سلسلة منهجية : بين منهجين - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم النوازل و المناسبات الاسلامية .. > قسم التحذير من التطرف و الخروج عن منهج أهل السنة

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

سلسلة منهجية : بين منهجين

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2014-02-05, 10:02   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي سلسلة منهجية : بين منهجين

هذه المقالات للشيخ ابي العباس حفظه الله
بين منهجين (1) :مبنى الحكم على الرجال هل هو اجتهادي أو نصيّ ؟.


لا يختلف اثنان من المشتغلين بالعلم الشرعي –عموما- وعلم الحديث ورجاله على جهة الخصوص , أن أحكام الأئمة النقاد في رجال الحديث ونقلته جرحا وتعديلا مبناها على استفراغ الوسع , وبذل الجهد , والبحث والنظر في أحوال هؤلاء الرجال , ومعرفة أحوالهم من جهة وصف العدالة الجامع للسلامة من موجبات الفسق , وخوارم المروءة , وكذلك من جهة ضبطهم لما ينقلونه من أخبار من خلال مقارنة مروياتهم بمرويات غيرهم , ومروياتهم بعضها بالبعض الآخر , فينشأ عن دقة النظر –هذا- , مع ما يشترطه الناقد من شروط التوثيق إصدار أحكام التعديل والتجريح في حق الرواة والرجال .

وعلى قدر التفاوت في دقة الشروط الموضوعة , والاطلاع على أحوال الرواة ؛ يكون تفاوت الحكم عليهم قوة وضعفا .
قال بن طاهر : (سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه ؛ فقلت : قد ضعفه النسائي ؛ فقال : يا بني إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم) . تذكرة الحفاظ (2\700) .

ولهذا يعلم من له أدنى نظر في كتب الجرح والتعديل مقدار التفاوت الكبير بين أحكام أئمة هذا الفن في الرجال , حالهم في ذلك حال اختلاف أئمة الفقه في مسائله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري (1\72) : "وكلام يحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي حاتم وأبي زرعة والنسائي وأبي أحمد بن عدي و الدارقطني وأمثالهم في الرجال وصحيح الحديث وضعيفه هو مثل كلام مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأمثالهم في الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام" .
وما هذه المثلية , إلا بسبب الاشتراك في مصدر الحكم ألأ وهو الاجتهاد , فالحكم على الرجال يكون مبناه إما على النص أو على الاجتهاد :
فأما النص فكما في حكمه (صلى الله عليه وسلم) على جم غفير من الصحابة –بأعيانهم- أنهم من أهل الجنة كالعشرة المبشرة ؛ وفي غيرهم أنهم كذا وكذا وكذا من أوصاف المدح والثناء والخيرية , كما في أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : [أرحم أمتي بأمتي أبو بكر , وأشدهم في أمر الله عمر , وأصدقهم حياء عثمان , وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل , وأفرضهم زيد بن ثابت , وأقرؤهم أبي , ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح] .
وضده كذلك حكمه (صلى الله عليه وسلم) في أناس بأعيانهم أنهم منافقون –كما أخبر بأسمائهم حذيفة بن اليمان- ؛ ونحو ذلك .

أما وقد انتفى النص بموت النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يبقى سوى الاجتهاد مصدرا في الحكم على الرجال , ولهذا فقد أطبقت كلمة علماء الأمة في فن النقد على أن مبنى الحكم على الرجال داخل في باب الاجتهاد :

قال أبو عيسى الترمذي –رحمه الله- كما في ملحق العلل الصغير (5\756) : "اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال كما اختلفوا فيما سوى ذلك من العلم". وانظر : رسالة في الجرح والتعديل -للمنذري- (ص\35) , والنكت على مقدمة ابن الصلاح –لجمال الدين بن بهادر-.

قال أبو الحسين القرشي في غرر الفوائد (ص\170) : "عبد الرحمن بن خالد هذا ليس من شرط مسلم فلا يلزمه إخراج حديثه , وإن كان ثقة قد أخرج له البخاري في صحيحه واحتج بحديثه إلا أن لكل واحد منهما اجتهادا يرجع إليه وانتقادا في الرجال يعول عليه" .

وقال العلامة كمال الدين السيواسي في شرح فتح القدير (1\455) : "وقد أخرج مسلم عن كثير في كتابه ممن لم يسلم من غوائل الجرح وكذا في البخاري جماعة تكلم فيهم فدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم وكذا في الشروط حتى أن من اعتبر شرطا وألغاه آخر يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه ذلك الشرط عنده مكافئا لمعارضة المشتمل على ذلك الشرط وكذا فيمن ضعف راويا ووثقه الآخر
نعم تسكن نفس غير المجتهد ومن لم يخبر أمر الراوي بنفسه إلى ما اجتمع عليه الأكثر أما المجتهد في اعتبار الشرط وعدمه والذي خبر الراوي فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه".

قال الحافظ الذهبي في الموقظة : "هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى ، لم يجتمع علماؤه على ضلالة ، لا عمدا ولا خطأ ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ، ولا على تضعيف ثقة ، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف ؛ والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه ، فإن قدر خطؤه في نقده ، فله أجر واحد" .
وقال في رسالة ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل : "فمن أئمة الجرح والتعديل بعد من قدمنا يحيى بن معين ؛ وقد سأله عن الرجال عباس الدوري وعثمان الدرامي وأبو حاتم وطائفة ؛ وأجاب كل واحد منهم بحسب اجتهادات الفقهاء المجتهدين , وصارت لهم في المسألة أقوال".

وقال العلامة بدر الدين بن بهادر في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3\341-342) : "فلا شك أن في الجرح والتعديل ضربين من الاجتهاد ؛ وأئمة النقل يختلفون في الأكثر فبعضهم يوثق الرجل إلى الغاية وبعضهم يوهنه إلى الغاية وهما إمامان إليهما المرجع في هذا الشأن".

وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (1\3) : "أقام الله طائفة كثيرة من هذه الأمة للذب عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فتكلموا في الرواة على قصد النصيحة ؛ ولم يعد ذلك من الغيبة المذمومة بل كان ذلك واجبا عليهم وجوب كفاية ثم ألف الحفاظ في أسماء المجروحين كتبا كثيرة كل منهم على مبلغ علمه ومقدار ما وصل اليه اجتهاده" .

وقال السخاوي في فتح المغيث (3\352) : "وولاة الجرح والتعديل بعد من ذكرنا يحيى بن معين , وقد سأله عن الرجال غير واحد من الحفاظ , ومن ثم اختلفت آراؤه وعباراته في بعض الرجال كما اختلف اجتهاد الفقهاء وصارت لهم الأقوال والوجوه فاجتهدوا في المسائل كما اجتهد ابن معين في الرجال" .

وقال الإمام الصنعاني في إرشاد النقاد (ص\13) : "قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد، وفي الحديث الواحد، فيضعف هذا حديثا، وهذا يصححه! ويرمي هذا رجلا من الرواة بالجرح، وآخر يعدله! , وذلك مما يشعر أن التصحيح -ونحوه- من مسائل الاجتهاد التي اختلفت فيها الآراء" .

وقال الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي في توجيه النظر إلى أصول الأثر (1\298-299) : "ثم حكمهما أو أحدهما بأن الراوي المعين مجتمع تلك الشروط مما لا يقطع فيه بمطابقة الواقع فيجوز كون الواقع خلافه وقد أخرج مسلم عن كثير ممن لم يسلم من غوائل الجرح وكذا في البخاري جماعة تكلم فيهم , فدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم" .

وقال العلامة جمال الدين القاسمي في قواعد التحديث (ص\377) : "ومعرفة الرجال علم واسع ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه لاطلاعه على سبب جارح , وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح : إما لأن جنسه غير جارح , أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح -وهذا باب واسع- , وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم" .

وقال الشيخ الألباني –رحمه الله- في سلسلة الهدى والنور (ش\778) : "ليس شرطاً أبداً أنّ مَنْ كَفَّرَ شخصاً وأقام عليه الحُجَّة ، أنْ يكون كّلَّ النَّاس معه في التَّكْفير لأنه قد يكون هو متأوِّلاً ، ويرى العالِمْ الآخِرْ أنه لا يجوز التَّكْفير ، كذلك التَّفْسيق والتَّبْديع ، فهذه الحقيقة مِنْ فِتَنْ العصر الحاضر ، ومِنْ تسرُّع بعض الشباب في إدِّعاء العِلْم سواءٌ مقصود أن هذا التَّسلْسُلْ أو هذاالإلزام هو اللازِم ابداً ، هذا بابٌ واسعْ قد يرى عالِمْ أمْراً واجباً ، ويراه الآخَرْ ليس كذلك ، كما اختلف العلماء مِنْ قبل ومِنْ بعد إلا لأنه بعض الإجتهاد لا يُلْزم الآخرين بأن يأخذوا برأيهِ ، الذي يُوجِبْ الأخذْ برأي الآخَرْ إنّما هوَ المُقَلِّدْ الذي لا علم عنده ،فهو يجب عليه أن يُقلِّدْ ، أمّا مَن كان عالماً كالذي كَفَّرَ أو فسَّقَ أو بَدَّعْ ، ولا يَرى مثل رأيهِ فلا يَلْزمُهُ أبداً أنْ يُتابِعَ ذلك العَالِمْ" .

وعلى تقرير هذا المعنى وتبنيه جاء بناء كتاب شيخنا الحلبي –وفقه الله- (منهج السلف الصالح) , فقال (ص\108-110) : "وأما الأقوال والأفعال التي لم يعلم -قطعا- مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان: فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها، لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم» , كما في «مجموع الفتاوى» (10/383-384).
قلت: وحتى لا يأتي معترض -أو مؤول!- فيجعل هذا الكلام العدل الحق غير شامل لباب (الجرح والتعديل)، والكلام في (الرجال): أنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قوله في «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (ص7) : «وللعلماء بالرجال -وأحوالهم في ذلك- من الإجماع والاختلاف- مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم».
وقال الحافظ عبد العظيم المنذري في «جواب أسئلة في الجرح والتعديل» (ص83): «واختلاف هؤلاء [المحدثين] كاختلاف الفقهاء؛ كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شهد عنده بجرح شخص، اجتهد في: أن ذلك القدر مؤثر أم لا؟
وكذلك المحدث إذا أراد الاحتجاج بحديث شخص، ونقل إليه فيه جرح؛ اجتهد فيه: هل هو مؤثر أم لا؟
ويجري الكلام عنده فيما يكون جرحا، وفي تفسير الجرح وعدمه، وفي اشتراط العدد في ذلك -كما يجري عند الفقيه-.
ولا فرق بين أن يكون الجارح مخبرا بذلك للمحدث مشافهة، أو ناقلا له عن غيره بطريقه -والله -عز وجل- أعلم-».
قلت: ولعل أجل من هذا -وذاك- قال الإمام الترمذي في «العلل الصغير» (5/756-ملحق بـ «سننه»): «وقد اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال؛ كما اختلفوا في سوى ذلك من العلم»" .

وقال –حفظه الله
- (ص\195-196) : "ألف الإمام أبو حفص ابن شاهين كتابه: «ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديثفيه» -مطبوع- , وألف الإمام ابن حبان كتابه: «الفصل بين النقلة».
وقد تقدم (ص103) ذكر كتابي الإمام الذهبي: «الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد»، و«من تكلم فيه وهو موثق».
وفي رسالة «اختلاف أقوال النقاد في الرواة المختلف فيهم» -للدكتور سعدي الهاشمي-: تفصيل نافع؛ فلتنظر.
بل لو سألت: هل (واقع) علم الجرح والتعديل -في كتبه المشهورة المنظورة- قائم (أكثره) على (الإجماع)، أو (الخلاف)؟! , وهل مبناه على (النص)، أم على (الاجتهاد)؟! , وهل هو (فرض عين) أم (فرض كفاية)؟! , فالجواب -على كل- واضح بلا (خلاف)!" .

فشيخنا -بحمد الله- قد بنى كتابه على ما اتفق عليه أئمة المسلمين في مختلف العصور من أن مبنى الحكم على الرجال مرده إلى الاجتهاد ومبناه عليه , فهو متبدع لأقوال السلف غير مبتدع -كما يزعمه أهل البهت والعدوان- .

وبالتالي فإذا ثبت أن مبنى الحكم على الرجال مرده –فيما لا نص فيه- على الاجتهاد , أفادنا ذلك جملة من الأحكام منها :
أولا : إن مسائل الاجتهاد دائرة بين الراجح والمرجوح , ومن ترجح لديه شيء تكلم به ,
ثانيا : لا إلزام بمسائل الاجتهاد , ولا يسوغ إلزام طالب العلم بل ولا ولا العامي إذا كان لهم نوع نظر وبحث واستدلال بخلاف ما ترجح عندهم
ثالثا : لا إنكار في مسائل الاجتهاد .
رابعا : لا طعن على من خالف الراجح في مسائل الاجتهاد
خامسا : الاجتهاد لا ينقض ولا يقرر باجتهاد .
سادسا : مسائل الاجتهاد لا يجري فيها التأثيم .
سابعا : لا حجة في قول مجتهد على مجتهد آخر .
ثامنا : لا ينسب لله تعالى حكم في مسائل الاجتهاد .
تاسعا : مسائل الاجتهاد لا يخير فيها المجتهد .
عاشرا : الخلاف في مسائل الاجتهاد لا يزيل الألفة .
وينظر لزاما في تفصيل أحكام مسائل الاجتهاد في مقالنا : التقريرات السلفية لأحكام المسائل الاجتهادية وكيفية التعامل معها .
https://www.kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?t=4312

وقد أدرك بعض المعاصرين (1) من الممتهنين لتصنيف الناس عموما والسلفيين خصوصا خطورة ما تقدم تقريره من دخول أحكام الجرح والتعديل في باب الاجتهاد , ومعاملتها كما تعامل سائر المسائل الاجتهادية , بما قد يفضي إلى إبطال كثير من أحكامهم وإلزاماتهم , وبالتالي تعطيل وإسقاط ما ترتب على تلك الأحكام والإلزامات من مواقف وتجاوزات , فأحدث بعضهم -دفاعا عن نفسه - زعمين أحدهما أبطل من الآخر :

أما الزعم الأول : أن أحكام أحد هؤلاء المعاصرين الممتهنين لتصنيف الناس والسلفيين ليست مبنية على الاجتهاد لأنها قائمة على دراسة مستفيضة لأقوال من يتم نقدهم من المخالفين.
قلت : ويكفي لمعرفة بطلان هذا القول –على جهة الإجمال- مجرد حكايته , وأما إثبات بطلانه على جهة التفصيل فمن وجوه :
الأول : إن هذا الزعم يدل على جهل المتكلم بمعنى الاجتهاد , ذلك أن حقيقة الاجتهاد : هو بذل الوسع واستفراغ الجهد بالجمع والتتبع والاستقراء لمعرفة الحكم , ويدخل تحت هذا المعنى –بلا ريب- دراسة حال الراوي من حيث العدالة والضبط دراسة تدفع إلى الاطمئنان إلى عدالته وضبطه ؛ ثم إصدار الأحكام عليهم , وهذه الدراسة داخلة في معنى الاجتهاد الذي معناه : استفراغ الوسع في طلب العلم , فعجيب الزعم أن هذه الدراسة لا تدخل في باب الاجتهاد !!.

الوجه الثاني : ما تقدم حكايته من أقوال علماء الأمة –المتقدمين والمتأخرين- الدالة على أن أحكام نقد الرجال مردها إلى الاجتهاد المحض , وعدم وجود ما يناقضها من قول ينسب لعالم معتبر يفيد أن أحكام نقد الرجال ليست مبنية على الاجتهاد , وما هذا الحم منهم إلا لأنهم أدركوا أن الحكم على الرجال مبناه على بدذل الجهد واستفراغ الوسع في دراسة حال الراوي من حيث العدالة والضبط حتى اطمأنوا إلى عدالته وضبطه ؛ ثم أصدروا أحكامهم ؛ فكانوا يدرسون مرويات الرجل ويقارنونها بمرويات غيره من أهل الثقة والحفظ والضبط , فإذا توصل الإمام منهم -الدارس الناقد- إلى نتيجة لهذه الدراسة الواعية المنصفة أعلنها بما أداه إليه اجتهاده.

الوجه الثالث : إن الزعم أن حكم بعض أهل العلم على الرجال ليس مبنيا على الاجتهاد , يلزم منه أنها مبنية إما على النص , أو الهوى المحض -ولا بد- ؛ فمرد الأحكام –المعتبرة- عموما إما إلى النص أو إلى الاجتهاد , فمن زعم أن أحكام شيخه غير مبنية على الاجتهاد لم يبقى إلا أن تكون مبنية على النص أو على الهوى ؛ فإن قطع أن النص منتف لم يبقى إلا الهوى محتملا .

وأما الزعم الثاني : فهو أن هؤلاء المعاصرين الممتهنين لتصنيف الناس والسلفيين لا يبدعون ولا يجرحون بأمر اجتهادي .
وعدم التبديع بالأمور الاجتهادية هو الحق الذي لا ينبغي المحيص عنه , لكن الخلاف في هذه الجزئية ليس في سلامة الدعوى –فهي حق- , وإنما الخلاف في مناقضة الزعم والدعوى للواقع والتطبيق , وهذا "التناقض واقع من كل عالم غير النبيين" كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (29\42) .
فكم قد رأينا من تجريح وتبدع وتسقط بمسائل هي من محض الاجتهاد ؛ بل كم من حكم بالتسقيط والتبديع قد صدر في أناس جنايتهم أنهم لم يوافقوا بعض المتصدرين لنقد السلفيين في أحكامهم النقدية الاجتهادية .

فمن الطبيعي –بعد ذلك- أن ينتج عن هذين الزعمين الفاسدين –إما تأصيلا أو تطبيقا- جملة من الآثار السلبية من أبرزها :
1- الإلزام بأحكام التجريح الصادرة من جهة أولئك النقاد الذين يشاع أنهم لا يجرحون بأمر اجتهادي , وأن أحكامهم النقدية غير مبنية على الاجتهاد , فأعطيت هالة من القدسية لأحكام أولئك بناء على هذين الزعمين الباطلين .
2- التوعد بإيقاع العقوبات من التجريح والإسقاط والتبديع لمن أعرض عن لزوم أحكام هؤلاء الممتهنين لتصنيف السلفيين , كما كان قد قيل لمن رفض تبديع الشيخ عدنان عرعور بأن يبشر بسكاكين التجريح (!!!) , وتوعد من يرفض تجريح الشيخ المغراوي بالتسقيط (!!!) , ومن لم يوافق على تبديع الشيخ أبي الحسن المأربي هدد بالتبديع (!!!)
3- عقد راية الولاء لمن وافق أحكام هؤلاء المعاصرين من النقاد , والبراءة ممن خالفهم في أحكامهم , فنجم عن هذا ما أخبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله في مجموع الفتاوى (20\8) : أن "من نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا}" .
فأصبحت المنتسبون إلى السلفية –وإلى الله المشتكى- اتجاهات متعددة بحسب الأحكام التي صدرت من المتصدرين لنقدهم , فصرنا نسمع بـ (سلفيتنا , وسلفيتكم) , وسلفيتكم هذه ما بين : (عرعورية , ومغراوية , ومأربية , .... إلخ) , وربما نسمع في القريب العاجل بأسماء جديدة .

وما هذا التفرق والتفريق المتقصد في إطلاق مثل هكذا أوصاف على طوائف من السلفيين إلا بسبب عدم ضبط هذا الأصل , وهو :
أن الأحكام على الرجال مبنية على الاجتهاد .
وان للمسائل المبنية على الاجتهاد أحكام لا ينبغي إغفالها , فمن أغفلها أو تجاهلها أفضى به ذلك إلى الاختلاف ومن ثم التفرق والعياذ بالله –كما هو واقع اليوم- .

فاتقوا الله معاشر الممتهنين لتصنيف السلفيين في السلفية , واتقوا الله في السلفيين , بل اتقوا الله في أنفسكم –قبل ذلك كله- .


وبعد هذا العرض الموجز , علمنا حقيقة الفرق بين المنهجين , منهج السلف الذي قرره شيخنا وسار عليه , ومنهج بعض المعاصرين الممتهنين لتصنيف المسلمين والسلفيين , وأي المنهجين هو الحادث .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم أذكر أسماء من قال بهذين الزعمين عملا بالقاعدة النبوية [حدثوا الناس على قدر عقولهم] , وحتى لا ياتي متقول متصيد صاحب قصد سيء فيقول : عماد طارق يطعن بالشيخ العلامة الإمام الجهبذ الفهامة .... إلخ , لأني رددت عليه زعمه الدال على منهجه .
ونحن بعون الله ماضون في سلسلة مقالاتنا لإيضاح الفرق بين منهج السلف , ومنهج يعض المعاصرين من الممتهنين لتصنيف السلفيين, والله الموفق .








 


قديم 2014-02-05, 10:04   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (2) : منهج الموازنة في حال تقويم ونقد المخالف .


بين مسألة الثناء على أهل البدع , ومسألة الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات حال تقويم ونقد المخالف عموم وخصوص , يجتمعان في ذكر الممادح , ويفترقان في الدوافع والمقاصد , وكلامنا اليوم سوف يكون منصبا على مسألة الموازنة في حال تقويم ونقد المخالف .
وهذه المسألة بهذا التكييف لم أقف فيها -رغم بحثي القاصر- على أقوال واضحة وصريحة من أهل العلم المعتبرين من المتقدمين من غير المعاصرين تؤصل وتفصل الكلام فيها -وإن وجدت العشرات إن لم نقل المئات من النقولات والأمثلة التي يمكن أن يستشهد بها للخروج بأصل جامع يضبط الكلام في أحكام حالات الموازنة هذه- فآثرت أن أعرض عن المنهج الاستقرائي لأنه من اختصاص أهل الاجتهاد , وأكتفي بنقل أقوال المجتهدين من أئمة الدعوة السلفية المعاصرين في هذه المسألة , ففيها عصارة نظرهم واجتهادهم , ونحن إنما لهم تبع في هذا النظر .
فجمعت أقوالهم في هذه المسألة فوجدتها منحصرة في حالتين وعلى النحو التالي :

الحالة الأولى : الموازنة في معرض ترجمة المخالف وتقويمه , فهنا لا بد من ذكر ما له من حسنات , وما وقع فيه من زلات , كما :
قال الشيخ الألباني –رحمه الله- كما في شريط (مَن حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر) : " النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره ومن شره" .
وقال في الفتوى نفسها : " إذا أردنا أن نترجم للرجل فنذكر محاسنه ومساويه" .

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- في لقاءات الباب المفتوح (ش\121) : "أما من أراد أن يقوم الرجل ويذكُر حياته، فالواجب أن يذكر حسناته وسيئاته " .
وقال فيه –أيضا- : " وأما إذا كنا نريد أن نتكلم عن حياته فالواجب أن يُذكر ما له وما عليه".
وقال فيه –كذلك- : " وأما الإنسان إذا كتب عن حياة شخص فيجب أن يقول العدل، ما له وما عليه" .
وقال في لقاء الباب المفتوح (ص\67) : " كل إنسان مهما بلغ من العلم والتقوى فإنه لا يخلو من زلل، سواءً كان سببه الجهل أو الغفلة، أو غير ذلك؛ لكن المنصف كما قال ابن رجب رحمه الله في خطبة كتابه: القواعد: (المنصف من اغتفر قليلَ خطأِ المرء في كثير صوابه) ولا أحد يأخذ الزلات ويغفل عن الحسنات إلا كان شبيهاً بالنساء ؛ فإن المرأة إذا أحسنت إليها الدهر كله ثم رأت منك سيئة قالت: لَمْ أرَ خيراً قط، ولا أحد من الرجال يحب أن يكون بهذه المثابة -أي: بمثابة الأنثى- يأخذ الزلة الواحدة ويغفل عن الحسنات الكثيرة... .
عندما نريد أن نقوِّم الشخص يجب أن نذكر المحاسن والمساوئ؛ لأن هذا هو الميزان العدل ... .
فمن أراد أن يتكلم عن شخص على وجه التقويم فالواجب عليه أن يذكر محاسنه ومساوئه -هذا إذا اقتضت المصلحة ذلك-، وإلا فالكف عن مساوئ المسلمين هو الخير" .

الحالة الثانية : في معرض النقد والتحذير من الأخطاء , ففي هذه الحالة الأصل عدم ذكر حسنات وممادح المنقود لأن المقصود التحذير من الشخص , وذكر محاسنه مفضي إلى تقليل قيمة النقد , كما :

قال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في التعليق على الوابل الصيب (ش\5) : "من أظهر البدع يحذر من بدعته وتترك محاسنه , من أظهر البدع يحذر منه ويعرض عن المحاسن , لأن المقصود التحذير من الشر , وليس المقصود بيان المحاسن" .
وقرر–أيضا- في مجموع الفتاوى والمقالات (9\352) أنه لا يلزم في معرض النقد ذكر محاسن المنقود فقال : " الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة بالأدلة الشرعية، وبالترغيب والترهيب والأسلوب الحسن، ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات المبتدع" .

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين كما في لقاءات الباب المفتوح (ش\121) : "وأما من أراد النصح والتحذير من بدعته وخطره فلا يذكر الحسنات؛ لأنه إذا ذكر الحسنات فهذا يرغِّب الناس بالاتصال به.
فالمسألة فيها تفصيل، فمثلاً إذا إنسان ابتدع بدعة وأردنا أن نتكلم نحذر من البدعة فإنا نذكره ولا بأس، وإن كان قد يكون من المصلحة ألا يُذكر باسمه.
وأما إذا كنا نريد أن نتكلم عن حياته فالواجب أن يُذكر ما له وما عليه
.
فالمسألة فيها تفصيل : الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذكر أسماء معينة بأشخاصهم في مقام النصح كما في حديث فاطمة بنت قيس أنه خطبها أبو جهم ومعاوية وأسامة بن زيد فذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أبي جهم وعن معاوية ما يقتضي ألا تتزوجهما , وقال: [انكحي أسامة] ، ولم يذكر محاسنهما مع أن محاسنهما لا شك أنها كثيرة؛ لكنه سكت عن ذلك؛ لأن المقام يقتضي هذا" .
وأما الإنسان إذا كتب عن حياة شخص فيجب أن يقول العدل، ما له وما عليه" .

وقال في لقاء الباب المفتوح (ش\67) : "ولكن عندما نريد أن نقوِّم الشخص يجب أن نذكر المحاسن والمساوئ؛ لأن هذا هو الميزان العدل، وعندما نحذر من خطأ شخص نذكر الخطأ فقط؛ لأن المقام مقام تحذير، ومقام التحذير ليس من الحكمة أن نذكر المحاسن؛ لأنك إذا ذكرت المحاسن فإن السامع سيبقى متذبذباً، فلكل مقام مقال.
فمن أراد أن يتكلم عن شخص على وجه التقويم فالواجب عليه أن يذكر محاسنه ومساوئه -هذا إذا اقتضت المصلحة ذلك-، وإلا فالكف عن مساوئ المسلمين هو الخير.
وأما من أراد أن يُحذِّر من خطأ فهذا يذكر الخطأ،
وإذا أمكن أن لا يذكر قائله فهو خير أيضاً؛ لأن المقصود هو هداية الخلق" .

وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- كما في شريط "مَن حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر" : " إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل.. حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ (الموازنة) ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس هو الترجمة الوافية الكاملة" .
وقال في الشريط نفسه : " لذلك باختصار أنا أقول ولعل هذا القول هو القول الوسط في هذه المناقشات التي تجري بين الطائفتين: هو التفريق بين ما إذا أردنا أن نترجم للرجل فنذكر محاسنه ومساويه، أما إذا أردنا النصح للأمة أو إذا كان المقام يقتضي الإيجاز والاختصار فنذكر ما يقتضيه المقام من تحذير من تبديع من تضليل وربما من تكفير أيضاً إذا كان شروط التكفير متحققة في ذاك الإنسان، هذا ما أعتقد أنه الحق الذي يختلف فيه اليوم هؤلاء الشباب" .

ويتفرع -عن هذه الحالة- مسألتان :

المسألة الأولى : بدعية القول بوجوب ذكر حسنات المنقود .
إن القول بوجوب ذكر حسنات المنقود في معرض الرد عليه , قول محدث باطل لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو أثارة من علم , كما قال الشيخ ربيع –حفظه الله- في كتاب المحجة البيضاء : "إن القول بوجوب الموازنات في نقد أهل الباطل يؤدي إلى مفاسد كبيرة وخطيرة جداً، أهمها : (تجهيل السلف , رميهم بالظلم والجور , تعظيم البدع وأهلها، وتحقير أئمة السلف وماهم عليه من السنة والحق)" .

وقد بين بطلان هذا القول أئمة السنة في عصرنا منهم :

سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- , حيث قال –كما في منهج أهل السنة في نقد الرجال والكتب والطوائف جوابا عن السؤال التالي : "فيه أناس يوجبون الموازنة : أنك إذا انتقدت مبتدعا ببدعته لتحذر الناس منه يجب أن تذكر حسناته حتى لا تظلمه؟.
فأجاب الشيخ -رحمه الله- : لا ، ما هو بلازم، ما هو بلازم، ولهذا إذا قرأت كتب أهل السنة، وجدت المراد التحذير، اقرأ في كتب البخاري (خلق أفعال العباد) ، في كتاب الأدب في (الصحيح) ، كتاب (السنة) -لعبد الله بن أحمد- ، كتاب (التوحيد) -لابن خزيمة- ، (رد عثمان بن سعيد الدارمي على أهل البدع) ... إلى غير ذلك.
يوردونه للتحذير من باطلهم، ما هو المقصود تعديد محاسنهم... المقصود التحذير من باطلهم ، ومحاسنهم لا قيمة لها بالنسبة لمن كفر، إذا كانت بدعته تكفره، بطلت حسناته، وإذا كانت لا تكفره، فهو على خطر، فالمقصود هو بيان الأخطاء والأغلاط التي يجب الحذر منها".

ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- حيث قال –كما في سلسلة الهدى والنور (ش\850) مبينا بدعية القول بلزوم الموازنات في النقد- جوابا على السؤال التالي : " السائل: الحقيقة يا شيخنا إخواننا هؤلاء أو الشباب هؤلاء جمعوا أشياء كثيرة، من ذلك قولهم: لابد لمن أراد أن يتكلم في رجل مبتدع قد بان ابتداعه وحربه للسنة أو لم يكن كذلك لكنه أخطأ في مسائل تتصل بمنهج أهل السنة والجماعة لا يتكلم في ذلك أحد إلا من ذكر بقية حسناته، وما يسمونه بالقاعدة في الموازنة بين الحسنات والسيئات، وألفت كتب في هذا الباب ورسائل من بعض الذين يرون هذا الرأي ، بأنه لابد منهج الأولين في النقد ولا بد من ذكر الحسنات وذكر السيئات، هل هذه القاعدة على إطلاقها أو هناك مواضع لا يطلق فيها هذا الأمر ؟ نريد منكم بارك الله فيكم التفصيل في هذا الأمر.
فأجاب الشيخ الألباني: التفصيل هو: وكل خير في اتباع من سلف، هل كان السلف يفعلون ذلك ؟
فقال السائل: هم يستدلون حفظك الله شيخنا ببعض المواضع، مثل كلام الأئمة في الشيعة مثلاً، فلان ثقة في الحديث، رافضي خبيث، يستدلون ببعض هذه المواضع، ويريدون أن يقيموا عليها القاعدة بكاملها دون النظر إلى آلاف النصوص التي فيها كذاب، متروك، خبيث ؟
فقال الشيخ الألباني: هذه طريقة المبتدعة، حينما يتكلم العالم بالحديث برجل صالح أو عالم وفقيه، فيقول عنه: سيئ الحفظ، هل يقول إنه مسلم، وإنه صالح، وإنه فقيه وإنه يرجع إليه في استنباط الأحكام الشرعية... الله أكبر، الحقيقة القاعدة السابقة مهمة جداً، تشتمل فرعيات عديدة خاصة في هذا الزمان.
من أين لهم أن الإنسان إذا جاءت مناسبة لبيان خطأ مسلم، إن كان داعية أو غير داعية؛ لازم ما يعمل محاضرة, ويذكر محاسنه من أولها إلى آخرها، الله أكبر، شيء عجيب والله، شيء عجيب.
فقال السائل: وبعض المواضع التي يستدلون بها مثلاً: من كلام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أو في غيرها، تُحمل شيخنا على فوائد أن يكون عند الرجل فوائد يحتاج إليها المسلمون، مثل الحديث ؟
فقال الشيخ الألباني: هذا تأديب يا أستاذ مش قضية إنكار منكر، أو أمر بمعروف يعني الرسول عندما يقول: " من رأى منكم منكراً فليغيره " هل تنكر المنكر على المنكر هذا، وتحكي إيش محاسنه ؟
فقال السائل: أو عندما قال: بئس الخطيب أنت، ولكنك تفعل وتفعل، ومن العجائب في هذا قالوا: ربنا عز وجل عندما ذكر الخمر ذكر فوائدها ؟فقال الشيخ الألباني: الله أكبر، هؤلاء يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، سبحان الله، أنا شايف في عندهم أشياء ما عندنا نحن".

وقال –رحمه الله- أيضاً كما جاء في شريط (مَن حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر) : "ما يطرح اليوم في ساحة المناقشات بين كثير من الأفراد حول ما يسمى أو حول هذه البدعة الجديدة المسماة ( الموازنة ) في نقد الرجال .
أنا أقول: النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره ومن شره، أما إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل.. حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ (الموازنة) ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس هو الترجمة الوافية الكاملة.
ومن درس السُنة والسيرة النبوية لا يشك ببطلان إطلاق هذا المبدأ المحدث اليوم وهو ( الموازنة ) لأننا نجد في عشرات النصوص من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام يَذكر السيئة المتعلقة بالشخص للمناسبة التي تستلزم النصيحة ولا تستلزم تقديم ترجمة كاملة للشخص الذي يراد نصح الناس منه، والأحاديث في ذلك أكثر من أن تستحضر في هذه العُجالة، ولكن لا بأس من أن نذكر مثالاً أو أكثر إن تيسر ذلك، ثم ذكر- الشيخ الألباني - قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): [بئس أخو العشيرة] وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): [أما معاوية فرجل صعلوك، وأما أبو جهم فلا يضع العصا على عاتقه] و أنهما دليلان على عدم وجوب الموازنات .
ثم قال: "ولكن المهم فيما يتعلق بهذا السؤال أن أقول في ختام الجواب: إن هؤلاء الذين ابتدعوا بدعة الموازنات هم بلا شك يخالفون الكتاب ويخالفون السنة، السنة القولية والسنة العملية، ويخالفون منهج السلف الصالح، من أجل هذا رأينا أن ننتمي في فقهنا وفهمنا لكتاب ربنا ولسنة نبينا (صلى الله عليه وسلم) إلى السلف الصالح، لم ؟ لا خلاف بين مُسلمَيْن فيما اعتقد أنهم أتقى وأورع وأعلم و.. الخ ممن جاؤوا من بعدهم.
الله عز وجل ذكر في القرآن الكريم وهي من أدلة الخصلة الأولى يقصد في الأمثلة التي ذكرها (متظلم ) {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم} فإذا قال المظلوم فلان ظلمني، أفيقال له: اذكر له محاسنه يا أخي ؟ والله هذه الضلالة الحديثة من أعجب ما يطرح في الساحة في هذا الزمان ".

ومنهم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حيث قال –رحمه الله- -كما نقله عنه الشيخ ربيع في كتاب (انقضاض الشهب السلفية على أوكار عدنان الخلفية) - جوابا عمن سأله عن بعض المقالات ومنها مقالة : "أنه من العدل والإنصاف عند النصيحة والتحذير أن تذكر حسناتهم إلى جانب سيئاتهم" ؟.
فأجاب -رحمه الله- : أقول لك: لا، لا، لا، هذا غلط، اسمع يا رجل: في مقام الرد ما يحسن أني أذكر محاسن الرجل وأنا رادّ عليه، إذن ضَعُف ردّي.
قال السائل: حتى ولو كان من أهل السنة شيخنا؟
فأجاب –رحمه الله- : من أهل السنة وغير أهل السنة، كيف أردّ وأروح أمدحه، هذا معقول؟!!".

المسألة الثانية : جواز ذكر حسنات المنقود عند الحاجة والمصلحة .
ولا يعني بدعية القول بوجوب ذكر حسنات المنقود , أن ذكر الحسنات محرم , فنفي الوجوب لا يستلزم منه إثبات التحريم , والأدلة على مشروعية ذكر حسنات المنقود كثيرة منها :

قوله تعالى {ويسألونك عن الخمر والميسر , قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما} , ففي هذه الآية إشارة إلى محاسن الخمر لبيان أن مفسدتها أرجح من مصلحتها , فلا ينبغي أن يغتر بما فيها من مصالح .

ومنها حديث عائشة أنها قالت : (واستأجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر رجلا من بني الديل : هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث) .
ففيه دلالة على أن المشرك (وهو من أعظم ألفاظ الجرح) , يجوز أن تذكر حسناته لبيان ما فيه من أمور يمكن لأهل الإسلام الاستفادة منها.

ومن هذا القبيل مدح شيخ الإسلام لأهل الكلام والنظر بشدة ذكائهم , ليصل إلى نتيجة مفادها أن من هو دونهم في الذكاء سيضل كما ضلوا لو شاركوهم في الإعراض عن الوحي , فقال في درء تعارض العقل والنقل (1\169) : "فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب بل إما إلى حيرة وارتياب وإما إلى اختلاف بين الأحزاب فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات" .

ومن هذا القبيل أيضا مدح شيخ الإسلام ابن تيمية لأبي عامر الفاسق المنافق لبيان أن أعداء الإسلام فيهم الذكي الدارس الذي يكيد بالدين وأهله فقال في درء تعارض العقل والنقل (7\67) : "وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب مثل أبي عامر الفاسق الذي كان يقال له عامر الراهب الذي اتخذ له المنافقون مسجد الضرار" .

وأما من استدل بما تقدم من النصوص الشرعية وغيرها على وجوب ذكر حسنات المنقود فقد أبعد النجعة , وينظر في رد هذا الاستدلال على الوجوب ونقضه كتاب الشيخ ربيع –حفظه الله- (منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف) ففيه الكفاية والغنية .

ولهذا فقد نص كبار علماء الدعوة السلفية المعاصرة على مشروعية ذكر حسنات المنقود إذا استدعت الحاجة والمصلحة ذلك , ومن هؤلاء :

الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- , حيث قال -كما في الفتوى التي نقلها عنه الشيخ ربيع في مقدمة كتابه (منهج أهل السنة في نقد الطوائف والكتب والجماعات)- : "المعروف في كلام أهل العلم نقد المساوئ للتحذير، وبيان الأخطاء التي أخطأوا فيها للتحذير منها، أما الطيب معروف، مقبول الطيب، لكن المقصود التحذير من أخطائهم، الجهمية... المعتزلة... الرافضة... وما أشبه ذلك ؛ فإذا دعت الحاجة إلى بيان ما عندهم من حق يبين".

وقال –كذلك- في مجموع الفتاوى والمقالات (9\352) : "الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة بالأدلة الشرعية، وبالترغيب والترهيب والأسلوب الحسن، ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات المبتدع، ولكن متى ذكرها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن وقعت البدعة أو المنكر منه تذكيرا له بأعماله الطيبة، وترغيبا له في التوبة، فذلك حسن، ومن أسباب قبول الدعوة والرجوع إلى التوبة" .

وقال الشيخ ربيع –حفظه الله- مبينا طريقة الشيخ ابن باز في تعامله مع جماعة التبليغ كما في شريط (أسباب الانحراف وتوجيهات منهجية) : "ابن باز -رحمه الله- كان تصدر منه بعض الكلمات تشبه تزكية لجماعة التبليغ وإن كان إلى جانبها شي من لفتات الأذكياء إلى ما عندهم من ضلال وجهل ، فيستغل هؤلاء الكلمات التي فيها شيء من الثناء عليهم ، ويخفي أو يخفون ما فيها من طعن خفي في عقيدتهم ومنهجهم ، فيبرزون الثناء ويخفون الجرح" .
وهذا تصريح واضح من الشيخ ربيع –حفظه الله- أن الشيخ ابن باز -رحمه الله- كان يعرف ما عليه جماعة التبليغ من الضلال والانحراف , ومع ذلك كانت تصدر منه عبارات في مدحهم والثناء عليهم في بعض الجوانب , وهذا يوضح منهجية الشيخ ابن باز في التعامل مع المخالف , وهي على الضد مما ينسبه إليه من يزعم أن منهج الشيخ ابن باز كان رافضا لذكر محاسن أهل البدع والأهواء –فتنبه- .

ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حيث أوضح –رحمه الله- كما في سلسلة الهدى والنور (ش\572) : أنه ينبغي أن يراعي في جانب ذكر محاسن المنقود اختلاف المجالس والمصالح , فإن اقتضت مصلحة النقد ذكر الحسنات فعل , وإن لم يقتضها فلا يفعل , كما قال –رحمه الله- جوابا عن السؤال التالي : "السؤال : هل من منهج السلف في الرد على المخالف [اعتماد] أسلوب الموازنة , أي : ذكر حسنات المخالف وذكر سيئاته , أم انه تمحيص موضع المخالفة والرد عليها دون الالتفات إلى ما له من حسنات أخرى ؟.
الجواب : ذكر السيئات لا أظن أنه أمر وارد في الموضوع , ولعلك تريد أن تقول : الأخطاء والمخالفات , وليتك قلت المخالفات بدل السيئات , فتذكر : الأخطاء التي تخالف الكتاب والسنة , أما [القول] بأنه أساء بقوله : كذا وكذا .. ؛ فهذا ليس من أسلوب الدعوة , وهذا يختلف باختلاف المجالس , فإن وجد مجال بان يذكر [الحسنات] حسنا يفعل , ومن الممكن أن يذكر الحسنات فتضيع الفائدة بذكر الحسنات عن الحسنة الكبرى".

ومنهم كذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- كما في لقاءات الباب المفتوح (ش\127) حيث قال : "قلنا: إن الإنسان إذا كان يريد أن يقوِّم الشخص من حيث هو، فالواجب أن يذكر المحاسن والمساوئ؛ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} {المائدة:8} ولهذا كان العلماء عندما يتكلمون عن حياة الرجل، يذكرون محاسنه، ومثالبه.
أما إذا كنتَ في معرِض الرد عليه فلا تذكر مَحاسنه؛ لِمَا ذكرنا -فيما سَمعتم في السؤال- أنك إذا ذكرت المَحاسن ضعُف جانب الرد عليه، وربما يُعجب الإنسان بما عنده من المحاسن ويترك الأخطاء جانباً، هذا هو الطريق في ذكر محاسن الناس ومساوئهم.
ولكن إذا تحدثتَ عنه في أي مجلس من المجالس فإن رأيتَ في ذكر محاسنه فائدة فلا بأس أن تذكرها، وإن خفتَ من مضرة فلا تذكرها" .

وقال الشيخ صالح الفوزان مبينا أهمية ذكر حسنات المنقود في حال كونه من أهل السنة , لئلا يفهم من نقده تركه بالكلية , فقال في الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة (ص\52-64) : "إذا كان المنتَقَد من أهل السنة والجماعة، وأخطاؤه في الأمور التي لا تخِلّ بالعقيدة، فنعم، هذا تُذكر ميزاته وحسناته، وتُغمر زلاته في نصرته للسنة .
أما إذا كان المنتَقَد من أهل الضلال، ومن أهل الانحراف، ومن أهل المبادئ الهدّامة أو المشبوهة؛ فهذا لا يجوز لنا أن نذكر حسناته - إن كان له حسنات -؛ لأننا إذا ذكرناها فإن هذا يغرر بالناس؛ فيحسنون الظن بهذا الضال، أو هذا المبتدع، أو هذا الخرافي، أو ذاك الحزبي؛ فيقبلون أفكار هذا الضال، أو هذا المبتدع، أو ذاك المتحزب .
والله - جل وعلا - رَدَّ على الكفرة، والمجرمين، والمنافقين، ولم يذكر شيئًا من حسناتهم ، وكذلك أئمة السلف يردون على الجهمية والمعتزلة وعلى أهل الضلال، ولا يذكرون شيئًا من حسناتهم؛ لأن حسناتهم مرجوحة بالضلال، أو الكفر، أو الإلحاد، أو النفاق؛ فلا يناسب أنك تَرُدَّ على ضال، مبتدع، منحرف، وتذكر حسناته، وتقول : هو رجل طيب، عنده حسنات، وعنده كذا، لكنه غَلِط !! .
نقول لك : ثناؤك عليه أشد من ضلاله، لأن الناس يثقون بثنائك عليه؛ فإذا رَوَّجت لهذا الضال المبتدع ومدحته فقد غرَّرت بالناس، وهذا فتح باب لقبول أفكار المضللين .
وأما إذا كان المردود عليه من أهل السنة والجماعة فإن الرَّدَّ يكون بأدب، وينبَّه على أغلاطه التي تكون في مسائل الفقه ومسائل الاستنباط والاجتهاد؛ فنقول: فلان أخطأ في كذا والصواب كذا بالدليل -غفر الله له-، وهذا اجتهاده، وهكذا، كما كانت الردود بين الفقهاء من المذاهب الأربعة وغيرهم .
وهذا لا يقدح في مكانته العلمية إذا كان من أهل السنة والجماعة .
وأهل السنة والجماعة ليسوا معصومين، عندهم أخطاء وقد يفوت أحدهم الدليل أو اختلال الاستنباط؛ فلا نسكت على الخطأ وإنما نبينه مع الاعتذار عنه؛ لقول النبي - (صلى الله عليه وسلم) - : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد) , هذا في مسائل الفقه".

شيخنا على منهج السلف سائر في هذه المسألة :

وشيخنا الحلبي –حفظه الله- لم يخرج عن تقريرات أئمة الدعوة السلفية المتقدمة قيد أنملة فقال في كتابه منهج السلف الصالح (ص\143-144) : "فهذه ثلاث مسائل؛ تتحصل من كلام سماحة أستاذنا الشيخ ابن باز -رحمه الله-:
1- (جواز) ذكر حسنات المردود عليه -عند الحاجة-.
2- (عدم وجوب) ذكر الحسنات ، والإلزام بذلك [وقد يحرم ذلك في بعض الحالات] .
3- (استحسان) ذكر حسنات المردود عليه -إذا كان ذلك باب ترغيب له للرجوع إلى الحق.
قلت : وثمة نقطة رابعة -من باب آخر-؛ وهي:
4- «الواجب على من أراد أن (يقوم) شخصا -تقويما كاملا- إذا دعت الحاجة -أن يذكر مساوئه ومحاسنه-»" .

