قال الله عزّ وجل: {{يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *}} [المائدة: 51] .
قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} } الخطاب مصدر بالنداء، فلماذا صدر بالنداء؟
أولاً: لتنبيه المخاطب؛ لأنك إذا أتيت بالكلام مرسلاً قد يحصل من المخاطب غفلة، لكن إذا ناديته قد يكون في ذلك تنبيه له، فصدر الخطاب بالنداء للتنبه والعناية به، ثم وجه هذا النداء {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} } للإغراء والحث؛ لأنه كلما كان الإنسان مؤمناً كان أقبل للحق، فوجه الخطاب للمؤمنين إغراءً به وحثاً عليه، كما تقول للرجل: يا أيها الكريم، عند بيتك ضيف، المعنى تحثه لأن يكرم هذا الضيف، أي: تحثه على الكرم، وعلى حسن الضيافة له.
ثانياً: توجيهه للمؤمنين إشارة إلى أن مقتضى الإيمان العمل بما دل عليه الخطاب، والخطاب الذي في الآية: هو النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
ثالثاً: أن مخالفة مقتضى الخطاب منافٍ للإيمان، وهل هو منافٍ للإيمان أصلاً أو كمالاً؟
هذا على حسب ما يقتضيه السياق، قد يكون منافياً للإيمان أصلاً وقد يكون منافياً للإيمان كمالاً.
لو قال قائل: إضافة الحكم إلى الجاهلية وإضافته إلى القضاء كما في قول الشافعي: «وطب نفساً إذا حكم القضاء» هل ينافي أن أصل التحكيم إنما هو إلى الله؟
الجواب: هذه ليست كهذه، وطب نفساً إذا حكم القضاء، يعني: القضاء القدري، يعني: إذا قضى الله عليك بما تكره فلا تقابل هذا بالجزع والسخط، بل ارضَ بما قدر الله عزّ وجل عليك.
لو قال قائل: بعض المتأخرين ميز بين الكفار الذين يحادون الله ورسوله والكفار من أهل الذمة، وقال: أهل الذمة يجوز موالاتهم، والكفار المحادون لله ورسوله لا تجوز موالاتهم؟
الجواب: إن هذا غلط، الموالاة ممنوعة دائماً، أما مسألة البر والمعاملة بالعدل فهذه جائزة فيمن لم يقاتلنا في الدين ولم يخرجنا من ديارنا، فيجوز أن نبرهم ويجوز أن نقسط إليهم، يعني: لا بأس أن نعاملهم بالإحسان والعدل، لكن لا يقر في نفوسنا أننا سنكون لهم أولياء، نحامي دونهم ونذود عنهم، وأما الذميون الذين عندنا في بلادنا وتحت إمرتنا ويعطوننا الجزية، علينا أن نمنع العدوان عليهم ما داموا في بلادنا، لكن لو خرجوا فلسنا المسؤولين عنهم.
لو قال قائل: بعض الدول تحكم بشرع الله لكن تسمي هذا التشريع قانوناً وتجعله على شكل مواد، مثلاً مادة رقم كذا: إذا طلق ثلاثاً لا يقع الطلاق ثلاثاً، وما أشبه ذلك هل في هذا محظور شرعي؟
الجواب: على كل حال مسألة تقنين الشريعة غير ترتيب أبواب الفقه، يعني: مثلاً: إذا جعلوا باب الطلاق مثلاً مواداً فليس في هذا مشكلة، إلا إذا كانوا يريدون أن يلزموا القضاة بالحكم بها، سواء وافق اختيارهم أم لا؛ لأن مسائل الطلاق فيها خلاف، ومسائل النكاح فيها خلاف، وأشياء كثيرة، والعلماء ما زالوا مختلفين بدون قانون، فلا يجوز إلزام القاضي أن يحكم بشيء معين، حتى وإن كان عليه طائفة من الفقهاء.
لو قال قائل: ما رأيكم في قول بعض المعاصرين: إن المحكم الذي تبنى عليه الأصول والقواعد العامة في الشرع لا يتجاوز واحداً في المائة، وأن المتشابه يقدر بتسع وتسعين في المائة، ولذلك نرى هذا الاختلاف الكبير بين الفقهاء؟
الجواب: أقول: هذا يدل على جهله، وأن كل شيء عنده مشتبه؛ لأنه لا يعرف، وإلا فالمتشابه لا يمثل واحداً في المائة من أدلة الشرع، كلها والحمد لله واضحة وبينة، لكن الله يقول: {{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}} [النور: 40] .
قوله: {{لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} } اليهود مكذبون بجميع الرسل كافرون بجميع الرسل، وكذلك النصارى، واليهود سموا بذلك إما نسبة لأبيهم يهوذا أو أنها من قوله تعالى: {{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}} [الأعراف: 156] فالذين هادوا أي: رجعوا، أما النصارى فقيل: إنها من النصرة؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: {{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}} [الصف: 14] ، وإما نسبة إلى البلد المعروفة في فلسطين اسمها الناصرة؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان هناك فالله أعلم، ويجوز أن تكون من هذا وهذا ولا منافاة.
لو قال قائل: هل يصح الدعاء: اللهم إنا هدنا إليك؟
الجواب: إذا كانت بمعنى رجعنا يصح يعني إذا علم الداعي المعنى يصح.
قوله: {{لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} }، اليهود والنصارى: مفعول أول، وأولياء: مفعول ثاني، تتخذ أو اتخذ: هذا الفعل معناه التصيير، أي: لا تصيروهم أولياء، واليهود هم الذين يَدَّعُونَ أنهم أتباع موسى، والنصارى هم الذين يدعون أنهم أتباع عيسى وكلهم ليسوا أتباعاً لا لموسى ولا لعيسى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل، هذه أقولها دائماً من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل شاء أم أبى، وشاهد ذلك قوله تعالى: {{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ *}} [الشعراء: 105] مع أن قوم نوح ما أدركوا من الرسل إلا واحداً، ومع ذلك قال: إنهم كذبوا المرسلين؛ لأن من كذب رسولاً فقد كذب جنس الرسالة، فيكون هؤلاء الذين كذبوا نوحاً مكذبين إلى آخر الرسل محمد عليه الصلاة والسلام.
وقوله: «أولياء» جمع ولي، ووزنه أفعلاء، ولهذا مُنِعَ من الصرف لوجود ألف التأنيث الممدودة، فما معنى أولياء؟ الولي: يطلق على معان متعددة في اللغة العربية، لكن لا يمكن أن نفهم أو أن نحدد معناه في موضع إلا بعد أن نتتبع المواضع كلها، فمثلاً: «السلطان ولي من لا ولي له» [(1)]، هذه ولاية لها معنى، السيد ولي عتيقه هذه ولاية لها معنى، وقوله تعالى: {{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ}} [التحريم: 4] ولاية لها معنى أيضاً