يقصون في بعض الأساطير القديمة أن حكيما من حكماء اليونان كان يحب زوجته حبا مَلَكَ عليه قلبه و عقله , و كان يخشى أن تدور الأيام دورتها , فيموت ... ويفلت ذلك القلب منه إلى يد صائد آخر يعتلقه من بعده ! ..
وكان هذا الرجل الحكيم كلما يتذكر هاته اللحظات يشكو الى زوجته ما يساوره من هموم ,إلا أنها تحن عليه , و تعلله بمعسول الأماني , وتقسم له بكل محرجة من الأيمان أنها لا تسترد هبة قلبها منه حيا أو ميتا ! ..
فاطمئن الحكيم لكلامها ..... و لكنه سرعانما يعود الى هواجسه ووسواسه . وفي احدى الليالي المقمرة وأثناء عودته الى المنزل مرّ بمقبرة المدينة ... فقرر أن يدخلها ليروح عن نفسه هموم الموت , وبينما هو يمشي رأى بين تلك القبور إمرأة متسلبة ( أي تلبس السواد من الثياب , لون الحزن ) جالسة أمام قبر جديد لم يجف ترابه بعد ...وبيدها مروحة من الحرير الأبيض مطرز بأسلاك من الذهب , تحركها يمنة ويسرة لتجفف بها بلل ذلك التراب ...
فعجب لشأنها ... وتقدم نحوها فارتاعت لمرآه , ثم أنست به حينما عرفته , فراح يساعدها في تجفيف القبر ... وبعد ذلك سألها الحكيم بكل ما يجول في خاطره عما تفعله....
فقصت عليه المرأة قصتها , فحدثته أن هذا الدفين زوجها , وأنه مات منذ ثلاثة أيام , وأنها جالسة من الصباح مجلسها هذا لتجفف قبره وفاء بيمين كانت قد أقسمتها له
قبيل موته ألا تتزوج من غيره حتى يجف تراب قبره ..... لترتاح من يمينها وتتزوج رجلا غيره...
فشكرت المرأة صنيع الرجل و أهدته المروحة , فتقبلها وانصرف ... ومشى في طريقه مشية الرائح( المخمور ) النشوان يحدث نفسه ويقول :" أنه أحبها و أحسن إليها .. فلما مات جلست فوق قبره لا لتبكيه ... و لا لتذكر عهده ... بل لتحلل من يمين الوفاء التي أقسمتها له ... فكأنما و هي جالسة أمام زوجها الأول تعد عدة الزواج من زوجها الثاني ... و كأنما اتخذت من صفائح قبره مرآة تصقل أمامها جبينها , وتصفف طرّتها , وتلبس حليتها للزفاف الى غيره ! ...."
وعند وصوله الى المنزل رأى زوجته ماثلة أمامه ... مرتاعة لمنظره المؤلم المحزن , فقال لها :إن إمرأة خائنة غادرة أهدت اليّ هذه المروحة , فقبلتها منها إليك !..
لأنها أداة من أدوات الغدر والخيانة , و أنت أولى بها مني....ثم أنشأ يقص عليها قصة المرأة ...
عندها غضبت الزوجة منه وانتزعت من يده المروحة ومزقتها إربا إربا ... بعد أن فهمت بأن زوجها يقصدها ... و أن حاله ستؤول مآل المرأة الغادرة و المروحة ...
فقالت له ألا يزال هذا الوسواس عالقا بصدرك مادمت حيا ؟ و هل تحسب أن إمرأة في العالم ترضى لنفسها بما رضيت به لنفسها تللك المرأة الغادرة ؟
فأقسمت له بأن لا تتزوج من بعد موته .... فاطمأن الحكيم لقسمها و عاد الى هدوئه و سكونه ....
.
.
.
مضى على ذلك عام , ثم مرض الرجل مرضا شديدا , و لم يجد لمرضه علاجاحتى أشرف على الموت, فدعى زوجته و ذكرها بقسمها وعهدها له فاذّكرت ...
فما غربت شمس ذلك اليوم حتى غربت شمسه , فأمرت أن يسجى بردائه و يترك وحده في قاعته حتى يحتفل بدفنه في اليوم الثاني ....