وهذا التفصيل منه -حفظه الله- مطابق تماما لما تقدم تقريره من اختيارات الأئمة الثلاثة الكبار , وكيف لا يكون كذلك وهو منهم مأخوذ ومستقى .

بين منهج العلماء السلفيين ومنهج المعاصرين الممتهنين لتصنيف المسلمين والسلفيين :

أما بعض المعاصرين من كبار الممتهنين لتصنيف المسلمين والسلفيين , فقد كفونا مئونة إثبات مفارقة اختيارهم لاختيارات أئمة الدعوة السلفية المعاصرة , فقال قائلهم مبينا لهذه المفارقة وتخطئته للشيخين الألباني وابن عثيمين بالقول : "حتى كلام الألباني والعثيمين هذا غلط للي يقولك في حال التقييم كما يقول الشيخ العثيمين الله يحفظه ، والله لقد نصروا المنهج السلفي وهدموا منهج الموازنات لكن بَقُّولهم ثغرة ينفذون منها ، وهم دخلوا منها فعلا.. وما عندهم أدلة أبدا على أنك تفرق بين حال التقويم وبين حال التحذير ما عندهم دليل ... إذن هذا الكلام ما هو صحيح وإن صدر من شيخين عظيمين من أئمة السنة ...... .
أما الشيخ الألباني فما جاب ولا دليل الله يرحمه ، وأما الشيخ ابن عثمين فنسبوا إليه هذا الدليل وليس فيه أي شيء ، فنحن نشكر الشيخين، والله لقد نصرا المنهج السلفي نصرا عظيما لكن بقيت هذه اجتهاد منهما، لكن نحن على المنهج السلفي كل يؤخذ من قوله ويرد" .
وهذا الشيخ ربيع –حفظه الله- فيما سبق النقل عنه قد أشار إلى أن الشيخ ابن باز كان يثني على جماعة التبليغ ويعرج على أخطائها في نفس المقالة .
فأئمة الدعوة السلفية الثلاثة الكبار المعاصرين يختارون تفصيل القول في مسألة الموازنة في نقد المخالف وهو نفس التفصيل الذي اختاره شيخنا –حفظه الله- .

أما المعاصرون من الممتهنين لتصنيف السلفيين , فيختارون عدم مشروعية ذكر حسنات المخالف ولو في معرض التقويم , ولو اقتضت المصلحة ذلك , ثم هم على قسمين :

القسم الأول : وهم أهل العلم فيهم والذين لهم اجتهادهم الخاص بهم ؛ فيصرحون بمخالفة اختيارهم لاختيار الأئمة الثلاثة الكبار , ويخطئونهم فيما اختاروه من تفصيل سابق , وعذرهم في ذلك أنهم مجتهدون في اختيارهم غير ملزمين بتقليد غيرهم من أهل الاجتهاد .
وقد أخطأ بعض هؤلاء في نسبة القول بعدم مشروعية ذكر الحسنات حال النقد –مطلقا- للشيخين الألباني وابن باز بالزعم : أن الشيخين ابن باز والألباني –رحمهما الله- مختلفان في هذه المسألة ؛ فابن باز لا يرى الموازنات ، والألباني مع أنه صرح بأن منهج الموازنات بدعة ، لكنه يرى أن تذكر الحسنات والسيئات في حال الترجمة ، وأن الصواب مع ابن باز , والأدلة وكتب الجرح تؤيده .
قلت : ومثل هذا الكلام مليء بالمغالطات , وبيان ذلك من أوجه :
الأول : أن الزعم بأن الشيخ ابن باز "لا يرى الموازنات" هكذا بإطلاق لا يصح , فالشيخ –رحمه الله- فيما تقدم من أقوال ثابتة عنه دالة على أنه يرى مشروعية ذكر حسنات المنقود إن كان فيه مصلحة ودعت الحاجة إليه , كما تقدم من قوله : "المعروف في كلام أهل العلم نقد المساويء للتحذير، وبيان الأخطاء التي أخطأوا فيها للتحذير منها، أما الطيب معروف، مقبول الطيب، لكن المقصود التحذير من أخطائهم، الجهمية... المعتزلة... الرافضة... وما أشبه ذلك ؛ فإذا دعت الحاجة إلى بيان ما عندهم من حق يبين".
وقوله –كذلك- : "الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة بالأدلة الشرعية، وبالترغيب والترهيب والأسلوب الحسن، ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات المبتدع، ولكن متى ذكرها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن وقعت البدعة أو المنكر منه تذكيرا له بأعماله الطيبة، وترغيبا له في التوبة، فذلك حسن، ومن أسباب قبول الدعوة والرجوع إلى التوبة" .

ثانيا : إن نسبة القول أن منهج الموازنات بدعة إلى الشيخ الألباني بهذا الإطلاق غير دقيقة بالمرة , فالشيخ الألباني –رحمه الله- حكم على القول بوجوب الموازنة حال النقد بكونه بدعة كما هو بين في صيغة السؤال الموجه إليه , وبين كذلك في أقواله التي تضمنتها أجوبته , لا أن الموازنة في جميع حالاتها وصورها بدعة , بقرينة أن الشيخ –رحمه الله- صرح أن المسألة فيها تفصيل فقال –فيما تقدم النقل عنه- : " النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره ومن شره، أما إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل.. حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ (الموازنة) ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس هو الترجمة الوافية الكاملة.

ثالثا : إن القول بعدم ذكر الحسنات والسيئات حال الترجمة والاستدلال على ذلك بكتب الجرح حيدة واضحة ذلك أن المصدر المعول عليه في باب التراجم هو إلى كتب السير والتراجم والتواريخ , لا إلى كتب التجريح , والناظر في كتب السير والتراجم ليقطع أن أهل العلم المصنفون في هذا الباب قد أطبقت كلمتهم من خلال صنيعهم على ذكر الحسنات والسيئات حال الترجمة , فعدم الإحالة إلى كتب التراجم والسير تدليس فاضح .

وأخيرا : ومن خلال الأوجه الثلاثة المتقدمة , مشفوعة بما تقدم تقريره يتبين لنا بطلان المقارنة بين قولي الشيخين , وترجيح قول الشيخ ابن باز على قول الشيخ الألباني , ذلك أن هذه المقارنة قائمة على عدم المعرفة بحقيقة أقوال الشيخين ؛ فبطل تعلق القائل –لما تقدم- "بالشيخين لأنه لا يعرف مذهب الرجلين وإنما يجازف كعادته" .

القسم الثاني : المتعالمون (شيوخ الفجأة والنت) تراهم ينسبون لهؤلاء الأعلام خلاف اختياراتهم السابقة , فيزعمون –لجهلهم بالمسالة وأقوال أهل العلم الكبار- أن الثلاثة الكبار يوافقونهم على قولهم الذي قلدوا فيه شيخهم من عدم مشروعية ذكر حسنة للمنقود من المخالفين , ضاربين عرض الحائط –جهلا أو قصدا- بما تقدم من نقولات وأقوال واضحات صريحات على خلاف هذا الزعم .
بل هم لفرط اغترارهم بتعالمهم لم يتفطنوا لأن شيوخهم الذين يقلدونهم في تصنيفهم للمسلمين والسلفيين قد صرحوا بخطأ الأعلام الكبار في هذه المسألة لعلمهم بمخالفة اختيار الكبار لاجتهاداتهم .

ثم أن هؤلاء المتعالمين يطالبون شيخنا الحلبي –حفظه الله- أن ينزل على أقوال الثلاثة الكبار –رحمهم الله- وأن يعود إلى اختيارهم في هذه المسألة (!!!) , وما درى المساكين هؤلاء ان شيخنا نازل عندها , عامل بها , بل إنما استقى اختياره منهم –رحمهم الله- .

ولعل في هذا القدر كفاية لأصحاب العقول السليمة والقلوب الصحيحة , فهؤلاء يكفيهم بعض ما تقدم .
أما أصحاب العقول السطحية , والقلوب السقيمة المريضة , فلا يكفيهم أضعاف أضعاف ما تقدم , وهؤلاء لا يعنينا شأنهم لا من قريب ولا من بعيد , ولله الأمر من قبل ومن بعد .









قديم 2014-02-05, 10:05   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (3) : الإلزام بأحكام الرجال المختلف فيهم –جرحا وتعديلا-
.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (29\345-346) : " أصل الدين : أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا مكروه إلا ما كرهه الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ولا مستحب إلا ما أحبه الله ورسوله .
فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ولهذا أنكر الله على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو شرعوه من الدين بغير إذن من الله . والذي يوجبه الله على العبد قد يوجبه ابتداء -كإيجابه الإيمان والتوحيد على كل أحد- .
وقد يوجبه لأن العبد التزمه وأوجبه على نفسه ولولا ذلك لم يوجبه -كالوفاء بالنذر للمستحبات , وبما التزمه في العقود المباحة : كالبيع والنكاح والطلاق ونحو ذلك إذا لم يكن واجبا- .
وقد يوجبه للأمرين -كمبايعة الرسول على السمع والطاعة له وكذلك مبايعة أئمة المسلمين وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله- .
ونفس التزام شرائع الإسلام من هذا الباب ؛ فإن المؤمن التزمها بالإيمان وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ فإن هذه الشهادة توجب عليه الوفاء بموجبها وهو تصديق الرسول فيما أتى به عن الله وطاعته فيما أوجبه وأمر به ؛ لأنه قد بلغ عن الله أن طاعته طاعته ومعصيته معصيته .
وهذه الأصول مبسوطة في مواضع .
والمقصود هنا : أنه إذا كان أصل الشرع أنه لا يلزمه إلا بإلزام الشارع له أو بالتزامه إياه ؛ فإذا تنازع الفقهاء في فرع من فروع هذا الأصل رد إليه" .

ومما له متعلق بهذا الأصل الشرعي الوثيق دعوى البعض إلى الإلزام الشرعي بأحكام بعض المتأخرين من المتصدين لتصنيف السلفيين من غلاة التجريح , واعتبار أن من لم يقل بهذه الأحكام -المبنية على ما يعتبره هؤلاء جرحا مفسرا مقنعا- فهو آثم شرعا , واقع فيما يستحق أن ينقد لأجله , بل ويهجر بسببه ؛ فصرنا نسمع من هؤلاء المتأخرين عبارات : كـأمثال : (إن لم تسقط فلانا أسقطناك) , و (إن لم تبدع فلانا ألحقناك به) , و (إن لم تجرح فلانا فابشر بسكاكين التجريح) , و (أن من لا يزال يدافع عن فلان أو لا زال متوقفا فيه فيهجر) .
وهذه الإطلاقات منهم وغيرها , إنما بنيت على فهم منحرف لمسألة الإلزام بما ليس في الكتاب والسنة من الأقوال والأحكام , ومنشأ الغلط في هذه المسألة راجع عندهم إلى الخلل في أصلين نوردهما ناقضين لهما بالقول :


الأصل الأول : ظنهم أن مسائل نقد الرجال لا تأخذ أحكام المسائل الاجتهادية .


إن الحكم في الأعيان والنوازل الحادثة لا يمكن تصوره إلا بنوعين من الفهم كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1\95-96) : "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع , وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع .
ثم يطبق أحدهما على الآخر .
فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر ؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله" .
والحكم على الرجال –جرحا وتعديلا- داخل فيما قرره ابن القيم , فلا بد قبل الحكم على معين النظر في أمرين :
الأول : في واقع هذا المعين وما قام به من موجبات إثبات الحكم أو نفيه وهذا النظر عقلي بحت , لا متعلق للشرع به , هل أن فلان يكذب أو لا , يسرق أو لا , يضبط أو لا .... إلخ .
الثاني : النظر في الواجب الشرعي في الواقع الذي قام في المعين , وهذا النظر شرعي بحت فالكذب والسرقة من قوادح العدالة شرعا .
ثم تأتي القضية الهامة والتي يسميها أهل العلم (تحقيق المناط) وهو تطبيق النظر الأول على النظر الثاني , لمعرفة هل هذا المعين عدل أو لا , وهذا لا يتأتى إلا بالاجتهاد كما قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (6 / 412) : "وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النص على أعيانها بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط ؛ كما أن الشارع لا يمكن أن ينص لكل مصل على جهة القبلة في حقه , ولكل حاكم على عدالة كل شاهد ؛ وأمثال ذلك" .
وقد قرر هذا المعنى الإمام الشاطبي تقريرا بديعا في الموافقات (4\89-95) –مختصرا- حيث قال: "الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله، وذلك أن الشارع إذا قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وثبت عندنا معنى العدالة شرعا , افترقنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة ؛ وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا؛ فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة :
طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق .
وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف؛ كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام، فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها .
وبينهما مراتب لا تنحصر، وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد , فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد .... .
فلا يمكن أن يستغنى ههنا بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا؛ فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها؛ فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا، وهو نظر اجتهادي أيضا .... .
ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك؛ فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين؛ فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه من الطرفين؛ فالأمر أصعب، وهذا كله بين لمن شدا في العلم ...... .
ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون، وكله اجتهاد.
وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة؛ كالمثل في جزاء الصيد، فإن الذي جاء في الشريعة قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وهذا ظاهر في اعتبار المثل؛ إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول؛ ككون الكبش مثلا للضبع، والعنز مثلا للغزال، والعناق مثلا للأرنب، والبقرة مثلا للبقرة الوحشية، والشاة مثلا للشاة من الظباء، وكذلك الرقبة الواجبة في عتق الكفارات، والبلوغ في الغلام والجارية، وما أشبه ذلك، ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة؛ فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان؛ إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد؛ لكان تكليفا بالمحال، وهو غير ممكن شرعا، كما أنه غير ممكن عقلا، وهو أوضح دليل في المسألة" .

قلت : وهذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين سائر المسلمين , بل بين سائر العقلاء , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (19\16) : "اتفقوا على تحقيق المناط وهو : أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي ؛ فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان كأمره باستقبال الكعبة وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء وكتحريمه الخمر والميسر ؛ وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة وكتفريقه بين الفدية والطلاق ؛ وغير ذلك . فيبقى النظر في بعض الأنواع : هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق ؟ وفي بعض الأعيان : هل هي من هذا النوع ؟ وهل هذا المصلي مستقبل القبلة ؟ وهذا الشخص عدل مرضي ؟ ونحو ذلك ؛ فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين بل بين العقلاء" .
فعلم من تقرير شيخ الإسلام أن من خالف في هذا المعنى , فزعم أن أحكام نقد الرجال غير داخلة في معنى الاجتهاد , فقد خالف ما اتفق عليه المسلمون , بل قد خالف ما اتفق عليه عقلاء الناس


.


وقد تقدم معنا بيان بطلان هذا القول في أولى مقالات سلسلتنا (بين منهجين) , حيث أوردنا أقوال أكثر من عشرة من كبار أهل العلم –سوى من نقل عنهم شيخنا- كلهم نص على أن مسائل نقد الرجال مبنية على الاجتهاد , فلتنظر على الرابط :
https://www.kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?t=4856

وفي هذا المقال نزيد بإيراد أقوال –أخرى- فنقول :

قال الحاكم في المدخل إلى الصحيح (ص\114) : "وأنا مبين بعون الله وتوفيقه أسامي قوم من المجروحين ممن ظهر لي جرحهم اجتهادا ومعرفة بجرحهم لا تقليدا فيه لأحد من الأئمة وأتوهم أن رواية أحاديث هؤلاء لا تحل إلا بعد بيان حالهم لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه من حدث بحديث وهو يرى انه كذب فهو أحد الكاذبين".

قال أبو الوليد الباجي في التعديل والتجريح (1/249) : "سأقدم بين يدي ذلك أبوابا ومقدمات تعلم بها منهج معرفة الجرح والتعديل، فقد رأيت كثيرا ممن لا علم له بهذا الباب يعتقد أن هذا من جهة التقليد، وأنه لا يدرك بالنظر والاجتهاد ، وأذكر بعد ذلك شيئا مما يتوصل به إلى معرفة الصحيح من السقيم إذ هو المقصود بعلم الجرح والتعديل".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (31\61) : "كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة في الشهادة ويوجبون النفقة بالمعروف ونحو ذلك ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط هل هو شرط في العدالة" .
وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (13\116) : "ونحن ليس معنا علم بانتفاء عدالة الراوي لكن معنا عدم العلم بعدالتهما وقد لا تعلم عدالتهما مع تقويتها ورجحانها في نفس الأمر فمن هنا يقع الخطأ في الاجتهاد" .
وقال –كذلك- في منهاج السنة النبوية (7\269) : "ونحن علينا الاجتهاد بحسب الإمكان في معرفة الصدق والعدالة وأهل الأمانة والعدل ولسنا مكلفين في ذلك بعلم الغيب كما أن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور أن يحكم بالعدل قال: [إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما اقضي بنحو مما اسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما اقطع له من النار]" .
وقال –أيضا- في منهاج السنة النبوية (6\140) : "وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم -نفاة القياس ومثبتته- فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص بل باجتهاد خاص , وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن يولى الأمور من يصلح لها فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص".
وقال في مختصر الفتاوى المصرية (ص\376) : "ولهذا كانت العادة أن الشهود المرتزقة بالشهادة بالشام لا يشهدون في الاجتهادات : كالإعسار والرشد والعدالة والأهلية والاستحقاق ونحو ذلك" .
وقال –أيضا- في الفتاوى الكبرى (5\561-562) : "أطلق أحمد التعديل في موضع فقال عبد الله : (سألت أبي عن أبي يعفور العبدي ، فقال: ثقة) .
قال أبو داود لأحمد : (الأسود بن قيس؟ ؛ فقال: ثقة) .
قال أبو العباس : وعلى هذه الطريقة فكل لفظ يحصل به تعديل المخبر يحصل به تعديل الشهود مثل أن يقول : لا بأس به ، لا أعلم إلا خيرا ، كما نقل عن شريح وسوار وغيرهما.
ثم وجدت القاضي قد احتج في المسألة بأن عمر : (سأل رجلاً عن رجل؟ فقال: لا أعلم إلا خيرًا ، فقال: حسبك إن ابن عمر كان إذا أنعم أن يمدح الرجل قال: لا نعلم إلا خيرًا) .
وعلى هذا فلا يعتبر لفظ الشهادة، وإن أوجبنا اثنين، لأن هذا من باب الاجتهاد، بمنزلة تقويم المقوم والقائف ، لأنه من باب المسموع ، ومثله المزكي والتفليس والرشد ونحوها فإن هذا كله إثبات صفة اجتهادية" .

وقال ابن القيم –رحمه الله- في الصواعق المرسلة (2\556) : "اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره فقد يعتقد أحد المجتهدين ضعف رجل ويعتقد الآخر ثقته وقوته وقد يكون الصواب مع المضعف لاطلاعه على سبب خفي على الموثق وقد يكون الصواب مع الآخر لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح في روايته وعدالته إما لأن جنسه غير قادح وإما لأن له فيه عذرا أو تأويلا يمنع الجرح" .

وقال الشاطبي كما في النقل السابق عنه : " الاجتهاد على ضربين :
أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة.
والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.
فأما الأول؛ فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله، وذلك أن الشارع إذا قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افترقنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا؛ فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة :
طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق .
وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف؛ كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام، فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها .
وبينهما مراتب لا تنحصر، وهذا الوسط غامض، لا بد فيه من بلوغ حد الوسع، وهو الاجتهاد , فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد" .

وقال السرخسي في أصوله (1\360) : "طريق معرفة الجرح والعدالة الاجتهاد وقد يكون الواحد عدلا عند إنسان مجروحا عند غيره بأن يقف منه على ما كان الآخر لا يقف عليه" .

وقال الملا علي القاري في شرحه على النخبة (ص\287) : "حكمهما [البخاري ومسلم] أو أحدهما بأنّ الراوي المعين مُجتمع تلك الشروط ليس مما يُقْطَعُ فيه بمطابقة الواقع ؛ فيجوز كون الواقع خلافه , وقد أخرج مسلم عن كثيرٍ في كتابه عمن لم يسْلَم عن غَوائل الجرح وكذا في البخاري جماعة تُكُلم فيهم فدار الأمر في الرواة على اجتهاد العلماء فيهم , وكذا في الشروط حتى إن من اعتبر شرطاً وألغاه آخر يكون ما رواه الآخر مما ليس فيه ذلك الشرط عنده مكافئاً لمعارضته المشتمل على ذلك الشرط وكذا فيمن ضعَّف راوياً ووثقه الآخر .
نعم تسكن نفس غير المجتهد ومَن لم يَخْبُر أمر الراوي بنفسه إلى ما اجتمع عليه الأكثر ؛ أما المجتهد في اعتبار الشرط وعدمه والذي خَبَر الراوي فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه" .

فهذه نقولات أخريات عن أئمة آخرين تضاف إلى ما تقدم نزيد بها العدد –مع من ذكرهم شيخنا- إلى العشرين إماما كلهم اعتبر أن أحكام النقد مردها إلى الاجتهاد .

وقد تقدم معنا الرد على من زعم أن الحكم على الرجال لا يدخل في باب الاجتهاد في مقالنا المشار إليه سابقا , بما يغني عن إعادته , وحسبنا أن من قال بخلاف ما أوردناه عن أهل العلم عجز –حتى الساعة- عن إيراد قول لعالم معتبر من المتقدمين والمتأخرين يقول بخلاف ما نقلناه عن أهل العلم (العشرين) , بما يؤكد بطلان القول : أن مبنى الحكم على الرجال لا يدخل في باب الاجتهاد , ويؤكد أنه قول أبتر عار عن السند العلمي –وإن قال به واحد ممن شذ من المتأخرين المعاصرين فزعم : أن أحكامه على الرجال غير مبنية على الاجتهاد- , فكيف يصح أن ينسب إلى منهج السلف , أو أن يستقى منه منهج أصلا , ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول في في مجموع الفتاوى (21\291) : "وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فإنه يكون خطأ كما قال الإمام أحمد بن حنبل : (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام)" .



الأصل الثاني : ظنهم أنه يسوغ الإلزام بما ليس في الكتاب والسنة والإجماع من أقوال وأحكام نقدية.


تقدم معنا في اول المقال تقرير أنه لا إلزام إلا بالشرع أو بالتزام العبد , وكنا قد نقلنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية تقرير هذا المعنى من مواطن عدة من كتبه في مقالنا : التقريرات السلفية لأحكام المسائل الاجتهادية وكيفية التعامل معها .
https://www.kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?t=4312

وفي هذا المقال نضيف مزيدا من النقولات المقررة للمعنى السابق من أنه لا إلزام شرعا في المسائل الاجتهادية ؛ بغية إيضاح أن هذه المسألة من بدهيات العلم –ولا يماري فيها إلا مكابر-, بل قد قرر أهل العلم أنه لا يسوغ الإلزام بالنصوص الشرعية إن كانت غير سالمة من المعارضة –فكيف بالاحكام النقدية العارية عن النصوص في دلالتها على المعين- ومن ذلك :

قول شيخ الإسلام في المسودة (ص\388) : "المستدل انما يتم دليله اذا سلم عن المعارضة كما لا يتم حتى يسلم من المناقضة ؛ فاذا كان المستدل لم يتم الدليل له كيف يلزم به غيره" .

وقال البزودي في كشف الأسرار (3\436) : "أن الأصل في النصوص وإن كان هو التعليل إلا أنه ثابت من طريق الظاهر , وقد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول بالاتفاق , واحتمال أن يكون هذا النص المعين من تلك الجملة فلا يصح التمسك بذلك الأصل والإلزام به على الغير مع هذا الاحتمال ؛ لأن الظاهر يصلح حجة للدفع لا للإلزام .
لكن هذا الأصل وهو كون التعليل أصلا في النصوص لم يسقط بالاحتمال أيضا حتى جاز التعليل للعمل به قبل قيام الدليل على كونه معلولا وإن لم يصح الإلزام به على الغير" .

بل وأوضح الشوكاني أن اجتهاد صحابي كعمر بن الخطاب إن كان مشكوكا فيه لم يسغ الإلزام به , كما قال في نيل الأوطار (7\157) : "إن هذا من قول عمر ومثل ذلك لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس , وكونه قال في مجمع من الصحابة ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون إجماعا كما بينا ذلك في غير موضع من هذا الشرح لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم للمخالفة ولا سيما والقائل لذلك عمر وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم ؛ اللهم إلا أن يدعي أن قوله إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف من تمام ما يرويه عن كتاب الله تعالى ولكنه خلاف الظاهر" .

ورحم الله الشيخ ابن عثيمين حيث أوضح هذا المعنى إيضاحا تاما شافيا كافيا وافيا في أجوبته وتقريراته المتنوعة , ومن ذلك :
قوله في مجموع فتاوى ورسائله (14\297) : "الإنسان لا يلزم بغير ما أوجب الله عليه" .
وقال –رحمه الله- مبينا أن كلام الخطيب يوم الجمعة غير ملزم وإنما هو معلم , كما في فتاوى نور على الدرب (ش\25) جوابا عن السؤال التالي : "السؤال : فضيلة الشيخ ذكرتم في سؤال سابق أنه إذا سمع في الخطبة شيئاً وهو يريد أن يسأل عنه فإنه لا يلزم به، إذاً كأني بأحد المستمعين يقول ما فائدة الخطبة إذا لم نلتزم بها ونطبقها على ما جاءت عليه؟
فأجاب رحمه الله تعالى: الفائدة أن الناس، يستفيدون منها بلا شك ولكن كونها ملزمة لي، لا، لأن المتكلم بالخطبة غير معصوم فقد يخطئ وقد يصيب، وإذا كان الخطيب موثوقا به لدى السامعين فسوف يأخذون كلامه على ما قال، لكن ليس معنى ذلك أنه كالذي يفتي لأن حضوره إلى الرجل واستفتاءه إياه معناه أنه ملتزم بقوله معتقد أنه حق، لكن سماعه لخطيب يخطب أو لواعظ يتكلم ليس معنى ذلك أنه ملتزم بما يقول، بل إذا صار عندي شك فيما يقول فلي أن أسأل، فهذا هو الفرق بين الرجل السامع والرجل المستفتي" .

وقرر –رحمه الله- أنه لا يسوغ الإلزام بقول العالم لأنه يراه أصلح من غيره , فقال جوابا عن السؤال التالي في شرحه لنونية ابن القيم (ش\48) : "السؤال : إذا ألزم العالم بقوله لأنه يراه هو الأصلح ؟.
الجواب : إذا ألزم العالم لا , لكن إذا ألزم ولي الأمر بقول فيلزم , يعني مثلا لو أن ولي الأمر ألزم الناس بقول يرى أن المصلحة في إلزامهم فهو له حق , لكن مثلا عالم من العلماء لا , ونجعل إلزام الناس بقول ولي الأمر إذا كان له وجه –أيضا- من الدليل نجعله من باب {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} , أما إذا خالف الدليل فلا يجوز الإلزام .
والإنسان إذا رجح القول وأتى بالأدلة وفند قول المخالف ما يعتبر هذا إلزام , الإلزام بمعنى : أنكم إذا لم تفعلوا فإننا نلزمكم به قهرا" .

وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في فتاوى نور على الدرب (ش\276) مقررا لعدم الإلزام بتغطية المرأة لوجهها ناصحا بـ"أن يكون الإنسان مرناً واسع الصدر فيما يجري فيه الخلاف بين العلماء من غير دليلٍ قاطعٍ فاصل فإنه لا يلزم الإنسان بل ولا يجوز للإنسان أن يلزم الناس بما يرى وأن ينقلهم عما يرون فما دامت المسألة مسألة اجتهاد وليس فيها نصٌ قاطعٌ فاصل فإن لكلٍ من الناس اجتهاده فيترك الناس واجتهادهم وحسابهم على الله عز وجل فمثلاً هذه المرأة إذا كانت في بيئةٍ يرى أهلها أنه يجوز كشف وجه المرأة لغير المحارم والزوج فإنه لا يلزمها بأن تلزمهم بما ترى من وجوب الحجاب بل ولا يجوز لها أن تلزمهم بذلك لكن لها أن تناظرهم في هذه المسألة وأن تناقشهم في هذه المسألة حتى يصل الجميع إلى ما تقتضيه الأدلة الشرعية" .

وقال –رحمه الله- مقررا لعدم الإلزام بحرمة شرب الدخان في الشرح الممتع على زاد المستقنع (8\67) : "أن من اعتقد حل شيء مختلف فيه فإنه لا يلزم بحكم من يرى تحريمه، مثل الدخان، فالدخان ليس مجمعاً على تحريمه، فمن العلماء من خالف فيه لا سيما أول ما ظهر، فإذا رأينا شخصاً يشرب الدخان وهو يرى أنه حلال فإننا لا نعزره، وإن كان يعتقد أنه حرام فإننا نعزره؛ لأن التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة" .

وقال –أيضا- في شرح العقيدة السفارينية (ص\710-711) بكلام جامع ماتع : "إذا كان هذا منكراً في رأينا لكنه ليس منكراً عند غيرنا ونحن نعلم أن هذا الرجل الذي تلبَّس بما رآه محرماً يرى أنه حلال فهل يلزمنا أن ننكر عليه ؟
الجواب : لا ، لا يلزمنا ما دامت المسألة فيها مساغٌ للاجتهاد فإنه لا يلزمنا ، مثال ذلك : رأينا رجلاً يرمي في الليل رمي الجمرات ونحن نرى أنه لا يُرمى بالليل في أيام التشريق ورأينا رجلاً يرمي ونعرف أن هذا الرجل يرى هذا الرأي أي يرى أنه يجوز الرمي ليلاً فهل يجب علينا أن ننكر عليه ؟
لا المسألة فيها يعني فيها مجال للاجتهاد فلا ننكر عليه .
رأينا رجلاً يشرب الدخان وهو يرى أنه حلال يجب أن ننكر عليه ؟
لا ، لا يجب ما دمنا نعلم أنه يقول حلال فلا يُنكر عليه ،لأن هذا فيه مساغ للاجتهاد .
لكن رأينا امرأةً كاشفةً وجهها وهي ترى أنه يجوز كشف الوجه للرجال الأجانب ، هل ننكر عليها ؟
لا ننكر هي تعتقد أن هذا هو الدين فلا ننكر عليها .... .
وهذه المسألة يجب التفطن لها صحيح أننا لا ننكر على غيرنا اجتهاده ، ما دامت المسألة فيها مساغ للاجتهاد ، لكننا نمنع ما يكون ضرراً علينا أن يُظهر بين شعبنا مثلاً ، إذن لا بد أن نعلم أن هذا منكر ، ولا بد أيضاً أن يكون الذي ننكر عليه يرى أنه منكر فإن كان لا يرى أنه منكر وهو مما يسوغ فيه الاجتهاد فإنه لا يلزمنا أن ننهى عنه ، لأن الدين يُسْر والصحابة وهم أَجَلُّ منا قَدْراً وأحب للائتلاف والاجتماع منا لا ينكر بعضهم على بعضٍ في مسائل الاجتهاد" .

ورد –رحمه الله- على من يزعم أن عدم الإلزام بأقوال العلماء يفضي إلى أن يكون الناس ضائعون , وذلك في شرحه لنونية ابن القيم (ش\48) جوابا على السؤال التالي : "السؤال : إذا لم يلزم العلماء الناس بقولهم , أصبح الناس ضائعون ؟.
الجواب : القول المقرون بالدليل -ولا أقول أي قول- كلام الله وكلام الرسول , والاستدلال إذا كان صحيحا والدليل صحيحا ؛ لزمهم لا لأنه قول فلان , ولكن لأنه مقتضى الدليل , وهذا متفق عليه بين العلماء , لا يلزم الإنسان على أن يجبر على الأخذ بقوله , لكن عليه أن يجبرهم على الأخذ بالدليل , مثلا : لو قال الميتة حرام , يلزمهم بان يقولوا أن الميتة حرام , لا لأن فلانا قاله , ولكن لأن الله قاله , ولكن توجد مسائل اجتهادية قابلة للأخذ والرد , فلا تلزم الناس بما تراه" .

قلت : فهذه المسائل الثلاثة : (حرمة التدخين , ورمي الجمرات ليلا , وكشف المراة لوجهها) دلالة النصوص الشرعية على حكمها أظهر من دلالة الاجتهاد –العاري عن دلالة النصوص- على الحكم في زيد أو عمرو من المعينين من المسلمين أنه عدل أو لا مبتدع زائغ أو لا , ومع ذلك فالشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- لا يرى الإلزام بتبني حكم الغير –إن كان المعارض له وجه وحجة- , بل ولا يرى مشروعية الإنكار عليه إن علم أنه له اجتهادا سائغا , ولو كان معارضا فيما نراه نحن باجتهادنا لدلالة النصوص , فرحمه الله ما أوسع فقهه وحلمه , ورحمته بأمة النبي (صلى الله عليه وسلم) ورحم الله شيخ الإسلام حيث يقول في وصف أهل السنة والجماعة أنهم : (أعلم الناس بالحق , وأرحمهم للخلق) ؛ فأين غلاة التجريح المبنية أحكامهم على الجهل والظلم من علماء أهل السنة والجماعة الذين هم فعلا أعلم بالحق ورحمتهم للخلق (؟!) .

وأما بخصوص هذه المسألة فنقول : لا يسوغ الإلزام بما ليس في الكتاب والسنة , أو انعقد عليه الإجماع من أحكام نقدية وبيان هذا المعنى من أوجه عدة منها :

أولا : قد تقدم معنا تقرير أنه لا إلزام –شرعا- إلا بنص من كتاب أو سنة أو إجماع معتبر , أو بالتزام العبد , وكل من ألزم غيره بغير نص من الشرع فهو متقول على الله ورسوله , فمن زعم أنه يجب على العباد أن يلتزموا بما لم يلزمهم به الله ورسوله من الأقوال والأفعال والأحكام , فعليه البينة والدليل والحجة الشرعية وإلا رد عليه قوله –كائنا من كان- ذلك أنه كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (22\226-227) : في "دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة : الإيجاب والاستحباب والتحليل والكراهية والتحريم لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله , فمن ذلك ما اتفق عليه أئمة الدين , ومنه ما تنازعوا فيه فردوه إلى الله ورسوله قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} .
فمن تكلم بجهل وبما يخالف الأئمة فإنه ينهى عن ذلك ويؤدب على الإصرار كما يفعل بأمثاله من الجهال ولا يقتدى في خلاف الشريعة بأحد من أئمة الضلالة وإن كان مشهورا عنه العلم . كما قال بعض السلف : (لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك)".
وهنا يقال أين الدليل الشرعي من كتاب أو سنة أو إجماع يوجب الإلزام بقبول الجرح المفسر المقنع ؟ .
نعم من اقتنع برجحان أمر عمل له لزوما شرعيا أو عقليا-بحسب هذا الأمر- وإلا كان متبعا للظن المرجوح الموجب للذم شرعا أو عقلا-بحسب هذا الأمر-, لكن ليس له أن يلزم غيره , ومن اقتنع بشيء ولم يعمل بمقتضاه كان مذموما شرعا أو عقلا -بحسب هذا الأمر- , لكن عمل المقتنع شيء وإلزام المقتنع لغيره بما هو مقتنع به شيء آخر ؛ فتنبه .

الوجه الثاني : إن المسلم لا يُلزَم شرعا إلا بما هو واجب عليه , كما قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- في مجموع الفتاوى والرسائل (10\1066) : "عمل الإنسان -بنفسه- فإنه لا يلزم إلا بالواجب" .
وقال في مجموع فتاوى ورسائله (14\297) : "الإنسان لا يلزم بغير ما أوجب الله عليه" .
ومن المعلوم -بداهة- أن الله تعالى لم يوجب على آحاد المسلمين أن يكون كلهم ناقدا , ولا أن يتبنى جميعهم أحكام نقد الأئمة في الرجال , فهذا الباب –النقد- من قبيل فروض الكفاية ؛ فلا يلزم (يجب) على كل أحد من المسلمين أن يخوض فيه , فمن لم يكن معنيا بمعرفة حكم زيد , أو حال عمر لم يكن مطالبا بأن يتبنى حكما فيه , ومن هذا الباب يقال : لا يلزم على آحاد المسلمين عموما ولا على السلفيين خصوصا أن يتبنوا أحكام النقاد في كل واحد من رواة السنة –مع شدة حاجتهم لمعرفة السنة- لأنهم غير مطالبين بأن يكون كل واحد منهم ممحصا للسنة مميزا صحيح الروايات من ضعيفها .
وكذلك لا يطالب كل واحد بمعرفة أحوال المجروحين من المعاصرين ما لم يكن محتاجا لهذه المعرفة –كتلقي العلم عنه مثلا , أو معاملته , ونحو ذلك- , فمثلا : من لم يكن محتاجا لتلقي العلم عن المشايخ : المأربي والمغراوي والحربي والمدخلي وغيرهم , لم يكن محتاجا لمعرفة ما قيل فيهم من جرح وتعديل, وتزكية وطعن , بله للموازنة والمقارنة بين هذه الأقوال ؛ لأن هذه المعرفة غير مقصودة لذاتها وإنما هي وسيلة لغاية , فإذا انتفت الغاية فلا حاجة للوسيلة , فكيف بمن يمتحن الغير بهذه المعرفة وهو غير معني بمعاملتهم لا دينيا ولا دنيويا .
ثم من تبين له حال معين بالادلة والقرائن فترجح في قرارة نفسه حكم فيه تعين عليه التزام ما ترجح فطرة وعقلا , فضلا عن دلالة الشرع القاضية بلزوم العمل بغالب الظن , ومن أعرض عن التزام ما ترجح لديه دخل في مسمى الجحد والمكابرة الموجبان للذم شرعا وعقلا .
لكن ثمة فرق بين الإلزام والالتزام , فالإلزام متضمن للقهر والإجبار على الاعتناق وقد يكون مقتنعا وقد لا يكون مقتنعا , وأما الالتزام فمعناه الاعتناق وقد يكون بالقهر وقد يكون بالاقتناع , ونحن شرعا مأمورون بالبيان والإيضاح لا بالقهر والإجبار.
وعلى هذا التأصيل جاء جواب إمامنا الألباني –رحمه الله- في سلسلة الهدى والنور (ش\778) جوابا عن السؤال التالي : "السؤال : إذا أقام الحجة عالم من علماء المسلمين على شخص سواء في التكفير أو في التبديع أو في التفسيق ؛ فهل يجب على الإنسان متابعة هذا العالم أو له إقامة الحجة هو بنفسه ؟.
فأجاب –رحمه الله- : ليس شرطا , ليس شرطا ؛ وإنما الواجب أن يكون قد اقتنع بان الحجة قد الشخص الذي يراد تكفيره أو تفسيقه أو تبديعه , وإلا القضية تصبح سلسلة لا نهاية لها" .

الوجه الثالث : إن الأحكام الصادرة في الرجال –جرحا وتعديلا- إما أن تكون مما اتفق عليه أو مما اختلف فيه , فإن كانت من قبيل المتفق عليه حرم مخالفتها –سواء كانت مفسرة أو غير مفسرة , مقنعة للغير أم غير مقنعة لأن مخالفة الحكم المتفق عليه تدخل في باب مخالفة الإجماع الخاص , ولا علاقة لتفسير الجرح أو الإقناع به في قبول الحكم .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (22\226-227) : في "دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة : الإيجاب والاستحباب والتحليل والكراهية والتحريم لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ؛ فمن ذلك ما اتفق عليه أئمة الدين" .
وقال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (18/22) : "والمقصود هنا التمثيل بالحديث الذي يروى في الصحيح وينازِع فيه بعض العلماء ، وأنه قد يكون الراجح تارةً ، وتارةً المرجوح .
ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام .
وأما ما اتفق العلماء على صحته فهو مثل ما اتفق عليه العلماء في الأحكام ، وهذا لا يكون إلا صدقاً" .
وأما إن كانت من قبيل المختلف فيه –ولو كانت مفسرة بما يراه البعض أنه مقنع- لا يشرع لمن اقتنع بالجرح المفسر أن يلزم غيره به , ومن ذلك اختلاف الصحابة في أعظم مجروح وأهم جرح وهو الدجال الأكبر هل هو ابن صياد أو لا ؛ حتى كان عمر , وابنه عبد الله , وجابر بن عبد الله (رضي الله عنهم) يقسمون بالله أن ابن صياد هو المسيح الدجال , كما في الصحيحين من حديث محمد بن المنكدر قال : (رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد الدجال قلت تحلف بالله ؟ قال إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه و سلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه و سلم) . وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن نافع قال : (كان ابن عمر يقول : والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد) .
وهؤلاء الثلاثة من الصحابة لم يصدروا هذا الحكم إلا بعد بحث ونظر ومقارنة لواقع ابن صياد مع ما سمعوه من النبي (صلى الله عليه وسلم) في شأن الدجال , بل ان النبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا ينكر على عمر اجتهاده فيه , ومع ذلك , لم يكن هؤلاء الثلاثة يلزمون غيرهم بموافقتهم في حكمهم , ولا ينكروا على غيرهم أنهم لا يوافقونهم , وهم من هم .
, فتنبه يا رعاك الله : أين غلاة التجريح الذين يريدون أن يلزموا العباد بأحكام أنفسهم أو غيرهم من هذا الهدي السلفي الرشيد ؛ أين هم من هدي الصحابة السلف الأولين في التعامل مع قضية اختلافهم في تجريح (ابن صياد) بأعظم جرح منصوص عليه ألا وهو (المسيح الدجال) , لا سيما وأن المجرحين ثلاثة من فقهاء الصحابة الذين كانوا متيقنين من حكمهم متفقين عليه فأقسموا بالله على صدقه , لكنهم لم يلزموا غيرهم بذلك , لأن كون ابن صياد هو الدجال ليست من المسائل المنصوص عليها , ولا مما اجمع عليه الصحابة , مع أن وصف الدجال مما يوجب الجرح والقدح , فهل يدرك الغلاة -الذين يريدون أن يلزموا العباد بأحكام واحد من ثلاثة من المتأخرين- هذا الفقه السلفي المتين –لا أظن- .

الوجه الرابع : إن الله تعالى لم يأمرنا بأن ننقد الذوات والأعيان –مع أنه مطلوب أحيانا للحاجة الشرعية- , بل أمرنا أن ننقد المنكر ونأمر بالمعروف , ولهذا كان من الطريقة القرانية بيان الأخطاء دون التعرض للذوات والأعيان , كما قال السعدي –رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} : "كانت هذه السورة الكريمة , تسمى "الفاضحة" لأنها بينت أسرار المنافقين, وهتكت أستارهم. فما زال اللّه يقول: ومنهم ومنهم, ويذكر أوصافهم, إلا أنه لم يعين أشخاصهم لفائدتين:
إحداهما : أن اللّه سِتِّيرٌ , يحب الستر على عباده .
والثانية : أن الذم على من اتصف بذلك الوصف من المنافقين , الذين توجه إليهم الخطاب وغيرهم إلي يوم القيامة , فكان ذكر الوصف, أعم وأنسب, حتى خافوا غاية الخوف" .
بل هؤلاء صحابة النبي (صلى الله عليه وسلم) كانوا يختلفون أحيانا في الحكم على معين بالنفاق [والنفاق من أوصاف الجرح] , فلم يكن متبني الحكم يلزم من لا يتبناه , ولم يكن من تبنى الحكم مجتهد في إشاعته والإلزام به -ما زال الجميع متفقون على موجبات الجرح الواردة في الشرع- , فالمهم أن يكون الاتفاق على ما جاء في الشرع من أحكام وأخبار .
ولم يكن الحكم على الأعيان من المنتسبين للإسلام يشغل –عند السلف- هذا الحيز الذي يشيعه طواغيت التجريح في عصرنا الحالي من الإلزام وعقد الولاء والبراء والهجر عليه , ويوضحه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد التنبيه على خطأ أبهم ولم يعين فاعله أو قائله ويكتفي بقوله [ما بال أقوام] , وهذه الفتنة وقعت بينهم وجرى طعن وتلاسن ومع ذلك لم يكن أحدهم يلزم غيره بأحكامه , ولا يعقد راية الولاء والبراء عليها .
ومن الأمثلة المعاصرة على توجيه أهل العلم للزوم طريقة السلف في الحكم على الأعيان ما قاله الشيخ ابن عثيمين في سيد قطب جوابا على السؤال التالي في لقاءات الباب المفتوح (ش\130) : "السؤال: سيد قطب : رجل ظهر على العالم الإسلامي بفكر، واختلف فيه الناس بين ممجد وقادح قدحاً شديداً جداً، فنود أن يبين شيخنا لنا بياناً وافياً عن هذا الموضوع، وكيف يكون موقف المسلم نحو الرجل؛ لأن سيداً له أثر في العالم الإسلامي، وله آثار من كتب ومؤلفات فنريد بياناً من فضيلتكم؟
الجواب: بارك الله فيكم! لا أرى أن يكون النزاع والخصومة بين الشباب المسلم في رجل معين، لا سيد قطب ولا غير سيد قطب ، بل النزاع يكون في الحكم الشرعي، فمثلاً: نعرض قولاً من الأقوال لقطب أو لغير قطب، ونقول: هل هذا القول حق أو باطل؟ ثم نمحصه إن كان حقاً قبلناه وإن كان باطلاً رددناه، أما أن تكون الخصومة والنزاع بين الشباب، والأخذ والرد في رجل معين فهذا غلط وخطأ عظيم.
فسيد قطب ليس معصوماً، ومَن فوقه من العلماء ليسوا معصومين، ومَن دونه من العلماء ليسوا معصومين، وكل شخص يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيجب قبول قوله على كل حال.
فلذلك أنا أنهى الشباب أن يكون مدار نزاعهم وخصوماتهم على شخص معين أياً كان؛ لأنه إذا كانت الخصومات على هذا النحو فربما يُبْطل الخصم حقاً قاله هذا الشخص، وربما يَنْصُر باطلاً قاله هذا الشخص، وهذا خطر عظيم؛ لأنه إذا تعصب الإنسان للشخص وتعصب آخر ضده، فالذي يتعصب ضده سوف يقول عنه ما لم يقله، أو يؤول كلامه، أو ما أشبه ذلك، والثاني ربما يُنْكِر عنه ما قاله، أو يوجه ما قاله من الباطل.
فأنا أقول: لا نتكلم في الأشخاص، ولا نتعصب لأشخاص، و سيد قطب انتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والله تعالى حسيبه، وكذلك غيره من أهل العلم.
أما الحق فيجب قبوله سواء جاء من سيد قطب أو من غيره، والباطل يجب رده سواء كان من سيد قطب أو من غيره، ويجب التحذير من أي باطل كُتِب أو سُمِع سواء من هذا أو من هذا، من أي إنسان. هذه نصيحتي لإخواننا، ولا ينبغي أن يكون الحديث والمخاصمة والأخذ والرد في شخص بعينه.
أما سيد قطب فرأيي في آثاره أنه مثل غيره، فيه حق وباطل، ليس أحد معصوماً، ولكن ليست آثاره مثلاً كآثار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني فبينهما كما بين السماء والأرض، فآثار الرجل الأول هي عبارة عن أشياء أدبية وثقافية عامة، وليس عنده كما عند الشيخ الألباني في التحقيق والعلم.
ولذلك أنا أرى أن الحق يؤخذ من كل إنسان، والباطل يُرَد من كل إنسان، وأنه لا ينبغي لنا بل ولا يجوز لنا أن نجعل مدار الخصومة والنزاع والتفرق والائتلاف هو أسماء الرجال" .
فهذا هو موقف الشيخ ابن عثيمين من تجريح سيد قطب , هل ترى في جوابه الدعوة للإلزام بحكم فيه , أم نصيحة بترك الاشتغال بشخصه , والاهتمام بآثاره وما فيها من حق وباطل .

