعطي كل أمر حقه؛ فإن كان قاصر البصيرة أو أشكل عليه حكم واقعةٍ من الوقائع، فليكن ميله إلى الرفق؛ فإن النجاح معه في الغالب؛ فقد قال المصطفي r: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».
ثالث عشر: يحب الله الحياء والستر:
قال رسول الله r: «إن الله عز وجل حليم حيي ستير؛ يحب الحياء والستر؛ فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» [أخرجه النسائي].
وقال رسول الله r: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» [أخرجه مسلم].
«وقد كان النبي r أشد حياء من العذراء في خدرها».
الحياء في اللغة: من الحياة، واستحيا الرجل: من قوة الحياة فيه؛ لشدة علمه بمواقع العيب.. فالحياء من قوة الحس ولطفه، وقوة الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء.
والحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه:
أحدها: حياؤه من الله تعالى.
والثاني: حياؤه من الناس.
والثالث: حياؤه من نفسه.
فأما حياؤه من الله تعالى: فيكون بامتثال أوامره والكف عن زواجره، وقد قال r «استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله! قال: ليس ذاك؛ ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» [أخرجه الترمذي].
وهذا الحياء يكون من قوة الدين وصحة اليقين.
أما حياؤه من الناس: فيكون بكف الأذى، وترك المجاهرة بالقبيح.
وهذا النوع من الحياء قد يكون من كمال المروءة، والحذر من الملامة والذم.
أما حياؤه من نفسه فيكون بالعفة وصيانة الخلوات؛ قال r: «الحياء لا يأتي إلا بخير»، وقال – أيضًا – عليه الصلاة والسلام: «الحياء خير كله». أو قال: «الحياء كله خير»؛ أي: أنه سبب لجلب الخير إليه.
وقال r: «ما كان الحياء في شيء إلا زانه».
فقوله: «في شيء» فيه مبالغة؛ أي: لو قدر أن يكون الحياء في جمادٍ لزانه، فكيف بالإنسان؟!
قال الله تعالى: }يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ{ [الأعراف: 26].
أمر الله – عز وجل – بني آدم بتغطية العورات، وستر الأجسام؛ لأنه يحب الستر، ويبغض التعري، وكذلك أمر رسوله r بالستر والاعتناء بحفظ العورة، ونهى عن التعري؛ فقال: «إياكم والتعري».
رابع عشر: يحب الله الراضي بالبلاء:
قال رسول الله r: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» [أخرجه الترمذي].
الراضي بالبلاء: هو العبد الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، ويختبره بالمحن والمصائب، فيصبر ويسترجع ويحتسب ذلك عند الله، ويرضى بما ابتلاه الله به؛ فيكون له الرضا وجزيل الثواب على قدر مصيبته، وابتلاء الله – عز وجل – عبده المؤمن في الدنيا ليس من سخطه عليه؛ بل إما لدفع مكروه، أو لتكفير ذنوب، أو لرفع منزلة.
وقد قال r: «ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتَّ الله عنه خطاياه؛ كما تحاتُّ ورق الشجر» [أخرجه البخاري].
وهذه بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفك غالبًا من ألمٍ بسبب مرضٍ أو هم أو نحو ذلك.
والصبر على البلاء يكون عند الصدمة الأولى، كما أشار r: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»؛ فأشار إلى أن الصبر الشاق على النفس، والذي يعظم الثواب عليه: هو ما يكون في أول وقوع البلاء ومفاجأة المصيبة، فيفوض ويسلم؛ فيدل ذلك على قوة القلب وثباته في مقام الصبر، أما إذا بردت حرارة المصيبة فالكل يصبر إذ ذاك.
فالإنسان في هذه الدار معرض دائمًا للبلاء والفتنة، والاختبار والامتحان؛ قال تعالى: }وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً{ [الأنبياء: 35]، بالمصائب وبالنعم، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر, والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال.
فليس من السهل الحصول على مرتبة الإيمان بكلمةٍ تقال باللسان؛ بل لا بد من امتحان من يدعي الإيمان، ومصداق ذلك قوله تعالى: }أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { [العنكبوت: 3]، وقوله تعالى: }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ { [محمد: 31].
وسبب الابتلاء – أيضًا – كما قال تعالى: }الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا{ [الملك: 2]؛ فالابتلاء امتحان للعبد أيرضى أم يسخط؟ أيصبر أم يجزع؟ أيشكر أم يكفر؟
وقد علمنا رسول الله r أن ندعو الله تعالى ونسأله الأجر والثواب والتعويض بخير عن المصيبة التي وقعت؛ فقال – عليه الصلاة والسلام -: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: }إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها».
كما علمنا إذا رأينا مبتلى أن نحمد الله على المعافاة؛ فقال r: «من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، لم يصبه ذلك البلاء» [أخرجه الترمذي].
خامس عشر: يحب الله إتقان العمل:
قال r: «إن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن».
إحسان العمل هو الإخلاص والعدل فيه، والله – عز وجل – بحب من كل عامل إذا عمل عملاً أن يحسن عمله، ويؤدي الأمانة بقدر جهده، ولا يشتغل عن عبادة ربه؛ كما قال تعالى: }رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ { [النور: 37].
خص الله تعالى التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن العبادات، وأهمها الصلاة؛ ولهذا مدح هؤلاء الذين لا تلهيهم التجارة عن العبادات، ولا شك أنهم يحسنون صنعًا، ويحسنون أعمالهم، ويوفقون بينها وبين العبادات ومواقيت الصلاة.
سادس عشر: أحب الأشياء إلي الله قطرتان وأثران:
قال r: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين؛ قطرة من دموع في خشية الله، وقطره دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضةٍ من فرائض الله» [أخرجه الترمذي].
ليس شيء أحب إلى الله – عز وجل – من قطرة دموع تفيض من عين من شدة خوف الله وعظمته؛ فهذه العين لا تمسها النار.
بل إن صاحب هذه العين الباكية من خوف الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ قال r: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» [أخرجه البخاري].
وقد مدح الله النبيين الذين أنعم الله عليهم بأنهم إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا؛ فقال تعالى: }إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا{ [مريم: 58].
وقد قرأ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سورة مريم فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكي؟! يريد البكاء.
ومدح الله – عز وجل – الذين أوتوا العلم أنهم إذا تلي عليهم – كما وصفهم تعالى -: }وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا { [الإسراء: 109].
كذلك ليس شيء أحب إلى الله – عز وجل – من أثر في فريضةٍ من فرائض الله؛ كالساعي المتعب نفسه في أداء الفرائض، والقيام بها، والكد فيها؛ مثل: تشقق الأقدام من برد ماء الوضوء، أو خلوف فمه في الصوم، أو اغبرار قدمه في الجمعة والحج.
فعن عبايه بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت رسول الله r يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله، حرمه الله على النار» [أخرجه البخاري]، والمراد بقوله: «في سبيل الله»: جميع طاعاته.
هذا ما تيسر جمعه من أحب الأعمال إلى الله؛ وإلا فإن ما اختص به الفضل والمحبة عند الله تعالى من الأعمال الصالحة كثير جدًا لا يمكن حصره في هذا المقام.
والله أسأل أن يوفقنا إلى أحب الأعمال إليه، ويختم لنا بمرضاته.
والحمد لله رب العالمين