وبينما المرأة كذلك خالية بنفسها تندب و تبكي فراق زوجها , دخلت عليها الخادم و أخبرتها بأن هناك فتى خرّ صاعق أمام باب المنزل , يقولون بأنه أحد تلامذة الحكيم , فأمرتها أن تذهب به الى غرفة الضياف , وأن تتولى شأنه حتى يستفيق ...
وبعد مرور بعض من الوقت قررت أن تطمئن على حالته ... وعند وصولها غرفة الضيف وجدته مسجى على سريره , ولما اقتربت منه أكثر و نظرت في وجهه , فرأت أبدع سطر خطته يد القدرة الإلهية في لوح الوجود! ... فأنساها الحزن على المريض المشرف ... الحزن على الفقيد الهالك........
وعناها أمره ... فلم تترك وسيلة من وسائل العلاج إلا توسلت بها إليه حتى استفاق ونظر الى طبيبته بجانب سريره نظرة الشكر والثناء , ثم أنشأء يقص عليه قصة حياته ...فعرفت كل ما كان يهمها أن تعرفه .... فعرفت مسقط رأسه , وصلته بزوجها الحكيم , و أنه فتى غريب في قومه , لا أب له و لا أم , و لا زوجة ولا ولد .
وهنا إغتنمت المرأة فرصة لا ثانية لها وهي أن تكسب ود الرجل وقالت له :
- انك قد ثكلت أستاذك , و أنا ثكلت زوجي ... فأصبح همنا واحدا .
فهل لك أن تكن عونا لي و أن أكون عونا لك على هذا الدهر الذي لم يترك لنا مساعدا ولا معينا !..
فألّم بخبيئة نفسها ... فابتسم ابتسامة وقال لها :
-من لي يا سيدتي أن أظفر بهذه الأمنية العظمى! وانا أشكو مرضا يساورني , ولا يكاد يهدأ عني ... وخاصة أن الطبيب قد أنذرني بقؤب أجلي ... فاطلبي سعادتك عند غيرك ... فأنت من بنات الحياة , وأنا من بناة الموت!...
فقالت له : انك ستعيش , وسأعالجك ... ولو كان دواؤك بين سَحْري ونَحْري( أي رئتتي و عنقي)
قال : دوائي صعب الحصول عليه , وعالم بأني لا أجد السبيل إليه...
قالت : وما دواؤك ؟
قال : حدثني طبيب أن شفائي في أكل دماغ ميت ليومه , فما دام ذلك يعجزني ... فلا دواء ولا شفاء....
ارتعدت وشحب لونها .... ثم طأطأت رأسها و أخذت تحدث نفسها وقالت :
كن مطمئن ... فدواؤك لا يعجزني.
و أمرته أن يعود الى راحته وسكونه , و خرجت من الغرفة متسللة حتى وصلت إلى غرفة سلاح زوجها , وأخذت منها فأسا قاطعة , ثم مشت بخلسةحتى وصلت الى غرفة الميت ... ففتحة الباب ... فدار على عقبه .. وصرّ صريرا مزعجا , فجمدت في مكانها رعبا وخوفا ... ثم دارت بعينيهلا حولها , فلم تر شيئا ... فتقدمت لشأنها حتى دنت من السرير , ورفعت الفأس لتضرب رأس زوجها الذي عاهدته ألا تتزوج من بعده ! ......ولم تكد تهوي بها حتى رأت الميت فاتحا عينه ينظر إليها ! .... فسقطت الفأس من يدها , وسمعت حركة وراءها ... فالتفتت , فرأت الضيف و الخادم واقفين يتضاحكان , ففهمت كل شيء !
وهنا تقدم نحوها زوجها و قال لها :
- أليست المروحة في يد تلك المرأة أجمل من هذا الفأس التي في يدك ؟ أليست التي تجفف تراب قبر زوجها بعد دفنه أفضل من التي تكسر دماغه قبل نعيه ؟
فصارت تنظر إليه نظرا غريبا .... ثم شهقت شهقة كانت فيها نفسها !
أرجو أنني قد وفقت في اختيار الموضوع
وأن القصة قد نالت اعجابكم
و أرجو أن طولها لم ينقص من مدلولها
تقبلوا تحياتي
أخوكم إسماعيل صارم
المصدر : من كتاب الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي , النظرات 2 بتصرف