الوجه الخامس : لا يعرف عن أحد من أهل العلم المعتبرين من المتقدمين والمتأخرين أنه قال بمشروعية الإلزام بالأحكام النقدية الغير منصوص عليها أو المجمع عليها , بل المنقول عنهم أنه لا إلزام بالأحكام النقدية –إلا للمقلدين فلهم أحكامهم المعروفة- ومن ذلك :

قال الحاكم فيما نقله عنه ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص\61) : "فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به فإن الجرح لا أستحله تقليدا".
فهو قول واضح وصريح منه –رحمه الله- أنه لا يستحل قبول قول غيره في هؤلاء الرجال بعد أن ظهر له ما لم يظهر لهم , فكيف بمن يلزم بقبول قول الغير , بل كيف بمن يلزم غيره بقبول قوله , بل كيف بمن يأمر بهجر من لم يأخذ بقوله في الرجال –نعوذ بالله من الخذلان-؟! .

وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص\388) : "على أنا لو سلمنا للمخالف ما ادعاه من أن رواية العدل عمن أرسل عنه ممسكا عن جرحه تعديل له، وبمثابة لفظه بتزكيته، وأنه لم يرو عنه إلا وهو مرضي عنده لم يجب علينا تقليده، في ذلك لأنه يجوز ان نعرفه بالفسق وما يبطل العدالة" .

وقال ابن الأنباري فيما نقله عنه بدر الدين الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3\330): "قال ابن الأنباري في شرح البرهان في باب الاجتهاد : وصار بعض الأصوليين إلى جواز الاكتفاء بتعديل الأئمة كما ثبت عند الكافة الانقياد إلى تعديل من روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين وإن كان الرواة عند أهل العصر مستورين , وهذا اختاره الغزالي وأشار إليه إمام الحرمين أيضا , قال : ويبعد في حق الراوي أن يعرف حاله كل من روى له خبرا فيكتفي بتعديل الأئمة بعد أن يعرف مذهبهم في التعديل مذهب مستقيم فإن الناس قد اختلفوا فيما يعدل به ويجرح .
قال الأنباري : والصحيح عندنا خلاف ذلك وهذا تقليد محض ولا يكون المحدث على بصيرة من هذا الحال" .

وقال الحافظ عبد الغني المقدسي فيما نقله عنه بدر الدين الزركشي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3\330) بالقول : "ورأيت في جملة مسائل سئل عنها الحافظ عبد الغني المقدسي : (أنه إذا ورد تعديل واحد من الحفاظ وتجريحه كيحيى بن معين وغيره ؛ فإن كان الرجل من أهل النقد والمعرفة فعليه أن ينظر فيه ويتأمله بعده , ويختار من أقوال الناس , ومن لم يكن من هذه المنزلة فله تقليد يحيى وغيره)".

وحسبنا هذا النقل الواضح الصريح عن الفهري حيث قال في السنن البين (1/154) -مخاطبا الإمام مسلم وهو من هو !!!- : "وهذا المعنى الذي قَصَدتَه إن عد مخلصا بالنظر إليك فيما يلزمك التطوق به، حيث غلب على ظنك صحته، فلا يلزم غيرك ممن يجتهد في الرجال، نعم!.
يكون صحيحا في حق من يكتفي بتقليدك، وإنك لخليق بذلك من الفقهاء أو المحدثين، ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد في معرفة الصحيح والسقيم".

وأوضح منه كذلك قول الشيخ الألباني –رحمه الله- كما في سلسلة الهدى والنور (ش\778) : "ليس شرطا أبدا أن من كفر شخصا وأقام عليه الحجة ، أن يكون كل الناس معه في التكفير لأنه قد يكون هو متأولا ، ويرى العالم الآخر أنه لا يجوز التكفير ، كذلك التفسيق والتبديع ، فهذه الحقيقة من فتن العصر الحاضر ، ومن تسرع بعض الشباب في إدعاء العلم سواء مقصود أن هذا التسلسل أو هذا الإلزام هو اللازم ابدا ، هذا باب واسع قد يرى عالم أمرا واجبا ، ويراه الآخر ليس كذلك ، كما اختلف العلماء من قبل ومن بعد إلا لأنه بعض الإجتهاد لا يلزم الآخرين بأن يأخذوا برأيه ، الذي يوجب الأخذ برأي الآخر إنما هو المقلد الذي لا علم عنده ،فهو يجب عليه أن يقلد ، أما من كان عالما كالذي كفر أو فسق أو بدع ، ولا يرى مثل رأيه فلا يلزمه أبدا أن يتابع ذلك العالم ".

وأخيرا : فهذا قول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي في (الحد الفاصل بين الحق والباطل) ينص فيه على أن نقد ابن تيمية وابن القيم للهروي غير ملزم , وإعذارهما له غير ملزم كذلك , حيث يقول : "ثم استمر [شيخ الإسلام ابن تيمية] يناقش أقوال الهروي في الجبر ويطعن طعنا شديدا في الجبرية القائلين بتلك الأقوال التي يقولها الهروي فمن هذه المناقشات -المرة الصعبة- قوله [في منهاج السنة (5\468)] ناقدا للهروي ومن على مذهبه في الجبر : ((وقول القائل [الهروي] (يسلك سبيل إسقاط الحدث) إن أراد أني أعتقد نفي حدوث شيء فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أني أسقط الحدث من قلبي، فلا أشهد محدثا - وهو مرادهم - فهذا خلاف ما أمرت به وهو خلاف الحق، بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته، بما خلقه من الأسباب، ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شيء قط...)) .
ثم استمر ينتقد كلام الهروي نقدا شديدا لاذعا يتخلله وصف بالضلال والجهل وبالحلول والاتحاد . نعم بعد إدانة كلام الهروي والحكم عليه بما يستحقه قد يتلمسان [ابن تيمية وابن القيم] الأسباب لعذره لأدلة قوية من علمه وجهاده لأهل البدع والضلال وبالمؤلفات الواسعة في بيان الحق ونصره وهدم البدع والضلال ؛ ثم بعد ذلك كله يبقى القاريء حرا فإما يقتنع بهذا العذر وإما لا يقتنع فلا إلزام بهذا [الإعذار] , ولا ذاك [النقد]" .
بل وقد أقر الشيخ ربيع المدخلي –حفظه الله- جمهرة من اهل العلم المعاصرين ممن كان يتبنى أن تبديع الشيخ ربيع لأبي الحسن المأربي –مع أنه مفسر- لا يلزمهم , كما نقل الشيخان علي الحلبي وسليم الهلالي في بيانهم التوضيحي حول بيان مكة بقولهما : "ومما يجب ذكره –أخيراً- : أننا أخبرنا الشيخ ربيعاً -حفظه الله- أن قوله في تبديع أبي الحسن لا يلزمنا، وبخاصة أن كثير من العلماء والمشايخ وطلاب العلم الذين التقينا بهم على ذلك : كالشيخ عبد المحسن العباد , والشيخ إبراهيم الرحيلي , والشيخ حسين آل الشيخ ... إلخ ، فأقر بذلك" .

وأخيرا : حسبنا أن من خالف ما قرره أهل العلم في هذه المسألة عاجز حتى الساعة عن الاتيان بنقل صحيح صريح عن واحد من المعتبرين منهم يشهد لما يدعيه من مشورعية الإلزام , بما يغنينا عن الرد المفصل على جهالاته وتخرصاته وتشغيباته , فما كل قول يلتفت للرد عليه , بل كثير من الأقوال الباطلة يكون ترك نقضها خير من الاشتغال بتعريتها .
فكيف إن كانت قد صدرت ممن لا يلتفت إليه أصلا بل قد اشتهر بجرأته على الانفراد بإطلاق الأحكام على الأعيان والأوصاف على غير هدى ولا بصيرة .
ورحم الله العلامة محمد بن صالح العثيمين حيث وصف في مجموع الفتاوى والرسائل (26\234-235) حال بعض المتعالمين من أمثال من قال تلك الجهالات المتقدمة ؛ فقال –وبكلامه نختم المقال- : "وإن بعض المتعلمين أنصاف العلماء يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون ، ويجملون في الشريعة ويفصلون، وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي فيما يقول من جزمه وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق ويقول: لا أدري مع أن عدم العلم هو صفة الحق الثابت ومع ذلك يصر بناء على جهله على أنه عالم فيضر العامة؛ لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ،أو إجماع المسلمين عليه .
إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حرام ، أو عن الشيء الواجب والواضح وجوبه يقول ما أظن هذا واجباً، إما جهلاً منه، أو عناداً ومكابرة، أو تشكيكاً لعباد الله في دين الله".


وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين









قديم 2014-02-05, 10:07   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (4) : التوبة إلى الله لا إلى الشيخ , وعلى شرط الله لا شرط الشيخ
.

فضل التوبة والترغيب فيها وتيسير أمرها
التوبة عبادة جليلة من أعظم العبادات فهي كما يقول ابن القيم في مدارج السالكين (1\178) : "أول المنازل وأوسطها وآخرها فلا يفارقه العبد السالك ولا يزال فيه إلى الممات وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به فالتوبة هي بداية العبد ونهايته وحاجته إليها في النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها في البداية كذلك وقد قال الله تعالى {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} , وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم" .
وقد رغب الله تعالى عباده بالتوبة ويسرها عليهم ترعيبا لهم في إقبالهم إلى ربهم فلم يجعل حائلا بين العبد بين قبول الله تعالى لتوبته , كما دل على هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال [كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ فقال لا فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة] .
فمن شدد على عباد الله توباتهم كان حاله كحال متعالم بني إسرائيل الذي كان تشدده سببا في هلاكه , وكاد أن يكون سببا في إهلاك غيره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18\185-186) : "وأما قوله : [يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا] ,وفي رواية [وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم] ؛ فالمغفرة العامة لجميع الذنوب نوعان :
أحدهما : المغفرة لمن تاب كما في قوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} إلى قوله : {ثم لا تنصرون} فهذا السياق مع سبب نزول الآية يبين أن المعنى لا ييأس مذنب من مغفرة الله ولو كانت ذنوبه ما كانت ؛ فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب , وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه قال تعالى : {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} إلى قوله {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقال في الآية الأخرى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} وقال : {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } إلى قوله {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} .
وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه - كما دل عليه القرآن والحديث - هو الصواب عند جماهير أهل العلم , وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب كقول بعضهم : أن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنا للحديث الإسرائيلي الذي فيه : [ فكيف من أضللت] , وهذا غلط ؛ فإن الله قد بين في كتابه وسنة رسوله أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع . وقد قال تعالى : {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} قال الحسن البصري : (انظروا إلى هذا الكرم عذبوا أولياءه وفتنوهم ثم هو يدعوهم إلى التوبة)" .

شروط التوبة الشرعية

ولكن للتوبة شروطا عدة ؛ أهمها:
الشرط الأول: الإخلاص لله، لقوله تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ؛ أي: توبوا إلى الله لا إلى غيره , بأن يخلص العبد في توبته ، فيقلع عن الذنب لأنه ذنب ومعصية لله ؛ لا لأن الخلق يرونه أو لإرضائهم بل طمعا بما عند الله , لا بما عند المخلوقين من مدح وثناء , وخوفا من عقاب الله فيما لو أصر على المعصية لا خوفا من ذم المخلوقين له .

الشرط الثاني: الندم على ما بدر من العبد من ذنوب وتقصير , ولا تتحقق التوبة إلا بالندم , كما قال ابن القيم في مدارج السالكين (1\182) : "إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه به وإصراره عليه وفي المسند [الندم توبة] " .
والندم من الأمور القلبية المخفية كما قال أبو الهلال العسكري في الفروق اللغوية (ص\111) : "والندم جنس من أفعال القلوب لا يتعلق إلا بواقع من فعل النادم دون غيره" .
وهو يكون بين العبد وربه , مع أن هذا لا يمنع من ظهور أثره على الجوارح –ولو ظهر من غير تصنع كان ذلك علامة على صدق الندم- , قال ابن القيم في مدارج السالكين (1\285) : "وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه وعزمه الجازم ونيته أنه لو كان صحيحا والفعل مقدورا له لما فعله" .

الشرط الثالث: الإقلاع عن الذنب في الحال إذ تستحيل التوبة مع مباشرة الذنب ؛ فإن كان معصية تركها , وإن كان طاعة فاتته فليبادر إلى فعلها ؛ وإن كان معصية فليبتعد عنها، إن كان إخلالاً بطاعة فليقم بها .
ومن الإقلع عن الذنب رد الحقوق إلى أصحابها –إن أمكن- , أو استحلالهم منها , أو التصدق عنهم والإكثار من الدعاء لهم –إن تعذر الإرجاع والاستحلال- .

الشرط الرابع: العزم على عدم مواقعة الذنب مجداا , والعزم –كما في الفروق اللغوية (ص\365) : " هو تصميم القلب على الشئ، والنفاذ فيه بقصد ثابت" وهو "إرادة يقطع بها المريد رويته في الاقدام على الفعل أو الاحجام عنه ويختص بإرادة المريد لفعل نفسه لانه لا يجوز أن يعزم على فعل غيره" , فهو من أعمال القلوب .
والعزم في التوبة معناه تصميم القلب وإصراره على عدم العودة للذنب ، ويجعل بينه وبين نفسه عهداً قائماً ألا يعود إلى هذا الذنب , وليس من شرط العزم العصمة عن معاودة الذنب ؛ فقد يذنب العبد ثم يتوب فيتوب الله عليه , ثم يعود فيذنب نفس الذنب ويتوب فيتوب الله عليه , كما في حديث أبي هريرة في مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال فيما يحكي عن ربه عز و جل قال [أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك] .

الشرط الخامس : أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه التوبة ؛ فالتوبة في غير وقتها لا تقبل , وهذا الوقت على نوعين :
الأول : وقت خاص بكل إنسان , وهو أن تكون قبل حضور الموت الإنسان ؛ فإذا حضر الإنسان الموت فإنها لا تقبل توبته؛ لقول الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} , ولهذا لما أدرك فرعون الغرق في البحر قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] فآمن، فقيل له: {آلْآنَ} ،تؤمن {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} أي: لا يقبل منك، ولهذا قال الله فيه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} .
النوع الثاني : الوقت العام , وهو الذي يشترك فيه الناس كافة , ويكون يوم تطلع الشمس من مغربها ؛ فإذا طلعت الشمس من مغربها لا تنفع توبة أحدا كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه] .
وصح من حديث معاوية في سنن أبي داود أنه قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: [لا تنقطعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ التَوبةُ، ولا تنقطع التوبةُ حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها] .

توبة أهل الأهواء والبدع

الشرط السادس : إظهار التوبة من فعل المعاصي المجاهر بها ومنها البدع , فما فعل في السر فالتوبة منه في السر , وما فعل في العلن وجُوهِرَ به من البدع والمعاصي , فتمام التوبة منه أن يظهر العبد توبته منه ورجوعه عنه , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (15\302-303) : "فمن أذنب سرا فليتب سرا وليس عليه أن يظهر ذنبه كما في الحديث : [من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله] , وفي الصحيح : [كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله عليه فيكشف ستر الله عنه] .
فإذا ظهر من العبد الذنب فلا بد من ظهور التوبة , ومع الجحود لا تظهر التوبة فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب ؛ ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورا ؛ فإن هذا أظهر حال الضالين وهذا أظهر حال المغضوب عليهم" .
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1\362-363) : "وفسق الإعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك .
وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم , وأما غالية الجهمية فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب , ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة
وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء وإنما المقصود تحقيق التوبة من هذه الأجناس العشرة .
فالتوبة من هذا الفسوق بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله من غير تشبيه ولا تمثيل وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وتلقى النفي والإثبات من مشكاة الواحي لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة" .
وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- : في اللقاء الشهري (ش\37) : "ومن شروط التوبة [من البدعة] أن يبين أنه رجع عن بدعته إلى الطريق الصحيح" .

بم تعرف توبة أهل الأهواء والبدع
ولا يشترط في بيان التراجع عن البدعة أن يكون مكتوبا , أو بصيغة مقننة , فتوبة المبتدع من بدعته تعرف بجملة أمور منها :
الأول : أن يصرح بلسانه او قلمه أنه تائب مما كان قد وقع فيه من أخطاء وبدع , ومن ذلك إعلام كعب بن مالك بتوبته مما كان قد بدر منه من التخلف عن الجهاد مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال فيما رواه البخاري عنه : (قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله , قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك]) .
ومن ذلك فعل أبي الحسن الأشعري عندما تاب من مذهب الاعتزال , صعد منبر البصرة وأعلن توبته عن معتقد المعتزلة , كما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10\89) : "وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة، وقال: إني كنت أقول: بخلق القرآن، وأن الله لا يرى [بالابصار] ، وأن الشر فعلي ليس بقدر، وإني تائب معتقد الرد على المعتزلة" .
وقال ابن خلكان في وفيات الاعيان (3/284) : "هو صاحب الاصول والقائم بنصرة مذهب السنه... وكان ابو الحسن اولاً معتزلياً ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصره يوم الجمعة".
الثاني : أن يستتاب فيعلن توبته , ومن هذا القبيل استتابة الفارق عمر (رضي الله عنه) لصبيغ العراقي فعن نافع مولى عبد الله : (ان صبيغ العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال أين الرجل فقال في الرحل قال عمر أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة فأتاه به فقال عمر تسأل محدثة فأرسل إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره وبرة ثم تركه حتى برأ ثم عادله ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود له قال فقال صبيغ ان كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا وان كنت تريد ان تداويني فقد والله برئت فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري ان لا يجالسه أحد من المسلمين فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى إلى عمر ان قد حسنت توبته فكتب عمر ان يأذن للناس بمجالسته) .
فيكفي للمبتدع الذي يستتاب أن يقر بأنه كان على خلاف السنة وأنه راجع إليها , بل هذا الذي ارتد عن الإسلام ثم تاب فإنه يقبل إسلامه من غير حاجة منه إلى بيانه لباطل ما كان عليه , بل يكفيه إقراره بأنه كان على الباطل وإعلانه الرجوع إلى الحق والسنة , كما قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (ص\360-361) : "روى أبو إدريس قال: أتى على رضي الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال: فقتلهم ولم يستتبهم وقال: وأتى برجل كان نصرانيا وأسلم ثم رجع عن الإسلام قال: فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له: كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك؟ قال: إن هذا أقر بما كان منه وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم رواه الإمام أحمد.
وروى عن أبي إدريس قال: أتى علي برجل قد تنصر فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله وأتى برهط يصلون القبلة وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال: "أتدرون لم استتبت هذا النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه وأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة وجحدوني فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقامت عليهم البينة".
فهذا من أمير المؤمنين على رضي الله عنه بيان أن كل زنديق كتم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة.
ويدل على ذلك قوله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين ولهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد: (ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له).
قال القاضي أبو يعلي وغيره: وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة ؛ لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر ولا يظهره ؛ فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته , ولهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا" .
الثالث : أن يقرر خلاف ما كان يتبناه سابقا , ولو لم يصرح بتوبته ورجوعه , فذات تقريره لخلاف ما كان يقرره سابقا هو خير دليل على رجوعه , ومن ذلك صنيع أبي الحسن الأشعري عندما تراجع عن معتقده السابق الذي تأرجح فيه بين الاعتزال ومقالات أهل السنة والجماعة إلى معتقد أهل السنة والجماعة بتقريره لما يقولون من غير تصريح منه بتراجع ولا توبة عن مرحلته المتوسطة , لكن كانت تقريراته من أعظم الأدلة على توبته .
وهذا الغزالي يختار شيخ الإسلام أنه رجع في آخر أمره إلى الحديث والسنة وترك الفلسلفة , كما قال في جامع الرسائل (1\169) : "وهذه الكتب المضافة إلى أبي حامد مثل الكتابين المضنون بهما على غير أهلهما وأمثالهما ما زال أئمة الدين ينكرون ما فيهما من الباطل المخالف للكتاب والسنة ثم من الناس من يكذب نسبة هذه الكتب إليه ومنهم من يقول وهو أشبه رجع عن ذلك كما ذكر في كتب أخرى ذم الفلاسفة وتكفيرهم وذكر عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور أنه استقر أمره على مطالعة البخاري ومسلم فكان آخر أمره الرجوع إلى الحديث والسنة" , مع أن الغزالي لم يصرح بتراجعه ولا بتوبته .
وقد جرت العادة عند اهل العلم على اعتبار آخر قولي العلماء كدليل على تراجعهم عن القول المتقدم , ومن ذلك أن الشافعي –رحمه الله- كانت تقريراته بمصر المخالفة لتقريراته واختياراته في العراق بمثابة الرجوع عن مذهبه القديم في القديم –مع أنه لم يصرح بالتراجع- .
ومن ذلك –أيضا- إذا تعارض قولان من عالم واحد -كما وقع من ابن معين وابن حبان-فالعمل على آخر القولين إن علم ذلك .
ومن هذا القبيل اعتبار الغلاة أن من قرر خلاف ما كان يتبناه سابقا من طروحات الغلاة ولو لم يصرح بالتراجع والتوبة ؛ فهو يعد عندهم –وصدقوا- متراجعا .

شرط توبة الداعي إلى البدعة
رابعا : وأما من كان داعية إلى البدعة فهذا من شرط توبته ان يبين أن ما كان يدعو اليه بدعة وضلالة –لا أنه كان مبتدعا ضالا- وأن الهدى في ضده , كما قال ابن القيم في عدة الصابرين (ص\55) : "إن كان المتولد متعلقا بالغير فتوبته مع ذلك برفعه عن الغير بحسب الإمكان ولهذا كان من توبة الداعى إلى البدعة ان يبين أن ما كان يدعو اليه بدعة وضلالة وان الهدى في ضده كما شرط تعالى في توبة أهل الكتاب الذين كان ذنبهم كتمان ماأنزل الله من البينات والهدى ليضلوا الناس بذلك أن يصلحوا العمل في نفوسهم ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم اياه فقال {ان الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون الا الذين تابوا واصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} .
وهذا كما شرط في توبة المنافقين الذين كان ذنبهم افساد قلوب ضعفاء المؤمنين وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول وإظهارهم الإسلام رياء وسمعة أن يصلحوا بدل افسادهم وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين وأن يخلصوا دينهم لله بدل إظهارهم رياء وسمعة فهكذا تفهم شرائط التوبة وحقيقتها" .
وعلى هذا يحمل كلامه –رحمه الله- في مدارج السالكين (1\363) : "فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الإعتقادات الفاسدة بمحض اتباع السنة , ولا يكتفى منهم بذلك أيضا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى البيان لأن ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس" .

مفاهيم خاطئة في التوبة
فالتوبة إلى الله من أعظم العبادات , وهي بهذه الشروط ميسورة لكل أحد من العاصين المذنبين , إلا أننا قد ابتلينا بأناس شددوا على الناس في باب التوبة, فجعلوا لها مقاصد بعيدة عن إرضاء الواحد الديان , وشرطوا عليهم شروطا ما أنزل الله بها من سلطان , فوقع هؤلاء –بجهلهم واتباعهم لأهوائهم- في جملة مخالفات متضمنة للدعوة إلى الشرك من جهة , وإلى الابتداع في دين الله من جهة أخرى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا, ومن أمثلة ذلك :

التوبة ابتغاء مرضاة الشيخ , والامتناع عنها خوفا من الشيخ
أولا : الترغيب بالتوبة من مخالفة الشيخ طمعا برضاه وثنائه , والترهيب من البقاء على مخالفة الشيخ خوفا من قدحه الشيخ وذمه ومعاقبته ؛ فيكون مقصود التائب إرضاء الشيخ لا إرضاء الله سبحانه , والخوف من الشيخ لا الخوف من الله سبحانه , وهذا من صور الشرك –عياذا بالله- .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10\318) : "وقد يظن الظان أنه تائب ولا يكون تائبا بل يكون تاركا والتارك غير التائب فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضي لعجزه عنه أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني ، وهذا ليس بتوبة بل لا بد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي الله عنه ويدعه لله تعالى ؛ لا لرغبة مخلوق ولا لرهبة مخلوق ؛ فإن التوبة من أعظم الحسنات ؛ والحسنات كلها يشترط فيها الإخلاص لله وموافقة أمره كما قال الفضيل بن عياض في قوله : {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال : (أخلصه وأصوبه قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ؛ حتى يكون خالصا صوابا . والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة) . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : (اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا)" .
وعلى الضد من ذلك الترهيب من مخالفة الشيخ والرجوع عن قوله الذي ترجح خطؤه تخويفا بان يناله الشيخ بنوع قدح أو ذم , فيبقى متكلما بالقول المرجوح الخاطيء لا خوفا من الله ولكن خوفا من الشيخ [أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (1\72) : "ويدخل في العبادة الخشية والإنابة والإسلام والتوبة كما قال تعالى : {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله}".
فمن أعرض عن تبليغ ما يدين الله تعالى به خشية من شيخه كان له نصيب من الشرك بحسب خوفه , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه اله- في مجموع الفتاوى (1\94) : "إن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه قال الله تعالى { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله } وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة وكذا الرجاء وغيره . فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى" .
وتقبح هذه التوبة ويعظم خطرها إن كانت توبة من الحق إلى الباطل , ومن الصواب إلى الخطأ خوفا من الشيخ أو إرضاء له –عياذا بالله- .

التوبة بين يدي الشيخ أو من يعتمده الشيخ
ثانيا : ومن بدع التوبة اشتراط البعض لاعتبارها عنده أن تكون بين يدي شيخه , أو بين يدي من هو معتمد عند شيخه أو مصادقة من قبل الشيخ , وهذا من بدع المتصوفة الذين يشترطون لقبول توبة العاصين أن تكون بين يدي الشيوخ .
وبين الشيخ ابن باز –رحمه الله- في مجموع فتاواه (6\299) أن التوبة من أعظم المعاصي والذنوب إنما تكون بين العبد وربه لا بين العبد وربه بشهادة الشيخ فقال : "أما الشهادة على مسمع عالم فليس ذلك بشرط ، وإنما التوبة تكون بالإقرار بما جحدته ، وبعملك ما تركت ، فإذا كان الكفر بترك الصلاة فإن التوبة تكون بفعل الصلاة مستقبلا والندم على ما سلف والعزيمة على عدم العودة وليس عليك قضاء ما تركته من الصلوات ؛ لأن التوبة تهدم ما كان قبلها ؛ أما إن كنت تركت الشهادتين أو شككت فيهما فإن التوبة من ذلك تكون بالإتيان بهما ولو وحدك فتقول : (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) عن إيمان وصدق بأن الله معبودك الحق لا شريك له وأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) هو عبد الله ورسوله إلى جميع الثقلين من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار" .
وللأسف فهذه البدعة الصوفية قد تسربت اليوم إلى أوساط بعض الشباب المنتسبين إلى الدعوة السلفية بذريعة حماية السنة من أهل البدع والأهواء الذين يخدعون الشباب بإعلان التوبات وهم في باطنهم على باطلهم مقيمون , ولهذا تراهم لا يعتبرون لمن يظهر توبته إلا بأن يعتبرها ويصادق عليها الشيخ –ولا حول ولا قوة إلا بالله- .

كتابة التوبات وتوثيقها
ثالثا : ومن البدع في هذا الباب : اشتراط كتابة التوبات وإعلان البراءات , فلا تقبل التوبة عند بعض أهل الغلو والتنطع إلا أن تكون مكتوبة أو مسجلة صوتيا ومعلنة عبر الأنترنيت ؛ وهذا من جنس بدع الخوارج الذين كانوا يشترطون لقبول العبد في أوساطهم أن يعلن براءته مما يرونه هم معصية , وممن يرونه هم كافرا أو خارجا عن طريقتهم , وإلا فإظهار التراجع له وسائل عديدة أشرنا إلى بعضها أعلاه , وأما اشتراط كتابة التوبة وإعلانها فهذا من قبيل الشروط البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان .
وهذه البدعة الخارجية قد دخلت إلى عقول بعض الشباب المنتسبين إلى الدعوة السلفية ؛ فأصبحنا نسمع بين الفينة والأخرى , أن فلانا نشر توبته في الموقع الفلاني , وفلان سجلت توبته ونشرت في الموقع العلاني , وأن مجموعة من الفلانيين قد نشرت براءتها من (كيت وكيت) في موقع آخر .
وقال الشيخ ابراهيم الرحيلي في في رسالته (النصيحة) (ص\34-35) : "ومن الأخطاء الشائعة -عندما يصدر رد من عالم على مخالف، أو فتوى بالتحذير من خطأ-: مطالبة كثير من الطلبة المنتسبين للسنة، والعلماء، وطلبة العلم: بيان موقفهم من ذلك الرد! أوتلك الفتوى!!
بل وصل الأمر إلى أن يطالب طلبة العلم الصغار -بل العوام!- بتحديد موقفهم من الراد، والمردود عليه!
ثم يعقدون -على ضوء ذلك- الولاء والبراء، ويتهاجر الناس بسبب ذلك؛ حتى لربما هجر بعض الطلبة بعض شيوخهم الذين استفادوا منهم العلم والعقيدة الصحيحة -سنين طويلة- بسبب ذلك!
ولربما عمت الفتنة البيوت؛ فتجد الأخ يهجر أخاه، والابن يجفو والديه، وربما طلقت الزوجة، وفرق الأطفال بسبب ذلك!
وأما إذا ما نظرت إلى المجتمع؛ فتجد أنه انقسم إلى طائفتين -أو أكثر-؛ كل طائفة تكيل للأخرى التهم، وتوجب الهجر لها!
وكل هذا بين المنتسبين للسنة؛ ممن لا تستطيع طائفة أن تقدح في عقيدة الطائفة الأخرى -وفي سلامة منهجها- قبل أن ينشأ هذا الخلاف!
وهذا مرجعه: إما إلى الجهل المفرط بالسنة، وقواعد الإنكار عند أهل السنة، أو إلى الهوى-نسأل الله السلامة-" .
قلت : بل أن من أقبح الأمثلة المتعلقة بهذه المخالفة اشتراط بعض المشايخ المحسوبين على الدعوة السلفية لقبول توبة (زيد من الناس) أن يكون هو من يكتب صيغة التوبة ويقوم التائب بالتوقيع عليها .
ومن أقبح صيغ التوبات التي كتبها بعض المشايخ على لسان غيرهم مطالبين إياهم بالتوقيع عليها ما اشتمل إقرار التائبين على أنفسهم أنهم كانوا ضالين مضلين ... إلخ , واعتبار من يرفض التوقيع على مثل هكذا توبات معاندا مستكبرا .

الهجر المطلق لمن واقع البدعة ولم يتب منها

رابعا : الأمر بهجران أهل البدع والأهواء –الذين لم يتوبوا- هجرا مطلقا غير مبني على ضوابط الهجر المقررة في المنهجية السلفية هو من جنس صنيع الخوارج في هجر مخالفيهم من المسلمين هجرا عاما مطلقا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموعة الرسائل والمسائل (5\203) : "وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي (صلى الله عليه وسلم) الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم" .
فإن لم يحقق الهجر مقصوده , وحقق ضد ذلك من جهة استزادة الشر كان المنع منه هو المتعين , كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28\206-207) : "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله .
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا , وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر .
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ؛ ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتألف قوما ويهجر آخرين ؛ كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح .
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم , وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه" .
وأوضح –رحمه الله- أن كثيرا من أجوبة السلف في الهجر خرج على على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله , وبالتالي لا يمكن تعميمها إلا في نضائرها , ويبقى الحكم العام مضبوطا بضوابط الشرع المعروفة بالنصوص الشرعية أو القواعد الكلية , فقال في مجموع الفتاوى (28\210-213) –مختصرا-: "وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما يثبت حكمها في نظيرها
وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما يثبت حكمها في نظيرها .
فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات . وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ؛ بل تركوها ترك المعرض ؛ لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به . فهذا هذا . ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه . والله سبحانه أعلم" .
مع التنبيه إلى أن القول بالهجر المطلق لأهل البدع هو من جنس صنيع الخوارج في هجر ومقاطعة أهل الكبائر من الملة , كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28\209) : "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته . هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط".
ومن أقبح صور تعالم بعض المنتسبين إلى السلفية زعمهم أن شيخ الإسلام الذي بين أن لهجر المبتدع شروطا وضوابط ونسب هذا الاختيار إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة المسلمين قد اشترط مالم يشترطه السلف (!) , وبالتالي لا اعتبار للشروط التي بينها ولا للضوابط التي قررها , لأنه قد قال بما لم يقل به السلف (!!!) .

شهادة التائب على نفسه بالضلال حال مواقعته المخالفة
خامسا : رفض بعض الغلاة المنتسبين إلى الدعوة السلفية التعاطي مع التائب من البدعة الكاتب لتوبته المعلن لها من غير رد منه على ما كان منه في السابق وشهادته على نفسه بالضلال , ولا يكتفى بمجرد كتابته للتوبة وإعلانه لها (؟؟!!) , ورحم الله العلامة الشوكاني حيث قرر كما في الفتح الرباني (ص\1291) : "أن التوبة في لسان أهل الشرع واصطلاحهم ؛ هي أن يجمع المذنب بين ندمه على الذنب وعزمه على أن لا يعود ؛ فمن جمع بين الأمرين فهو تائب ؛ ومن تاب , تاب الله عليه , والقاذف إذا ندم على قذفه , وعزم على أن لا يعود إلى شيء من ذلك فهو تائب ؛ ومن أوجب عليه أن يكذب نفسه ؛ فقد أخذ في حد التوبة قيدا لم يعتبره الله في كتابه , ولا رسوله في سنته , ولا أهل اللغة العربية في لغتهم , ولا أهل الشرع في اصطلاحهم" .
فهذا الاشتراط من قبيل الغلو والتنطع الذي يتنافى مع الأمر برحمة الخلق وقبول أعذارهم , فهذا الفاروق عمر عاقب صبيغا العراقي حتى أظهر توبته , ثم أمسك عن عقوبته وضربه مع الأمر بهجره حتى يظهر أثر حسن توبته , ولم يطالبه بأن يكتب تقريرا يوضح فيه أنه كان ضالا مضلا , ولا يرد فيه على نفسه ؛ بل مجرد إعلانه لتوبته كان كافيا في قبولها منه , ويبقى التوقي في التثبت من صلاحه وحسن توبته أمرا لا يمكن إغفاله .
ومما يدلك على ازدواجية معايير الغلاة أنهم يعتبرون المسلم راجعا عن منهجهم متخاذلا عنه بل ومرتكسا بمجرد تقريره لخلاف ما يدندنون به –ولو في جزئيات معينة- ولو لم يعلن أنه متراجع صراحة , بينما لا يرضون تراجعه الصريح عما يرونه خاطئا إلا أن يعلن توبته المفصلة جهارا نهارا .
بل وقد بلغ الغلو مداه –عند البعض- في مسألة اعتبار توبة المبتدع المعين من عدمها فجعلوها من مسائل أصول المنهج السلفي ؛ فعدوا أن من قال باعتبار توبة المعين الواقع في بدعة (ممن لا يزال عندهم مبتدعا) أنه مبتدع مثله ؛ وهذا من أعظم الجناية على أصول الدعوة السلفية العلمية النقية القائمة على العلم بالحق ورحمة الخلق , فهذه المسألة في حقيقتها لا تعدوا أن تكون من مسائل الاجتهاد السائغ التي لا إنكار فيها فكيف بالتبديع (؟!) , كما قال شيخ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28\214-215) : "لا ريب أن من تاب إلى الله توبة نصوحا تاب الله عليه كما قال تعالى : {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون}, وقال تعالى : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} أي لمن تاب .
وإذا كان كذلك وتاب الرجل فإن عمل عملا صالحا سنة من الزمان ولم ينقض التوبة فإنه يقبل منه ذلك ويجالس ويكلم .
وأما إذا تاب ولم تمض عليه سنة فللعلماء فيه قولان مشهوران ؛ منهم من يقول : في الحال يجالس وتقبل شهادته , ومنهم من يقول : لا بد من مضي سنة كما فعل عمر بن الخطاب بصبيغ بن عسل .
وهذه من مسائل الاجتهاد ؛ فمن رأى أن تقبل توبة هذا التائب ويجالس في الحال قبل اختباره :
فقد أخذ بقول سائغ , ومن رأى أنه يؤخر مدة حتى يعمل صالحا ويظهر صدق توبته فقد أخذ بقول سائغ , وكلا القولين ليس من المنكرات" .

التوبة مما لا يجب التوبة منه شرعا
سادسا : المطالبة بالتوبة من القول بما كان من قبيل الاجتهاد السائغ , وهذا من التنطع والغلو الذي بدأ يدب في أوساط بعض الشباب السلفي , ومنشؤه عدم التفريق بين أنواع المسائل : المتفق عليها (نصا أو إجماعا) , والمختلف فيها (المعارضة للنص أو الإجماع , أو المعارضة للاجتهاد) , فلا إنكار في المسائل الاجتهادية التي لا تعارض نصا ولا إجماعا وبالتالي لا وجه لمطالبة المخالف في هذا النوع من المسائل أن يعلن توبته , بل هذا النوع منها لا يسوغ الإنكار فيه أصلا , وعلى هذا جرى صنيع السلف –رحمهم الله- وتقريراتهم , ومن ذلك :
روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2\80) : قال يحيى بن سعيد الأنصاري : (ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه) .
وقال سفيان الثوري كما في الفقيه والمتفقه (2\69) : (ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل كما في حاية الأولياء (9\69) : (من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم) .
وقال –أيضا- فيما حكاه عنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (1\186) : (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً) .
وقال ابن قدامة المقدسي كما في نفس المصدر السابق : (لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (20\207) جوابا عن السؤال التالي : "عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد : فهل ينكر عليه أم يهجر ؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين ؟
فأجاب :الحمد لله ، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه وإذا كان في المسألة قولان : فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين".
فكيف الحال بمن يطالب غيره بإعلان التوبة من القول باجتهاد سائغ يتبناه , وتشديد النكير عليه وإعلان البراءة منه والأمر بمقاطعته وهجره إن لم يتب من هذا الاجتهاد (؟؟!!) .

رفض اعتبار التوبة بسبب اصرار التائب على مخالفة أخرى
سابعا : رفض بعض الغلاة المنتسبين إلى السلفية قبول توبة من وقع في جملة أخطاء حتى يتوب منها جميعا ؛ فعلقوا اعتبارهم لتوبته من بعض الأخطاء على توبته من سائرها ؛ فلا تقبل له توبة من بعضها فزعم بعضهم (أن التوبة تصح من الذنب الواحد، ولا تصح من ذنب مع الأصرار على آخر).
وهذا من بدع التوبة الحادثة وهو من جنس بدع الخوارج الذين لا يقبلون توبة العبد من بعض ذنبه حتى يتوب من سائر ذنبه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10\322-323) : "تنازع الناس في قوله : {إنما يتقبل الله من المتقين} فعلى قول الخوارج والمعتزلة لا تقبل حسنة إلا ممن اتقاه مطلقا فلم يأت كبيرة ، وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم المتقين ، وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله فمن اتقاه في عمل تقبله منه وإن كان عاصيا في غيره . ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره . والتوبة من بعض الذنوب دون بعض كفعل بعض الحسنات المأمور بها دون بعض إذا لم يكن المتروك شرطا في صحة المفعول كالإيمان المشروط في غيره من الأعمال كما قال الله تعالى : {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} وقال تعالى : {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} وقال : {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
الأصل الثاني : أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه أما ما لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب لا على حكم من تاب وما علمت في هذا نزاعا" .
وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (10\330) : "أي ذنب تاب منه ارتفع موجبه وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها فالشدة إذا حصلت بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه بخلاف ما لم يتب منه ؛ بخلاف صاحب التوبة العامة . والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال ؛ لأنه دائما يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور فعليه أن يتوب دائما" .
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (1\275) : "وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لاتعلق له به، ولا هو من نوعه فتصح، كما إذا تاب من الربا، ولم يتب من شرب الخمر مثلاً، فإن توبته من الربا صحيحة وأما إذا تاب من ربا الفضل، ولم يتب من ربا النسيئة، وأصر عليه، أو العكس، أو تاب من تناول الحشيشة، وأصر على شرب الخمر، أو بالعكس فهذا لا تصح توبته... ومن تاب من قتل النفس وسرقة المعصومين... ولم يتب من شرب الخمر والفاحشة صحت توبته مما تاب منه، ولم يؤاخذ به، ويبقى مؤاخذاً بما هو مصر عليه" .

رفض اعتبار التوبة بدعوى أنها سياسية
ثامنا : رفض اعتبار توبة من عرف بتكراره للوقوع في نفس المخالفة بدعوى : (التلاعب , والتوبة السياسية) , وهذا الرفض يشبه مذهب الخوارج المكفرين بالذنب والمعتزلة المخلدين في النار بالكبيرة كما قال ابن القيم في مدارج السالكين (1\280-281) : "ولا يشترط في صحة التوبة العصمة إلى الممات بل إذا ندم وأقلع وعزم على الترك : محي عنه إثم الذنب بمجرد ذلك فإذا استأنفه استأنف إثمه قالوا : فليس هذا كالكفر الذي يحبط الأعمال فإن الكفر له شأن آخر ولهذا يحبط جميع الحسنات ومعاودة الذنب لا تحبط ما تقدمه من الحسنات قالوا : والتوبة من أكبر الحسنات فلو أبطلتها معاودة الذنب لأبطلت غيرها من الحسنات وهذا باطل قطعا وهو يشبه مذهب الخوارج المكفرين بالذنب والمعتزلة المخلدين في النار بالكبيرة التى تقدمها الألوف من الحسنات فإن الفريقين متفقان على خلود أرباب الكبائر في النار ولكن الخوارج كفروهم والمعتزلة فسقوهم وكلا المذهبين باطل في دين الإسلام مخالف للمنقول والمعقول وموجب العدل : {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} .
قالوا [جماهير العلماء] : وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده مرفوعا إلى النبي : [إن الله يحب العبد المفتن التواب] , قلت : وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوبا للرب ولكان ذلك أدعى إلى مقته .
قالوا : وقد علق الله سبحانه قبول التوبة بالاستغفار وعدم الإصرار دون المعاودة فقال تعالى : {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} والإصرار : عقد القلب على ارتكاب الذنب متى ظفر به فهذا الذي يمنع مغفرته .
قالوا : وأما استمرار التوبة : فشرط في صحة كمالها ونفعها لا شرط في صحة ما مضى منها وليس كذلك العبادات كصيام اليوم وعدد ركعات الصلاة فإن تلك عبادة واحدة لا تكون مقبولة إلا بالإتيان بجميع أركانها وأجزائها وأما التوبة : فهي عبادات متعددة بتعدد الذنوب فكل ذنب له توبة تخصه فإذا أتى بعبادة وترك أخرى لم يكن ما ترك موجبا لبطلان ما فعل" .
وقال الشوكاني –رحمه الله- في لفتح الرباني (ص\1299) : "فإن قلت : فإذا ظهر لنا عند صدور التوبة منه ما يدل على الإصلاح من الأعمال والأقوال ؛ ثم أعرض عن ذلك و وعاد إلى الأعمال التي هي مجانبة للصلاح؟.
قلت : قد فعل ما شرط الله –سبحانه- من التوبة والإصلاح ؛ فذهب عنه اسم الفسق , وزال عنه المانع من قبول الشهادة , وهذه الأعمال التي عملها من بعد وهي مخالفة للصلاح يلزمه حكمها ؛ فإن كانت موجبة للفسق ومانعة من قبول الشهادة , كان هذا سببا من أسباب الفسق آخر , ومانعا من الموانع لقبول الشهادة غير المانع الأول , وإن كان غير موجبة لذلك , ولكنها من جملة ما يصدق عليه اسم المعصية فهو عاص بها , وهو غير فاسق , وشهادته مقبولة".
فالعبد المتلاعب في توبته إنما يحاسبه الله على قصده في التوبة , ونحن نقبل توبته في الظاهر , ونحاسبه على ما يظهر من بدع ومخالفات الان وفي المستقبل .

اشتراط مدة وأحوال لم يشترطها الشارع لاعتبار التوبة
تاسعا : رفض بعض الغلاة في قبول توبة المظهر لتراجعه بذريعة أنه (لم تنقض عليه سنة , ولم يظهر الندم على ما فعل، ولم يظهر العزم الأكيد على أن لا يعود) , وردها في حق البعض الآخر بدعوى أنها جاءت (في وقت يُشَكُّ فيه في صدق تراجعه، الذي لم يبيِّن سببه، ولم يُظْهِرْ فيه ندمه على مخالفته وعناده) , وهذا تقول على معنى التوبة ومعنى الإصلاح , فالأمر كما قال الشوكاني –رحمه الله- في الفتح الرباني (ص\1298-1299) : "معنى الإصلاح الذي ضمه الله –سبحانه- إلى التوبة ؛ فقد قال جماعة من أصحاب الشافعي وغيرهم : أنه لا بد من مضي مدة بعد التوبة ؛ يتبين فيها صدق توبته , وحسن رجوعه بما يعمله من الأعمال الصالحة التي تطابق العدالة وتوافق التقوى , وقدروا هذه المدة بسنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي تؤثر في الطباع –كما قالوا في العنين أنه يؤجل سنة لهذه العلة- , ولا يخفى أن هذا التأجيل والتقدير بالمدة رأي محض , لم يدل عليه دليل [قلت –أبو العباس- : ومن استدل بقصة عمر مع صبيغ بن عسل فقد افترى على عمر (رضي الله عنه) فليس في القصة أنه أجله لمدة محدودة لا عام ولا اقل ولا أكثر] ... .
فالحق أن الإصلاح المدلول عليه بقوله تعالى {وأصلحوا} : هو صدور ما يسمى إصلاحا من أعمال الخير الصادرة عن التائبين , لأنه يتبين بذلك أن توبته صادرة عن عزم صحيح وندم تطابق عليه الظاهر والباطن" .
فهذا الاشتراط من تمام التنطع ؛ فالندم والعزم هما من أعمال القلوب التي لا يمكن العلم بها إلا بأن يخبر صاحبها عنها أو يستدل عليها بظهور أثرها من أعمال الخير المنافية لما كان موجبا للتوبة , ونحن –عند التحقيق- ليس لنا أكثر من الظاهر فمن أظهر لنا التوبة قبلناها منه كما قبلها النبي (صلى الله عليه وسلم) ممن تخلف عن غزوة تبوك مع علمه بكذب كثير منهم , ولهذا قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في صحيح البخاري- : (إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ؛ فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ؛ ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة) .
وعجبي من بعض الغلاة الذين يأخذون الناس بظواهرهم الموجبة للطعن من غير التفات إلى حسن مقاصدهم فإن طالبتهم باعتبار مفصل الحال قالوا : (لم نؤمر أن ننقب عما في القلوب) , ثم هم في باب قبول توبة الراجع الآيب لا يعتبرون لمجرد الظاهر بل يتكلفون البحث عما في القلوب , فالقوم حقيقة –متعنتون في إثبات التعديل , ومتساهلون تمام التساهل في تجريح الخلق- ؛ ونحمد الله أن التوبة إنما تكون إليه لا إلى العباد , والله تعالى هو الذي يتوب على العباد لا المخلوقين ؛ وإن كانت توبة العبد مقبولة عند ربه ما ضره رفض العباد لقبولها .

الأنفة عن التوبة

عاشرا : قال العلامة الشوكاني في كتابه أدب الطلب (ص\88-90) : " ومن آفات التعصب الماحقة لبركة العلم أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة كما يصدر ممن يفتي أو يصنف أو يناظر غيره ويشتهر ذلك القول عنه فإنه قد يصعب عليه الرجوع عنه إلى ما يخالفه وإن علم أنه الحق وتبين له فساد ما قاله ولا سبب لهذا الاستصعاب إلا تأثير الدنيا على الدين فإنه قد يسول له الشيطان أو النفس الأمارة أن ذلك ينقصه ويحط من رتبته ويخدش في تحقيقه ويغض من رئاسته وهذا تخيل مختل وتسويل باطل فإن الرجوع إلى الحق يوجب له من الجلالة والنبالة وحسن الثناء ما لا يكون في تصميمه على الباطل بل ليس في التصميم على الباطل إلا محض النقص له والإزراء عليه والاستصغار لشأنه فإن منهج الحق واضح المنار يفهمه أهل العلم ويعرفون براهينه ولا سيما عند المناظرة فإذا زاغ عنه زائغ تعصبا لقول قد قاله أو رأي رآه فإنه لا محالة بكون عند من يطلع على ذلك من أهل العلم أحد رجلين : إما متعصب مجادل مكابر إن كان له من الفهم والعلم ما يدرك به الحق ويتميز به الصواب أو جاهل فاسد الفهم باطل التصور إن لم يكن له من العلم ما يتوصل به إلى معرفة بطلان ما صمم عليه وجادل عنه وكلا هذين المطعنين فيه غاية الشين .
وكثيرا ما تجد الرجلين المنصفين من أهل العلم قد تباريا في مسألة وتعارضا في بحث فبحث كل واحد منهما عن أدلة ما ذهب إليه فجاءا بالمتردية والنطيحة على علم منه بأن الحق في الجانب الآخر وأن ما جاء به لا يسمن ولا يغني من جوع وهذا نوع من التعصب دقيق جدا يقع فيه كثير من أهل الإنصاف ولا سيما إذا كان بمحضر من الناس وأنه لا يرجع المبطل إلى الحق إلا في أندر الأحوال وغالب وقوع هذا في مجالس الدرس ومجامع أهل العلم أن يكون المنافس المتكلم بالحق صغير السن أو الشأن ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق أن يكون المتكلم بالحق حدث السن بالنسبة إلى من يناظره أو قليل العلم أم الشهرة في الناس والآخر بعكس ذلك فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل أنفة من الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سنا أو أقل منه علما أو أخفى شهرة ظنا منه أن في ذلك عليه ما يحط منه وينقص ما هو فيه وهذا الظن فاسد فإن الحط والنقص إنما هو في التصميم على الباطل والعلو والشرف في الرجوع إلى الحق بيد من كان وعلى أي وجه حصل" .
قلت : وكذلك قد يكون قصد المطالِبين بإعلان غيرهم التوبة محض التنقص للتائب والازدراء عليه والاستصغار لشأنه في مقابل إثبات العلو والشرف والرفعة للمطالِبينَ على حساب إذلال التائب ؛ بما يكون حائلا دون تحقيق المقصود انتصارا للنفس ؛ فالمقصود إن كان مجرد رجوع العبد عن الخطأ لم يكن من داع إلى مثل هكذا ممارسات وسلوكيات التي يفهم منها الإصرار على إذلال وقهر التائب المتراجع أو المتبرأ منه , بدلا من الفرح به والستر عليه وتحريضه على الرجوع بالحسنى .









قديم 2014-02-05, 10:08   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (5) : اعتبار مفصل الأحوال والأقوال قبل الحكم على أصحابها
.

كثر الخلاف في الآونة الاخيرة في مسألة جلية من مسائل العلم حالها كحال غيرها من الواضحات , التي يأبى البعض إلا أن يعاند ويكابر فيها نصرة لأحكام جائرة يتبناها , او لتقريرات خاطئة يأبى أن يفارقها , ومن ذلك :

إهمال اعتبار مفصل الأحوال والأقوال للمعروفين بالاستقامة والاعتدال , والتشبث ببعض أقوالهم المجملة أو الخاطئة عند الإطلاق , ونسبتهم بسببها إلى مذاهب أهل الزيغ والانحراف , وهم أبعد ما يكونون عن مثلها , ورحم الله الإمام الذهبي حيث دفع عن ابن حبان تهمة الزندقة التي وصف بها بناء على كلمة مجملة وردت منه وهي قوله : (النبوة العلم والعمل) فحكم عليه بسببها بالزندقة، وهُجر، وكُتِبَ فيه إلى الخليفة، فكَتَبَ بقتله , فعقب الذهبي على هذه الواقعة في سير أعلام النبلاء (16\95-96) ؛ فقال : "وابن حبان فَمِنْ كبار الأئمة، ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ،لكن هذه الكلمة التي أطلقها، قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها؛لا ينبغي، لكن يُعتذر عنه، فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجًا، بل بقى عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مُهمَّ الحج، وكذا هذا ذكر مُهمَّ النبوة، إذ من أكمل صفات النبي؛ كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيًا إلا بوجودهما، وليس كل من برّز فيهما نبيًا، لأن النبوة موهبة من الحق تعالى، لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللدنى والعمل الصالح، وأما الفيلسوف فيقول: النبوة مكتسبة،ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر، ولا يريده أبوحاتم أصلاً، وحاشاه".

وعلى الضد منه تشبث أهل الأهواء بعبارات وأقوال مجملة محتملة للحق بدرت من بعض أهل الزيغ والانحراف بغية دفع التهمة عنهم ونسبتهم زورا وتدليسا إلى أهل السنة والجماعة , ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى (2\360) مبينا ضلال مذهب الاتحادية وموجها إلى عدم الاغترار بما كان من أقوالهم مجملا محتملا للمعنى الحق : " وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحا فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضا . وقد علم مقصودهم بالضرورة فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلفت إليه ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم وأعظم من ضرر السراق والخونة الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة" .

فجاء بحثنا هذا لتذكير طلبة العلم بأن اعتبار مفصل الأقوال والأحوال قبل الحكم على أصحابها هو مما دلت عليه الفطر السوية واقتضته اللغات البشرية , وتواطأت عليه العقول الإنسانية , ونص عليه جمهرة أهل العلم , وقبل الشروع في المقصود لا بد من التذكير بأمور :

الأول : إن الإجمال كما يقع في الأقوال فهو كذلك واقع في الأفعال كما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (2\107) : "كما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقع في الأفعال كما (أعطى النبي (صلى الله عليه وسلم) عمر (رضي الله عنه) حلة من حرير فلما لبسها أنكر عليه وقال : [لم أعطكها لتلبسها] فكساها أخا له مشركا بمكة).
فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارة , وفي الأفعال تارة , وفيهما معا تارة".

الثاني : إن الإجمال في الأقوال أو الأفعال موجب للتوقف في الإثبات والنفي قبل الاستفصال , ومن أثبت أحد المعاني من غير استفصال كان هذا الإثبات موجبا للوقوع في الجهل والضلال والبغي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (2\217) : "وأما الألفاظ المجملة، فالكلام فيها بالنفي والإثبات ، دون الاستفصال ؛ يوقع في الجهل والضلال ، والفتن والخبال ، والقيل والقال ، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء".
وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (12\551-552) : "فهذه المواضع يجب أن تفسر الألفاظ المجملة بالألفاظ المفسرة المبينة وكل لفظ يحتمل حقا وباطلا فلا يطلق إلا مبينا به المراد الحق دون الباطل فقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء . وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته ويفهم منها الآخر معنى ينفيه , ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل والمثبتة يجمعون بين حق وباطل"
وقال –كذلك- في درء تعارض العقل والنقل (1\76) : "ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ولا قصور أو تقصير في بيان الحق ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل ففي إثباتها إثبات حق وباطل وفي نفيها نفي حق وباطل فيمنع من كلا الإطلاقين".

الثالث : لا ينسب لمن أجمل في قول أو بدر منه فعل مجمل محتمل لأكثر من معنى من غير مرجح لأحدهما أحد المعاني -بله المذاهب- إلا بقرينة موجبة مرجحة مبينة لمرادهم ومقاصدهم وهذه تعرف بما قاله شيخنا فتحي الموصلي في كتابه البديع أصول نقد المخالف (ص\94) "لا يصح تقرير مذاهب العلماء وترجيح أقوالهم من إطلاقاتهم للجمل وتعميمها , أو بالنظر إلى موضع واحد دون الآخر , بل الطريق إلى أخذ مذاهب العلماء يكون من وجوه ثلاثة :
أولها : مراجعة تفسير العالم لكلامه , وهذا يكون بتتبع مواضع كلامه , والنظر في تفصيله , لا بفهم السامع وتخمينه .
الثاني : مراجعة ما تقتضيه أصول العالم , وهل يجري الكلام على أصول قائله ؟.
الوجه الثالث : أخذ مذهب العالم من أقواله ,وفتاويه , واختياراته المعروفة المشهورة , والنظر إلى ترجيحات أصحابه , لا بالنظر إلى الروايات الشاذة أو اللوازم الضعيفة .
والخروج عن هذا الطريق العلمي في تقرير مذاهب العلماء يجر إلى الفتنة والطعن في العلماء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية [في الصارم المسلول (2\512)] –مؤصلا ومحذرا- : ((وأخذ مذاهب العلماء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم , وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة))".
ثم بعد تعيين المراد من القول المجمل بناء على هذه المسالك يكون القول خارجا عن الإجمال إلى الظاهر , فإن كان حقا أثبت , وإن كان باطلا رد .

الرابع : لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة , ومن أجمل في موطن الحاجة للبيان مع القدرة عليه وانتفاء موانعه يكون ملوما , ومن استمرأ الإجمال واعتاده في مواطن يتطلبها التفصيل عُدَّ إجماله في هذا الموضع داخل في باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب ومن باب كتمان شهادة العبد من الله , بل قد يكون مظنة إرادة المعنى المخالف للحق ؛ كما قرر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في الفتاوى الكبرى (5\30) : "لاريب أن من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملا مقرا بما بلغه من تفصيل الجملة غير جاحد لشيء من تفاصيلها أنه يكون بذالك من المؤمنين إذ الإيمان بكل فرد فرد من تفصيل ما أخبر به الرسول وأمر به غير مقدور للعباد إذ لا يوجد احد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول , ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة لا يقر فيها بأحد النقيضين لا ينفيها ولا يثبتها إذا لم يبلغه أن الرسول نفاها أو أثبتها , ويسع الإنسان السكوت عن النقيضين في أقوال كثيرة إذا لم يقم دليل شرعي بوجوب قول أحدهما .
أما إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول دون الآخر ؛ فهنا يكون السكوت عن ذلك وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب ومن باب كتمان شهادة العبد من الله , وفي كتمان العلم النبوي من الذم واللعنة لكاتمه ما يضيق عنه هذا الموضع.
وكذلك إذا كان أحد القولين متضمنا لنقيض ما أخبرا به الرسول (صلى الله عليه وسلم) والآخر لا يتضمن مناقضة الرسول لم يجز السكوت عنهما جميعاً , بل يجب نفي القول المتضمن لمناقضة الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا أنكر الأئمة على الواقفة في مواضع كثيرة حين تنازع الناس فقال قوم بموجب السنة وقال قوم بخلاف السنة وتوقفة قوم فأنكروا على الواقفة كالواقفة الذين قالوا (لانقول القرآن مخلوق ولانقول إنه غير مخلوق) , هذا مع أن كثيرا من الواقفة يكون في الباطن مضمرا للقول المخالف للسنة ولكن يظهر الوقف نفاقا ومصانعة فمثل هذا موجود" .

وبعد هذه المقدمة نشرع في بيان المقصود , فنقول :
إن اعتبار مفصل الأقوال والأحوال قبل الحكم على أصحابها بالانحراف والضلال قد دلت أوجه عدة على اعتباره منها :

[أدلة المسألة]

الوجه الأول : قوله تعالى ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ الآية ,ففي الآية دليل على وجوب عدم التعويل على الكلام المسموع بمجرده من غير التفات إلى سابق معرفة واطلاع بحال المتكلم فيه , كما قال ابن العربي في أحكام القرآن (3\364-365) عند هذه الآية : "هذا أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المرء ولبسة العفاف التي تستر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان اصله فاسداً أو مجهولاً" .
وقال العلامة السعدي في تفسيره لهذه الآية (ص\563) : "أي ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو السلامة مما رُمُوا به،وأن ما معهم من الإيمان المعلوم؛ يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل" .
وقال –أيضا- في "فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والحكام المستنبطة من القرآن" (ص\168) : "هذا إرشاد منه لعباده، إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين؛ رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه".
ويبدو أن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قد فهمت من هذه الآية التي نزلت في حادثة الفك المتعلقة بها ما تقدم تقريره –أيضا- فكانت ترفض أن ينتقص من حسان بن ثابت (رضي الله عنه) وهو ممن خاض بالإفك في حقها مستدلة على منعها هذا بما كان قد عرف به من دفاعه ومنافحته عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعرضه , كما في صحيح البخاري من حديث عائشة، في قصة الإفك، وفيه: (قال عروة: كانت عائشة تكره أن يُسبَّ عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالده وعرضي::لعرض محمد منكم وقاء) ؛ فاعتبرت (رضي الله عنها) سابق المعلوم من حال حسان (رضي الله عنه) كقرينة موجبة عندها لرفض الانتقاص منه , رغم ما بدر منه تجاهها (رضي الله عنهم أجمعين).

الوجه الثاني : دلت مواقف الصحابة (رضي الله عنهم) بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) على رفض الاعتماد على الأقوال والأفعال المعارضة للمفصل المعلوم من كلام وحال غير المعصوم , وأن المتعين هو اعتبار المعلوم الثابت من الأقوال والأحوال لا المظنون الطاريء , في دلالة واضحة على أن هذا الحمل والاعتبار هو منهج سني نبوي سلفي , ومن ذلك :
دفاع معاذ بن جبل عن كعب بن مالك بأنه ما عرف عنه إلا خيرا عندما طعن فيه بعض الصحابة بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب تخلفه عن غزوة تبوك , كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك وفيه : (ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكًا، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: [ما فعل كعب بن مالك]؟ قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرداه والنظرُ في عِطفَْيه، فقال له معاذ بن جبل:بئس ما قُلْتَ،والله يا رسول الله، ما علمنا عليه الا خيرًا، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...).
فمعاذ بن جبل دافع عن كعب بن مالك رغم وقوعه بما يوجب القدح فيه , وفي هذا الدفاع –كما قال النووي- في شرح مسلم (17\89) : "دليل لرد غيبة المسلم الذي ليس بمتهتك -أو بمنهمك- في الباطل".
وفي سكوت النبي (صلى الله عليه وسلم) على دفاع معاذ بن جبل دليل إقراره عليه كما قال الأبي في "إكمال إكمال المعلم" (9/189) :"ولذا لم يُنكر (صلى الله عليه وسلم) على قائل ذلك؛اكتفاءً بإنكار معاذ".
ولم يقتصر منهج النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في حمل مجمل الكلام والحال على مفصله في حق الصحابة بل تعداه إلى الدواب غير العاقلة , وما ذاك إلا لأن هذا الحمل مما تدعو إليه الفطرة وتستسيغه العقول السليمة , ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) في حديث قصة الحديبية، وفيه: (...حتى إذا كان بالثنيّة، التي يهبط عليهم منها؛ بركت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلأت القصواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما خلأت القصواء،وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل]).
قال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري (8/126) :"وقوله عليه السلام في الناقة: [ما خلأت، وما هو لها بخلُق] فالخلأ في النوق، مثل الحران في الخيل،وفيه دليل على أن الأخلاق المعروفة من الحيوان، كلها يُحكم بها على الطارئ الشاذ منها، ولذلك إذا نُسب إنسان إلى غير خلقه المعلوم، في هفوة كانت منه؛ لم يُحكم بها".
وجاء في "فتح الباري" (5/335) في بيان فوائد الحديث نقلا عن ابن بطال : "..جواز الحكم على الشيء بما عُرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يُعهد منه مثلها؛ لا يُنسب إليها، ويُرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها، ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلاء القصواء، لولا خارق العادة؛ لكان ما ظنه الصحابة صحيحًا، ولم يعاتبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) على ذلك ، لعذرهم في ظنهم".

الوجه الثالث : إن اعتبار مفصل الأقوال والأحوال هو منهج السلف من التابعين وكبار الإئمة المتبوعين , ومن ذلك :
ما حكاه شيخ الإسلام عن الإمام الشافعي كما في "الرد على البكري" (2/663-664): "....ومن الحكايات المعروفة عن الشافعي -رحمة الله تعالى عليه- أن الربيع قال له في مرضه : (يا أبا عبد الله؛قَوَّى الله ضعفك , قال: يا أبا محمد لو قوى ضعفي لهلكت؟!! فقال له الربيع: لم أقصد إلا خيرًا، فقال: لو شتمتني صريحًا, لعلمت أنك لم تقصد إلا الخير، فقال الربيع: كيف أقول؟ قال: قل: برّأ الله ضعفك) فعقب شيخ الإسلام قائلا : "فإن الشافعي نظر إلى حقيقة اللفظ، وهو نفس الضعف، والربيع قصد أن يسمي الضعيف ضعفًا، كما يُسمي العادل عدلاً، ثم لما علم الشافعي بحسن قصده؛ أوجب أن يقول: لو سببتني صريحًا- أي صريحًا في اللغة- لعلمت أنك لم تقصد إلا خيرًا، فقدّم عليه علمه بحسن قصده، ولم يجعل سوء العبارة منتقصًا، وقد يسبق اللسان بغير ما يقصد القلب، كما يقول الداعي من الفرح: [اللهم أنت عبدي، وأنا ربك] ولم يؤاخذه الله تعالى".
وكذلك كان موقف الإمام أحمد وأبو خليفة والخطيب البغدادي في حمل مجمل الكلام والحال على ما هو معروف من مفصله ,فقد جاء في شرف أصحاب الحديث (ص\114-115) : " سمعت أبا الوليد يقول سمعت شعبة يقول : (إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون).
قال أبو خليفة : يريد شعبة رحمه الله أن أهله يضيعون العمل بما يسمعون منه ويتشاغلون بالمكاثرة به أو نحو ذلك , والحديث لا يصد عن ذكر الله بل يهدي إلى أمر الله وذكر كلاما .
حدثني الحسن بن أبي طالب حدثنا عبد الواحد بن علي اللحياني حدثنا عبدالله بن سليمان بن عيسى الفامي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هاني قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن قول شعبة : (إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) ؛ فقال : لعل شعبة كان يصوم فإذا طلب الحديث وسعى فيه يضعف فلا يصوم أو يريد شيئا من أعمال البر فلا يقدر أن يفعله للطلب فهذا معناه .
قلت : وليس يجوز لأحد أن يقول كان شعبة يثبط عن طلب الحديث وكيف يكون كذلك وقد بلغ من قدره أن سمي أمير المؤمنين في الحديث كل ذلك لأجل طلبه له واشتغاله به ولم يزل طول عمره يطلبه حتى مات على غاية الحرص في جمعه لا يشتغل بشيء سواه ويكتب عمن دونه في السن والإسناد وكان من أشد أصحاب الحديث عناية بما سمع وأحسنهم إتقانا لما حفظ" .

الوجه الرابع : إن تفسير الكلام المجمل بحمله على مفصله المعلوم هو من المباحث المعروفة في لغة العرب , والعرب كانت تجمل في كلامها وتفصل وتفسر , كما قال أبو بكر الصيرفي فيما نقله عنه الزركشي في البحر المحيط (3/455) قال : "النبي (عليه السلام) عربي يخاطب، كما يخاطِب العرب، والعرب تُجمل كلامها، ثم تفسره، فيكون كالكلمة الواحدة، قال: ولا أعلم أحدًا أَبَى هذا غير داود الظاهري" .
بل إعمال هذا الحمل في آيات القران ونصوص السنة دليل على وجوده في لغة العرب –أصلا- كما قال الشاطبي –رحمه الله- في الموافقات (2 / 103-104) : "إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، [وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله] ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها ؛ فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب" .

الوجه الخامس : وهو الموضح للأصل الجامع لما تقدم , فيقال : أن الألفاظ لا تقصد لنفسها وإنما لمعانيها , فالعبرة في الكلام الحقائق والمعاني –إن أمكن معرفتها- لا لمجرد الألفاظ والمباني , كما قال ابن القيم –رحمه الله- في إعلام الموقعين (1\217-220) –مختصرا-: "والتعويل في الحكم : على قصد المتكلم , والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ومن عموم المعنى الذي قصده تارة , وقد يكون فهمه من المعنى أقوى وقد يكون من اللفظ أقوى وقد يتقاربان ... , وهذا مما فطر الله عليه عباده ... ,ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده , والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها ... , وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه لما لا يوجد في كلامه صريحا وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة , وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة فإذا دعي إلى غداء فقال والله لا أتغدى أو قيل له نم فقال والله لا أنام أو اشرب هذا الماء فقال والله لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر , والألفاظ ليست تعبدية , والعارف يقول : ماذا أراد , واللفظي يقول : ماذا قال , كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي (صلى الله عليه وسلم) يقولون {ماذا قال آنفا} وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم , وهو فهم مراد المتكلم من كلامه , وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة , وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم ... .".

[أقوال أهل العلم في هذه المسألة]
ولهذا فقد جاءت عبارات أهل العلم متضافرة متواترة على القطع مفصل الأقوال والأحوال دون التشبث بزلات الأقوال ومجملها , ومن ذلك :

أولا : ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب تفسير كلام المتكلم بعضه ببعض , كما في "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" (4/44) : "فإنه يجب أن يُفسَّر كلام المتكلِّم بعضه ببعض، ويُؤْخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلّم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرفُه وعادتُه في معانيه وألفاظه؛ كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده، وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرِك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعل كلامه متناقضًا، وترك حمله على ما يناسب سير كلامه؛ كان ذلك تحريفًا لكلامه عن موضعه، وتبديلاً لمقاصده، وكذبًا عليه، فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم".
وقال في "الرد على البكري" (2/623) : "ومعلوم أن مُفَسَّر كلام المتكلِّم يقضى على مجمله، وصريحه يُقدم على كنايته، ومتى صدر لفظ صريح في معنى، ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى، أو غير نقيضه؛ لم يُحمل على نقيضه جزمًا، حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا من فرط الجهل والظلم" .
وأوضح –رحمه الله- خطورة وقبح نسبة المذاهب والأقوال إلى أهل العلم بمجرد الوقوف على بعض اطلاقاتهم دون سائرها المفسر لها في الباب المعين كما في "الصارم المسلول" (2/512) "وأخذُ مذاهب الفقهاء من الاطلاقات،من غير مراجعة لما فسّروا به كلامهم، وما تقتضيه أصولهم؛ يجر إلى مذاهب قبيحة".
وقال –أيضا- في كلام ماتع بديع كما في مجموع الفتاوى (31\114): "وكثيرا ما قد يغلط بعض المتطرفين من الفقهاء في مثل هذا المقام فإنه يسأل عن شرط واقف أو يمين حالف ونحو ذلك : فيرى أول الكلام مطلقا أو عاما وقد قيد في آخره . فتارة يجعل هذا من باب تعارض الدليلين ويحكم عليهما بالأحكام المعروفة للدلائل المتعارضة من التكافؤ والترجيح . وتارة يرى أن هذا الكلام متناقض ؛ لاختلاف آخره وأوله . وتارة يتلدد تلدد المتحير وينسب الشاطر إلى فعل المقصر . وربما قال : هذا غلط من الكاتب . وكل هذا منشؤه من عدم التمييز بين الكلام المتصل والكلام المنفصل . ومن علم أن المتكلم لا يجوز اعتبار أول كلامه حتى يسكت سكوتا قاطعا وأن الكاتب لا يجوز اعتبار كتابه حتى يفرغ فراغا قاطعا : زالت عنه شبهة في هذا الباب وعلم صحة ما تقوله العلماء في دلالات الخطاب . ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس ثم يعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر".

ثانيا : وقال ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/520-521) بعد أن ذكر كلامًا لأبي إسماعيل الهروي ظاهره القول بالاتحاد، فحمله على محمل حسن -مع تخطئته إياه في العبارة- ثم قال: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل، وسيرته، ومذهبه، وما يدعو إليه ، ويناظر عليه".

ثالثا : وقال العلامة ابن الوزير مبينا أنه لا يصح في معرض الرد على المعين أن يؤاخذ المردود بظاهر لفظ لا سيما مع إمكان معرفة قصده كما قال ابن الزير : "ومن حق الجواب أن يكون لما ورد عليهمطابقا، ولما سيق من أجله موافقا، وأن لا يؤاخذ بمفهوم الخطاب، ولا يقطع بوهم يخالف الصواب , فإن من حق الناقض لكلام غيره أن يفهمه أولاً، ويعرف ما قصد به ثانياً،ويتحقق معنى مقالته، ويتبيِّن فحوى عبارته،فأما لو جَمَع لخصمه بين عدم الفهم لقصده،والمؤاخذة له بظاهر قوله؛ كان كمن رمى فأشوى، وخَبط خبْط عشوا،ثم إن نسب إليه قولاً لم يعرفه ، وحمله ذنباً لم يقترفه؛كان ذلك زيادة في الإقصا،وخلافاً لما به الله تعالى وصّى، قال تعالىوإذا قلتم فاعدلوا) , وقال تعالى : (قل أمر ربي بالقسط) وقال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) إلى أمثالها من الآيات .... إلى أن قال:فأما مجرد البهت الصراح؛فلا يليق بذوي الصلاح ". من مقدمة المحقق للعواصم"(1/ 38) .

رابعا : وقال الحافظ تاج الدين عبدالوهاب بن علي السبكي في "قاعدة في الجرح والتعديل" ص(93): "فإذا كان الرجل ثقة مشهودًا له بالإيمان والاستقامة؛فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".اﻫ .

خامسا : وقال الحاظ ابن حجر الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام (ص\188) :" وأيضا ًفالمصنفات تكثر مسائلها, فلو كان المصنفون إلى استيعاب سائر التفاصيل في كل مسألة ؛ لشق عليهم , بل عجزت عن ذلك قدرتهم , فساغ لهم ذكر أصول المسائل , والإطلاق في بعض الأبواب ؛ اتكالاً على فهم التفصيل من محل آخر , وغير ذلك مما لا يخفى على ناظر في كتبهم"اهـ.

سادسا : وقال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في شريط "عقيدة أهل السنة والجماعة" جوابا عن السؤال التالي "سؤال: هل كل ما ورد في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية صحيح النسبة إليه ، أم هناك (بعض) فتاوى نسبت إليه ؟
فأجاب الشيخ -رحمه الله تعالى- : المعروف أن جامعها الشيخ العلامة عبدالرحمن بن قاسم -رحمه الله- وقد اجتهد وحرص على جمعها من مظانها، وسافر في ذلك أسفارًا كثيرة، ونقَّب عنها، هو وابنه محمد، واجتهد في ذلك، والذي نعلم مما أطلعنا عليه: أنها صواب، وأنها صحيح نسبتها إليه ، ولا يعني ذلك أن كل حرف، أوكل كلمة،قد وقع فيها خطأ من بعض النسّاخ أو الطبّاع، قد يقع خطأ من بعض النساخ أو الطباع، ولكن تراجع الأصول، وسوف يتبين الخطأ، ويظهر الخطأ،فإذا وُجدت عبارة لا تناسب المعروف من عقيدته، والمعروف من كلامه، وإذا وجد الإنسان في الفتاوى كلمة أُشكلت عليه، أو عبارة أشكلت عليه، فالواجب أن يردها إلى النصوص المعروفة من كلامه، من كتبه العظيمة، هذا هو الواجب على أهل الحق، أن يردوا المشتبه إلى المحكم، كما هو الواجب في كتاب الله، وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي كلام أهل العلم جميعًا..".

سابعا : وقال الشيخ محمد بن صالح العثمين في الشرح الممتع (5/380-381) : "وقوله: "ظاهره العدالة" أي: وأما من عُرِف بالفسوق والفجور؛ فلا حرج أن نسيء الظن به، لأنه أهل لذلك، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتبع عورات الناس، ويبحث عنها، لأنه قد يكون متجسسًا بهذا العمل"، قال ـ رحمه الله ـ : "قال: "ويستحب ظن الخير للمسلم" أي يستحب للإنسان أن يظن بالمسلمين خيرًا، وإذا وردت كلمة من إنسان، تحتمل الخير والشر؛ فاحملها على الخير، ما وجدت لها محملاً، وإذا حصل فعل من إنسان، يحتمل الخير والشر؛ فاحمله على الخير، ما وجدت له محملاً، لأن ذلك يزيل ما في قلبك من الحقد والعداوة والبغضاء، ويريحك، فإذا كان الله عز وجل لم يكلفك أن تبحث وتنقب؛ فاحمد الله على العافية، وأَحْسِن الظن بإخوانك المسلمين، وتعوذ من الشيطان الرجيم".

ثامنا : وقال الشيخ عبد المحسن العباد وقد سُئل السؤال التالي في شرح سنن أبي داود (ش\512) :"السؤال : إذا وُجد للعالم كلام مجمل في موضع، في قضية ما، وقد يكون هذا الكلام المجمل، ظاهره يدل على أمر خطأ، ووُجِد له كلام آخر، في موضع آخر، مفصل في نفس القضية، موافق لمنهج السلف، فهل يُحمل المجمل من كلام العالم على الموضع المفصل؟ .
فأجاب الشيخ: "نعم، يُحمل على المفصل، ما دامه شيئًا موهمًا، فالشيء الواضح الجلي هو المعتبر".

تاسعا : وقال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- في شريط بعنوان "التوحيد يا عباد الله" السؤال : بعد المحاضرة ، قال السائل : هل يحمل المجمل على المفصل في كلام الناس؟أم هو خاصٌ بالكتاب والسنة ؟ نرجو التوضيح -حفظكم الله- ؟ .
فأجاب الشيخ: "الأصل إن حمل المجمل على المفصل ,الأصل في نصوص الشرع من الكتاب والسنة، لكن مع هذا؛نحمل كلام العلماء، مجمله على مفصله، ولا يُقَوَّل العلماء قولا مجملاً، حتى يُرْجَع إلى التفصيل من كلامهم، حتى يرجع إلى التفصيل من كلامهم، إذا كان لهم قول مجمل، وقول مفصّل، نرجع إلى المفصل, ولا نأخذ المجمل" .

عاشرا : وحسبنا أن نختم النقولات الواضحات الصريحات عن أهل بدرة من درر العلامة بكر عبد الله أبو زيد , حيث قال في "المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال" ص(76-77) ط/دار عالم الفوائد:"أما الجناة كل الجناة: فهم في عصرنا طلاب الطّروس، الذين يُظهرون الانتساب إلى الحديث وأهله، وينادون بالسنة ونصرتها، ثم يمدون إلى الباطل أنبوبًا، وللتضليل يستدلون عليه بكلام لشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- حتى يغرِّر أحدهم بالناس، ويضلل أهل السنة والجماعة، ويعدل بهم عن الحق الذي قرره شيخ الإسلام، وهذه فتنة عمياء، وانشقاق في صف أهل السنة والجماعة، وبذر للشقاق، وغرس لحنظل الخلاف، وهكذا يكون الفتون، نسأل الله السلامة والعافية، ولهم في ذلك من الباطل طرق شتى منها:
1- الأخذ بالمتشابه، وهجر المحكم.
2- التقاط العبارات المجملة، أو المحتملة، أو الموهمة، والإعراض عن الصريحة الواضحة.
3- المغالطة في دلالة بعض العبارات.
4- قطع الكلام المستدل به عن السباق واللحاق الذي لا يتضح إلا بهما.
5- بتر الكلام في أوله أو مثانيه أو آخره.
6- إبدال لفظة بأخرى.
7- توظيف النص على غير المراد منه.
8- توظيف لفظة في غير ما يدل عليها السياق في واحدة من دلالات الألفاظ الثلاث: اللغوية، والشرعية، والعرفية.
يكون له كلام مجمل في موضع، لكنه مفصل مبسوط في موضع آخر، فيأخذ المجمل، ويترك المفصل".

[شبهة ونقضها]
ذهب بعض الناس إلى أن قاعدة (حمل المجمل على المفصل، والمبين والمطلق على المقيد، والعام على الخاص في كلام غير المعصوم) ، قاعدة قطبية ودعوة خطيرة , وزعم أن الأخذ بهذه القاعدة يلزم منه ضياع دين الله وضياع حقوق العباد ، معتمدا في هذا الفهم على ما قاله الشوكاني في كتابه الصوارم الحداد (ص96-97) : (وقد أجمع المسلمون أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم).
وكذلك على ما قاله البقاعي -رحمه الله- في خلال رده على من يتأول كلام ابن الفارض : "مع أن الفاروق ابن الخطاب رضي الله عنه الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه، قد أنكر التأويل لغير كلام المعصوم، ومنع منه (رضي الله عنه) ، وأهلك كل من خالفه وأراده وبسيف الشرع قتله وأخزاه، فيما رواه عنه البخاري في كتاب الشهادات من صحيحه : (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر خيراً؛ أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً؛ لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة) .
وجوابنا على هذه الشبهة من طريقين :
الطريق الأول –مجملة- : قد تقرر بما تقدم من نصوص شرعية وآثار سلفية وأقوال علمية أن حمل مجمل الكلام على مفصل المقال والحال أمر معلوم معلوم شرعا , مسلم به عقلا وفطرة , وهو من مقتضى اللغة العربية قطعا , وعليه جرى عمل العلماء قديما وحديثا , فلا يعارض مثل هذا بمجرد فهم مغلوط لقاعدة غير محررة (!) , بله أن يوصف ما تقدم من المسلمات بانه قاعدة قطبية (!!) ؛ فهذا محظ التحكم والتقول على العلم وقواعده وأصوله , ورد لها بمحض التشنيعات والتشغيبات .

الطريق الثاني –مفصلة- : وبيان هذا الغلط على جهة التفصيل يتضح بالأوجه التالية :
الوجه الأول : لا بد من تحرير المصطلحات قبل الخوض في التوجيهات أمر لا بد منه للوقوف على تصور صحيح للمسألة المختلف فيها ؛ وفي مسألتنا هذه لا بد من تحرير أصل الخلاف فيقال :
قال العلامة الشنقيطي في المذكرة (ص\314-315) : "الكلام المفيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام : (نص , وظاهر , ومجمل) , وبرهان الحصر في الثلاثة أن الكلام :
إما أن يحتمل معنى واحداً فقط فهو والنص نحو : تلك عشرة كاملة .
وان احتمل معنيين فأكثر فلا بد أن يكون في أحدهما أظهر من الآخر أولا , فان كان أظهر في أحدهما فهو الظاهر ومقابلة المحتمل المرجوح ؛ كالأسد فانه ظاهر في الحيوان المفترس ومحتمل في الرجل الشجاع .
وان كان لا رجحان له في أحد المعنيين أو المعاني فهو المجمل كالعين والقرء ونحوهما .
وحكم النص : أن لا يعدل عنه الا بنسخ .
وحكم الظاهر : أن لا يعدل عنه الا بدليل على قصد المحتمل المرجوح وذلك هو التأويل ... .
وحكم المجمل : أن يتوقف عن العمل به الا بدليل على تعيين المراد".
فالكلام المجمل والحال المجمل هو ما لم يتميز الراجح فيه , ولا يصح حمله على معنى معين وترجيحه على غيره إلا بدليل يعين المراد , ومؤاخذة من تكلم بالمجمل من الأقوال على ما احتمله قوله من اسوأ المعاني –من غير قرينة مرجحة لإرادته- هو تقول على القائل لورود احتمالية إراداته المعنى الحسن .
ثم إن قامت القرينة المرجحة لأحد المعاني (إما الحسنة أو السيئة) على غيره , صار الراجح (ظاهرا) فخرج بذلك عن أصل النزاع (الإجمال) ثم يحكم على هذا الراجح بما يقتضيه من مدح أو ذم .
والتأويل إن كان بالقرينة المرجحة المعتبرة كان (ظاهرا) يجب الأخذ به فلا علاقة له بالإجمال –بعد ذلك- .
ثم إن كان التأويل بقرينة غير موجبة للترجيح كان من قبيل التأويل الفاسد أو اللعب ؛ فيحرم اعتباره في كلام المعصوم وغير المعصوم .
وعلى كلا التقديرين (تأويل الكلام بقرينة موجبة , أو بقرينة غير موجبة) فإن مبحث التأويل خارج عن مبحث الإجمال , فلا يصح الاستدلال على بطلان حمل مجمل الكلام والحال على مفصله , بقاعدة عدم اعتبار التأويل في كلام غير المعصوم –هذا على فرض صحتها أصلا- ؛ والاستدلال بهذه القاعدة على هذه الدعوى هو من قبيل التدليس على العباد القائم على خلط المفاهيم .

الوجه الثاني : إن كثيرا من أهل العلم قد تأولوا لكلام غير المعصوم , بل حتى لكلام من قد علم ضلاله كما حكى الشيخ حمد بن ناصر وأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب-رحم الله الجميع- تأول بعض أهل العلم لكلام خطير لابن الفارض , فقالوا كما في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3\21-32) –مختصرا- : "فمن أهل العلم من أساء به الظن، بهذه الألفاظ وأمثالها، ومنهم من تأول ألفاظه، وحملها على غير ظاهرها، وأحسن فيه الظن، ومن أهل العلم والدين من أجرى ما صدر منه على ظاهره، وقال: هذه الأشعار ونحوها تتضمن مذهب أهل الاتحاد... وابن الفارض وأمثاله -لجهالتهم- لا يعلمون ما في كلامهم ومذهبهم من الكفر،ومن أحسن فيهم الظن من العلماء -كما قدمنا- حمل كلامهم على محامل غير هذه، وأوّلها تأويلاً حسنًا، على غير ظاهرها".
وهذا الشوكاني نفسه يحكي تراجعه عن تكفيره لابن عربي في الصوارم الحداد والذي رفض اعتبار تأويل كلام ابن عربي بناء على أنه (قد أجمع المسلمون أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم) ؛ فبين تراجعه عن هذا التكفير بما يتضمن تعطيله العمل المطلق بهذه القاعدة (لا تعطيل مطلق العمل بها ) فتكلم في كتابه البدر الطالع (2\37-38) عن رسالته هذه بكلام يكتب بماء الذهب أنقله هنا بتمامه ليعم به النفع وتحصل به تمام الفائدة يقرر فيه انه لا يكفر المعين بما كان من كلامه قابلا للتأويل –ويعني به كلام ابن عربي- , وينصح الغلاة الواقعين في أعراض الناس المتصدرين للحكم على المسلمين بالقول: "وقد أوضحت في تلك الرسالة حال كل واحد من هؤلاء وأوردت نصوص كتبهم وبينت أقوال العلماء في شأنهم وكان تحرير هذا الجواب في عنفوان الشباب , وأنا الآن أتوقف في حال هؤلاء وأتبرأ من كل ما كان من أقوالهم وأفعالهم مخالفا لهذه الشريعة البيضاء الواضحة التي ليلها كنهارها ولم يتعبدني الله بتكفير من صار في ظاهر أمره من أهل الإسلام .
وهب أن المراد بما في كتبهم وما نقل عنهم من الكلمات المستنكرة المعنى الظاهر والمدلول العربى وأنه قاض على قائله بالكفر البواح والضلال الصراح فمن أين لنا أن قائله لم يتب عنه , ونحن لو كنا في عصره بل في مصره بل في منزله الذي يعالج فيه سكرات الموت لم يكن لنا إلى القطع بعدم التوبة سبيل لأنها تقع من العبد بمجرد عقد القلب مالم يغرغر بالموت فكيف وبيننا وبينهم من السنين عدة مئين .
ولا يصح الاعتراض على هذا بالكفار فيقال هذا التجويز ممكن في الكفار على اختلاف أنواعهم لأنا نقول فرق بين من أصله الإسلام ومن أصله الكفر فإن الحمل على الأصل مع اللبس هو الواجب لاسيما والخروج من الكفر إلى الإسلام لا يكون إلا بأقوال وأفعال لا بمجرد عقد القلب والتوجه بالنية المشتملين على الندم والعزم على عدم المعاودة فإن ذلك يكفى في التوبة ولا يكفى في مصير الكافر مسلما .
وأيضا فرق بين كفر التأويل وكفر التصريح على أنى لا أثبت كفر التأويل كما حققته في غير هذا الموطن وفي هذه الإشارة كفاية لمن له هداية".

الوجه الثالث : إن مقصود أهل الأصول والفقه كأمثال البقاعي والشوكاني من التأويل هو ما يقابل الظاهر , وهو صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره , كما قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (1\178) : "وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه ولهذا يقولون التأويل على خلاف الأصل".
وهذا التأويل إن كان بقرينة موجبة كان تأويلا مقبولا , وإن كان بقرينة غير موجبة أو بغير قرينة كان تأويلا فاسدا , كما قال الشوكاني في معنى التأويل وأقسامه كما في إرشاد الفحول (ص\298) : "واصطلاحا صرف الكلام عن ظاهره الى معنى يحتمله , وفي الاصطلاح حمل الظاهر على المحتمل المرجوح , وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد : فإن أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد بدليل يصيره راجحا , لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مساو فاسد" .
وأوضح الشوكاني في موطن آخر من كتابه إرشاد الفحول (ص\112) أن : "التأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان لأنه إتباع للدليل لا إتباع لذلك التأويل".
وهذا التأويل المعتضد بالدليل هو التفسير الممدوح عند السلف , لا التأويل المذموم عندهم , فتنبه للفرق , فتأويل الكلام بمعنى صرفه عن الظاهر والراجح إلى المرجوح سواء كان للمعصوم أو لغير المعصوم بغير قرينة موجبة أمر ممنوع منه , وصرفه بقرينة موجبة مقبول ممدوح فاعله , ويوضحه :

الوجه الرابع : إن التأويل بمعناه عند المتأخرين من أهل الأصول والفقه هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى المجاز , وهو باطل في كلام المعصوم وكلام غير المعصوم , ولهذا رفض الفاروق (رضي الله عنه) أن يحيد عن الظاهر من الأقوال والأحوال –وهذا غاية ما في قول عمر (رضي الله عنه) [إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر خيراً؛ أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً؛ لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة] , وليس في كلام الفاروق –مطلقا- ما يدلل على جواز هذا الحمل في كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) بغير قرينة.
وقد قرر هذا المعنى وهو بطلان بطلان التأويل بمعناه عند المتأخرين من أهل الأصول والفقه في كلام المعصوم وكلام غير المعصوم ابن القيم في الصواعق المرسلة (2\399-400) فقال : "معلوم أن العلوم إنما قصد بها مصنفوها بيانها وإيضاحها للمتعلمين وتفهيمهم إياها بأقرب ما يقدرون عليهمن الطرق فإن سلط التأويل على ألفاظهم وحملها على غير ظواهرها لم ينتفع بها وفسدت وعاد ذلك إلى موضوعها ومقصودها بالإبطال فإذا حمل كلام الأطباء على غير عرفهم المعروف من خطابهم وتأول المخاطب كلامهم على غير ظاهره لم يصل إلى فهم مرادهم البتة بل أفسد عليهم علمهم وصناعتهم وهكذا أصحاب علم الحساب والنحو وجميع أرباب العلوم إذا سلط التأويل على كلامهم لم يوصل إلى شيء من تلك العلوم مع أنه يجوز عليهم الخطأ والتناقض والتلبيس في بعض المواضع والتعمية ومع قصورهم في البيان ووجوه التعبير ومع نقصان إدراكهم للحقائق وعلومهم ومعارفهم فكيف يسلط التأويل على كلام من لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد هذا مع كمال علمه وكمال قدرته على أعلى أنواع البيان وكمال نصحه وهداه وإحسانه وقصده الإفهام والبيان لا التعمية والإلغاز .
ولهذا لما سلط المحرفون التأويلات الباطلة على نصوص الشرع فسد الدين فسادا لولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حرسا وكلهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين لجرى عليهما جرى على الأديان السالفة ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السنة وظهور البدعة من يجدد لها دينها ولا يزال يغرس في دينه غرسا يستعملهم فيه علما وعملا .
وكما أن التأويل إن سلط على علوم الخلائق أفسدها فكذلك إذا استعمل في مخاطباتهم أفسد الأفهام والفهم ولم يمكن لأمة أن تعيش عليه ابدا فإنه ضد البيان الذي علمه الله الإنسان لقيام مصالحه في معاشه ومعاده".
وأما حمل المجمل على المفصل والعام على الخاص والمطلق على المقيد فهذا هو التفسير بقرينة , كما قال شيخ الإسلام فيما سبق حكايته عنه في الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح (4/44) : "فإنه يجب أن يُفسَّر كلام المتكلِّم بعضه ببعض، ويُؤْخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلّم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرفُه وعادتُه في معانيه وألفاظه؛ كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده، وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرِك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعل كلامه متناقضًا، وترك حمله على ما يناسب سير كلامه؛ كان ذلك تحريفًا لكلامه عن موضعه، وتبديلاً لمقاصده، وكذبًا عليه، فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم".
وقوله في الرد على البكري (2/623) : "ومعلوم أن مُفَسَّر كلام المتكلِّم يقضى على مجمله، وصريحه يُقدم على كنايته، ومتى صدر لفظ صريح في معنى، ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى، أو غير نقيضه؛ لم يُحمل على نقيضه جزمًا، حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا من فرط الجهل والظلم" .
فتبين أن حمل المجمل على المفصل والعام على الخاص والمطلق على المقيد هو من باب التفسير والبيان , لا من باب الأخذ بالتأويل المقابل للعمل بالظاهر , وهذا التأويل باطل في كلام المعصوم وغير المعصوم –إلا إن كان بقرينة موجبة- فيكون مقبولا في كلام المعصوم وغير المعصوم .

الوجه الخامس : إن كلام برهان الدين البقاعي ليس في المجمل , وإنما في صرف الظاهر من كلام غير المعصوم عن معناه وهذا باطل لا يصح لأن غير المعصوم قد يخطيء عامدا او ساهيا فلا حاجة لتكلف التأويل لكلامه , كما قال –رحمه الله- في مصرع التصوف (ص\253) : "وقال الأصوليون كافة : التأويل إن كان لغير دليل كان لعبا , وما ينسب إلى بعض المذاهب من تأويل ما هو ظاهر في الكفر فكذب أو غلط منشؤه سوء الفهم كما بينت ذلك بيانا شافيا في غير هذه الرسالة , وإنما أولنا كلام المعصوم لأنه لا يجوز عليه الخطأ وأما غيره فيجوز عليه الخطأ سهوا وعمدا".
ومقصود البقاعي ظاهر : وهو أن كلام غير المعصوم يؤخذ على ظاهره ولا يصرف إلى غيره لأنه يجوز أن يكون قاله ساهيا أو مخطئا فيحكم على قوله الظاهر بما يدل عليه تصويبا أو تخطئة , ولسنا بحاجة لأن نتكلم لكلامه التأويلات لأنه غير معصوم من الخطأ سهوا وعمدا .
وبنحو هذا المعنى صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (10\312-313) مبينا أنه لا يصح معاملة كلام المعصوم كما يعامل كلام المعصوم فقال : "معناه من الدين الواجب إذا جاء في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع فإن معرفة مراد الله ومراد رسوله ومراد أهل الإجماع واجب لأن قول الله ورسوله وقول أهل الإجماع قول معصوم عن الخطأ يجب اتباعه فاللفظ الوارد في ذلك إن لم يعرف معناه لم يعرف ما أرادوا ولهذا كان الواجب أن كل لفظ جاء في كلام المعصوم وجب علينا التصديق به وإن لم يعرف معناه .
وما جاء في كلام غير المعصوم لم يجب علينا إثباته ولا نفيه حتى يعرف معناه ؛ فإن كان مما أثبته المعصوم أثبتناه وإن كان مما نفاه نفيناه" .

قلت : أما كلام المعصوم فلو دل ظاهره على ما لا يقبل شرعا أو عقلا فينظر فيه إلى دافع التأويل , وهو أحد أمرين :
الأول : معارضة كلام المعصوم لمعنى معتبر في الشرع , فعند ذلك نكون أمام حالة التعارض الموجبة للجمع أو الترجيح إو النسخ أو التوقف للاضطراب , مع القطع أن ثمة راجح لا تدركه عقولنا فكان التوقف هو الواجب , لا التأويل بلا قرينة , أو بقرينة غير موجبة , فإن حكم برجحان أمر من الأمور المتقدمة , كان هو الظاهر , وإن سماه البعض مؤولا ؛ فلا مشاحة في الاصطلاح , لأن معنى التأويل في هذا الموضع مرادف لمعنى التفسير المعتبر .
الأمر الثاني : معارضة الظاهر أو المنصوص من كلام المعصوم لدليل عقلي , فعند ذاك يعمد أهل السنة والجماعة إلى تقديم ظاهر كلام المعصوم على دليل العقل لقطعهم باستحالة معارضة النقل الصحيح للعقل الصريح , أما أهل الكلام فيعمدون إلى تأويل كلام المعصوم بما يظنوه دفعا لمعارضة الدليل العقلي وتحقيقا للموافقة -المزعومة- بين النص المؤول- والعقل , وهذا مسلك باطل حكاه وأجاد في نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في العديد من مصنفاته وبخاصة درئ تعارض العقل والنقل , وكذلك ابن القيم في مواطن عدة وبخاصة الصواعق المرسلة .
وعلى كل فالاستشهاد بقول البقاعي والشوكاني (في تأويل الكلام) على بطلان حمل المجمل على المفصل والعام على الخاص والمطلق على المقيد هو استشهاد بدليل خارج عن موضوع الدعوى (تفسير الكلام) , والله أعلم









قديم 2014-02-05, 10:12   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (6)
:

التثبت من الأخبار الموجبة لنقد الأعيان


.




التثبت مطلب شرعي وضرورة فطرية لا ينفك عنها طالب حق وقاصد تحقيق في مختلف الجوانب الدينية والدنيوية , وعلى قدر التفريط في اعتبار هذا المطلب يكون الخلل في النتائج المبنية على المقدمات التي لم يراع فيها جانب التثبت , ومن هذا القبيل التثبت في الأخبار الموجبة لنقد الأعيان , لا سيما ما كان منها مخرجا للمسلم من عدالته الثابتة بتزكيات العلماء له , وشهادة المعتبرين منهم عليه بالصلاح والاستقامة وسلامة المنهج .

وعلى الضد من ذلك من حكم عليه أهل العلم المعتبرين المعتدلين بالانحراف والزيغ عن الجادة _للابتداع_ فلا ينبغي المسارعة بإخراجه عن هذا الأصل بمجرد موجب خبر الثقة .

وفي كلتا الحالتين لا بد من التثبت من الخبر الموجب لتغيير الحكم الثابت بيقين كما قال شيخ الاسلام في بيان ضابط اعتبار ما يصح نسبته لأئمة الإسلام كما في منهاج السنة النبوية () : "وأما الصحابة والتابعون وأئمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك".

ولأجل ضبط هذا الموضوع لا بد من اعتبار التالي :

أولا : أن الأصل في خبر الثقة وجوب الأخذ به في الجوانب الدينية _علما وعملا_ كما قال ابن حزم -رحمه الله- في الأحكام (1\108) : "فصح بهذا إجماع الأمة على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي (صلى الله عليه وسلّم) وأيضاً فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي (صلى الله عليه وسلّم)".

ومن تذرع بالتثبت لرد أخبار الثقات في الأمور الدينية –من غير قيام موجب التثبت- فهو من جنس أهل الأهواء والبدع الذين ردوا أخبار الآحاد الصحيحة في العقائد أو الأحكام بدعوى ظنيتها المحرم الأخذ بها في الشرع , ورحم الله ابن القيم حيث يقول كما في مختصر الصواعق المرسلة () : "ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء , وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك".

ثانيا : الأصل في خبر الثقة القبول إلا إذا قامت القرائن الدالة على انتفاء هذه الصفة عنه بما يقدح بهذا الوصف -قدحا مطلقا أو مقيدا- بما يوجب التوقف في خبر قبول خبر الثقة أو رده أحيانا , والأمثلة على ذلك كثيرة منها :

ما قاله ابن حزم في الإحكام (1\128) : "ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه : إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه .

وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان .

وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ".

ومنها _أيضا_ : الشذوذ : كأن يخبر الثقة مخالفا خبر غيره من الثقات .

أو تفرد الثقة تفردا يغلب معه حصول الوهم في الخبر فعند ذلك يرد خبر الثقة لعلة الوهم , كما في مسألة رد الخبر الشاذ , ورد زيادة الثقة حال قيام القرائن الدالة على الوهم .

ومنها _كذلك_ : رد أخبار الثقات في غيرهم من أقرانهم و غيرهم لقيام قرائن التحامل بسبب الحسد أو المنافسة الدينية بل والدنيوية حتى كما قال العلامة ابن السبكي –كما في توضيح الأفكار (2\163) : "إن الجارح لا يقبل جرحه ولو فسره فيمن غلبت طاعته على معاصيه ومادحوه على ذاميه ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه من تعصب مذهبي ومنافسة دنيوية كما يكون من النظراء أوغير ذلك فتقول مثلا لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذؤيب في مالك وابن معين في الشافعي والنسائي في أحمد بن صالح فإن هؤلاء أئمة صالحون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت لدواعي على نقله وكان القاطع قائما على كذبه فيما قاله" .

وقال السرخسي في أصوله (2\11) : "وأما الطعن المفسر بما يكون موجبا للجرح فإن حصل ممن هو معروف بالتعصب أو متهم به لظهور سبب باعث له على العداوة فإنه لا يوجب الجرح وذلك نحو طعن الملحدين والمتهمين ببعض الأهواء المضلة في أهل السنة وطعن بعض من ينتحل مذهب الشافعي رحمه الله في بعض المتقدمين من كبار أصحابنا فإنه لا يوجب الجرح لعلمنا أنه كان عن تعصب وعداوة" .

وقال الإمام ابن جرير الطبري بواسطة توجيه النظر (ص\266) : "لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ، ثبت عليه ما ادعي عليه -وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك-: للزم ترك أكثر محدثي الأمصار، لأنه ما منهم أحد إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه , ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح , وما تسقط العدالة بالظن" .

ومن أمثلة عدم اعتبار أهل العلم لبعض أخبار الثقات في غيرهم :
عدم اعتبارهم لخبر حماد في الانتقاص من عطاء وطاوسا ومجاهدا كما في قوله : (لقيت عطاء وطاوسا ومجاهدا فصبيانكم اعلم منهم بل صبيان صبيانكم) .

ومنه : عدم اعتبارهم لخبر ابراهيم النخعي في الشعبي , وخبر الشعبي في النخعي فعن الأعمش قال : (ذكر ابراهيم النخعي عند الشعبي فقال : ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار , قال : فذكرت ذلك لابراهيم فقال ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئا) .

ومنه رد خبر أبي حنيفة في الأعمش أنه لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة , فيما رواه علي بن خشرم قال : (سمعت الفضل بن موسى يقول دخلت مع أبي حنيفة على الأعمش نعوده فقال أبو حنيفة يا أبا محمد لولا التثقيل عليك الزدت في عيادتك أو قال لعدتك أكثر مما أعودك فقال له الأعمش والله إنك علي لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي قال الفضل فما خرجنا من عنده قال أبو حنيفة أن الأعمش لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة فقلت للفضل ما يعني بذلك قال كان الأعمش يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة).

ولأجل ما تقدم قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2\1901-1903) –مختصرا- : "لهذا فقد أمر السلف بأخذ العلم من العلماء الموثوق بعلمهم ودينهم , وترك أقوال بعضهم في البعض الآخر , فعن ابن عباس قال : (استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها) .

وعن الحسن بن أبي جعفر قال سمعت مالك بن دينار يقول : (يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس تنصب لهم الشاة الضارب فينب هذا من ههنا وهذا من ههنا) .

وقال سعيد في حديثه : (فإني وجدتهم أشد تحاسدا من التيوس بعضها على بعض).

وعن عبد العزيز ابن حازم قال سمعت أبي يقول : (العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقى العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة وإذا لقى من هو مثله ذاكره و إذا لقى من هو دونه لم يزه عليه حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه ولا يذاكر من هو مثله ويزهى على من هو دونه فهلك الناس)".

ثالثا : إن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد –ولو كان ثقة- إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة , كما قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2\1093-1094) مبينا ضابط قبول النقد فيمن صحت عدالته وثبت في العلم أمانته وتقدمه , ما نصه : "هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك والصحيح في هذا الباب :

أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر .

وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والاتقان روايته فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه .

والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وابن حازم , ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه".

رابعا : ليس كل من كان ثقة عند إمام ما يكون ثقة عند غيره , فكم من ثقة عند إمام لما محص حاله بان كذبه أو تدليسه أو سوء حفظه وتخليطه , ولهذا فلا يلزم من توثيق عالم ما لراو ما أن يوثقه الجميع , ولا يلزم من قبول عالم ما لخبر من وثقه أن يقبل خبره غيره ممن لا يراه ثقة بله يطعن فيه ؛ فكم من معين وثقه طائفة من العلماء ضعفه غيرهم وكان الحق معهم , ولهذا كان مذهب جماهير العلماء عدم قبول توثيق الأئمة للمبهمين , كما قال ابن الصلاح في مقدمته (ص\110) : "لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل ، فإذا قال : حدثني الثقة , أو نحو ذلك مقتصرا عليه لم يكتف به ، فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما ، خلافا لمن اكتفى بذلك ، وذلك لأنه قد يكون ثقة عنده ، وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع ، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف ، بل إضرابه عن تسميته مريب يوقع في القلوب فيه ترددا ، فإن كان القائل لذلك عالما أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه ، على ما اختاره بعض المحققين".

وقال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي (ص\557) : "وقول من قبل مراسيل من لا يرسل إلا عن ثقة يدل على أن مذهبه أن الراوي إذا قال: حدثني الثقة، أنه يقبل حديثه ويحتج به، وإن لم يسم عين ذلك الرجل، وهو خلاف ما ذكره المتأخرون من المحدثين كالخطيب وغيره.

وذكره أيضاً طائفة من أهل الأصول كأبي بكر الصيرفي وغيره، وقالوا قد يوثق الرجل من يجرحه غيره، فلا بد من تسميته لنعرف هل هو ثقة أم لا". وقال العلائي في جامع التحصيل (ص\94) :"والذي عليه أكثر المحققين أنه لا يكتفي بقول الراوي حدثني الثقة من غير ذكر صرح باسمه وعرفناه زال ذلك الاحتمال إذا لم يظهر فيه جرح بعد البحث".

ويا الله ! كم من حكم جائر أطلق على أفاضل المسلمين جراء توثيق من لا يتثبت من أخبار من يثق بهم , فأعملت سكاكين التجريح في أعراض خيارات الأمة بسبب نقل عن كاذب أو عن مدلس بتار للنصوص محرف للمعاني ؛وثق بخبره الجارح فعمّ الفساد وطمّ الخلاف , وشاعت الفرقة والاختلاف .

خامسا : فرق بين قبول خبر الواحد الثقة المخبر عن المسائل الشرعية العلمية والعملية المستلزم لحفظ الشريعة , وبين خبره القائم على تتبع زلات أهل العلم ومعايبهم , وإشاعتها بالغيبة والنميمة بقصد الطعن فيهم وإسقاطهم وهدم الشريعة التي جاءت من طريقهم –لفظا أو معنى- .

فالأول : مأمور به ممدوح فاعله داخل في باب حفظ الشريعة .
والثاني : منهي عنه مذموم المتلبس به داخل في باب الطعن في حملة الدين .

والثاني يتنافى تماما مع النصوص الشرعية والآثار السلفية القاضية بوجوب ستر العورات وعدم تتبع الزلات لا قبولها بذريعة قبول خبر الواحد الثقة الناقل , وهذا هو الأصل الأصيل في هذا الباب وهو ما دل عليه حديث ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال [يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحل].

ولهذا كان الأصل هو حرمة ذكر مثالب المسلمين إلا على وجه الحاجة الشرعية المعتبرة وبالقدر الذي يتحقق به المقصد الشرعي , وممن له أهلية تقدير هذه الحاجة والمصلحة وهم أهل المعتبرون من أهل العلم .

فإن انتفت الحاجة الشرعية كان هذا التتبع من قبيل التشهير بالأخطاء والمثالب , كما قال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص\40) : "ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن التي يؤدى السكوت عن اظهارها عنهم وكشفها عليهم الى تحريم الحلال وتحليل الحرام والى الفساد في شريعة الإسلام أولى بالجواز وأحق بالاظهار .

واما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها بقوله عز و جل ولا يغتب بعضكم بعضا وزجر رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها بقوله [يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم] فهى ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص له والازراء به فيما لا يعود الى حكم النصيحة وايجاب الديانة من التحذير عن ائتمان الخائن وقبول خبر الفاسق واستماع شهادة الكاذب .

وقد تكون الكلمة الواحدة لها معنيان مختلفان على حسب اختلاف حال قائلها في بعض الأحوال يأثم قائلها وفى حالة أخرى لا يأثم".
والأعراض عن هذا الخلق النبوي الكريم يفضي بلا شك إلى الوقوع في خلق ذميم مضاد له وهو خلق التشهير , كما قال الشيخ محمد بن صالح العثمين في مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (26\421-422) : "وما ذكر فضيلتكم من أنكم لا تحبون التشهير بين طلبة العلم براد ومردود عليه وأنك نصحت من ردوا عليّ في مسألة المعية، فلا ريب أن هذا من محاسن خلقك، وتمام نصيحتك لإخوانك وأمتك، فإن انشغال الإخوان بتتبع بعضهم بعضًا فيما يظنونه خطأ، ونشر الردود بينهم فيما هو من مسائل النزاع ومواقع الاجتهاد يحصل به ضرر كبير خاص وعام، وإضعاف لجبهة العلماء الراد والمردود عليه، حتى إنه قد يحصل التندر من بعض السفهاء في هذه الأمور والنزاعات".

سادسا : فرق كبير بين خبر الثقة وحكم الثقة ؛ فالثقة خبره موجب القبول , وحكمه أعلى رتبة من مجرد خبره , فليس كل صادق في خبره متقن له يكون فقيها في دلالة خبره , فرب حامل فقه ليس بفقيه كما في حديث زيد بن ثابت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال [نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه] .

وهذا التفريق من بدهيات العلم , ومن ضروريات صحة التصور كما مثل له شيخنا في كتابه الفذ منهج السلف الصالح (ص\) بالقول : "هل يستوي خبر الثقة عن (فلان) أنه: (موجود)؛ كالحكم على هذا الـ (موجود) بأنه (مبتدع)!!

فكيف إذا تعارض (حكم الثقة) مع (حكم ثقة) -آخر-؟!

وما السبيل إذا تعارض (حكم الثقة) مع ما يعرفه المتلقي عنه الحكم من حكم يخالفه؟! هل كل ذلك سواء؟! لا يستويان مثلا...
ومن أعجب ما رأيت -قريبا-: رد كتبه بعض الصغار - هداهم الله العلي الجبار- في هذه المسألة -وغيرها!-مشرقا ومغربا!-، حاشدا -من ضمن ذلك- الأدلة (!) على (وجوب قبول خبر الثقة)!

ويعلم (المسكين!) -والجزاء من جنس العمل!- وقد لا يعلم!- أن هذا مما لا يخفى على صبيان الكتاتيب، ولا يحتاج مثل هذا الحشد العجيب!! ؛ فأهل السنة -في هذا- على قول مؤتلف -غير مختلف- لكنه لم يدرك -وأرجو أن يدرك!- مناط المسألة، وبعد غورها!!!".

سابعا : لا يستلزم التثبت من خبر الثقة -عند قيام موجبه- الطعن والتشكيك فيه ؛ فدوافع التثبت أعم من مجرد التشكيك والتكذيب ؛ ومنها الطمأنينة , كما في قوله سبحانه [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] .

ومنه ذلك قوله تعالى [قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ].

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في مجموع الفتاوى والرسائل (15\46) : "يقين القلب يتفاضل والدليل قول الله تبارك وتعالى :{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)} , ولما بشر الله ذكريا بالود آمن بذلك ولكن قال : {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} ليطمئن قلبه".


[التثبت معناه وأهميته]

التثبت –معناه- : التأني وعدم الاستعجال , والمراد به في باب الرواية هو التأني وعدم الاستعجال في التحمل عن كل من هب ودب , إذ ينبغي للراوي الاحتياط والتأني في انتقائه الشيوخَ أو ما يتحمله منهم , أو يؤديه إلى المتلقين .

والتثبت مطلب شرعي معتبر دلت عليه نصوص عديدة حسبك منها قوله (صلى الله عليه وسلم) من حديث [التأني من الله , والعجلة من الشيطان] .

والتأني : هو التثبت من الأمور , كما قال المناوي في فيض القدير (3\277) : "التأني أي التثبت في الأمور".

وقال ابن القيم في الفرق بين المبادرة المحمودة والعجلة المذمومة كما في الروح (ص\258) : "والفرق بين بالمبادرة والعجلة : أن المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها فهو لا يطلب الأمور في أدبارها ولا قبل وقتها بل إذا حضر وقتها بادر إليها ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضلها وإدراكها .

والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها كلها فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما التفريط والإضاعة والثاني الاستعجال قبل الوقت ولهذا كانت العجلة من الشيطان فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها وتجلب عليه أنواعا من الشرور وتمنعه أنواعا من الخير وهي قرين الندامة فقل من استعجل إلا ندم كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة".

ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) من حديث الأشج عبد قيس [إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة] .

قال النووي في شرح مسلم (1\189): "وأما الحلم فهو العقل , وأما الأناة فهي التثبت وترك العجلة".

وقال ابن القيم في طريق الهجرتين (214) مبينا جهة أمره سبحانه عباده بالتثبت : "ولمحبته لأسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها فأمرهم بالعدل والإحسان والبر والعفو الجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت , ولما كان سبحانه يحب أسماءه وصفاته كان أحب الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها".


[أدلة لزوم التثبت في قبول الأخبار عموما , والموجبة منها لنقد الأعيان خصوصا]

والتثبت في باب قبول الأخبار فهو أصل أصيل من أصول الشريعة دلت عليه نصوص شرعية عدة , فمن ذلك :
أولا : إن التثبت في قبول الأخبار هو منهج قراني , كما دل عليه قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] , وفي قراءة {فتثبتوا} ؛ فدل قوله تعالى على وجوب التثبت في قبول خبر من لم تثبت عدالته وعدم بناء الأحكام عليه , كما قال القرطبي في تفسيره (16\313) : "وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لان الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة .. ؛ فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدلين، وقبول قول العالم المجتهد , وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله".

ويتأكد لزوم التثبت في الأخبار إن استلزم الخبر الطعن بمن عرف فضله وعلت منزلته , كما دل على هذا المعنى قوله تعالى ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ , قال ابن العربي في أحكام هذه الآية (3\364-365) : "هذا أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المرء ولبسة العفاف التي تستر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسداً أو مجهولاً".

ومن ذلك أيضا أن الشرع أوجب في الأمور الموجبة للطعن في عدالة المسلمين وترتيب الآثار العظيمة عليهم التثبت وعدم الاكتفاء بخبر العدل الواحد مع أنه يوجب العلم , ومن ذلك اشتراط الإتيان بأربع شهادات لعدول في باب القذف بالزنا وعدم الاكتفاء بخبر العدل الواحد كما في قوله سبحانه [لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ].

ومنه –أيضا- الإتيان بشهادة عدلين اثنين في سائر أنواع الشهادات الأخرى , مع أن خبر الثقة بنفسه موجب للعلم , لكن التثبت منه مطلوب وبخاصة في الأمور العظيمة المتعلقة بحقوق المسلمين بخاصة وأعراضهم على وجه أخص ولو كان حقا كما بين وجه هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (7\177) بقوله : "الكلام المذموم بالذات وهو الكلام الكاذب الباطل وأما الكلام الذي هو حق وصدق فهذا لا يذم بالذات وإنما يذم المتكلم به أحيانا لاشتمال ذلك على مضرة عارضة مثل ما يحرم القذف وإن كان القاذف صادقا إذا لم يكن له أربعة شهداء ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير".

ثانيا : إن التثبت في قبول الخبر الموجب للطعن في الأعيان –عند قيام موجبه- منهج سني نبوي ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استثبت من ماعز عندما أخبره عن حال نفسه بما يوجب جرحه , كما صح من حديث عن أبي سعيد : أن رجلا من أسلم يقال له ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني أصبت فاحشة فأقمه علي فرده النبي صلى الله عليه و سلم مرارا قال ثم سأل قومه ؟ فقالوا ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد قال فرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمرنا أن نرجمه].

وفي الحديث دلالة على لزوم التثبت في الخبر الموجب للقدح والطعن في معين من المسلمين , كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (12\126) : "وفيه : أن الامام لا يشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقر وإن كان ذلك مستحبا لأن الامام إذا بدأ مع كونه مأمورا بالتثبت والاحتياط فيه كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم والى الحض على التثبت في الحكم".

وقال العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي (4\580): "وظاهر السياقات مشعر بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما فعل ذلك في قصة ماعز لقصد التثبت كما يشعر بذلك قوله له [أبك جنون] ثم سؤاله بعد ذلك لقومه ,فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك".
وكذلك مما يدلل على أن من المنهج السني النبوي التثبت قبل الحكم على الأعيان ولو بما أخبروا به عن أنفسهم إن كان مخرجا لهم عن أصل البراءة ما رواه البخاري من حديث ابن عمر قال : [بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره فذكرنا ذلك للنبي فقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين] .

قال العلامة بدر الدين العيني في عمدة القاري () : "قوله [مما صنع خالد] أي من العجلة في قتلهم وترك التثبت في أمورهم", وانظر : مرقاة المفاتيح (7\476) .

ثالثا : إن التثبت في قبول الأخبار هو منهج الصحابة (رضي الله عنهم) فعن أبي سعيد قال : (استأذن أبو موسى على عمر فقال السلام عليكم أأدخل ؟ قال عمر واحدة ثم سكت ساعة ثم قال السلام عليكم أأدخل ؟ قال عمر اثنتان ثم سكت ساعة فقال السلام عليكم أأدخل ؟ فقال عمر ثلاث ثم رجع فقال عمر للبواب ما صنع ؟ قال رجع قال علي به فلما جاءه قال ما هذا الذي صنعت ؟ قال السنة قال السنة ؟ والله لتأتيني على هذا ببرهان أو بينة أو لأفعلن بك قال فأتانا ونحن رفقة من الأنصار فقال يا معشر الأنصار ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم الاستئذان ثلاث فإن إذن لك وإلا فارجع فجعل القوم يمازحونه قال أبو سعيد ثم رفعت رأسي إليه فقلت فما أصابك في هذا من العقوبة فأنا شريكك قال فأتى عمر فأخبره بذلك فقال عمر ما كنت علمت بهذا) .

وفي هذا الأثر دليل على أن منهج الصحابة كان قائما على التثبت في قبول الخبر , كما قال ابن بطال كما في فتح الباري (11\30) في فوائد هذا الأثر : "فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره" .

وقال ابن عبد البر في التمهيد (3\200): " أراد عمر أن يريهم أن من فعل شيئا ينكر عليه ففزع الى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -ليثبت له بذلك فعله- ؛ وجب التثبت فيما جاء به إذا لم تعرف حاله حتى يصح قوله ؛ فاراهم ذلك -ووافق أبا موسى وان كان عنده معروفا بالعدالة غير متهم- ليكون ذلك أصلا عندهم" .

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1\6) : "وأين مثل أبي حفص فما دار الفلك على مثل شكل عمر وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب [ثم كرر الأثر السابق وقال : ] أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إذا الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد" .

وقال السيوطي في تدريب الراوي () : "وأما قصة عمر فإن أبا موسى أخبره بذلك الحديث عقب إنكاره عليه رجوعه فأراد التثبت من ذلك وقد قبل خبر ابن عوف وحده في أخذ الجزية".

رابعا : وعلى هذا النهج سار التابعون ومن بعدهم , كما روى مسلم في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين قال : (لم يكونوا يسألون عن الإسناد ؛ فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم ؛ فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم , وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) .

وقال –أيضا- كما في الكفاية في علم الرواية (ص\166) : (التثبت نصف العلم) .

وقال الحسن البصري فيما حكاه عنه شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (10\382): (فإن المؤمن وقاف متبين).

وقال علي بن المديني كما في المحدث الفاصل (ص\320) : (التفقة في معاني الحديث نصف العلم , ومعرفة الرجال نصف العلم).

فكيف بمن لا ينظر في حال من نقل إليه , ولا يتفكر في معاني ما نقل إليه , ويبني على النقل المجرد عن الاستفصال أحكاما يسقط بها عدالة أهل العلم . وقال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي (1\355) : "وابن سيرين - رضي الله عنه - هو أول من انتقد الرجال وميز الثقات من غيرهم، وقد روى عنه من غير وجه أنه قال:

(إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) , وفي رواية عنه أنه قال: (إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه).
قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال برأسه، أي: لا.
قال يعقوب:" وسمعت علي بن المديني يقول:" كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد ولا نعلم أحداً أول منه،محمد بن سيرين، ثم كان أيوب، وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن.

قلت لعلي: فمالك بن أنس ؟
فقال: أخبرني سفيان بن عيينة قال: (ما كان أشد انتقاء مالك الرجال) " .

ويرى الترمذي –رحمه الله- أن تفاضل المحدثين يكون بأمور , من أهمها التثبت عند السماع : حيث قال في العلل الصغير (ص\746) : "وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم" .



[أقوال العلماء في باب التثبت من الأخبار الموجبة لنقد الأعيان]

جرى صنيع العلماء على اعتبار التثبت في الأخبار الموجبة لنقد الأعيان , حيث أوجبوا التثبت والتأني على من يتكلم في نقلة الأخبار جرحا وتعديلا , فلا يستعجل في التعديل , كما أنه لا ينبغي أن يتسرع في النقد والتجريح , ومن ذلك ما قاله :

ابن جماعة في المنهل الروي (ص\137) : "وجوز الجرح والتعديل صيانة للشريعة , ويجب على المتكلم فيه التثبت فقد أخطأ غير واحد بجرحهم بما لا يجرح".

وقال الجرجاني كما في المختصر في أصول الحديث (ص\17) : " معرفة أوصاف الرواة ومن تقبل روايته ومن لا تقبل روايته في الجرح والتعديل، وجُوِّز ذلك صيانة للشريعة وبهما يتميز صحيح الحديث وضعيفه فيجب على المتكلم التثبت فيهما. قد أخطأ غير واحد في تجريحهم بما لا يجرح" .

وقال النووي في التقريب (ص\63) : " وجوز الجرح والتعديل صيانة للشريعة، ويجب على المتكلم فيه التثبت فقد أخطأ غير واحد بجرحهم بما لا يجرح".

وقال –أيضا- في شرحه على صحيح مسلم (1\124) : "ثم على الجارح تقوى الله تعالى في ذلك والتثبت فيه والحذر من التساهل بجرح سليم من الجرح أو بنقص من لم يظهر نقصه , فان مفسدة الجرح عظيمة فإنها غيبة مؤبدة , مبطلة لأحاديثه , مسقطة لسنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) , ورادة لحكم من أحكام الدين .

ثم إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه أما اذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام فى أحد فان تكلم كان كلامه غيبة محرمة".

ولهذا ما كان ينبغي لكل أحد أن يتصدى لهذا الشأن فيتكلم في الأعيان جرحا وتعديلا , كما قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1\4) : "ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن , وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان , وإلا تفعل فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد ؛ فان آنست من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تفعل , وان غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب وان عرفت انك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك" .

وقال اللكنوي في الرفع والتكميل (ص\78) مبينا متى يرد قول الناقد في الأعيان : "الحاصل : انه إذا علم بالقرائن المقالية أو الحالية أن الجارح طعن على احد بسبب تعصب منه عليه لا يقبل منه ذلك الجرح .

وان علم انه ذو تعصب على جمع من الأكابر ارتفع الأمان عن جرحه وعد من أصحاب القرح" .

ثم فصل –رحمه الله- في موطن آخر ما أجمله هنا فقال (ص\264-281) –مختصرا- : "إيقاظ في لزوم التروي والنظر في قبول جرحهم للراوي : يجب عليك أن لا تبادر إلى الحكم بجرح الراوي بوجود حكمه من بعض أهل الجرح والتعديل , بل يلزم عليك أن تنقح الأمر فيه ؛ فان الأمر ذو خطر وتهويل , ولا يحل لك أن تأخذ بقول كل جارح في أي راو كان وان كان ذلك الجارح من الأئمة أاو من مشهوري علماء الأمة ؛ فكثيرا ما يوجد أمر يكون مانعا من قبول جرحه وحينئذ يحكم برد جرحه , وله صور كثيرة لا تخفى على مهرة كتب الشريعة :
فمنها : أن يكون الجارح في نفسه مجروحا فحينئذ لا يبادر إلى قبول جرحه وكذا تعديله ما لم يوافقه غيره وهذا كما قال الذهبي في ميزانه في ترجمة أبان بن إسحاق المدني بعد ما نقل عن أبي الفتح الأزدي : متروك , قلت : لا يترك فقد وثقه احمد العجلي , وأبو الفتح يسرف في الجرح , وله مصنف كبير إلى الغاية في المجروحين جمع فأوعى , وجرح خلقا بنفسه لم يسبقه احد الى التكلم فيهم , وهو متكلم فيه وساذكره في المحمدين ... .

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة احمد بن شبيب الحبطي البصري بعدما نقل عن الأزدي فيه غير مرضي قلت : لم يلتفت احد الى هذا القول بل الأزدي غير مرضي .

ومنها : أن يكون الجارح من المتعنتين المشددين , فإن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل لهم تشدد في هذا الباب فيجرحون الراوي بأدنى جرح ويطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أولي الألباب فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر وجرحه لا يعتبر إلا إذا وافقه غيره ممن ينصف ويعتبر.

فمنهم أبو حاتم والنسائي وابن معين وابن القطان ويحيى القطان وابن حبان وغيرهم فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه , فليثبت العاقل في الرواة الذين تفردوا بجرحهم وليتفكر فيه .
قال الذهبي في ميزانه في ترجمة سفيان بن عيينه يحيى بن سعيد القطان : متعنت في الرجال.

وقال ايضا في ترجمة سيف ابن سليمان المكي: حدث يحيى القطان مع تعنته عن سيف انتهى

وقال ايضا في ترجمة سويد بن عمرو الكلبي بعد نقل توثيقه عن ابن معين وغيرهم : اما ابن حبان فأسرف واجترأ , فقال : كان يقلب الأسانيد ويضع على الأسانيد الصحيحة المتون الواهية . انتهى

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور : حديث الحارث في السنن الأربعة والنسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به وقوى أمره انتهى

وقال الذهبي في ميزانه في ترجمة عثمان بن عبدالرحمن الطرائفي : واما ابن حبان فانه تقعقع كعادته فقال فيه يروي عن الضعفاء أشياء ويدلسها عن الثقات حتى إذا سمعها المستمع لم يشك في وضعها , فلما كثر ذلك في أخباره الزقت به تلك الموضوعات وحمل الناس عليه في الجرح فلا يجوز عندي الاحتجاج برواياته بحال" انتهى

وقال ابن حجر في القول المسدد في الذب عن مسند احمد : ابن حبان ربما جرح الثقة حتى كأنه لا يدري ما خرج من راسه.

ونحوه قال الذهبي في ترجمة افلح بن سعيد المدني ... .
وقال الذهبي في ميزانه في ترجمة محمد بن الفضل السدوسي عارم شيخ البخاري بعد ذكر توثيقه نقلا عن الدارقطني , قلت : فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله فأين هذا القول من قول ابن حبان الخساف المتهور في عارم فقال اختلط في اخر عمره وتغير .. .

وقال الذهبي في تذكرة الحافظ في ترجمة ابن القطان الذي أكثر عنه النقل في ميزانه وهو أبو الحسن علي بن محمد بعد ما حكى مدحه , قلت : طالعت كتابه المسمى بالوهم والإيهام الذي وضعه على الأحكام الكبرى لعبد الحق يدل على حفظه وقوة فهمه لكنه تعنت في أحوال الرجال فما انصف بحيث انه اخذ يلين هشام ابن عروة ونحوه انتهى

وقال الذهبي في ميزانه في ترجمة هشام بن عروة بعد ذكر توثيقه : لا عبرة بما قاله أبو الحسن ابن القطان من انه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا نعم الرجال تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشباب فنسي بعض محفوظه أو وهم فكان ماذا أهو معصوم من النسيان؟.

ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها , ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع والكبار الثقات ؛ فدع عنك الخبط وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين فهو شيخ الاسلام ولكن احسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان".

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في مجموع الفتاوى والمقالات (28\434) مؤصلا لوجوب التثبت قبل الحكم على الناس : "وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه] فهذا الحديث وما جاء في معناه يوجب على المسلم التثبت في الحكم على الناس والحذر من رمي أخيه بصفة ذميمة وهو بريء منها بمجرد الظن أو تقليد من لا يعتمد عليه".

وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى والمقالات (8\247-248) مؤكدا على لزوم التثبت في الأخبار المتعلقة بالانتقاص من العلماء وغيرهم : "وأنصح إخواني جميعا بالتثبت فيما يشيعه الناس عن العلماء أو غيرهم ؛ لأن كثيرا من الناس يشيعون عن العلماء وطلبة العلم أشياء كثيرة لا أصل لها , فإذا لم يتثبت المؤمن في الأمور التي يتحدث فيها أوقع الناس في الغلط وهذا ليس من النصح في الدين , وقد أنكر الله سبحانه على من لم يتثبت في الأخبار ولم يردها إلى أهلها بقوله سبحانه : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} , وقوله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وقال صلى الله عليه وسلم : [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت] متفق عليه , وقال صلى الله عليه وسلم : [كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع]خرجه الإمام مسلم في صحيحه .

والإنسان مسئول عن كل قول وعمل كما قال عز وجل : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} , وقال سبحانه : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ , عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

فاحذر أيها المؤمن أن يستزلك الشيطان ويغريك بعدم التثبت في الأمور والأخبار فتقع فيما لا تحمد عقباه , وتندم حين لا ينفع الندم , واعلم يا أخي أن الشيطان يحرص على إيقاع الفتن والشحناء بين المؤمنين , وعلى إشغال المؤمن بكل ما ينقص من حسناته إن لم يستطع إيقاعه في البدعة والمعصية كما قال الله سبحانه : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}".

وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- في شأن كتاب صنف في الرد عليه , غلب على ظن الشيخ أن مؤلفه هو الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي بناء على توارد الأخبار بذلك , ومع ذلك لم يتكلم فيه الشيخ وينسب إليه هذا الرد حتى يتثبت على جهة التمام , كما اخبر هو عن نفسه في السلسلة الضعيفة (10\2\771-772) فقال : "لقد اطلعت منذ ثلاث سنين على الجزء الأول من كتاب بعنوان : "الألباني شذوذه وأخطاؤه" ؛ بقلم أرشد السلفي ، طبع المطبعة العلمية - ماليكاؤن (ناسك) الهند ، ثم على الجزء الثاني منه ؛ فتصفحتهما ، فتبين لي أن مؤلفه من متعصبة الحنفية ، وله اطلاع لا بأس به على كتب الحديث ورجاله ، ولم نعرف شخصه ، بل غلب على الظن أن هذا الاسم مزور لا حقيقة له ! ولذلك دارت الظنون حول بعض المشهورين بعدائهم الشديد للسنة وأهلها ، ولكن لما كان لا يجوز الحكم بالظن ؛ أمسكنا عن الجزم بهويته ، ثم بدأت الأخبار تتوارد من هنا وهناك أنه هو الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي المذكور !.

فإذا ثبت هذا ؛ فإنه يؤسفني أن يحشر نفسه في زمرة أعداء السنة ، في الوقت الذي يتظاهر بخدمتها وتحقيق كتبها ، ولا يظهر لي شخصياً إلا كل ود واحترام حينما كنا نلتقي به في المكتب الإسلامي في بيروت ، وكان يومئذ على تصحيح تجارب كتاب "مصنف عبد الرزاق" !!.

وإلى أن نتيقن أنه هو ؛ فإنه لا بد لي من أن أشير إلى أن الرد المذكور محشو بالبهت والافتراء علي ، وبالجهل بعلم الحديث ومصطلحه ، والطعن في أهله ؛ كالإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما ، مع التعصب الشديد للمذهب الحنفي .

وهذا - بالطبع - لا يعني أنه لم يصب في شيء مطلقاً مما انتقدني فيه ! فما منا من أحد إلا رد ورد عليه ؛ إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال الإمام مالك رحمه الله .

ولدي الآن مسودة الرد على الجزءين المذكورين ؛ فإذا انكشف الغطاء وتيقنا أنهما للشيخ الأعظمي ؛ استخرنا الله في تبييضهما ، عسى الله أن ييسر لنا نشرهما" .
يتبع









قديم 2014-02-05, 10:13   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

تابع 6

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- مبينا وجوب التثبت من صحة ما ينسب إلى المعينين قبل الحكم عليهم , حيث قال –رحمه الله- في كتاب العلم (50-52) : "ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلابد أن تتثبت أولاً هل صحت عمن نقلت إليه أو لا، ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنياً على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ , ولكن كيف العلاج في هذه الحال ؟

العلاج: أن تتصل بمن نُسب إليه الخبر وتقول نقل عنك كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ , ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته لأنك لا تدري ما سبب هذا المنقول، ويقال إذا علم السبب بطل العجب، فلابد أولاً من التثبت في الخبر والحكم، ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟ ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.... .

أيضاً التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعته المنقول عنه قصداً وعمداً ، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نٌقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ، وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نٌقل عنه الكلام.

والخلاصة أنه إذا نقل عن شخص ما ترى أنه خطأ فاسلك طرقا ثلاثة على التريب:

الأول : التثبت في صحة الخبر.

الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صواباً فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك : الطريق الثالث وهو : الاتصال بمن نسب إليه لمناقشته فيه وليكن ذلك بهدوء واحترام".

وقال الشيخ عبد المحسن العباد –وفقه الله- في شرحه على سنن أبي داود (ش\512) في معرض جوابه على السؤال التالي : " السؤال: هل يقبل خبر الثقة مطلقاً دون تثبت، كأن يقول أحد المشايخ: إن فلاناً سب وطعن في الصحابة، فهل يجب علي أن آخذ بهذا القول وأحكم عليه، أم لا بد من التثبت؟ .

الجواب: لا بد من التثبت, ولو كان القائل من أهل العلم، إلا إذا عزاه إلى كتاب له، والكتاب موجود وبإمكان الناس أن يرجعوا إليه، أما مجرد كلام من غير أن يذكر له أساساً، لا سيما إذا كان الشخص من الموجودين، أما إذا كان من المتقدمين، وهو معروف بالبدعة، أو من أئمة أهل البدع وكل الناس يعرفه، مثل: الجهم بن صفوان فلو قال: إنه مبتدع فإن كلامه صحيح، أما من يحصل منهم خطأ وزلة، وعندهم جهود عظمية في خدمة الدين، فتجد بعض الناس يقضي عليهم بمجرد هذه الزلة وهذا الخطأ، فهذا غير صحيح" .

وقال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله- : "ولا شك أن الحكم على الناس يحتاج إلى روية وتثبت . . فالإنسان لا يعتمد على ظنه، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا }.
كذلك يجب على الإنسان ألا يعتمد في هذا الموضوع على خبر فاسق . . فالله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ، ولهذا على المرء أن يتجنب الظنون السيئة ولا يحكم لمجرد ظنونه . وعليه ألا يقبل الأخبار ممن جاء بها بدون تمحيص وبدون تثبت، ولا يحكم على الناس إلا بموجب العلم الشرعي، فإذا كان عنده علم شرعي فإنه يحكم بموجب ما ثبت لديه، أما إذا كان جاهلاً بالأحكام الشرعية فلا يجوز له الحكم على تصرفات الناس .

وعلى المرء ألا يخوض في هذه المجالات التي ليس له بها علم { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } , وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.

فالذي ليس عنده علم لا يصدر الأحكام بمجرد ظنه أو مجرد رأيه أو ما تمليه عليه نفسه، بل عليه أن يتوقف لأن الأمر خطير جدًّا، ومن رمى مؤمنًا بما ليس فيه أو وصفه بصفة لا تنطبق عليه فإن ذلك يرجع وباله عليه، كما جاء في الحديث أن الإنسان إذا لعن من لا يستحق اللعنة فإن اللعنة ترجع على من قالها، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه : يا فاسق، أو يا كافر، أو يا خبيث أو ما شابه ذلك من الألقاب السيئة، يقول الله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ }.
فالمسلم يجب عليه أن يتحفظ من هذه المجالات وأن يكون عنده علم وبصيرة يستطيع الحكم بها على نفسه أولاً، وعلى الناس ثانيًا، كما أنه يجب أن تكون عنده تؤدة وتثبت وبُعد نظر وعدم تسرع في الأمور" .

ومن خلال ما تقدم من أدلة وأقوال علماء في لزوم التثبت من الأخبار المتعلقة بنقد المعينين علمنا فساد زعم (بعض الناس) : "أن المتكلم فيه إذا كان مثل فلان وأمثاله [من المطعونين والمجروحين عنده] فيقبل فيه الكلام بدون سؤال" .


[شبهة ودفعها]

استشكل أمر التثبت في باب النقد والحكم على المخالفين على (بعض الناس) من المعاصرين المتوسعين في باب نقد المشايخ والدعاة وطلبة العلم السلفيين , فزعم –مؤصلا- أن : التثبت موضعه غير الاستفتاء , وأن العالم إذا جاءه سؤال عن معين بأي صيغة من السائل لا يلزمه أن يتثبت ويقول : من قال هذا الكلام ؟ وأين قائل هذا ؟ وأين قيل هذا الكلام ؟ ومتى قال هذا الكلام ؟ لا يلزمه هذا ؛ فوظيفة العالم أن يجيب على السؤال الذي طُرح فيه هذا الكلام المعين , يجيب لا يشترط أن يتثبت : أهذا الكلام قاله فلان أو ما قاله فلان ، ولا يجب أن يعرف السائل.

وهذا الزعم بهذا الإطلاق والتعميم باطل مردود على صاحبه , والصواب التفصيل فيقال :

التحقيق أن هذه القاعدة (التثبت موضعه غير الاستفتاء) مجملة محتملة عند تفصيل المقال فيها للحق والباطل , وبيان ذلك بمناقشة احتماليها :

الاحتمال الأول : إن كان المقصود من الاستفتاء معرفة حكم الواقعة المتعلقة بالعين لا معرفة حال العين الذي تلبس بالواقعة , فهنا المسالة لها صورتان :

الأولى : عدم قيام الحاجة للاستفصال , فهنا لا يشترط على المفتي أن يتثبت ويقول : من قال هذا الكلام ؟ وأين قائل هذا ؟ وأين قيل هذا الكلام ؟ ومتى قال هذا الكلام ؟ ومن الذي نقل هذا الكلام , وهذا ما دلت عليه النصوص الشرعية الكثيرة المتضافرة –كما قال الشيخ ربيع في دفع بغي عدنان على علماء السنة والإيمان : "فهذا الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) يُسأل في كثير من المناسبات ، فلا يأتي هنا بمبدأ التثبت ، مبدأ التثبت في غير هذه المواطن ولكل مقام مقال . تسأل امرأة : إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيرا أفأحج عنه ؟ ,قال : نعم .
المرأة خثعمية لا يعرفها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا يعرف أباها ، هل هو فعلاً لا يستطيع الحج ولا يثبت على الراحلة أولا يثبت ولا شيء لم يستفصلها .

أجابها يعني على مقدار سؤالها (عليه الصلاة والسلام) , ما قال : من أنت ؟ تعرفون هذه المرأة ؟ تعرفون أباها ؟ هل أبوها صحيح يعني أنه مريض لا يستطيع أن يثبت ؟ ما قال هذا الكلام كله .

ويأتيه الأعرابي يسأله ، ويأتيه الناس في حجة الوداع وفي غيرها ، وتنهال عليه الأسئلة من هنا وهناك ؛ بشأن قضايا المناسك . أفعلُ قدمتُ وأخرتُ .

الصحابة يُسألون ، يسألهم الأعراب ، يسألهم الناس من مشارق الأرض ومغاربها في أيام الحج ، فيجيبون السائل ويحلون مشكلته ، وقد يكون السائل مغالطاً ، وقد يكون يكذب ، وقد يفترض أشياء غير موجودة ، وهذا لا يهمهم وإنما يجيبون على هذا السؤال ويحلون للسائل فيما يظهر لهم من إشكال".

الصورة الثانية : أن تقوم الحاجة للاستفصال كما في كثير من الحالات التي يكون المفتي مطالبا فيها بنوع تثبت وتأني قبل إصدار الحكم , وبيان هذا بالأوجه التالية :

الوجه الأول : وهو ما قرره ابن القيم –رحمه الله- في إعلام الموقعين (4\187-188) بقوله : "ليس للمفتي أن يطلق الجواب في مسالة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع ؛ بل إذا كانت المسالة تحتاج إلى التفصيل استفصله كما استفصل النبي (صلى الله عليه وسلم) ماعزا -لما أقر بالزنا- : هل وجد منه مقدماته أو حقيقته ؟ , فلما أجابه عن الحقيقة ؛ استفصله : هل به جنون -فيكون إقراره غير معتبر- أم هو عاقل ؟ ؛ فلما علم عقله استفصله : بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح ؟ , فلما علم انه صاح ؛ استفصله : هل أحصن أم لا؟ ؛ فلما علم انه قد أحصن أقام عليه الحد .

ومن هذا : قوله لمن سألته [هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؛ فقال : نعم إذا رأت الماء] فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال ولا يجب عليها في حال.

ومن ذلك : أن أبا النعمان بن بشير سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يشهد على غلام نحله ابنه فاستفصله وقال : [أكل ولدك نحلته كذلك؟ , فقال : لا ؛ فأبى ان يشهد] , وتحت هذا الاستفصال : أن ولدك إن كانوا اشتركوا في النحل صح ذلك وإلا لم يصح .

ومن ذلك : أن ابن أم مكتوم استفتاه : [هل يجد له رخصة أن يصلي في بيته ؟ , فقال : هل تسمع النداء , قال : نعم , قال : فأوجب] ؛ فاستفصله بين أن يسمع النداء أو لا يسمعه .
ومن ذلك : أنه لما [استفتى عن رجل وقع على جارية امرأته ؛ فقال : إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها , وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها] وهذا كثير في فتاويه (صلى الله عليه وسلم)" .

ويزيده وضوحا :
الوجه الثاني : وهو –أيضا مما قاله ابن القيم –رحمه الله- في إعلام الموقعين (4\255-256) : "إذا كان السؤال محتملا محملا لصور عديدة ؛ فإن لم يعلم المفتي الصورة المسئول عنها لم يجب عن صورة واحدة منها .

وإن علم الصورة المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب , ولكن يقيد لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها ؛ فيقول : إن كان الأمر كيت وكيت , أو كان المسئول عنه كذا وكذا ؛ فالجواب : كذا وكذا , وله أن يفرد كل صورة بجواب ؛ فيفصل الأقسام المحتملة ويذكر حكم كل قسم.

ومنع بعضهم من ذلك لوجهين :
أحدهما : أنه ذريعة إلى تعليم الحيل وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث شاء .

الثاني : أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي فيضيع مقصوده .

والحق : التفصيل ؛ فيكره حيث استلزم ذلك , ولا يكره بل يستحب إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان وإزالة لبس , وقد فصل النبي (صلى الله عليه وسلم) في كثير من أجوبته بقوله : إن كان كذا فالأمر كذا , كقوله في الذي وقع على جارية امرأته [إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها , وإن كانت مطاوعة فهي له وعليه لسيدتها مثلها] , وهذا كثير في فتاويه (صلى الله عليه وسلم) ".

الوجه الثالث : أن المفتي لا ينبغي ان ينصب نفسه للفتيا إلا إن جمع أمورا منها معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم , كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4\199-205) –مختصرا- : " ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع عن الإمام احمد انه قال : (لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها : أن تكون له نية , فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور .

والثانية : أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة .

الثالثة : أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفتة .

الرابعة : الكفاية وإلا مضغه الناس .

الخامسة : معرفة الناس .

وهذا مما يدل على جلالة احمد ومحله من العلم والمعرفة ؛ فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه ........ .

وأما قوله : الخامسة معرفة الناس فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم ؛ فإن لم يكن فقيها فيه فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق احدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح ؛ فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تصور له الظالم بصوره المظلوم وعكسه والمحق بصورة المبطل وعكسه , وراج عليه المكر والخداع والاحتيال وتصور له الزنديق في صورة الصديق والكاذب في صورة الصادق , ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور , وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا , بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم".

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود من الاستفتاء معرفة حال العين المتلبس بالواقعة , فهاهنا لا بد من أمور قبل إصدار الحكم على المعين من عوام المسلمين فكيف بعلمائهم , وهي :

أولا : السماع منه –إن أمكن- من غير الاكتفاء بالنقل عنه .

ثانيا : سماع أدلته وحججه على ما قاله .

ثالثا : تقديم الأعذار له وسماع حجته عن الأدلة المعارضة .

كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (27\299) وذلك في معرض رده على حكم عليه من علماء وقضاة زمانه بناءً على نقل مغلوط عنه : "لو كان لهم فيها الحكم وقد حكموا بالكتاب والسنة والإجماع لم يكن لهم الحكم حتى يسمعوا كلام المحكوم عليه , وحجته , ويعذروا إليه وهل له جواب أم لا ؟ .

فإن العلماء تنازعوا في الحقوق كالأموال هل يحكم فيها على غائب ؟ على قولين ؛ ومن جوز الحكم عليه قال : هو باق على حجته تسمع إذا حضر .

فأما العقوبات والحدود فلا يحكم فيها على غائب .
وهؤلاء حكموا على غائب في ذلك , ولم يمكنوه من سماع كلامه والإدلاء بحجته , وهذا لو كان على يهودي كان حكما باطلا بالإجماع .

ولهذا كان جميع الناس أهل العلم والدين والعقل ينكرون مثل هذا الحكم ويعلمون أنه حكم بغير حق".

وقال ابن الوزير –رحمه الله- في "العواصم" (1/238) مبينا خطأ بعض خصومه ممن حكم عليه من غير سماع منه لحججه وأدلته : "والعجب أن السيد -أيده الله- مع ماله من جلالة القدر والخطر، ومع قطع عمره في علوم الجدل والنظر؛أهمل هذا المهم الجليل، وغفل عن هذا الأصل العظيم، فظلمني حظي، ولم يأت بلفظي، حتى أحامِىَ عنه، وأبين فساد ما أخذه منه، وإنما تُقَرَّر الأمور على مبانيها، وتُفَرَّع العلوم على مباديها، والفرع من غير أصل؛ كالبناء من غير أساس، والجواب من غير مبتدأ؛ كالطُّنب من غير عمود.

أيها السيد: كم جمعت عليّ في هذه الدعاوي مظالم، ادعيت عليّ وأنا غائب، ولم تأت ببينة، وحكمت لنفسك، ولم تنصب لي وكيلاً، ولم تجعل بيني وبينك حكمًا، فضربت ضمير الد عاوي على غير عمود ولا طُنُب، ورفعت سقف الحكومة على غير أساس ولا خُشُب..".

فهاهنا ضوابط لا بد من اعتبارها قبل إصدار الحكم على المعين , من أهمها :

الضابط الأول : التثبت من قيام موجب الطعن والقدح في المخالف .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (22\329) : "إن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه كما يعلم أن الله أمرنا بإشهاد ذوي عدل منا وممن نرضى من الشهداء ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين : هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا" .
وقال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (27\290-291) رادا على من أصدر عليه حكما بناء على نقل باطل عنه : " أنه نقل عن الجواب ما ليس فيه ورتب الحكم على ذلك النقل الباطل , ومثل هذا باطل بالإجماع .... , وهؤلاء نقلوا عنه ما لم يقله واستدلوا بما لا ينازع فيه وأخطئوا فيما نقلوه وفهموه من كلام من نقل الإجماع وفيما استدلوا به عليه وذلك من وجوه كثيرة جدا ولكن مقصود هذا الوجه : أن الذي كتب على الجواب نقل عنه أنه هو القائل وأنه قال : إن زيارة الأنبياء بدعة وهذا باطل عنه . والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع".

وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (3\254-255) مبينا أهمية التثبت من قيام موجب الطعن قبل الحكم على المعين : "وقلت له -في ضمن الكلام- : أنت لو ادعى عليك رجل بعشرة دراهم وأنت حاضر في البلد ، غير ممتنع من حضور مجلس الحاكم لم يكن للحاكم أن يحكم عليك في غيبتك هذا في الحقوق فكيف بالعقوبات التي يحرم فيها ذلك بإجماع المسلمين . ثم هذا الرجل قد ظهر كذبه غير مرة . ذلك اليوم كذب علي في أكثر ما قاله وهذه الورقة التي أمر بكتابتها أكثرها كذب والكتاب السلطاني الذي كتب بأمره مخالف للشريعة من نحو عشرة أوجه وفيه من الكذب على المجلس الذي عقد أمور عظيمة قد علمها الخاص والعام . فإذا كان الكتاب الذي كتب على لسان السلطان وقرئ على منابر الإسلام أخبر فيه عن أهل المجلس : من الأمراء والقضاة بما هو من أظهر الكذب والبهتان ، فكيف فيما غاب عنهم . قلت وهو دائما يقول عني : إني أقول إن الله في زاوية ولد ولدا وهذا كله كذب . وشهرته بالكذب والفجور يعلمه الخاص والعام . فهل يصلح مثل هذا أن يحكم في أصول الدين ومعاني الكتاب والسنة وهو لا يعرف ذلك" .

الضابط الثاني : سماع حجة المخالف والرد عليها وانقطاعه قبل الحكم عليه , وإلا إن كان معه حجة ومع مخالفه حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح كما قال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (27\307) : "لو قدر أن المفتي أفتى بالخطأ فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة ؛ فالواجب أن تبين دلالة الكتاب والسنة على خطئه ويجاب عما احتج به ؛ فإنه لا بد من ذكر الدليل والجواب عن المعارض ؛ وإلا فإذا كان مع هذا حجة ومع هذا حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح وهؤلاء لم يفعلوا شيئا من ذلك فلو كان المفتي مخطئا لم يقيموا عليه فكيف إذا كان هو المصيب وهم المخطئون فحكم مثل هؤلاء الحكام باطل بالإجماع".

الضابط الثالث : أن لا يكون الحاكم خصما في مسائل الخلاف العلمية والعملية , كما قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (27\299-300) : " أنه لو كان الحاكم خصما لشخص في حق من الحقوق لم يجز أن يحكم الحاكم على خصمه بإجماع المسلمين , وكذلك " المسائل العلمية " إذا تنازع حاكم وغيره من العلماء في تفسير آية أو حديث أو بعض مسائل العلم لم يكن للحاكم أن يحكم عليه بالإجماع فإنهما خصمان فيما تنازعا فيه ؛ والحاكم لا يحكم على خصمه بالإجماع".

الضابط الرابع : أن لا يكون الحكم مثيرا للفتن والتفريق بين قلوب الأمة .
كما بين شيخ الإسلام –رحمه الله- من أن الأحكام التي يصدرها القضاة والمفتون في الأعيان إن تسببت بإثارة الفتن والتفريق بين قلوب الأمة وجب إبطالها بالإجماع , كما قال الإسلام في مجموع الفتاوى (27\302) : "أن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن مفرقة بين قلوب الأمة متضمنة للعدوان على المسلمين وعلى ولاة أمورهم مؤذية لهم جالبة للفتن بين المسلمين , والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا والآخرة والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة . فيجب نقضه بالإجماع".

أقول : وبعد بيان ضوابط الحكم على المعين , يتبين لنا مدى فساد إطلاق القول بأن التثبت موطنه غير الاستفتاء ومفارقته لجانب الصواب , وتحقيقه لجانب البغي والعدوان .









قديم 2014-02-05, 10:14   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
الإدريسي العلوي
عضو محترف
 
الصورة الرمزية الإدريسي العلوي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك وجزاك خيرا









قديم 2014-02-05, 10:16   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (7) : هجر أهل البدع والأهواء
.

تعد آصرة الولاء بين أهل الإسلام من أهم عوامل ومقومات وحدة الصف الإسلامي , وهذه الآصرة مما قد أوجب الله على المسلمين اعتبارها وعدم إهمالها فجعل المسلم أخو المسلم , ورتب على هذه الأخوة أمورا كما في حديث ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [المسلم أخو المسلم : لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة].
وجعل بعض مظاهر الأخوة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض , كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال [حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه , وإذا دعاك فأجبه , إذا استنصحك فانصح له , وإذا عطس فحمد الله فشمته , وإذا مرض فعده , وإذا مات فاتبعه] .
فهذه الحقوق وتلك الأخوة ثابتة للمسلمين بعضهم على البعض الآخر ؛ فهي الأصل الشرعي الثابت الراسخ في هذا الباب ؛ وكل ما خالفه فهو خارج عن هذا الأصل فلا ينبغي إقراره إلا بدليل موجب معتبر كما في مسألة هجر الفساق والمبتدعة بعدم إلحاق تلك الحقوق بهم -حال مواقعتهم للموجب الهجر- , والتي دل على مشروعيتها أحاديث عدة منها :
حديث عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم] .
ومنها حديث أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: [سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم] .
وقال البغوي في شرح السنة (1\224) بعد هذين الحديثين : "قد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن افتراق هذه الأمة، وظهور الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته وسنة أصحابه رضي الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا، أو يتهاون بشيء من السنن: أن يهجره ويتبرأ منه ويتركه حيا وميتا، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ، إلى أن يترك بدعته ويراجع الحق.
والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة، دون ما كان في حق الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا".
ومنها حديث كعب بن مالك في البخاري حيث قال حين تخلف عن النبي (صلى الله عليه وسلم): [ونهى النبي (صلى الله عليه وسلم) المسلمين عن كلامنا , وذكر خمسين ليلة].
وقد استدل بهذا الحديث أهل العلم على مشروعية هجر أهل المعاصي والفسوق والبدع كما قال الطبري فيما نقله ابن بطال في شرحه (17\331) : "وفي حديث كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي والفسوق والبدع، ألا ترى أنه عليه السلام نهى عن كلامهم بتخلفهم عنه، ولم يكن ذلك كفرًا ولا ارتدادًا، وإنما كان معصية ركبوها، فأمر بهجرتهم حتى تاب الله عليهم، ثم أذن في مراجعتهم، فكذلك الحق فيمن أحداث ذنبًا خالف به أمر الله ورسوله فيما لا شبهة فيه ولا تأويل، أو ركب معصية على علم أنها معصية لله أن يهجر غضبًا لله ورسوله، ولا يكلم حتى يتوب وتعلم توبته علمًا ظاهرًا كما قال فى قصة الثلاثة الذين خلفوا".
وقال المهلب فيما نقله عنه ابن بطال في شرحه (17\38) : "ترك السلام على أهل المعاصي بمعنى التأديب لهم سنة ماضية بحديث كعب بن مالك وأصحابه: الثلاثة الذين خلفوا، وبذلك قال كثير من أهل العلم في أهل البدع: لا يسلم عليهم، أدبا له".
وقال البغوي في شرح السنة (1\226-227) عند هذا الحديث : "وفيه دليل على هجران أهل البدع، وكأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خاف على كعب وإخوانه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم، إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا، مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم .
قال ابن عمر في أهل القدر : (أخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني برآء ) .
وقال أبو قلابة : (لا تجالسوا أصحاب الأهواء أو قال أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون).
وقال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني : (يا أبا بكر أسألك عن كلمة فولى وهو يقول بيده ولا نصف كلمة)".
فهجر أهل البدع والأهواء خروج –معتبر- عن الأصل -أن المسلم اخو المسلم , وأن للمسلم على المسلم حقوقا- , لكن هذا الخروج ليس عاما مطلقا بل هو مضبوط بضوابط , منها:

الأول : أن يكون الهجر مقصوده مرضاة الله تعالى لا تحقيقا لأهواء شخصية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28\207-209) : " وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله , فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا . فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به : كان خارجا عن هذا . وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله . والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : [لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام] فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث .
وفي الصحيحين عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : [تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا ؛ إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا] فهذا الهجر لحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت . وكما رخص في هجر الثلاث .
فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه ؛ فالأول مأمور به والثاني منهي عنه ؛ لأن المؤمنين إخوة وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح : [لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم] وقال (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي في السنن : [ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين].
وقال في الحديث الصحيح : [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر] .
وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله , وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله , والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه ؛ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} إنما المؤمنون إخوة فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم . فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك ؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه".

الضابط الثاني : أن يكون المهجور مبتدعا حقا , والمبتدع هو من تعبد الله بغير ما شرّع , كما قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- جوابا على السؤال التالي في شرح القواعد المثلى (ش\13) : "س\ متى يحكم على الإنسان أنه مبتدع هل إذا فعل بدعة أو إذا دعا إلى بدعة؟.
ج\كل من تعبد لله بغير ما شرع فهو مبتدع , لكن : لا يعطى أحكام المبتدع حتى يبين له الحق , وذلك لأن هذا المبتدع والذي تعبد الله بغير ما شرع قد يظن هذا هو الحق ؛ فنقول : هو مبتدع في ظاهر الحال , ونحكم عليه بأنه مبتدع حتى يتبين لنا ما يمنع أن يوصف بهذا" .
وقال الشيخ الألباني –رحمه الله- في الهدى والنور (ش\875) مبينا متى تتنزل أحكام المبتدع على الواقع في البدعة : "المبتدع : هو الذي من عادته الابتداع في الدين وليس الذي يبتدع بدعة واحدة , ولو كان هو فعلا ليس عن اجتهاد وإنما عن هوى مع ذلك هذا لا يسمى مبتدعا وأوضح مثال لتقريب هذا المثال أن الحاكم الظالم قد يعدل في بعض أحكامه فلا يقال فيه عادل , كما أن العادل قد يظلم في بعض أحكامه فلا يقال فيه ظالم وهذا يؤكد القاعدة الإسلامية الفقهية أن الإنسان بما يغلب عليه من خير أو شر , إذا عرفنا هذه الحقيقة : عرفنا من هو المبتدع , فيشترط في المبتدع إذا شرطان :
الأول : أن لا يكون مجتهدا , وإنما يكون متبعا للهوى .
الثاني : أن يكون ذلك من عادته ومن ديدنه".
ولهذا أنكر الشيخ ربيع على زعم أن الشيخ ربيع يخرج السلفيين من السلفية بمسائل اجتهادية أو فرعية ؛ فقال في كتاب النصر العزيز على الرد الوجيز : "هات مسألة واحدة من مسائل الاجتهاد أخرجنا بها سلفياً واحداً في مشارق الأرض ومغاربها وعلى امتداد تاريخ الإسلام .
بل هات مسائل كثيرة اجتهادية وغير اجتهادية فيما تسميه بالفروع أخرجنا بها سلفياً واحداً.
فهذا مالك ناقشه الشافعي والليث في مسائل كثيرة وهو عندنا من عظماء أئمة السنة ، وهذا الشافعي يخالف الإمام أحمد في مسائل كثيرة الصواب فيها مع أحمد وأحمد له مسائل مرجوحة وهو عندنا إمام أهل السنة بعده إلى اليوم .
ولابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وابن باز والألباني مسائل نخالفهم فيها وابن عثيمين والفوزان وهم عندنا من أئمة الإسلام".
وإذا كان الأمر كذلك فمن الخطأ التوسع في تنزيل أحكام التبديع على كل أحد خالف بعض المخالفات كما قال الشيخ صالح الفوزان في شرحه على العقيدة الطحاوية (ش\13) : "السَّلفُ لا يبدِّعون كل أحد، ولا يسرفون في إطلاق كلمة البدعة على كل أحد خالف بعض المخالفات، إنما يصفون بالبدعة من فعل فعلاً لا دليل عليه يتقرَّبُ به إلى الله؛ من عبادة لم يشرَعها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؛ أخذًا مِن قوله (صلى الله عليه وسلم) : ([مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رَدّ] ، وفي رواية : [مَن أحدثَ في أمرنا ما ليس منه؛ فهو رَد].
فالبدعة هي إحداث شيء جديد في الدِّين، لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، هذه هي البدعة .
وإذا ثبت أنَّ شخصًا ابتدع بدعةً في الدين، وأبى أن يرجع؛ فإنَّ منهج السَّلف أنَّهم يهجرونه ويبتعدون عنه، ولم يكونوا يجالسونه .
هذا منهجهم، لكن كما ذكرت، بعد أن يثبُت أنَّه مبتدع، وبعد أن يُناصح ولا يرجع عن بدعته؛ فحينئذٍ يُهجَرُ؛ لئلاً يتعدَّى ضرره إلى من جالسه وإلى من اتَّصل به، ومِن أجلِ أن يحذر الناس من المبتدعة ومن البدع .
أمَّا المغالاة في إطلاق البدعة على كلِّ من خالف أحدًا في الرأي، فيقال : هذا مبتدعٌ ! كل واحد يسمِّي الآخر مبتدعًا، وهو لم يحدث في الدِّين شيئًا؛ إلا أنه تخالف هو وشخص، أو تخالف هو وجماعة من الجماعات، هذا لا يكون مبتدعًا .
ومن فعل محرَّمًا أو معصية؛ يسمَّى عاصيًا، وما كلُّ عاصٍ مبتدع، وما كلُّ مخطئ مبتدع، لأنَّ المبتدع من أحدث في الدِّين ما ليس منه، هذا هو المبتدع، أمَّا المغالاة في اسم البدعة بإطلاقها على كلِّ من خالف شخصًا؛ فليس هذا بصحيح؛ فقد يكون الصَّواب مع المخالف، وهذا ليس من منهج السَّلف".
ورحم الله الشيخ الألباني حث يقول في سلسلة الهدى والنور (ش\23) حيث يبين الأثر السلبي على الصف الإسلامي الناجم عن هجر من لا يستحق الهجر : "من المؤسف أن هناك نوعا من التفرق ونوعا من التنازع لأسباب تافهة جدا، لذلك يجب أن نضع نصب أعيننا ما يسمى اليوم في لغة العصر الحاضر بالتسامح الديني، لكن بالمعنى الذي يسمح به الإسلام، التسامح الديني قد وسعت دائرته إلى حيث لا يسمح به الإسلام، ولكن نحن نعني التسامح بالمعنى الصحيح، وذلك أننا إذا رأينا شخصا من غير السلفيين فضلا عمن كان من السلفيين أن له رأيا خاصا أو اجتهادا خاصا أو ... بل رأيناه أخطأ فعلا في شيء من تصرفاته أن لا نبادر إلى نَهرِه ، ثم إلى مقاطعته بل يجب علينا أن نسلك طريق النصح الذي ابتدأنا به هذه الكلمة بالحديث الدين النصيحة الدين النصيحة، فإن نصحناه وتجاوب معنا ذلك ما كنا نبغي وإن لم يستجب فليس لنا عليه من سبيل، ولا يجوز لنا أن نبادره أو نقاطعه، بل علينا أن نظل معه نتابعه بالنصيحة ما بين الفينة والفينة وما بين آونة وأخرى حتى يستقيم على الجادة ... وهناك بعض الأحاديث الصحيحة التي نحن بحاجة إلى أن نتذكرها عمليا وليس فقط فكرا وعلما، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: [لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا]، [لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث] , لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، لماذا يهجره تباغضا وتحاسدا لا لأمر شرعي، لا لأنه عصى الله ورسوله ولكن هو لم يجاهر بالمعصية لم يعتقد أن هذه معصية، ومع ذلك فهو يعصي الله عز وجل فجاء أحدنا وقاطعه، هذه مقاطعة مشروعة، ولكن التقاطع في سبيل اختلاف الأفكار في المفاهيم هذا هو التدابر المنهي عنه في الحديث" .

الضابط الثالث : أن تكون البدعة الموجبة للهجر من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع , فلا يعد المبتدع من أهل الأهواء الذين اختار السلف هجرهم إلا إن كانت بدعتهم قد اشتهرت عند أهل العلم مخالفتها للكتاب والسنة أو الإجماع , كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (35\414-415) : "والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة ؛ كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا : أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع : الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة قيل لابن المبارك : فالجهمية ؟ قال : ليست الجهمية من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) . والجهمية نفاة الصفات ؛ الذين يقولون : القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وإن محمدا لم يعرج به إلى الله وإن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم .
وقد قال عبد الرحمن بن مهدي : هما صنفان فاحذرهما : الجهمية والرافضة . فهذان الصنفان شرار أهل البدع ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية والإسماعيلية ومنهم اتصلت الاتحادية ؛ فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية ., والرافضة في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية ؛ فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة ؛ ثم قد يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية ونحو من أهل الزندقة والاتحاد" .
ولهذا فقد قال الإمام مالك في بيان من هم أهل البدع -كما في الحجة في بيان المحجة (1\114)- : (إياكم والبدع ؛ فقيل : يا أبا عبد الله وما البدع ؟ , قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان) .
وقال احمد بن سيار كما في سير أعلام النبلاء (11\447) : (وكان أبو الصلت يرد على أهل الأهواء من الجهمية المرجئة والقدرية).
وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص\194) : "أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والروافض" .
وقال ابن القيم في الطرق الحكمية (ص\254) : " أهل البدع : الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة".
وقال الذهبي في ترجمة مجاهد كما في سير أعلام النبلاء (4\454-455) : "عن الأعمش عن مجاهد، قال: (ما أدري أي النعمتين أعظم، أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء) .
قلت : مثل الرفض والقدر والتجهم".
وقال العلامة السعدي في الفتاوى السعدية (ص\63) : "فأهل السنة المحضة السالمون من البدع الذين تمسكوا بما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في الأصول كلها أصول التوحيد والرسالة والقدر ومسائل الإيمان وغيرها، وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة ومن تفرع عنهم كلهم من أهل البدع الاعتقادية وأحكامهم متفاوتة بحسب بعدهم عن أصول الدين وقربهم، وبحسب عقائدهم أو تأويلهم، وبحسب سلامة أهل السنة من شرهم في الأقوال والأفعال وعدمه وتفصيل هذه الجملة يطول جداً". وآثار السلف في الهجر إنما كانت متوجهة إلى هذا الصنف من المبتدعة لا لكل من وقع في بدعة , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28\204-205) : "الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون : الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقا فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير , والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع , وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة : (إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون)".
وقال في مجموع الفتاوى (23\356) عند كلامه على مسألة (ترك الصلاة خلف المبتدع) : "وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة مثل بدع الرافضة والجهمية ونحوهم.
فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد مثل (مسألة الحرف والصوت) ونحوها فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعا وكلاهما جاهل متأول فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس ؛ فأما إذا ظهرت السنة وعلمت فخالفها واحد فهذا هو الذي فيه النزاع".
وقال في موطن آخر منه (23\354) مبينا مقصود من قال من السلف بترك الصلاة خلف أهل البدع : "وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق أو بدعة تظهر مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الرافضة والجهمية".
وأوضح –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (24\172-174) أن مالم يكن من هذا القبيل من مسائل الحلاف فلا يصح أن يعامل المخالف معاملة المبتدع فقال : "من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ؛ فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) رأى ربه وقالت : (من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية) وجمهور الأمة على قول ابن عباس مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي الله عنها .
وكذلك أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي لما قيل لها : إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : [ما أنتم بأسمع لما أقول منهم] ؛ فقالت : إنما قال : (إنهم ليعلمون الآن أن ما قلت لهم حق) , ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام] صح ذلك عن النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى غير ذلك من الأحاديث , وأم المؤمنين تأولت والله يرضى عنها .
وكذلك معاوية نقل عنه في أمر المعراج أنه قال : إنما كان بروحه والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه ومثل هذا كثير .
وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة , ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير , وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه يوم بني قريظة : [لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم : لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتتهم العصر . وقال قوم : لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحدا من الطائفتين] أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر , وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام .
وقد قال (صلى الله عليه وسلم) [ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين] رواه أبو داود من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه .
وصح عنه أنه قال : [لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام]".
ولهذا فقد كان أهل العلم يعاملون من خفت بدعته بما لا يعاملون من غلظت بدعته , كما قال الذهبي في المغني في الضعفاء (2\522-523) : "وقد وقع في القدر كبار حتى إن الحسن لطخ به والله المستعان كما وقع في بدعة التشيع وبدعة النصب خلق من الكبار فسد هذا الباب أولى , وكذا وقع في الأرجاء طائفة من العلماء وفي الخوارج عدة صادقون ؛ فأما الغلاة من الناصبة والشيعة والخوراج والقدرية والجهمية والدعاة من هذه الفرق فكان جمهور السلف يحذرون منهم ولا يرون الرواية عنهم".
وقال الذهبي في الموقظة في علم مصطلح الحديث (ص\85) مبينا ضابط هجر الرواية عن المبتدع : "إن كان كلامهم فيه من جهة معتقده ، فهو على مراتب :
فمنهم : من بدعته غليظة .
ومنهم : من بدعته دون ذلك .
ومنهم : الداعي إلى بدعته .
ومنهم : الكاف ، وما بين ذلك .
فمتى جمع الغلظ والدعوة تجنب الأخذ عنه .
ومتى جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه .
فالغلظ كغلاة الخوارج ، والجهمية ، والرافضة , والخفة كالتشيع والإرجاء".

الضابط الرابع : أن يكون المبتدع داعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع , وأما من لم يكن داعية فلا يهجر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28\205) : "والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع , وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة : (إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون) ؛ فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا ؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية ؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم , ولهذا جاء في الحديث :[أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة] , وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : [إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه]؛ فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها ؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".
وقال –رحمه الله- في الفتاوى الكبرى (5\531-532) حاكيا أن هذا هو اختيار السلف : "ولهذا كان أصل الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وعلمائهم يفرقون بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي في رد الشهادة وترك الرواية عنه والصلاة خلفه وهجره، ولهذا ترك في الكتب الستة ومسند أحمد الرواية عن مثل عمر وابن عبيد ونحوه ولم يترك عن القدرية الذين ليسوا بدعاة".
وقال في منهاج السنة النبوية (1\62-63) : "ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء هل تقبل مطلقا أو ترد مطلقا أو ترد شهادة الداعية إلى البدع وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات كالصحاح والسنن والمسانيد الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته ومن هجره أن لا يؤخذ عنه العلم ولا يستشهد".
وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (24\175) : "رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها والمظهرين للكبائر فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة فإن هذا لا يهجر وإنما يهجر الداعي إلى البدعة ؛ إذ الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا . وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون . ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة : كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة ولا يجالسونه بخلاف الساكت وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع".
وبين –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (24\174-175) أن نصوص الهجر الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن صحابته (رضي الله عنهم) إنما تتوجه لمن كان معلنا ببدعته أو بفجوره لا بمن كان مسرا بذلك , فقال : "نعم صح عنه أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه (رضي الله عنهم) لما تخلفوا عن غزوة تبوك وظهرت معصيتهم وخيف عليهم النفاق ؛ فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة إلى أن نزلت توبتهم من السماء .
وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمي لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول وتبين صدقه في التوبة فأمر المسلمين بمراجعته.
فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها والمظهرين للكبائر فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة فإن هذا لا يهجر وإنما يهجر الداعي إلى البدعة ؛ إذ الهجر نوع من العقوبة وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا . وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون . ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة : كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة ولا يجالسونه بخلاف الساكت وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع . والذي أوجب هذا الكلام أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا : أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".

الضابط الخامس : أن يكون الهجر محققا لمقصوده من إصلاح المهجور , من غير أن يترتب عليه مفسدة أرجح .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3\286) مقررا هذا الضابط : "وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره كما هجر النبي (صلى الله عليه وسلم) الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم".
وقال –أيضا- في مجموعة الرسائل والمسائل (5\203) : "وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي (صلى الله عليه وسلم) الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم".
فإن لم يحقق الهجر مقصوده , وحقق ضد ذلك من جهة استزادة الشر كان المنع منه هو المتعين , كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله مجموع الفتاوى (8\206-207) : "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله .
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا , وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر .
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ؛ ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتألف قوما ويهجر آخرين ؛ كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح .
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم , وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه" .
وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (28\211-212) : "وما أمر به من هجر الترك والانتهاء وهجر العقوبة والتعزير إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله , وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة , وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة ؛ بل تكون سيئة ؛ وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا . وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله . فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه : من الإيمان والسنة ونحو ذلك . فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد ؛ بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك : أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية . فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي . وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم . فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب : كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس . ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل".
وقال –كذلك- : "وأما هجر التعزير فمثل هجر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا وهجر عمر والمسلمين لصبيغ فهذا من نوع العقوبات ؛ فإذا كان يحصل بهذا الهجر حصول معروف أو اندفاع منكر فهي مشروعة , وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب فليست مشروعة" مجموع الفتاوى (28\216-217) .

الضابط السادس : يختلف الهجر وجودا وعدما ؛ قوة وضعفا , تبعا : (لنوع البدعة , ودرجتها , وحال أهل السنة من جهة التمكين والاستضعاف , والحاجة إلى أهل البدع من عدمها) .
ذلك أن البدع على أقسام ومراتب , كما قرر هذا المعنى الشاطبي في الاعتصام (2\75) فقال :"أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسب بالبدعة كليا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن وبدعة الخوارج في قولهم لا حكم إلا لله , وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع بل جدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية أو يكون الخلل الواقع جزئيا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك التثوب ضلال , وبدعة الأذان والإقامة في العيدين , وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين وما أشبه ذلك ؛ فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون اصلا لها .
فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصا به لا عاما فيه وفي غيره ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد".
ولهذا قال المهلب فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10\497) معلقا على تبويب البخاري (باب ما يجوز من الهجران لمن عصى) وإيراده تحته لحديثي كعب بن مالك المتقدم , وحديث عائشة وفيه : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [إني لأعرف غضبك ورضاك) ؛ قالت قلت وكيف تعرف ذاك يا رسول الله ؟ قال : إنك إذا كنت راضية قلت بلى ورب محمد وإذا كنت ساخطة قلت لا ورب إبراهيم , قالت : قلت : أجل لست أهاجر إلا اسمك] ؛ فقال المهلب : "غرض البخاري في هذا الباب أن يبين صفة الهجران الجائز، وأنه يتنوع بقدر الجرم، فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران بترك المكالمة كما في قصة كعب وصاحبيه، وما كان من المغاضبة بين الأهل والإخوان فيجوز الهجر فيه بترك التسمية مثلا أو بترك بسط الوجه مع عدم هجر السلام والكلام".
وقرر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28\210) أن عقوبة العاصي والمبتدع متفاوتة تبعا لجملة اعتبارات فقال : "وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة ؛ فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين : بين القادر والعاجز وبين قلة نوع الظالم المبتدع وكثرته وقوته وضعفه كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم من الكفر والفسوق والعصيان" .
وقال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28\216) مبينا أن الهجر منوط بالقدرة عليه والحاجة إليه : "وأما تارك الصلاة ونحوه من المظهرين لبدعة أو فجور فحكم المسلم يتنوع كما تنوع الحكم في حق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حق مكة وفي المدينة , فليس حكم القادر على تعزيرهم بالهجرة حكم العاجز , ولا هجرة من لا يحتاج إلى مجالستهم كهجرة المحتاج.
والأصل أن هجرة الفجار نوعان : هجرة ترك وهجرة تعزير , أما الأولى فقد دل عليها قوله تعالى : {واهجرهم هجرا جميلا} وقوله : {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} , ومن هذا الباب هجرة المسلم من دار الحرب , فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة".
وقال –أيضا- في موطن آخر (28\204-210) مبينا أن العقوبة بالهجر تتفاوت تبعا لما في الإنسان من خير وشر , وتبعا لنوع الشر الذي قام فيه : "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته . هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط . وأهل السنة يقولون : إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)".
يتبع









قديم 2014-02-05, 10:17   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

يتبع 7
ولهذا فمن الخطأ البين أن يعاقب الإنسان بالهجر وغيره بأكثر مما يستحق , كما أنه من الخطأ أن تترك عقوبته مع القدرة عليها ووجود الحاجة إليها كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28\213) مبينا حقيقة عبارات السلف في الهجر ومقصودهم منها : "وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما يثبت حكمها في نظيرها ؛ فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات .
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ؛ بل تركوها ترك المعرض ؛ لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به ؛ فهذا هذا , ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه".
قلت : وعلى هذا التأصيل المتقدم يتنزل ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28\210) عن الإمام أحمد " في مسائل إسحاق بن منصور وذكره الخلال في "كتاب السنة" في باب مجانبة من قال : القرآن مخلوق ؛ عن إسحاق أنه قال لأبي عبد الله : (من قال : القرآن مخلوق ؟ قال : ألحق به كل بلية . قلت : فيظهر العداوة لهم أم يداريهم ؟ قال : أهل خراسان لا يقوون بهم) .
وعليه –أيضا- يتنزل كلام الشيخ الألباني –رحمه الله- في سلسلة الهدى والنور (ش\551) : "الذي أراه والله أعلم أن كلام السلف يرِد في الجو السلفي يعني الجو العامر بالإيمان القوي والاتباع الصحيح للنبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة ، هو تماما كالمقاطعة، مقاطعة المسلم لمسلم تربيةً وتأديبا له هذه سنة معروفة، لكن في اعتقادي وكثيرا ما سئلت فأقول زماننا لا يصلح للمقاطعة، زماننا إذن لا يصلح لمقاطعة المبتدعة لأن معنى ذلك أن تعيش على رأس الجبل، أن تنزوي عن الناس وأن تعتزلهم ذلك أنك حينما تقاطع الناس إما لفسقهم أو لبدعتهم لا يكون ذلك الأثر الذي كان يكون له يوم كان أولئك الذين تكلموا بتلك الكلمات وحضوا الناس على مجانبة أهل البدعة" .
وقال -رحمه الله- في سلسلة الهدى والنور (ش\80) : "أنا لا أعلم أن المسلم لا يلقي السلام على أخيه المسلم، وهو يعتقد أنه مسلم، وهذه مغالطة لا تجوز إسلاميا، وكون المسلمين مختلفين هذا الأمر ليس بالحديث بل هو قديم، لكن التناصح هو الذي يجب أن يكون قائما بين المسلمين، وأن يتوادوا وأن يتحابوا في الله عز وجل، فالتدابر والتقاطع أمر منهي عنه في الإسلام، والحب في الله أمر مرغوب في الإسلام والبغض في الله كذلك، لكن بعض الناس لا يحسنون التطبيق، وأنا كثيرا ما أسأل عن مقاطعة المسلم عن أخيه المسلم لسبب ما , فأنا أقول المقاطعة اليوم وإن كانت في الأصل هي مشروعة، لكن اليوم ليس هو زمن التطبيق، لأنك إذا أردت أن تقاطع كل مسلم أنكرت عليه شيئا بقيت وحيدا شريدا ، فليس لنا اليوم أن نتعامل على طريقة البغض في الله والمقاطعة في الله، هذا إنما وقته إذا قويت شوكة المسلمين وقوي مظهر المسلمين في تعاملهم بعضهم مع بعض، حين يشذ فرد من الأفراد عن الخط المستقيم فقوطع، إذ ذاك المقاطعة تكون دواء له وتربية له، أما الآن فليس هذا زمانه ... لذلك فهذا ليس في العصر الحاضر ليس من الحكمة أبدا أن نقاطع الناس لسبب انحرافهم سواء كان هذا الانحراف فكريا عقديا أو كان انحرافا سلوكيا، وإنما علينا أن نصبر في مصاحبتنا لهؤلاء، وأن لا نضلل ولا نكفر، لأن هذا التضليل وهذا التكفير لا يفيدنا شيئا، وإنما علينا بالتذكير كما قال عز وجل: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }".
وكلام الشيخ الألباني –رحمه الله- عرض على الشيخ عبيد الجابري فصوبه وحسنه , وقال فيه كما في شريط (أهمية العلم) : "ما دام ذلكم في شريط فإنَّه صحيح؛ لأنَّ الإمام الألباني -رحمه الله- محدِّث هذا العصر بلا منازع، وإنْ رغمت أنوف، هو رافعٌ للسُّنَّة في بلده، وفي كثيرٍ مِن بلدان العالَم –معروف- ، ولا يجهله أحد مِن طلَّاب العلم وطالبات العلم ... ؛ فإذا قال الألباني رحمه الله هذه المقولة؛ فإنَّه أعلم بما يقول في بلده، وأعرف بأهل البدع، وأعرف بمداخلهم، وأعرف بأساليبهم الماكرة، كما أنَّه أعرف بأهل السُّنَّة؛ ضعاف".

الضابط السابع : ضرورة التفريق بين هجر الوقاية والذي هو حق كل فرد في خاصة نفسه , وبين الهجر العام والدعوة إليه وهذا من حق ولاة الأمر من الحكام أو الأئمة المقتدى بهم , كما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) هو من أمر بهجر الثلاثة الذين تخلفوا هجرا عاما , وعمر الفاروق (رضي الله عنه) هو من أمر بهجر صبيغ العراقي , والإمام أحمد هو من أمر بهجر الحارث المحاسبي ,كما قد أشار إلى هذا المعنى الشيخ عبيد الجابري في شريط (أهمية العلم) فقال : "الهجر هجران :
هجرٌ عام على مستوى القطر: فهذا لا يملكه إلا مَن هم مُطاعون في الأمَّة، أئمَّة أهل علم وفضل، مشهودٌ لهم بذلك عند الخاصَّة والعامَّة، فهم الذين يملكون الدَّعوة إلى هجر فلان من النَّاس؛ فإنَّهم إذا حذَّروا منه: كلمتهم فصل، ولله الحمد أدركنا أربعة؛ وهم: سماحة الإمام الأثري الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، سماحة الإمام العلَّامة الفقيه المجتهد الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-، الشَّيخ الألباني الإمام الألباني -رحمه الله- الثَّالث، والرَّابع هو علَّامة اليمن شيخكم -رحمه الله رحمةً واسعة-، ورحم إخوانه وحفظنا وإيَّاكم بعدهم بالإسلام والسُّنَّة ، فإنَّ هؤلاء في أقطارهم مُطاعون، لهم كلمة الفصل، أمَّا خواص.. أما أفراط طلَّاب العلم؛ فليس لهم مِن ذلك ما لهؤلاء الأربعة، ولا يُنكر هذا إلا مُكابِر.
الثَّاني: الهجر الوَقائي: وهذا في حقِّ كل فردٍ في خويصة نفسه، فإنَّه لك إذا خشيتَ ضرر إنسان على سلوكك أوعلى دينك فإنَّه لك أن تهجره؛ فلا تجالسه، ولا تزوره، ولا تستجيره، ولا تحضر دروسه.
نعود إلى الهجر العام؛ أقول: قدَّمتُ لكم أنَّه موكولٌ إلى مَن؟ إلى أهل العلم، الَّذين هم قدوة، وهم محلُّ ثقة، فإنَّ هؤلاء إذا رأوا موجِباً هجروه في أنفسهم، وحذَّروا منه، وما دامت القضيَّة موكولة إلى نظر هؤلاء؛ فإنَّا نتَّبعهم، نتَّبعهم ... .
فأهل السنة : إذا قويت شوكتهم، واشتدت عزيمتهم، ورجحت كفتهم؛ فإنهم يذلِّون أهل البدع، ويمقتونهم، ويهينونهم، وينبذونهم.
وإذا كانت الكِّفَّة الرَّاجحة لغيرهم، وضعُفت شوكتهم، وضعُف سلطانهم، وكان عوامُّ النَّاس مع هؤلاء؛ فإنَّهم يتخذون جانب ماذا؟ المُداراة، والسِّياسة الحسنة، لأنَّ همَّهم ما هو؟ همُّهم هداية النَّاس" .

الضابط الثامن : أهل البدع يهجرون في الظاهر أما في الباطن فَيُحَبُونَ لما معم من طاعة وسنة , ويبغضون لما معهم من معصية وبدعة , وأما الهجر المطلق الظاهر والباطن فهذا لا يكون إلا من أهل الكفر , كما قال الطبري فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري (10\497) : "قصة كعب بن مالك أصل هو هجران أهل المعاصي، وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعا ولا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرما منهما لكونهما من أهل التوحيد في الجملة .
وأجاب ابن بطال بأن لله أحكاما فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه.
وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان. فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر، لا سيما إذا كان حربيا وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالبا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها".
وأما القول بالهجر المطلق لأهل البدع فهو من جنس صنيع الخوارج في هجر ومقاطعة أهل الكبائر من الملة , كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28\209) : "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته . هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط".

مواقف العلماء السلفيين المعاصرين من هجر أهل البدع والأهواء .


أولا: الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- .
قال الشيخ –رحمه الله- في مجموع الفتاوى والمقالات (10\423-424) جوابا عن السؤال التالي : "متى تشرع مقاطعة المبتدع؟ ومتى يشرع البغض في الله؟ وهل تشرع المقاطعة في هذا العصر؟
ج : المؤمن ينظر في هذه المقامات بنظر الإيمان والشرع والتجرد من الهوى , فإذا كان هجره للمبتدع وبعده عنه لا يترتب عليه شر أعظم فإن هجره حق , وأقل أحواله أن يكون سنة , وهكذا هجر من أعلن المعاصي وأظهرها أقل أحواله أنه سنة أما إن كان عدم الهجر أصلح لأنه يرى أن دعوة هؤلاء المبتدعين وإرشادهم إلى السنة وتعليمهم ما أوجب الله عليهم يؤثر فيهم ويزيدهم هدى فلا يعجل في الهجر , ولكن يبغضهم في الله كما يبغض الكافر والعصاة , لكن يكون بغضه للكفار أشد مع دعوتهم إلى الله سبحانه والحرص على هدايتهم عملا بجميع الأدلة الشرعية; ويبغض المبتدع على قدر بدعته إن كانت غير مكفرة والعاصي على قدر معصيته , ويحبه في الله على قدر إسلامه وإيمانه , وبذلك يعلم أن الهجر فيه تفصيل , وقد قال ابن عبد القوي في نظمه المقنع ما نصه :
هجران من أبدى المعاصي سنة ... وقد قيل إن يردعه أوجب وآكد
وقيل على الإطلاق ما دام معلنا ... ولاقه بوجه مكفهر مربد
والخلاصة : أن الأرجح والأولى النظر إلى المصلحة الشرعية في ذلك , لأنه (صلى الله عليه وسلم) هجر قوما وترك آخرين لم يهجرهم مراعاة للمصلحة الشرعية الإسلامية , فهجر كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر هجرهم خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم , ولم يهجر عبد الله بن أبي ابن سلول وجماعة من المتهمين بالنفاق لأسباب شرعية دعت إلى ذلك .
فالمؤمن ينظر في الأصلح وهذا لا ينافي بغض الكافر والمبتدع والعاصي في الله سبحانه ومحبة المسلم في الله عز وجل , وعليه أن يراعي المصلحة العامة في ذلك , فإن اقتضت الهجر هجر , وإن اقتضت المصلحة الشرعية الاستمرار في دعوتهم إلى الله عز وجل وعدم هجرهم فعل ذلك مراعاة لهديه (صلى الله عليه وسلم)".

ثانيا : الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- .
قال -رحمه الله- في سلسلة الهدى والنور (ش\666) في مسألة هجر المخالفين , مبينا أنها منوطة بالراجح من المصالح والمفاسد : "وهذا له صلة بمبدأ المقاطعة المعروفة في الإسلام أو الهجر لله ، كثيرا ما نُسأل فلان صاحبنا وصديقنا، ولكن ما يصلي يشرب دخان نقاطعه؟؟ أقول له أنا لا يقاطعه لأن مقاطعته لا تفيده بالعكس تسره وبتخلِّيه في ضلاله، لذلك فالمقاطعة وسيلة شرعية وهو تأديب المهاجر والمقاطع، فإذا كانت المقاطعة لا تؤدبه بل تزيده ضلالا على ضلال حينئذ لا ترد المقاطعة لذلك نحن اليوم لا ينبغي أن نتشبث بالوسائل التي كان يتعاطاها السلف أنهم ينطلقون من موقف القوة والمنعة« ثم تحدث عن قلة الصالحين في هذا الزمان وقال:» فلو نحن فتحنا باب المقاطعة والهجر والتبديع لازم أنعيش في الجبال وإنما نحن واجبنا اليوم : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}" .
وقال –أيضا- في نفس الشريط : "ينبغي هنا استعمال الحكمة، الفئة القوية هل إذا قاطعت الفئة المنحرفة عن الجماعة يعود الكلام السابق: هل ذلك ينفع الطائفة المتمسكة بالحق أم يضرها هذا من جهتهم ، ثم هل ينفع المُقَاطَعِين والمهجورين من الطائفة المنصورة أو يضرهم، يعني لا ينبغي أن نأخذ هذا الأمر بالحماس والعاطفة وإنما بالروية والحكمة والأناة ... وآخر الدواء الكي ... وأنا بصورة عامة لا أنصح اليوم باستعمال علاج المقاطعة أبدا لأنه يضر أكثر مما ينفع، وأكبر دليل الفتنة القائمة الآن في الحجاز" .

ثالثا : الشيخ محمد بن صالح العثيمين .
قال الشيخ –رحمه الله- في مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين رقم (2\293-294) ؛ مبينا الموقف من المبتدعة جوابا عن السؤال التالي : "كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟ .
فأجاب بقوله : البدع تنقسم إلى قسمين :
بدع مكفرة ، وبدع دون ذلك وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق؛ ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق لأن الله - تعالى - قال للنبي ، (صلى الله عليه وسلم) : {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم} فندعو أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته ، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة ، فإذا وجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم ، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ، فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره .
وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره ؛ إن كان في هجره مصلحة فعلناه ، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه ، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي ، (صلى الله عليه وسلم) ، [لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث] فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره مالم يكن في الهجر مصلحة ، فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه ، لأن الهجر حينئذ دواء ، أما إذا لم يكن فيه مصلحة أو كان فيه زيادة في المعصية والعتو، فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة .
فإن قال قائل : يرد على ذلك أن النبي ، (صلى الله عليه وسلم) ، هجر كعب بن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك؟.
فالجواب : أن هذا حصل من النبي، (صلى الله عليه وسلم) ، وأمر الصحابة بهجرهم لأن في هجرهم فائدة عظيمة ، فقد ازدادوا تمسكاً بما هم عليه حتى إن كعب بن مالك - رضي الله عنه- جاءه كتاب من ملك غسان يقول : فيه بأنه سمع أن صاحبك - يعني الرسول، (صلى الله عليه وسلم) - قد جفاك وأنك لست بدار هوان ولا مذلة فالحق بنا نواسك . فقام كعب مع ما هو عليه من الضيق والشدة وأخذ الكتاب وذهب به وأحرقه في التنور . فهؤلاء حصل في هجرهم مصلحة عظيمة ، ثم النتيجة التي لا يعادلها نتيجة أن الله أنزل فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة قال- تعالى - : {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}".



شبه ونقضها :


الشبهة الأولى : الاستشهاد بآثار السلف على هجر من لا يستحق الهجر .
وردت العشرات من الآثار السلفية القاضية بهجران أهل الأهواء والبدع ؛ فحملها البعض على إطلاقها رافضا ضبطها بما تقدم من أصول وضوابط زاعما "أن السلف لم يضبطوا الهجر بتلك الضوابط والقيود" , وهذا زعم باطل مردود من أوجه عدة :
الأول : إن آثار السلف ينبغي أن تحمل على مرادهم قدرا ونوعا , والزيادة على المقدار والنوع المراد ؛ هو من قبيل الانحراف عن اتباع الأئمة في الأصول والفروع , ومنها مسالة هجر المبتدع , كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20\184-185) : "المنحرفون من أتباع الأئمة في الأصول والفروع، كبعض الخراسانيين من أهل جيلان وغيرهم المنتسبين إلى أحمد وغير أحمد : انحرافهم أنواع .... :
الثاني : قول قاله الإمام فزيد عليه قدرا أو نوعا ؛ كتكفيره نوعا من أهل البدع كالجهمية ؛ فيجعل البدع نوعا واحدا حتى يدخل فيه المرجئة والقدرية .
أو ذمه لأصحاب الرأي بمخالفة الحديث والإرجاء فيخرج ذلك إلى التكفير واللعن .
أو رده لشهادة الداعية وروايته , وغير الداعية في بعض البدع الغليظة ؛ فيعتقد رد خبرهم مطلقا مع نصوصه الصرائح بخلافه ... .
الثالث : أن يفهم من كلامه ما لم يرده أو ينقل عنه ما لم يقله .
الرلبع : أن يجعل كلامه عاما أو مطلقا وليس كذلك ثم قد يكون في اللفظ إطلاق أو عموم فيكون لهم فيه بعض العذر وقد لا يكون كإطلاقه تكفير الجهمية الخلقية مع أنه مشروط بشروط انتفت فيمن ترحم عليه من الذين امتحنوه وهم رءوس الجهمية".

الوجه الثاني : إن كثيرا من هذه الأقوال التي صدرت عن السلف وغيرهم هي من باب قضايا الأعيان التي لا عموم لها ويثبت حكمها –حصرا- في نظائرها أي فيمن كان حاله كحال من أمر السلف بهجرانهم وتركهم ومفاصلتهم , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28\210-213) –مختصرا- : "وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما يثبت حكمها في نظيرها
وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما يثبت حكمها في نظيرها .
فإن أقواما جعلوا ذلك عاما فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات . وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية ؛ بل تركوها ترك المعرض ؛ لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به . فهذا هذا . ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه . والله سبحانه أعلم".

الوجه الثالث : إن شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من أعرف الناس بمذاهب السلف وأصول منهجهم , قد بين أن الآثار السلفية الواردة في باب هجر المبتدع : إنما مراد السلف بالمبتدع هو (الداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع) فقال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28\204-205) حاكيا حقيقة مذهب السلف في هذه المسالة : "والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع , وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة : (إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون)".
وبنحو هذا المعنى قرر الشيخ ربيع في مقال (أئمة الجرح والتعديل هم حماة الدين) فبين أن هذا الهجر ليس على إطلاقه بالقول : "الإلحاق بالمبتدع ليس على إطلاقه عند السلف وأئمتهم بل هم فرقوا بين الداعية إلى البدعة وغير الداعية فحذروا من الداعية ومن مجالسته وأخذ العلم عنه، بل إذا تمادى في العناد والدعوة إلى بدعته قد يحكمون بقتله لأنه عندهم أضر من قطاع الطرق المحاربين لله ورسوله . وأما غير الداعية من الصادقين المأمونين فقد أخذوا منهم العلم حفاظاً على الشريعة وحذراً من أن يضيع شيء منها" .

الوجه الرابع : أن كثيرا من هؤلاء السلف الذين وردت عنهم الآثار القاضية بوجوب هجران أهل البدع ومفاصلتهم , قد ورد عنهم أنفسهم ما يضاد ذلك من مخالطة أهل البدع وتألفهم بما يدلل على أن مرادهم بالهجر ليس الهجر العام المطلق , ومنهم الإمام أحمد الذي نقلنا عنه الأثر السابق في النهي عن مجالسة أهل البدع وأن من امتنع عن مجالستهم فيلحق بهم فقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه (10\261) عن يعقوب بن يوسف المطوعي قال : (كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضيا وكان يغشى أحمد بن حنبل فيقربه ويدنيه ؛ فقيل له : يا أبا عبد الله عبد الرحمن رافضي !!, فقال : سبحان الله ! رجل أحب قوما من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) نقول له لا تحبهم ! هو ثقة) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28\210) : " في مسائل إسحاق بن منصور وذكره الخلال في "كتاب السنة" في باب مجانبة من قال : القرآن مخلوق ؛ عن إسحاق أنه قال لأبي عبد الله : (من قال : القرآن مخلوق ؟ قال : ألحق به كل بلية . قلت : فيظهر العداوة لهم أم يداريهم ؟ قال : أهل خراسان لا يقوون بهم) .
وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية : (لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة) , ومع ما كان يعاملهم به في المحنة : من الدفع بالتي هي أحسن ومخاطبتهم بالحجج ؛ يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم".

الشبهة الثانية : زعم بعض المتعالمين بالقول أن "العلماء إذا تكلموا في مبتدع فيجب اتباعهم وإلا ألحق بهم من لم يأخذ بقولهم بذلك المبتدع" ثم استدل على زعمه بما أبو داود السجستاني : (قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة ، أترك كلامه ؟ قال : لا أو تعلمه أن الرجل الذي رأيته صاحب بدعة ، فإذا ترك كلامه فكلمه وإلا ألحقه به)" .
قلت : وهذه دعوى فارغة , واستدلال عليها في غير موضعه , وبيان ذلك من أوجه :
الأول : قال الشيخ ربيع المدخلي في رده على قائل هذه الشبهة في مقال (أئمة الجرح والتعديل هم حماة الدين) : "بناءً على قاعدتك في باب التبديع يلزمك تبديع الإمام البخاري لأن الإمام محمد بن يحيى الذهلي وأصحابه قد بدعوا الإمام البخاري وآذوه ولكن العلماء وعلى رأسهم مسلم إلى يومنا هذا خالفوا الإمام محمد بن يحيى فهل تبدعهم لأنهم لم يتبعوا محمد بن يحيى ، وتقول لماذا خالفوه فأقول : لأنه ليس معه ولا مع أصحابه حجة .
والإمام أحمد نفسه خالف الناس في شريك بن عبد الله النخعي وأبي نعيم لأنه لم تقدم له الحجة على تبديعهما ولو قدموها له لقبلها والتزمها كما عهدنا ذلك منه ومن أمثاله رحمهم الله .
فمدار القبول والرد هو الحجة وعدمها لا الهوى كما قررت أنت هنا في قضايا الاختلاف أي اختلاف أئمة الجرح والتعديل ولا يبعد أن تقررها في كل القضايا كما يفعل أهل الأهواء الذين قلدتهم" .
الوجه الثاني : وقال الشيخ ربيع في رده على قائل هذه الشبهة في نفس المقال مبينا حقيقة مذهب السلف في باب الهجر : "الإلحاق بالمبتدع ليس على إطلاقه عند السلف وأئمتهم بل هم فرقوا بين الداعية إلى البدعة وغير الداعية فحذروا من الداعية ومن مجالسته وأخذ العلم عنه، بل إذا تمادى في العناد والدعوة إلى بدعته قد يحكمون بقتله لأنه عندهم أضر من قطاع الطرق المحاربين لله ورسوله . وأما غير الداعية من الصادقين المأمونين فقد أخذوا منهم العلم حفاظاً على الشريعة وحذراً من أن يضيع شيء منها" .
الوجه الثالث : ن النهي عن مجالسة المبتدعة ليس على إطلاقه بل هو مقيد بأحد حالين :
الأول : أنه في حال تكلمهم بالبدعة وخوضهم في باطلهم –من غير إنكار عليهم- , لأن النهي عن مجالستهم من معاني قوله تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] .
قال الطبري في تفسيره لهذه الآية (9\320-321) :"وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفَسَقة، عند خوضهم في باطلهم" .
قال ابن مفلح في الفروع (5/226) فيمن لا تجاب دعوته : ومنع [ابن الجوزي] في "المنهاج" من ظالم وفاسق ومبتدع ومفاخر بها، أو فيها مبتدع يتكلم ببدعته إلا لراد عليه".
ولهذا نقل ابن مفلح عن الآداب الشرعية (1\312) عن ابن الجوزي تجويزه حضور الدعوة التي فيها مبتدع لا يتكلم ببدعته ؛ بالقول : "إذا كان في الضيافة مبتدع يتكلم ببدعته لم يجز الحضور معه إلا لمن يقدر على الرد عليه وإن لم يتكلم المبتدع جاز الحضور معه مع إظهار الكراهة والإعراض عنه" .
الحال الثاني : أن النهي عن مجالسة أهل الأهواء والبدع محمول على من كان شأنه معاشرة ومخالطة أهل الأهواء والبدع , كما حكاه القرطبي عن أحمد بن حنبل ، والأوزاعي، وابن المبارك , ووجه الآثار الواردة في هذا الباب على هذا المعنى فقال في تفسيره (7/142) : "ومضى في النساء وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم؛ فقال: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} الآية، ثم بين في سورة النساء -وهي مدنية- عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال: {وقد نزل عليكم في الكتاب} الآية، فألحق من جالسهم بهم . وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات في مُجَالِس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة؛ منهم أحمد بن حنبل، والأوزاعي، وابن المبارك فإنهم : (قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا: ينهى عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا ألحق بهم) ، يعنون :في الحكم".
وقال أبو الحسن بن حيدرة في حز الغلاصم (ص\110) : "بين سبحانه بقوله {وقد نزل عليكم في الكتاب} ما كان أمرهم به من قوله في السورة المكية {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمي} ثم بين في هذه السورة المدنية أن مجالسة من هذه صفته لحوق به في اعتقاده , وقد ذهب قوم من أئمة هذه الأمة إلى هذا المذهب وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة" .

[أنموذج سلفي معاصر دال على أن هجر أهل البدع ليس على إطلاقه]
ويحسن بنا أن نختم مقالنا بمثال نضربه من واقع الدعوة السلفية المعاصرة دال على أن هجر أهل البدع والأهواء ليس على مطلقه , وذلك بموقف الشيخ ربيع بن هادي المدخلي من بعض من حكم عليهم بالتبديع , ومن ذلك :
أولا : موقفه الشيخ من الإخوان المسلمين , حيث أنه –حفظه الله- خالط الإخوان وأنه لا يرى هذه الخلطة مما يوجب الذم ؛ فقال في معرض دفاعه عن نفسه في وجه من انتقصه بسبب هذه العلاقة في هامش كتاب (إنقضاض الشهب السلفية) : "ربيع لم يكن إخوانيا قط ، وإنما مشى معهم مدة بشرط أن يخرجوا أهل البدع من صفوفهم ، وبشرط أن يربوا شبابهم على المنهج السلفي، وكان يمشي مع من ينتسبون إلى المنهج السلفي لا مع أهل البدع منهم ، وقد فعل مثل هذا بعض السلفيين ، ومنهم الشيخ الألباني، فهل تقول يا عدنان إن الألباني كان إخوانيا أو في الإخوان؟!, وهل تطالبه بالتراجع؟! ".
ثانيا : موقف الشيخ ربيع المدخلي من عبد الرحمن عبد الخالق حال ظهور مخالفاته الإخوانية , حيث قال في بعض أشرطته التي نقلها –مفرغة- البازمول في صيانته (8) : "وعبد الرحمن عبد الخالق ... راح الكويت بارك الله فيكم وسمع له سمعة طيبة وكنا نشجعه ونفرح بتلاميذه ما شعرنا إلا الفكر الإخواني في منهجه وفي كتابته فكنت أكتب له مناصحات كتبت له كتابين كل كتاب من خمس صفحات بالتفصيل بالأخطاء التي وقعت منه جاء المدينة وما يأتي مرة إلا وأذهب إليه في بيت أخيه وأناصحه وأخذه إلى بيتي وأناصحه وأخذه في السيارة وأناصحه, وأبين له أخطار هذا المنهج الذي يسير عليه، وأضرب له الأمثال لناس كانوا على السلفية فلما دخلوا في السياسة انحرفوا وعاقبة تلاميذهم صاروا علمانيين بسبب هذا الإغراق في السياسة بارك الله فيكم، وناصحته، وناصحته وهو أصغر مني سناً وألقى منه الاحترام والتقدير وأنه سيقبل رأيي، ولكن ألاحظ عليه أن الرجل ماشي على خط معين صبرت سنوات طويلة مستمر في المناصحة، ويجيئني تلاميذه وأصدقاؤه ويقولون اصبر عليه وناصحه معليش، وأنا ما أبغي أفرق" .
فالشيخ ربيع رغم ظهور انحرافات عبد الرحمن عبد الخالق , إلا أنه لم يرتض أن يهجره ابتداء بل ماشاه وجالسه وزاره في بيت اخيه , ودعاه إلى بيته بقصد مناصحته .
فهل الآثار السلفية تتناول الشيخ ربيع المدخلي في مخالطته للإخوان المسلمين , ومجالساته لعبد الرحمن عبد الخالق على مدى سنوات طويلة , وهل يصح أن يقال أن الشيخ ربيع المدخلي كان إخوانيا بسبب مخالطته للإخوان المسلمين , أو تراثيا بسبب مخالطته لعبد الرحمن عبد الخالق .
أم يقال أن تلك الآثار لم تكن تتناوله لأن الشيخ ربيع المدخلي كان يراعي ضوابط شرعية في هجر المبتدعة وهي التي تمنع من إلحاقه بهم , كما أن الضوابط نفسها هي التي قد تمنع غير الشيخ ربيع من أن يلحق بأهل البدع لأن مخالطته لهم –أيضا- مضبوطة بضابطة الشرع .

ومعاذ الله من أقوام يكيلون بمكيالين , ويزنون بميزانين , وربما أكثر (!!!) .









قديم 2014-02-05, 10:19   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (8) : المدح والثناء على المخالفين من أهل البدع والأهواء
.
إن مسألة المدح الثناء مبنية على أصل الولاء والبراء , وهو التقريب والمحبة والمناصرة والثناء على قدر ونوع الطاعات , والإبعاد والمخالفة والكره والذم على قدر ونوع المخالفات ؛ كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (10\366) : "أصل عظيم: وهو: أن تعرف الحسنة في نفسها علما وعملا سواء كانت واجبة أو مستحبة , وتعرف السيئة في نفسها علما وقولا وعملا محظورة كانت أو غير محظورة - إن سميت غير المحظورة سيئة - وإن الدين تحصيل الحسنات والمصالح وتعطيل السيئات والمفاسد .
وأنه كثيرا ما يجتمع في الفعل الواحد أو في الشخص الواحد الأمران :
فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر .
كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر.
وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية .
فهذا طريق الموازنة والمعادلة ومن سلكه كان قائما بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان".
وقال –أيضا- في نفس المصدر (4\14) : "فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف ؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات , والحسنات: هي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره ، وهذا هو السنة ؛ فالخير كله - باتفاق الأمة - هو فيما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك".
وقال في الفتاوى الكبرى (2\446) : "وهذا أصل يجب أن يعرف، فإن البلد قد تحمد أو تذم في بعض الأوقات لحال أهله، ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان، قال الله تعالى: {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}".
وقال –أيضا- في الفتاوى الكبرى (6\662-663) : "وليس المقصود هنا إطلاق مدح شخص أو طائفة، ولا إطلاق ذم ذلك، فإن الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أنه :
قد يجتمع في الشخص الواحد والطائفة الواحدة ما يحمد به من الحسنات , وما يذم به من السيئات ، وما لا يحمد به ولا يذم من المباحث والعفو عنه من الخطأ والنسيان ؛ بحيث يستحق الثواب على حسناته , ويستحق العقاب على سيئاته , بحيث لا يكون محمودا ولا مذموما على المباحات والمعفوات ، وهذا مذهب أهل السنة في فساق أهل القبلة ونحوهم.
وإنما يخالف هذا الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ونحوهم الذين يقولون : من استحق المدح لم يستحق الثواب ، حتى يقولون: إن من دخل النار لا يخرج منها بل يخلد فيها، وينكرون شفاعة محمد في أهل الكبائر قبل الدخول وبعده وينكرون خروج أحد من النار وقد تواترت السنن عن النبي بخروج من يخرج من النار حتى يقول الله: {أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان}، وبشفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته .
ولهذا يكثر في الأمة من أئمة الأمراء وغيرهم من يجتمع فيه الأمران [الحسنات والسيئات] ، فبعض الناس يقتصر على ذكر محاسنه ومدحه غلوا وهوى ، وبعضهم يقتصر على ذكر مساويه غلوا وهوى ، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيار الأمور أوسطها" .

قلت : وليس من الغلو ولا من الهوى ما ذهب إليه بعض أهل العلم من المنع من ذكر حسنات وممادح أهل البدع والأهواء المخالفين للكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة , كما قال الفضيل بن عياض أنه قال : (من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام) .
وبما قاله رافع ابن الأشرس : (من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه).
ذلك أن مدح أهل البدع والأهواء وذكر محاسنهم –ولو كان بحق- , يمنع منه بقصد إخماد بدعته وإطفاء ناره , كما قال ابن دقيق العيد في توجيه المنع من الرواية عن المبتدعة فيما نقله عنه السخاوي في فتح المغيث (1\328) : "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخمادا لبدعته وإطفاء لناره يعني لأنه كان يقال كما قال رافع بن أشرس : (من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه)" .
ولهذا قال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في شرح فضل الإسلام (ش\10) جوابا عن السؤال التالي : " السؤال : الذي يثني على أهل البدع ويمدحهم هل يلحق بهم؟
الجواب : نعم ما فيه شك من أثنى عليهم ومدحهم هو داع إليهم، هو من دعاتهم نسأل الله العافية" .
ويعظم هذا المنع ويتأكد بحسب أمرين اثنين :
أولهما : بحسب نوع المخالفة ؛ فكلما كانت المخالفة مما يعظم شأنها في الشريعة -كبدعة الحلول والاتحاد والتجهم ونحوها- كان المنع من الثناء على أربابها آكد وأقوى , كمن يثني على أصحاب الحلول والاتحاد وغلاة الجهمية الذين اشتهر سوء حالهم واستفاض , وأطبقت الأمة على ذمهم والتحذير منهم ؛ وفي هذه الحالة يلحق المادح بالممدوح , كما قرر هذا المعنى شيخ الإسلام بقوله في أهل الاتحاد , حيث قال في مجموع الفتاوى (2\132) : "وهكذا هؤلاء الاتحادية فرءوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر وهم الذين يفهمون قولهم ومخالفتهم لدين المسلمين .
ويجب عقوبة كل من : انتسب إليهم , أو ذب عنهم , أو أثنى عليهم , أو عظم كتبهم , أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم , أو كره الكلام فيهم , أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو , أو من قال إنه صنف هذا الكتاب , وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق ؛ بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم , ولم يعاون على القيام عليهم ؛ فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات".
الثاني : بحسب أثر الثناء والمدح ؛ فالمدح والثناء المفضيان إلى تحسين ظن السامع بالمخالف المنحرف واعتقاد أنه على الجادة السوية يمنع منه سدا لذريعة التغرير , كما قال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله- في رسالة التبديع والتفسيق (ص\73) معللا المنع من ذكر حسنات أهل البدع ومدحهم بسد ذريعة الترويج للبدعة والتهوين من أمر السنة "لا يجوز تعظيم المبتدعة والثناء عليهم، ولو كان عندهم شيء من الحق؛ لأن مدحهم والثناء عليهم يروج بدعتهم، ويجعل المبتدعة في صفوف المقتدى بهم من رجالات هذه الأمة. والسلف حذرونا من الثقة بالمبتدعة، وعن الثناء عليهم، ومن مجالستهم، والمبتدعة يجب التحذير منهم، ويجب الابتعاد عنهم، ولو كان عندهم شيء من الحق، فإن غالب الضُلاَّل لا يخلون من شيء من الحق؛ ولكن ما دام عندهم ابتداع، وعندهم مخالفات، وعندهم أفكار سيئة، فلا يجوز الثناء عليهم، ولا يجوز مدحهم، ولا يجوز التغاضي عن بدعتهم؛ لأن في هذا ترويجاً للبدعة، وتهويناً من أمر السنة، وبهذه الطريقة يظهر المبتدعة ويكونون قادة للأمة - لا قدَّر الله - فالواجب التحذير منهم".

وليس معنى ما تقدم : أنه يمنع من ذكر محاسن وممادح المخالفين ولو كانوا من المبتدعة منعا عاما مطلقا , ذلك أن المنع من مدحهم خروج عن الأصل , فالأصل هو أن كل مسلم يمدح بما فيه من طاعات , ويذم لما وقع فيه من مخالفات , والمنع من مدح أهل البدع والأهواء خروج عن هذا الأصل , وقيل به سدا لذريعة الترويج للبدعة , وما منع منه سدا للذريعة يقال بجوازه لمصلحة الراجحة –كما هو مقرر عند المحققين من أهل العلم- .
ولهذا فإن أهل العلم الذين منعوا من الرواية عن المبتدع إخمادا لبدعته وإطفاء لناره قد أجازوا الرواية عنه ما لا يوجد عند غيره , كما قال ابن دقيق العيد في الرواية عن أهل البدع فيما نقله عنه السخاوي في فتح المغيث (1\328) : "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخمادا لبدعته وإطفاء لناره يعني لأنه كان يقال كما قال رافع بن أشرس : (من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه) .
وإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته ؛ فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته".

وتلك الوسطية التي أشار إليها شيخ الإسلام في باب المدح والقدح ...
وذاك المنع من ذكر محاسن أهل البدع سدا لذريعة الاغترار بهم ...
وتجويز هذا المدح للمصلحة الراجحة , هو ما قرره أئمة العلم والإيمان فبينوا :
أن الثناء على المخالف من أهل الأهواء والبدع ليس في رتبة واحدة , فمنه المشروع , ومنه الممنوع , ومنه الخاضع لاعتبار المصالح والمفاسد , فهي حالات متعددة , لكل حالة حكمها الخاص بها , وبيان أحكام هذه الحالات ببيان التالي :

الحالة الأولى : مدح المخالف في معرض نقده والتحذير من أخطائه
.
في هذه الحالة الأصل عدم ذكر حسنات وممادح المنقود لأن المقصود التحذير من الشخص , وذكر محاسنه مفضي إلى تقليل قيمة النقد , كما قال :
الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في التعليق على الوابل الصيب (ش\5) : "من أظهر البدع يحذر من بدعته وتترك محاسنه , من أظهر البدع يحذر منه ويعرض عن المحاسن , لأن المقصود التحذير من الشر , وليس المقصود بيان المحاسن".
وقرر–أيضا- في مجموع الفتاوى والمقالات (9\352) أنه لا يلزم في معرض النقد ذكر محاسن المنقود فقال: "الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة بالأدلة الشرعية، وبالترغيب والترهيب والأسلوب الحسن، ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات المبتدع".
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين كما في لقاءات الباب المفتوح (ش\121) : "وأما من أراد النصح والتحذير من بدعته وخطره فلا يذكر الحسنات؛ لأنه إذا ذكر الحسنات فهذا يرغِّب الناس بالاتصال به.
فالمسألة فيها تفصيل، فمثلاً إذا إنسان ابتدع بدعة وأردنا أن نتكلم نحذر من البدعة فإنا نذكره ولا بأس، وإن كان قد يكون من المصلحة ألا يُذكر باسمه.
وأما إذا كنا نريد أن نتكلم عن حياته فالواجب أن يُذكر ما له وما عليه.
فالمسألة فيها تفصيل: الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذكر أسماء معينة بأشخاصهم في مقام النصح كما في حديث فاطمة بنت قيس أنه خطبها أبو جهم ومعاوية وأسامة بن زيد فذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن أبي جهم وعن معاوية ما يقتضي ألا تتزوجهما , وقال: [انكحي أسامة] ، ولم يذكر محاسنهما مع أن محاسنهما لا شك أنها كثيرة؛ لكنه سكت عن ذلك؛ لأن المقام يقتضي هذا".
وأما الإنسان إذا كتب عن حياة شخص فيجب أن يقول العدل، ما له وما عليه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين".
وقال في لقاء الباب المفتوح (ش\67) : "وعندما نحذر من خطأ شخص نذكر الخطأ فقط؛ لأن المقام مقام تحذير، ومقام التحذير ليس من الحكمة أن نذكر المحاسن؛ لأنك إذا ذكرت المحاسن فإن السامع سيبقى متذبذباً، فلكل مقام مقال.
فمن أراد أن يتكلم عن شخص على وجه التقويم فالواجب عليه أن يذكر محاسنه ومساوئه -هذا إذا اقتضت المصلحة ذلك-، وإلا فالكف عن مساوئ المسلمين هو الخير.
وأما من أراد أن يُحذِّر من خطأ فهذا يذكر الخطأ، وإذا أمكن أن لا يذكر قائله فهو خير أيضاً؛ لأن المقصود هو هداية الخلق".
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- في شريط "مَن حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر ": "إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل.. حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ (الموازنة) ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس هو الترجمة الوافية الكاملة".
وقال في الشريط نفسه: "لذلك باختصار أنا أقول ولعل هذا القول هو القول الوسط في هذه المناقشات التي تجري بين الطائفتين: هو التفريق بين ما إذا أردنا أن نترجم للرجل فنذكر محاسنه ومساويه، أما إذا أردنا النصح للأمة أو إذا كان المقام يقتضي الإيجاز والاختصار فنذكر ما يقتضيه المقام من تحذير من تبديع من تضليل وربما من تكفير أيضاً إذا كان شروط التكفير متحققة في ذاك الإنسان، هذا ما أعتقد أنه الحق الذي يختلف فيه اليوم هؤلاء الشباب".

ولقد أخطأ في هذه المسألة صنفان :
الصنف الأول : صنف قالوا بوجوب ذكر حسنات المنقود .
إن القول بوجوب ذكر حسنات المنقود في معرض الرد عليه , قول محدث باطل لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو أثارة من علم , كما قال الشيخ ربيع –حفظه الله- في كتاب المحجة البيضاء : "إن القول بوجوب الموازنات في نقد أهل الباطل يؤدي إلى مفاسد كبيرة وخطيرة جداً، أهمها: (تجهيل السلف , رميهم بالظلم والجور , تعظيم البدع وأهلها، وتحقير أئمة السلف وما هم عليه من السنة والحق)".
وقد بين بطلان هذا القول أئمة السنة في عصرنا منهم :
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- , حيث قال –كما في منهج أهل السنة في نقد الرجال والكتب والطوائف (ص\8) جوابا عن السؤال التالي: "فيه أناس يوجبون الموازنة: أنك إذا انتقدت مبتدعا ببدعته لتحذر الناس منه يجب أن تذكر حسناته حتى لا تظلمه؟.
فأجاب الشيخ -رحمه الله-: لا ، ما هو بلازم، ما هو بلازم، ولهذا إذا قرأت كتب أهل السنة، وجدت المراد التحذير، اقرأ في كتب البخاري (خلق أفعال العباد) ، في كتاب الأدب في (الصحيح) ، كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد- ، كتاب (التوحيد) لابن خزيمة- ، (رد عثمان بن سعيد الدارمي على أهل البدع) ... إلى غير ذلك.
يوردونه للتحذير من باطلهم، ما هو المقصود تعديد محاسنهم... المقصود التحذير من باطلهم ، ومحاسنهم لا قيمة لها بالنسبة لمن كفر، إذا كانت بدعته تكفره، بطلت حسناته، وإذا كانت لا تكفره، فهو على خطر، فالمقصود هو بيان الأخطاء والأغلاط التي يجب الحذر منها".
ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- حيث قال –كما الهدى والنور (ش\850) مبينا بدعية القول بلزوم الموازنات في النقد- جوابا على السؤال التالي: "السائل: الحقيقة يا شيخنا إخواننا هؤلاء أو الشباب هؤلاء جمعوا أشياء كثيرة، من ذلك قولهم: لابد لمن أراد أن يتكلم في رجل مبتدع قد بان ابتداعه وحربه للسنة أو لم يكن كذلك لكنه أخطأ في مسائل تتصل بمنهج أهل السنة والجماعة لا يتكلم في ذلك أحد إلا من ذكر بقية حسناته، وما يسمونه بالقاعدة في الموازنة بين الحسنات والسيئات، وألفت كتب في هذا الباب ورسائل من بعض الذين يرون هذا الرأي ، بأنه لابد منهج الأولين في النقد ولا بد من ذكر الحسنات وذكر السيئات، هل هذه القاعدة على إطلاقها أو هناك مواضع لا يطلق فيها هذا الأمر ؟ نريد منكم بارك الله فيكم التفصيل في هذا الأمر.
فأجاب الشيخ الألباني: التفصيل هو: وكل خير في اتباع من سلف، هل كان السلف يفعلون ذلك ؟
فقال السائل: هم يستدلون حفظك الله شيخنا ببعض المواضع، مثل كلام الأئمة في الشيعة مثلاً، فلان ثقة في الحديث، رافضي خبيث، يستدلون ببعض هذه المواضع، ويريدون أن يقيموا عليها القاعدة بكاملها دون النظر إلى آلاف النصوص التي فيها كذاب، متروك، خبيث ؟
فقال الشيخ الألباني: هذه طريقة المبتدعة، حينما يتكلم العالم بالحديث برجل صالح أو عالم وفقيه، فيقول عنه: سيئ الحفظ، هل يقول إنه مسلم، وإنه صالح، وإنه فقيه وإنه يرجع إليه في استنباط الأحكام الشرعية... الله أكبر، الحقيقة القاعدة السابقة مهمة جداً، تشتمل فرعيات عديدة خاصة في هذا الزمان.
من أين لهم أن الإنسان إذا جاءت مناسبة لبيان خطأ مسلم، إن كان داعية أو غير داعية؛ لازم ما يعمل محاضرة, ويذكر محاسنه من أولها إلى آخرها، الله أكبر، شيء عجيب والله، شيء عجيب.
فقال السائل: وبعض المواضع التي يستدلون بها مثلاً: من كلام الذهبي في "سير أعلام النبلاء "أو في غيرها، تُحمل شيخنا على فوائد أن يكون عند الرجل فوائد يحتاج إليها المسلمون، مثل الحديث ؟
فقال الشيخ الألباني: هذا تأديب يا أستاذ مش قضية إنكار منكر، أو أمر بمعروف يعني الرسول عندما يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره "هل تنكر المنكر على المنكر هذا، وتحكي إيش محاسنه ؟
فقال السائل: أو عندما قال: بئس الخطيب أنت، ولكنك تفعل وتفعل، ومن العجائب في هذا قالوا: ربنا عز وجل عندما ذكر الخمر ذكر فوائدها ؟فقال الشيخ الألباني: الله أكبر، هؤلاء يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، سبحان الله، أنا شايف في عندهم أشياء ما عندنا نحن".
وقال –رحمه الله- أيضاً كما جاء في شريط (مَن حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر) : "ما يطرح اليوم في ساحة المناقشات بين كثير من الأفراد حول ما يسمى أو حول هذه البدعة الجديدة المسماة (الموازنة) في نقد الرجال .
أنا أقول: النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره ومن شره، أما إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل.. حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ (الموازنة) ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس هو الترجمة الوافية الكاملة.
ومن درس السُنة والسيرة النبوية لا يشك ببطلان إطلاق هذا المبدأ المحدث اليوم وهو (الموازنة) لأننا نجد في عشرات النصوص من أحاديث الرسول (عليه الصلاة والسلام) يَذكر السيئة المتعلقة بالشخص للمناسبة التي تستلزم النصيحة ولا تستلزم تقديم ترجمة كاملة للشخص الذي يراد نصح الناس منه، والأحاديث في ذلك أكثر من أن تستحضر في هذه العُجالة، ولكن لا بأس من أن نذكر مثالاً أو أكثر إن تيسر ذلك، ثم ذكر- الشيخ الألباني - قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : [بئس أخو العشيرة] , وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : [أما معاوية فرجل صعلوك، وأما أبو جهم فلا يضع العصا على عاتقه] و أنهما دليلان على عدم وجوب الموازنات، ثم قال: (ولكن المهم فيما يتعلق بهذا السؤال أن أقول في ختام الجواب: إن هؤلاء الذين ابتدعوا بدعة الموازنات هم بلا شك يخالفون الكتاب ويخالفون السنة، السنة القولية والسنة العملية، ويخالفون منهج السلف الصالح، من أجل هذا رأينا أن ننتمي في فقهنا وفهمنا لكتاب ربنا ولسنة نبينا (صلى الله عليه وسلم) إلى السلف الصالح، لم ؟ لا خلاف بين مُسلمَيْن فيما اعتقد أنهم أتقى وأورع وأعلم و.. الخ ممن جاؤوا من بعدهم.
الله عز وجل ذكر في القرآن الكريم وهي من أدلة الخصلة الأولى يقصد في الأمثلة التي ذكرها (متظلم) (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم) فإذا قال المظلوم فلان ظلمني، أفيقال له: اذكر له محاسنه يا أخي ؟ والله هذه الضلالة الحديثة من أعجب ما يطرح في الساحة في هذا الزمان".
ومنهم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- , حيث قال الشيخ –رحمه الله- -كما نقله عنه الشيخ ربيع في كتاب (انقضاض الشهب السلفية على أوكار عدنان الخلفية) جوابا عمن سأله عن بعض المقالات ومنها مقالة: "أنه من العدل والإنصاف عند النصيحة والتحذير أن تذكر حسناتهم إلى جانب سيئاتهم "؟.
فأجاب -رحمه الله-: أقول لك: لا، لا، لا، هذا غلط، اسمع يا رجل: في مقام الرد ما يحسن أني أذكر محاسن الرجل وأنا رادّ عليه، إذن ضَعُف ردّي.
قال السائل: حتى ولو كان من أهل السنة شيخنا؟
فأجاب –رحمه الله-: من أهل السنة وغير أهل السنة، كيف أردّ وأروح أمدحه، هذا معقول؟!!".

الصنف الثاني : صنف لا يرى جواز ذكر حسنات المنقود ولو اقتضت الحاجة والمصلحة
.

لا يعني بدعية القول بوجوب ذكر حسنات المنقود , أن ذكر الحسنات محرم , فنفي الوجوب لا يستلزم منه إثبات التحريم , والأدلة على مشروعية ذكر حسنات المنقود –اذا اقتضت الحاجة والمصلحة- كثيرة منها:
أولا : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا] , ففي هذه الآية إشارة إلى محاسن الخمر لبيان أن مفسدتها أرجح من مصلحتها , فلا ينبغي أن يغتر بما فيها من مصالح , وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه الآية للدلالة على أن الفعل الواحد ، والفاعل الواحد، والعين الواحدة هل يجتمع فيه أن يكون محمودًا مذمومًا ، مرضيًا مسخوطًا ؛ فقال في مجموع الفتاوى (19\305) : "فهذه المسائل مسألة الفعل الواحد ، والفاعل الواحد، والعين الواحدة هل يجتمع فيه أن يكون محمودًا مذمومًا ، مرضيًا مسخوطًا ، محبوبًا مبغضًا ، مثابًا معاقبًا ، متلذذًا متألمًا، يشبه بعضها بعضًا ؟ والاجتماع ممكن من وجهين ، لكن من وجه واحد متعذر ، وقد قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}" .
ثانيا : ومن الأدلة قوله تعالى [وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ؛ ففي هذه الآية ذكر لبعض حسنات بعض أهل الكتاب لكي يستفاد المسلمون منها فائدة ذكرها القرطبي في تفسيره (4\116) بقوله : "أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم , وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك، لان الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب , والله أعلم) .
ثالثا : ومن الأدلة على مشروعية ذكر حسنات المخالف المنقود إذا اقتضت الحاجة والمصلحة حديث عائشة (رضي الله عنها) في البخاري أنها قالت : [واستأجر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث] . فعائشة وصفت رجل بني الديل بأنه (على دين كفار قريش) وهذا من أعظم ألفاظ النقد والتجريح , ومع هذا وصفته بأنه (هاديا خريتا) وهو من أوصاف المدح .

وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية بالنصين السابقين على مشروعية الانتفاع مما عند الكافر والمشرك من أمور خيرية في الجوانب الدنيوية ؛ فقال في مجموع الفتاوى (4\114-115) : "إن ذكْر ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل الطب والحساب المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم، مثل محمد بن زكريا الرازي، وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الأطباء ما غايته، انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز . كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي (صلى الله عليه وسلم) يهود خيبر، وكما [استأجر النبي (صلى الله عليه وسلم) هو وأبو بكر لما خرجا من مكة مهاجِرَيْن ابن أُريْقط رجلاً من بني الديِّل هاديًا خِرِّيتًا]، والخريت : الماهر بالهداية، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما، ووعداه غار ثور صبح ثالثة .
وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مسلمهم وكافرهم، وكان يقبل نصحهم، وكل هذا في الصحيحين .
وكان أبو طالب ينصر النبي (صلى الله عليه وسلم) ويَذُبُّ عنه مع شركه، و هذا كثير .
فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، كما قال تعالى : {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } ، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلمُ الكافرَ إذا كان ثقة، نص على ذلك الأئمة، كأحمد وغيره؛ إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة، مثل ولايته على المسلمين، وعلوه عليهم ونحو ذلك .
فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه ؛ بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك".
ومن هذا القبيل –أيضا- مدح شيخ الإسلام لأهل الكلام والنظر بشدة ذكائهم , ليصل إلى نتيجة مفادها أن من هو دونهم في الذكاء سيضل كما ضلوا لو شاركوهم في الإعراض عن الوحي , فقال في درء تعارض العقل والنقل (1\169) : "فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة هذه العقليات ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب بل إما إلى حيرة وارتياب وإما إلى اختلاف بين الأحزاب فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات".
ومن هذا القبيل أيضا مدح شيخ الإسلام ابن تيمية لأبي عامر الفاسق المنافق لبيان أن أعداء الإسلام فيهم الذكي الدارس الذي يكيد بالدين وأهله فقال في درء تعارض العقل والنقل (7\67) : "وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب مثل أبي عامر الفاسق الذي كان يقال له عامر الراهب الذي اتخذ له المنافقون مسجد الضرار".

ولهذا فقد نص كبار علماء أهل السنة والجماعة على مشروعية ذكر حسنات المنقود -إذا اقتضت الحاجة والمصلحة ذلك- , ومن هؤلاء:الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- , الذي بين أنه يشرع ذكر حسنات المنقود إن كان فيه مصلحة ودعت الحاجة إليه , كما في فتواه –رحمه الله- التي نقلها عنه الشيخ ربيع في مقدمة كتابه منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف (ص\8) وفيها يقول الشيخ: "المعروف في كلام أهل العلم نقد المساويء للتحذير، وبيان الأخطاء التي أخطؤوا فيها للتحذير منها، أما الطيب معروف، مقبول الطيب، لكن المقصود التحذير من أخطائهم، الجهمية... المعتزلة... الرافضة... وما أشبه ذلك ؛ فإذا دعت الحاجة إلى بيان ما عندهم من حق يبين".
وقال –كذلك- في مجموع الفتاوى والمقالات (9\352) : "الواجب على أهل العلم إنكار البدع والمعاصي الظاهرة بالأدلة الشرعية، وبالترغيب والترهيب والأسلوب الحسن، ولا يلزم عند ذلك ذكر حسنات المبتدع، ولكن متى ذكرها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن وقعت البدعة أو المنكر منه تذكيرا له بأعماله الطيبة، وترغيبا له في التوبة، فذلك حسن، ومن أسباب قبول الدعوة والرجوع إلى التوبة".
وقال الشيخ ربيع –حفظه الله- مبينا طريقة الشيخ ابن باز في نقد جماعة التبليغ كما في شريط (أسباب الانحراف وتوجيهات منهجية) : "ابن باز -رحمه الله-كان تصدر منه بعض الكلمات تشبه تزكية لجماعة التبليغ وإن كان إلى جانبها شي من لفتات الأذكياء إلى ما عندهم من ضلال وجهل ، فيستغل هؤلاء الكلمات التي فيها شيء من الثناء عليهم ، ويخفي أو يخفون ما فيها من طعن خفي في عقيدتهم ومنهجهم ، فيبرزون الثناء ويخفون الجرح".
وهذا تصريح واضح من الشيخ ربيع –حفظه الله- أن الشيخ ابن باز -رحمه الله- كان يعرف ما عليه جماعة التبليغ من الضلال والانحراف , ومع ذلك كانت تصدر منه عبارات في مدحهم والثناء عليهم في بعض الجوانب , وهذا يوضح منهجية الشيخ ابن باز في التعامل مع المخالف , وهي على الضد مما ينسبه إليه من يزعم أن منهج الشيخ ابن باز كان رافضا لذكر محاسن اهل البدع والأهواء –فتنبه- .
ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حيث أوضح –رحمه الله- كما في سلسلة الهدى والنور (ش\572) : أنه ينبغي أن يراعي في جانب ذكر محاسن المنقود اختلاف المجالس والمصالح , فإن اقتضت مصلحة النقد ذكر الحسنات فعل , وإن لم يقتضها فلا يفعل , كما قال –رحمه الله- جوابا عن السؤال التالي: "السؤال: هل من منهج السلف في الرد على المخالف [اعتماد] أسلوب الموازنة , أي: ذكر حسنات المخالف وذكر سيئاته , أم انه تمحيص موضع المخالفة والرد عليها دون الالتفات إلى ما له من حسنات أخرى ؟.
الجواب: ذكر السيئات لا أظن أنه أمر وارد في الموضوع , ولعلك تريد أن تقول: الأخطاء والمخالفات , وليتك قلت المخالفات بدل السيئات , فتذكر: الأخطاء التي تخالف الكتاب والسنة , أما [القول] بأنه أساء بقوله: كذا وكذا .. ؛ فهذا ليس من أسلوب الدعوة , وهذا يختلف باختلاف المجالس , فإن وجد مجال بان يذكر [الحسنات] حسنا يفعل , ومن الممكن أن يذكر الحسنات فتضيع الفائدة بذكر الحسنات عن الحسنة الكبرى".
ومنهم كذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- كما في لقاءات الباب المفتوح (ش\127) حيث قال: "قلنا: إن الإنسان إذا كان يريد أن يقوِّم الشخص من حيث هو، فالواجب أن يذكر المحاسن والمساوئ؛ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} , ولهذا كان العلماء عندما يتكلمون عن حياة الرجل، يذكرون محاسنه، ومثالبه.
أما إذا كنتَ في معرِض الرد عليه فلا تذكر مَحاسنه؛ لِمَا ذكرنا -فيما سَمعتم في السؤال- أنك إذا ذكرت المَحاسن ضعُف جانب الرد عليه، وربما يُعجب الإنسان بما عنده من المحاسن ويترك الأخطاء جانباً، هذا هو الطريق في ذكر محاسن الناس ومساوئهم.
ولكن إذا تحدثتَ عنه في أي مجلس من المجالس فإن رأيتَ في ذكر محاسنه فائدة فلا بأس أن تذكرها، وإن خفتَ من مضرة فلا تذكرها".

الحالة الثانية : مدح المخالف في معرض ترجمته
.

في حال الترجمة والتوثيق لا بد من ذكر ما للمترجم من حسنات وممادح , وما وقع فيه من زلات , وهذا من تمام معنى قوله تعالى [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20\83-84) مخبرا عن حقيقة العدل في الأخبار : " وأما باب العدل فقد قال تعالى : {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى }وقال تعالى : {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } الآية وقال : {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } وقال : {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } , {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ }فهذا العدل والقسط في هذه المواضع هو الصدق المبين وضده الكذب والكتمان.
وذلك أن العدل : هو الذي يخبر بالأمر على ما هو عليه لا يزيد فيكون كاذبا ولا ينقص فيكون كاتما .
والخبر مطابق للمخبر ؛ كما تطابق الصورة العلمية والذهنية للحقيقة الخارجية , ويطابق اللفظ للعلم ويطابق الرسم للفظ .
فإذا كان العلم يعدل المعلوم لا يزيد ولا ينقص , والقول يعدل العلم لا يزيد ولا ينقص , والرسم يعدل القول : كان ذلك عدلا , والقائم به قائم بالقسط , وشاهد بالقسط , وصاحبه ذو عدل .
ومن زاد فهو كاذب , ومن نقص فهو كاتم , ثم قد يكون عمدا , وقد يكون خطأ ؛ فتدبر هذا فإنه عظيم نافع جدا" .
ومن أكمل من قام بهذا العدل المسلمون من أهل العلم المشتغلين بكتابة التواريخ والسير والتراجم ؛ فكل من له أدنى اطلاع على صنيع أئمة الفنون المتقدمة ليعلم صدق ما قلنا , ولهذا قال الشيخ الألباني –رحمه الله- كما في شريط "مَن حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر ": "النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره ومن شره".
وقال في الفتوى نفسها: "إذا أردنا أن نترجم للرجل فنذكر محاسنه ومساويه".
وذهب الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- في لقاءات الباب المفتوح (ش\121) إلى وجوب ذكر الحسنات والسيئات حال الترجمة فقال : "أما من أراد أن يقوم الرجل ويذكُر حياته، فالواجب أن يذكر حسناته وسيئاته".
وقال فيه –أيضا-: "وأما إذا كنا نريد أن نتكلم عن حياته فالواجب أن يُذكر ما له وما عليه".
وقال فيه –كذلك-: "وأما الإنسان إذا كتب عن حياة شخص فيجب أن يقول العدل، ما له وما عليه".

الحالة الثالثة : مدح المخالف في معرض تقويمه
.
في حالة التقويم ومعرفة حقيقة حال الرجال ؛ فلا بد من ذكر ما للرجل وما عليه للموازنة بينهما , ومعرفة حاله الراجح كما قال الحافظ الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2\202) : "وإذا اجتمع في أخبار رجل واحد معان مختلفة من المحاسن والمناقب والمطاعن والمثالب وجب كتب الجميع ونقله وذكر الكل ونشره ؛ لما اخبرني محمد بن الحسين أنا دعلج أنا أحمد بن علي الأبار نا علي بن ميمون الرقي العطار نا مخلد بن حسين عن هشام عن ابن سيرين قال : (ظلمت أخاك إذا ذكرت مساوئه ولم تذكر محاسنه) .
ثم حكى عن الشعبي قوله : (كانت العرب تقول : إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساوئه فذاكم الرجل الكامل , وإذا كانا متقاربين فذاكم المتماسك , واذا كانت المساوئ اكثر من المحاسن فذالكم المتهتك)" .
وقال أبو يعلى القزويني في كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث (ص\408) : "ويحتاج في هذا الأمر إلى الديانة والإتقان والحفظ ومعرفة الرجال ومعرفة الترتيب ويكتب ما له وما عليه ثم يتأمل في الرجال فيميز بين الصحيح والسقيم ثم يعرف التواريخ وعمر العلماء حتى يعرف من أدرك ممن لم يدرك ويعرف التدليس للشيوخ".
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- في لقاءات الباب المفتوح (ش\121) : "أما من أراد أن يقوم الرجل ويذكُر حياته، فالواجب أن يذكر حسناته وسيئاته".
وقال –أيضا- في لقاء الباب المفتوح (ص\67) : "كل إنسان مهما بلغ من العلم والتقوى فإنه لا يخلو من زلل، سواءً كان سببه الجهل أو الغفلة، أو غير ذلك؛ لكن المنصف كما قال ابن رجب (رحمه الله) في خطبة كتابه: القواعد: (المنصف من اغتفر قليلَ خطأِ المرء في كثير صوابه) ولا أحد يأخذ الزلات ويغفل عن الحسنات إلا كان شبيهاً بالنساء ؛ فإن المرأة إذا أحسنت إليها الدهر كله ثم رأت منك سيئة قالت: لَمْ أرَ خيراً قط، ولا أحد من الرجال يحب أن يكون بهذه المثابة -أي: بمثابة الأنثى- يأخذ الزلة الواحدة ويغفل عن الحسنات الكثيرة... ؛ عندما نريد أن نقوِّم الشخص يجب أن نذكر المحاسن والمساوئ؛ لأن هذا هو الميزان العدل ... ؛ فمن أراد أن يتكلم عن شخص على وجه التقويم فالواجب عليه أن يذكر محاسنه ومساوئه -هذا إذا اقتضت المصلحة ذلك-، وإلا فالكف عن مساوئ المسلمين هو الخير".
وترجم –رحمه الله- هذا التأصيل منه بالفعل فقال في لقاء الباب المفتوح (ش\6) في معرض تقويمه للأشاعرة : "الأشاعرة من أهل السنة والجماعة فيما وافقوا فيه أهل السنة والجماعة ، وهم مخالفون لـ أهل السنة والجماعة في باب الصفات؛ لأنهم لا يثبتون من صفات الله إلا سبع صفات، ومع هذا لا يثبتونها على الوجه الذي أثبتها عليه أهل السنة ، فلا ينبغي أن نقول هم من أهل السنة على الإطلاق، ولا أن ننفي عنهم كونهم من أهل السنة على الإطلاق، بل نقول: هم من أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة ، وهم مخالفون لـ أهل السنة فيما خالفوا فيه أهل السنة ، فالتفصيل هو الذي يكون به الحق، وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } [الأنعام:152]، فإخراجهم من أهل السنة مطلقاً ليس من العدل، وإدخالهم في أهل السنة بالإطلاق ليس من العدل أيضاً، والواجب أن يعطى كل ذي حقٍ حقه".

الحالة الرابعة : الإخبار عن أهل البدع بما قام فيهم من أحوال موجبة للمدح –عند قيام المقتضى لذلك-
, والقاعدة في هذا الباب ما قاله شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (1\547) : "أهل السنة يخبرون بالواقع ويأمرون بالواجب ؛ فيشهدون بما وقع ويأمرون بما أمر الله ورسوله".
ومن هذا الباب حديث محمد بن جبير في البخاري عن أبيه (رضي الله عنه) : [أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في أسارى بدر : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له] .
قلت : فهذا مدح واضح وثناء على المطعم بن عدي الذي مات مشركا , جراء مواقفه من الإيجابية من النبي (صلى الله عليه وسلم) كما قال العلامة العيني في عمدة القاري () : "كان قد أحسن السعي في نقض الصحيفة التي كتبها قريش في أن لا يبايعوا الهاشمية والمطلبية ولا يناكحوهم وحصروهم في الشعب ثلاث سنين فأراد النبي أن يكافيه .
وقيل لما مات أبو طالب وخديجة خرج رسول الله إلى الطائف فلم يلق عندهم خيرا ورجع إلى مكة في جوار المطعم" .
ومن –أيضا- حديث أم هانيء أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عدد فضائل قريش فقال [فضل الله قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أحد بعدهم : فضل الله قريشا أني منهم , وأن النبوة فيهم , وأن الحجابة فيهم , وأن السقاية فيهم , ونصرهم على الفيل , وعبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم , وأنزل الله فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم {لإيلاف قريش}] .
قلت : وبعض هذه الخصال كانت –حصرا- لقريش في حال كفرهم وشركهم بالله كنصرة الله لهم عام الفيل , ونزول سورة [لإيلاف قرش] فيهم حال شركهم .
فهذان النصان ذكر فيهما النبي (صلى الله عليه وسلم) بعض ممادح أهل الشرك لمصلحة اقتضت ذلك , وعلى هذا النهج سار أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام الذي قال في كلام جامع ماتع كما في مجموع الفتاوى (4\11-14) : "وكذلك المسائل الاعتقادية الخبرية ؛ لم ينبل أحد من الطوائف ورءوسهم عند الأمة إلا بما معه من الإثبات والسنة :
فالمعتزلة أولا -وهم فرسان الكلام- إنما يحمدون ويعظمون عند أتباعهم وعند من يغضي عن مساوئهم لأجل محاسنهم عند المسلمين بما وافقوا فيه مذهب أهل الإثبات والسنة والحديث , وردهم على الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة والحديث: من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة وقبول الأخبار وتحريف الكلم عن مواضعه والغلو في علي ونحو ذلك .
وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك .
وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير علي وعثمان وغيرهما وما كفروا به المسلمين من الذنوب .
ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في الإيمان , ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة .
وكذلك متكلمة أهل الإثبات مثل الكلابية والكرامية والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم .
وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة ؛ والرافضة والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة.
فحسناتهم نوعان:
إما موافقة أهل السنة والحديث .
وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم .
ولم يتبع أحد مذهب الأشعري ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كليهما , وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبه وينتصر له بذلك ؛ فالمصنف في مناقبه الدافع للطعن واللعن عنه - كالبيهقي ؛ والقشيري أبي القاسم ؛ وابن عساكر الدمشقي - إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث أو بما رده من أقوال مخالفيهم -لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمرائها إلا بهذين الوصفين- , ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كذلك كشيخه الأول "أبي علي "؛ وولده "أبي هاشم ", لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في الصفات ؛ والقدر والإمامة ؛ والفضائل والشفاعة والحوض والصراط والميزان , وله من الردود على المعتزلة والقدرية ؛ والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم: ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك ؛ ويعرف له حقه وقدره {قد جعل الله لكل شيء قدرا} وبما وافق فيه السنة والحديث صار له من القبول والأتباع ما صار .
لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله: هي من جنس المجاهد المنتصر .
فالراد على أهل البدع مجاهد حتى كان "يحيى بن يحيى "يقول: (الذب عن السنة أفضل من الجهاد) , والمجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون , وقد يكون فيه فجور , كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) [إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم] , ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره: نصره للسنة والدين ؛ فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يشكر على ذلك من هذا الوجه .
فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف ؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات , والحسنات: هي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره ، وهذا هو السنة ؛ فالخير كله - باتفاق الأمة - هو فيما جاء به الرسول (صلى الله عليه وسلم)".
وهذا هو عدل أهل السنة وإنصافهم وإخبارهم بالحق وحكمهم بمقتضاه , فقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه (10\261) عن يعقوب بن يوسف المطوعي قال: (كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضيا وكان يغشى أحمد بن حنبل فيقربه ويدنيه ؛ فقيل له: يا أبا عبد الله عبد الرحمن رافضي !!, فقال: سبحان الله ! رجل أحب قوما من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) نقول له لا تحبهم ! , هو ثقة) .
وها هو كذلك –رحمه الله- يثني على إبراهيم بن طهمان مع انه مرجئ جلد , فقال أبو زرعة كما في تذكرة الحفاظ (1\213) : (كنت عند احمد بن حنبل ؛ فذكر إبراهيم بن طهمان -وكان متكئا من علة- فجلس وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ) .
ووثق –رحمه الله- من كان يقول بالقدر ما لم يتكلم فيه , كما العلل ومعرفة الرجال (3\260) : "قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: سيف اختلفوا فيه ، ابن سليمان ، أو ابن أبي سليمان ، ثقة ، زكريا بن إسحاق ثقة ، شبل ثقة ، هؤلاء ما أقربهم ، سيف ، وزكريا ، وشبل ، وإبراهيم بن نافع ، ثقة ، أصحاب ابن أبي نجيح قدرية عامتهم ، ولكن ليسوا هم أصحاب كلام ، إلا أن يكون شبل ، لا أدري) .
ومن ذلك ثناء شيخ الإسلام على ما قام به بعض علماء أهل الكلام من جهود في الرد على الباطنية , كما هو بين في قوله –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (9\134) : "وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا كبارا وصغارا , وجاهدوهم باللسان واليد إذ كانوا بذلك أحق من اليهود والنصارى , ولو لم يكن إلا كتاب "كشف الأسرار وهتك الأستار "للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب , وكتاب عبد الجبار بن أحمد , وكتاب أبي حامد الغزالي , وكلام أبي إسحاق , وكلام ابن فورك , والقاضي أبي يعلى , والشهرستاني , وغير هذا مما يطول وصفه".
وقال –رحمه الله- في ابن جني المعتزلي كما في مجموع الفتاوى (20\486) : "فهذا الكلام لا يقوله من يتصور ما يقول , وابن جني له فضيلة وذكاء ؛ وغوص على المعاني الدقيقة في سر الصناعة والخصائص وإعراب القرآن وغير ذلك ؛ فهذا الكلام إن كان لم يقله فهو أشبه بفضيلته , وإذا قاله فالفاضل قد يقول ما لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس".
ويقول –رحمه الله- في توصيف أبي حامد الغزالي الأشعري المتصوف المتفلسف كما في مجموع الفتاوى (4\63) : "له من العلم بالفقه والتصوف والكلام والأصول وغير ذلك مع الزهد والعبادة وحسن القصد وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك".
وقال فيه –أيضا- كما في مجموع الفتاوى (4\72) : "أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة".
وقال في ابن حزم الظاهري فقها المعطل لصفات رب العالمين في مجموع الفتاوى (4\18-19) : "وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل، وإنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قول في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، فإنه يستحمد فيه بموافقة السنة والحديث؛ لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويعظم السلف، وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن الكريم وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولو في بعض ذلك.
لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات وإن كان "أبو محمد بن حزم "في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى . وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب . مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر . وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر ؛ ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال ؛ والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره . فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح . وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء".
وقال –رحمه الله- في موضع آخر واصفا هؤلاء المتكلمين بعلماء الإسلام مادحا بعض كتبهم ومصنفاتهم كما في مجموع الفتاوى (35\129) : "صنف العلماء في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم".
وقال في بيان حال أهل الكلام كما في مجموع الفتاوى (5\119) : "أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء , وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما , وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}".
ويقول في درء تعارض العقل والنقل (1\156) مبينا حال المنحرفين في باب الصفات إثباتا ونفيا: "وكل من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به على كثير من الناس".
وقال مبينا حال بعض الفلاسفة كما مجموع الفتاوى (9\37) : "والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة ؛ وفيهم زهد وأخلاق - فهذا القدر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا بالأصول المتقدمة: من الإيمان بالله وتوحيده وإخلاص عبادته ؛ والإيمان برسله واليوم الآخر ؛ والعمل الصالح . وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة . فالذي يؤتى فضائل علمية وإرادية بدون هذه الأصول يكون بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول".
بل وقال في اليهود والنصارى كما في الجواب الصحيح (3\102) : "والنصارى لهم عبادات وأخلاق بلا علم ومعرفة ولا ذكاء واليهود لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة , والمسلمون جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح بين الزكا والذكاء فإن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق".
يتبع









قديم 2014-02-05, 10:21   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

يتبع8
ومن هذا القبيل -أيضا- ثناء الشيخ ابن عثيمين على جماعة التبليغ –في المملكة العربية السعودية- لما لهم من تأثير دعوي كبير , كما جاء في معرض جوابه على السؤال التالي في لقاء الباب المفتوح (ش\10) : "السؤال: فضيلة الشيخ: جماعة الدعوة الذين يخرجون ثلاثة أيام، وهم جماعة التبليغ والدعوة، المهم -يا شيخ- أني بدأت الالتزام قريباً، ومضطرب في هذا الأمر، هناك بعض الشباب من الإخوان يقول: لا تتبع هذه الجماعة، وهناك بعض العلماء في المدينة نصحني بالخروج معها، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب: الغالب أن كل المسائل يكون الناس فيها طرفين ووسطاً:
فمن الناس من يثني على هؤلاء كثيراً، وينصح بالخروج معهم .
ومنهم من يذمهم ذماً كبيراً، ويحذر منهم كما يحذر من الأسد .
ومنهم متوسط، وأنا أرى أن الجماعة فيهم خير، وفيهم دعوة، ولهم تأثير لم ينله أحد من الدعاة، تأثيرهم واضح، كم من فاسق هداه الله! وكم من كافر آمن! ثم إنه من طبائعهم التواضع والخلق والإيثار، ولا يوجد في الكثيرين، ومن يقول: إنهم ليس عندهم علم حديث أو من علم السلف أو ما أشبه ذلك؟ هم أهل خير ولا شك".

الحالة الخامسة : الثناء على أهل البدع في معرض مقارنتهم بمن هم دونهم
.
كما في الثناء على اليهود والنصارى في مقابلة المشركين ونحوهم , كما قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (9\207) : "ومن المعلوم في دين الإسلام أن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل وأصح عقلا ودينا".
وقال –رحمه الله- في بيان تلبيس الجهمية (1\481) مبينا أن دين اليهود والنصارى خير من دين الفلاسفة: "وقد اتفق المسلمون على أن دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين وغيرهم".
وقال في منهاج السنة النبوية (1\364) : "الذي لا ريب فيه أن هؤلاء أصحاب التعاليم كأرسطو وأتباعه كانوا مشركين يعبدون المخلوقات ولا يعرفون النبوات ولا المعاد البدني وأن اليهود والنصارى خير منهم في الإلهيات والنبوات والمعاد".
بل وقال –رحمه الله- في الصفدية (2\240) : "أن النصارى واليهود خير من هؤلاء [الجهمية] من وجوه متعددة فيما يتعلق بالإعتقادات والعبادات".
وقال الشيخ الألباني –رحمه الله- في سلسلة الهدى والنور (ش\666) جوابا عن السؤال التالي: "السؤال: هل يجوز الثناء على أهل البدع وإن ادعوا خدمة الإسلام , وأنهم يسعون وراء ذلك , كالترابي ومن على شاكلته ؟.
الجواب: الجواب يختلف باختلاف المقام:
إذا كان المقصود بالثناء على مسلم -نظنه مبتدعا- الثناء عليه تجاه الكفار فهذا واجب .
أما إذا كان المقصود بالثناء عليه هو تزيين منهجه ودعوة الناس إليه ففيه تضليل لا يجوز".

الحالة السادسة : الدفاع عن المخالفين برد ما نسب إليهم أو وقع عليهم ظلما -من الأقوال والأفعال-
.
ذلك أنه كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (19\49) : "يجوز بل يستحب، وقد يجب أن يُذَبَّ عن المظلوم وأن يُنْصَرَ؛ فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان، وفي الصحيحين حديث البراء بن عازب قال : [أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسبعٍ، ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب، وعن شُرْب بالفضة، وعن المَيَاثِر، وعن القِسِيِّ، ولبس الحرير، والإستبرق، والديباج] .
وفي الصحيح عن أنس قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : [انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما ", قلت : يا رسول اللّه، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه] " .
وهذا الدفع داخل في باب عدل أهل السنة مع مخالفيهم , ولا يدخل في باب الدفاع عن باطل أهل البدع , فضلا عن أن يدخل في باب الثناء عليهم .
وقد ضرب شيخ الإسلام العالم الرباني أروع الأمثلة في دفع البغي والظلم ليس عن مبتدعة المسلمين فحسب , بل وحتى عن الكفار , كما قال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28\617-618) في رسالته إلى سرجون النصراني حاكم قبرص : "ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملتكم بالإحسان إليهم والذب عنهم . وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطلو شاه وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين . قال لي : لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون . فقلت له : بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة , وأطلقنا من النصارى من شاء الله . فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله".
ومن ذلك –أيضا- دفع شيخ الإسلام –رحمه الله- عن الأشاعرة ما نسب إليهم من مقالات الفلاسفة , كما في الفتاوى الكبرى (6\539) : "فكل مسلم بل كل عاقل إذا فهم قولهم حقيقة علم أن القوم جاحدون للصانع مكذبون بالرسل والشرائع مفسدون للعقل والدين وليس الغرض هذا الكلام فيهم فإن الأشعرية لا تقول بهذا وحاشاها من هذا، بل هم من أعظم الناس تكفيرا ومحاربة لمن هو أمثل من هؤلاء وإنما هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية".
بل وكذلك دفع شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشيعة الإمامية بعض ما ينسب إليهم مما لا يقولون به , كما جاء في منهاج السنة النبوية (1\57) : "ومما ينبغي أن يعرف أن ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة وإن كان أضعاف ما ذكر لكن قد لا يكون هذا كله في الإمامية الاثنى عشرية ولا في الزيدية ولكن يكون كثير منه في الغالية وفي كثير من عوامهم مثل ما يذكر عنهم من تحريم لحم الجمل وأن الطلاق يشترط فيه رضا المرأة ونحو ذلك مما يقوله بعض عوامهم وإن كان علماؤهم لا يقولون ذلك لكن لما كان أصل مذهبهم مستندا إلى جهل كانوا أكثر الطوائف كذبا وجهلا".
و منه –أيضا- دفعه عن ابن كلاب ما افترته عليه الجهمية كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5\555) : "وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبد اللّه بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين . ومن قال : إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك فهذا كذب عليه . وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم؛ فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى . وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد في الرد على الجهمية، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن،ويستعينون بمثل هذا الكلام الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه . ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهوخير وأقرب إلى السنة منهم" .
وبين –رحمه الله- أن كثيرا مما ينسب إلى بعض كبار المتصوفة من اعتقاد علم الباطن مدافعا عنهم بتكذيب كثير مما نسب إليهم كما في مجموع الفتاوى (13\257) بالقول : "وأما ما يروى عن أبي سعيد الخراز وأمثاله في هذا الباب، وما يذكره أبو طالب في كتابه وغيره، وكلام بعض المشايخ الذي يظن أنه يقول بباطن يخالف الظاهر، وما يوجد من ذلك في كلام أبي حامد الغزالي أو غيره فالجواب عن هذا كله أن يقال : ما علم من جهة الرسول فهو نقل مصدق عن قائل معصوم، وما عارض ذلك فإما أن يكون نقلاً عن غير مصدق، أو قولا لغير معصوم . فإن كثيرًا مما ينقل عن هؤلاء كذب عليهم، والصدق من ذلك فيه ما أصابوا فيه تارة وأخطؤوا فيه أخرى، وأكثر عباراتهم الثابتة ألفاظ مجملة متشابهة، لو كانت من ألفاظ المعصوم لم تعارض الحكم المعلوم، فكيف إذا كانت من قول غير المعصوم ؟
وقد جمع أبو الفضل الفلكي كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سماه [ النور من كلام طيفور ] فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد رحمة اللّه عليه وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم" .

شبهة ونقضها :
زعم (بعض الناس) أنه لا ينبغي أن تذكر لمبتدع حسنة ولا مدحا مطلقا اقتضت المصلحة ذلك أم لم تقتضه , متذرعا بالزعم أن : "أبواب الجرح والتعديل والتحذير من البدع وباب النصيحة وغيرها مما أجمع عليه السلف من جواز بل وجوب ذكر القدح والجرح بدون ذكر الحسنات كما في كتب الجرح الخالصة للجرح وكما في كتب الجرح والتعديل الشاملة للنوعين.
وكما في كتب السنة وكتب العقائد وهو منهج سديد عادل منصف ؛ دل عليه الكتاب والسنة , وقام عليه الإجماع , ممن حكى الإجماع عليه شيخ الإسلام نفسه والنووي" .
قلت : وهذا الزعم باطل من أوجه منها :
الأول : إن حكاية إجماع السلف على (وجوب ذكر القدح والجرح بدون ذكر الحسنات) حكاية مغلوطة لم يسبق إليها صاحب هذا الزعم , والإجماع من الأدلة النقلية المحكية ؛ فمدعيه مطالب بصحة النقل , وإلا ردت عليه حكايته ولم تقبل منه , وعلى أمثاله يتنزل قول الإمام أحمد (ومن زعم الإجماع فقد كذب) , ومما يؤكد بطلان حكاية هذا الإجماع وكذب مدعيها أنه قد تقدم معنا ذكر أقوال بعض المعتبرين من أهل العلم مما يدل -على أن تصريح بعضهم , وصنيع البعض الآخر- على مشروعية ذكر حسنات المنقود المجروح إذا اقتضت المصلحة او الحاجة .
الوجه الثاني : إن الإحالة في معرفة إجماع السلف –على ما تقدم- على صنيع أهل العلم في (كتب الجرح الخالصة للجرح وكتب الجرح والتعديل الشاملة للنوعين) , إحالة غير موفقة , وعلى غير مليء من ثلاثة أوجه :
الأول : إن مذهب السلف يعرف بالنقل عن السلف من القرون الثلاثة الخيرية ؛ فمذهبهم هو الذي يطلق عليه في مصطلح أهل العلم (بمذهب السلف) , ومعظم ما في هذه الكتب إنما هو منقول عمن جاء بعد هذه القرون الثلاثة ؛ فلا تنسب أقوالهم إلى مذهب السلف المذكورين في حديث [خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم] .
الثاني : إن هذه الكتب اشتملت على أقوال لأهل العلم في باب نقد المجروحين تدل على أن الأصل في صنيع أهل العلم في باب النقد عدم ذكر حسنات المنقود لا على حرمة ذكر الحسنات , بدليل أن بعض التراجم قد جمع لها الوصفان المدح والجرح , ومثال ذلك :
المنهال بن خليفة العجلي قال فيه البخاري كما في تهذيب التهذيب (10\282) : "صالح فيه نظر" .
وثور بن يزيد الكلاعي قال فيه الإمام أحمد كما في الجرح والتعديل (2\468) : " ثور بن يزيد الكلاعي ليس به بأس حدثنا عنه يحيى بن سعيد والوليد بن مسلم وكان يرى القدر" .
وقال فيه –أيضا- أحمد بن صالح كما في المعرفة والتاريخ (2\225) : "ثور بن يزيد ثقة إلا أنه كان يرى القدر" .
وهشام الدستوائي قال فيه ابن سعد كما في تذكرة الحفاظ (1\164) : "كان ثقة حجة إلا أنه يرى القدر" .
خالد بن مخلد القطواني قال فيه العجلي كما في هدي الساري (ص\398) : " ثقة فيه تشيع" .
إلى عشرات بل مئات الأمثلة الأخرى التي تنقض الزعم السابق , وحسبك أن تنظر في مقدمة فتح الباري : فصل (في سياق من طعن من رجال هذا الكتاب مرتبا لهم على حرف المعجم) , مضموما إليه (فصل في تميز الطعن في المذكورين) , لتقف على بطلان الإحالة السابقة.
الثالث : إن الناظر في صنيع أهل العلم في كتب الجرح والتعديل ليلحظ أنهم يوردون أقوال من مدح الرجل وهذا مما له , وأقوال من طعن فيه وهذا مما عليه , ثم يوازنون بينها ويرجحون , وحسبك ترجمة أبان بن تغلب وهي ثاني ترجمة في تهذيب التهذيب (1\81) وفيه يقول ابن حجر : "قال أحمد ويحيى وأبو حاتم والنسائي ثقة زاد أبو حاتم .
وقال الجوزجاني : زائغ مذموم المذهب مجاهر ... .
وقال بن عدي له نسخ عامتها مستقيمة إذا روى عنه ثقة وهو من أهل الصدق في الروايات وإن كان مذهبه مذهب الشيعة وهو في الرواية صالح لا بأس به .
قلت : هذا قول منصف ... .
ولما خرج الحاكم حديث أبان في مستدركه قال : كان قاص الشيعة وهو ثقة .
وقال العقيلي : سمعت أبا عبد الله يذكر عنه عقلا وأدبا وصحة حديث إلا أنه كان غاليا في التشيع ... .
وقال الأزدي : كان غاليا في التشيع وما أعلم به في الحديث بأسا".
فهذا صنيع الحافظ ابن حجر وتعامله مع ثاني تراجم كتابه , حيث ذكر ما لأبان بن تغلب من ثناء أهل العلم عليه , وما عليه من حط البعض , وكيف أنه نقل من أقوال بعض أهل العلم ممن جمع بين مدحه بصفة التوثيق والقبول , والحط عليه ببدعة التشيع .
واختلاف صنيع أهل العلم بعضهم مع البعض الآخر في الرواة , واختلاف صنيع العالم الواحد من راو إلى آخر ؛ في ذكر مدح بعض الرواة المنتقدين , أو نقد بعض الرواة الممدوحين إنما يدل على بطلان حكاية إجماعهم على (وجوب ذكر القدح والجرح بدون ذكر الحسنات) .

الوجه الثالث : إن نسبة حكاية الإجماع على (وجوب ذكر القدح والجرح بدون ذكر الحسنات) إلى الإمامين النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية , كذب محض عليهما ؛ فكلا الإمامان قد حكيا الإجماع على وجوب نقد المجروحين والتحذير من أهل البدع والأهواء , وهذا مما لا يخالف فيه أحد , لكن لم يحك أحدهما فضلا عن كليهما الإجماع على وجوب ذكر الجرح بدون ذكر الحسنات .
قال النووي في رياض الصالحين (ص\489) : "اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو بستة أسباب ... : الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه , منها : جرح المجروحين من الرواة والشهود ؛ وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة".
وقال شيخ الإسلام في مجموع الرسائل والمسائل (5\110) : "وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكاً والثوري والليث بن سعد أظنه والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ ؟ فقالوا بين أمره .
وقال بعضهم لأحمد بن حنبل إنه يثقل عليَّ أن أقول : فلان كذا وفلان كذا ؛ فقال : إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح .
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة والعبادات المخالفة للكتاب والسنة .
فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين".
فهذان النقلان عن هذين الإمامين ؛ أين تجد فيهما أنهما حكيا الإجماع على أنه (يجوب ذكر القدح والجرح بدون ذكر الحسنات) ؛ فغاية ما في النقلين السابقين أن كلا الإمامين يريان وجوب جرح المجروحين من الرواة والشهود , وأضاف إليهم شيخ الإسلام أئمة البدع من أهل المقالات أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة .
الوجه الرابع : إن الزعم أن (وجوب ذكر القدح والجرح بدون ذكر الحسنات) منهج سديد عادل منصف دل عليه الكتاب والسنة , زعم باطل متضمن للكذب على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) , وقد تقدم ذكر ثلاثة من الأدلة على ذكر حسنات بعض المنقودين (كالخمر , وأهل الكتاب , ورجل بني الديل) وهذا لوحده كفيل بنقض الدعوى المتقدمة وإبطالها .

أنموذج سلفي معاصر : مدح الشيخ ربيع المدخلي لبعض أهل البدع .


أثارت قضية مدح بعض المشايخ السلفيين لبعض من وقعوا في البدعة , أو لبعض من اتهموا بالبدعة حفيظة بعض الغلاة في تجريح المسلمين ؛ فعدوا هذا المدح مما يوجب قدح المادح , بل وبلغ الغلو ببعضهم إلى أن يلحق المادح بالممدوح , جاهلا أو متجاهلا إلى أن للمادح أعذارا توجب عدم الحكم عليه بأنه ممن يمدح المبتدعة المدح المذموم , ومن تلك الأعذار :
أولا : أن يكون المادح لا يتبنى أن الممدوح من أهل البدع والأهواء المخالفين للكتاب والسنة والإجماع .
ثانيا : أن يكون المادح ممن كان لا يتبنى المنع من مدح أهل البدع والأهواء منعا مطلقا .
ثالثا : أن يكون المادح قد وقف على تراجع الممدوح عن بدعه ومخالفاته .
رابعا : أن يكون المدح خرج قديما من المادح , وهو متراجع عنه حديثا .
خامسا : أن يكون المدح قد خرج لحالة أو لمصلحة أو حاجة معتبرة أرجح من مفسدة المدح –كما تقدم تقريره- .


وهذه الأعذار أو بعضها هي التي دفعت بعض العلماء السلفيين المعاصرين إلى مدح بعض المبتدعة أو بعض من رموا بالبدعة ؛ فلا يصح أن يلحقهم الذم بله أن يلحقوا بالمبتدعة لمجرد هذا المدح مع عدم اعتبار الأعذار المتقدمة .
ومن هؤلاء العلماء السلفيين الذين وقعوا في مدح بعض أهل البدع والأهواء الشيخ ربيع بن هادي المدخلي , حيث مدح في بعض المواضع والمواطن عددا من أهل البدع جماعات أو أفراد –ومدحه لا يخرج عند أهل التحقيق عن بعض الأعذار المتقدمة-وإن لم تكن كذلك -عنهل الغلو- , ومن هؤلاء الذين مدحهم الشيخ –حفظه الله- :
أولا : مدحه لبعض الفرق الإسلامية المعاصرة كما قال في "منهج الأنبياء " (ص\138-139) ط/ الفرقان سنة 1421هـ، "وأقول بحق: إنهم قدموا الشيء الكثير في مجال الأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وهم كُثُر، ويشكلون اتجاهات متعددة، ولو وحِّدت جهودهم، وانطلقوا من حيث انطلقت الرسل، وساروا في منهجهم جادين؛ لخلّصوا أمتهم مما وقعوا فيه، ولوصلوا بهم إلى ما يريدون، وأهمُّ هذه الاتجاهات الثلاثة:
الأول: يمثله جماعة أخذت بمنهج الرسل...... [وذكر وصف السلفيين].
الثاني: يمثله جماعة اهتمت ببعض الأعمال من الإسلام.... [وذكر وصف جماعة التبليغ].
الثالث: يمثله جماعة اهتمت بجوانب من الإسلام، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وقدمت الكثير، ويُعرف ما قدموه، بما هو في المكتبات والمنابر والجامعات، وهم يشكرون على هذا الجهد الذي قدموه، ومما يؤخذ على هذا الاتجاه؛ أنهم كتبوا في المجال السياسي الشيء الكثير، باسم السياسات الإسلامية، والدعوة إلى حاكمية الله، وإقامة الدولة الإسلامية، وأهابوا بالأمة الإسلامية -خصوصاً شبابها- لتكريس طاقاتها، وتجنيد إمكاناتها، لتحقيق هذه الغاية، بأساليب في غاية من القوة والجاذبية، التي تأسر القلوب، وتخلب الألباب، وكتبوا في الاقتصاد الإسلامي، وعن محاسن الإسلام، وفيه الشيء الكثير الطيب النافع الذي تحتاج إليه الأمة، خصوصاً في هذا الوقت، والذي يُحمدون عليه، قال: وفيه أيضاً ما يؤاخذون عليه: أنهم في الوقت نفسه الذي اهتموا فيه بهذه الجوانب؛ قصّروا في حق العقيدة تقصيراً واضحاً".
ثانيا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على القاضي عبد الجبار المعتزلي بل رأسهم , حيث قال في كتاب "أضواء إسلامية " (ص\192) قال: "وألف البيهقي أيضاً كتاب دلائل النبوة في سبع مجلدات، وألف في ذلك القاضي عبد الجبار -أحد رؤوس المعتزلة- كتاباً سماه: "تثبيت دلائل النبوة "أتى فيه بالعجب العجاب، في تقرير نبوة رسول الله حتى إن كثيراً منه، لا يُدْرَك أنه من دلائل النبوة؛ إلا بعد تقريره وبيانه".
ثالثا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على بعض الأشاعرة ووصفهم بالنبل في معرض مقارنتهم بمن هم دونهم فقال في كتاب جماعة واحدة لا جماعات وصراط واحد لا عشرات : "فبهذا المنطق المغالط يكون ابن تيمية والسلف سبابين شتامين لعلماء الأمة وعلى رأسهم جهم وبشر المريسي وعمرو بن عبيد ، وقد رد ابن تيمية على أنبل من هؤلاء مثل ابن كلاب والأشعري والباقلاني وابن القشيري , بل والبيهقي والغزالي" .
رابعا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على عبد القاهر بن طاهر البغدادي صاحب كتاب (الفرق بين الفِرق) وهو من رؤوس الأشاعرة في عصره صاحب كتاب "تأويل متشابه الأخبار "؛ قال عنه الشيخ ربيع في تعليقه على النكت (1\242) تعريفا به: "عالم متفنن من أئمة الأصول له مؤلفات منها:الفرق بين الفرق، نفي خلق القرآن ، ومعيار النظر. توفي سنة429 هـ".
خامسا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على ابن حزم إمام الظاهرية , الذي يقول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (7\263) : "ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات".
ومع ذلك فقد قال فيه الشيخ ربيع في تعليقه على النكت (1\261) : "هو عالم الأندلس في عصره كانت له ولأبيه من قبله رياسة الوزارة وتدبير المملكة فزهد فيها وانصرف إلى العلم والتأليف، بلغت مؤلفاته نحو 400 مجلد، منها: المحلى في الفقه، والفصل في الممل والنحل، مات سنة 456".
سادسا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على أبي بكر بن العربي وكان أشعريا شديد التحامل على الحنابلة بسبب عقيدتهم في إثبات الصفات وكان ينبزهم بالتجسيم والتشبيه , قال فيه الشيخ ربيع في تعليقه على النكت (1\300) : "وهو العلاّمة الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد الإشبيلي من حفّاظ الحديث، وبرع في الأدب والبلاغة وبلغ رتبة الاجتهاد. له مؤلفات منها شرح الترمذي وأحكام القرآن، مات سنة 543".
سابعا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على المازري المالكي شارح صحيح مسلم أشعري المعتقد قال فيه الشيخ ربيع في تعليقه على النكت (1\345) : "هو محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المارزي المالكي، ويُعرف بالإمام أبو عبد الله محدث فقيه أصولي متكلم أديب من مؤلفاته المعلم بفوائد مسلم توفي سنة 536".
ثامنا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على القاضي عياض الأشعري المعروف تأويله للصفات, ترجم له ربيع الشيخ في التعليق على النكت (1\370) بالقول: "هو عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته عياض بن موسى اليحصبي السبتي أبو الفضل، له مؤلفات منها: الشفاء، وشرح مسلم، ومشارق الأنوار، مات سنة 544".
تاسعا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على العز بن عبد السلام وأشعريته لا تخفى على أحد, والشيخ ربيع ترجم له بالقول في النكت (1\371) : "هو العلامة عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم المغربي الأصل الدمشقي الشافعي المعروف بابن عبد السلام عز الدين أبو محمد: فقيه مشارك في الأصول والعربية والتفسير من شيوخه الآمدي، ومن تلاميذه ابن دقيق العيد. مات سنة 660".
عاشرا : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على إمام الحرمين الجويني , ولا يختلف في أشعريته اثنان مطلعان , ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (1\372) بالقول: "هو العلامة الكبير عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي ركن الدين أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي كان يحضر دروسه أكابر العلماء، له مؤلفات منها (البرهان في أصول الفقه) و (الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية) وكان أعجوبة زمانه، مات سنة 478".
أحد عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على أبي نصير القشيري شيخ الصوفية , الأشعري المتعصب على الحنابلة لأجل معتقدهم , ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (1\373) بالقول: "هو عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الشافعي أبو نصر فقيه أصولي مفسر أديب ناثر ناظم من شيوخه إمام الحرمين مات سنة 514".
إثنا عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على الفخر الرازي الذي ألّف شيخ الإسلام في الرد عليه كتاب (بيان تلبيس الجهمية) , ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (1\377) بالقول: "محمد بن عمر بن الحسين التيمي البكر الشافعي المعروف بالفخر الرازي: مفسر متكلم فقيه أصولي حكيم أديب مات سنة 606".
ثلاثة عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على السهيلي تلميذ ابن العربي , وكان على طريقته ومعتقده في تأويل الصفات والتزام عقيدة الأشاعرة , ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (2\520) بالقول: "هو الحافظ العلامة البارع عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي الضرير له مؤلفات منها: الروض الآنف، كتاب الفرائض. كان إماماً في لسان العرب مات سنة 581".
أربعة عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على أبي الحسين الماوردي المعتزلي ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (2\610) بالقول: "فقيه أصولي مفسر أديب سياسي من تصانيفه الحاوي الكبير في فروع الفقه الشافعي في مجلدات كثيرة، وتفسير القرآن، والأحكام السلطانية. مات سنة 450".
خمسة عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على الحسين ابن علي ابن يزيد الكرابيسي البغدادي الفقيه , والذي وقف منه الإمام أحمد موقفه المعلوم المشهور , فيما رواه الخطيب البغدادي بإسناده إلى الفضل بن زياد، قال: "وسألت أبا عبد الله عن الكرابيسي وما أظهر، فكلح وجهه، ثم أطرق، ثم قال: هذا قد أظهر رأي جهم".
ومع ذلك فقد ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (2\650) بالقول: "فقيه أصولي محدث عارف بالرجال عداده في كبار أصحاب الشافعي. من تصانيفه: أسماء المدلسين، وكتاب الإمامة. مات سنة 245هـ".
ستة عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على الزمخشري رأس المعتزلة في عصره صاحب تفسير الكشاف ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (2\862-863) بالقول: "مفسر محدث متكلم نحوي بياني من مؤلفاته: الكشاف في التفسير، والفائق في غريب الحديث، مات سنة 538هـ".
سبعة عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين فيه أشعرية تظهر من خلال تأويله لبعض الصفات الإلهية في كتابه (غريب ما في الصحيحين) , ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (1\300-301) بالقول: "الحافظ الثبت الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي الأندلسي الميورقي الظاهري حدث عن ابن حوم فأكثر , وعن ابن عبد البر".
ثمانية عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على زكريا الأنصاري أشعري متصوف مدافع عن أهل الحلول ترجم له الشيخ ربيع في تعلقه على النكت (1\42) بالقول: "عالم مشارك في الفقه والأصول والفرائض والتفسير والقراءات والتجويد والحديث , أخذ عن الحافظ ابن حجر وغيره من أعيان عصره، ومن مصنفاته الكثيرة: شرح صحيح مسلم ، وشرح مختصر المزني في الفقه الشافعي، وشرح ألفية العراقي في علوم الحديث مات سنة 926".
تسعة عشر : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على أبي ذر الهروي الصوفي الأشعري المعروف , حيث وصفه الشيخ ربيع بـ(الحافظ) , كما في التنكيل بما في توضيح المليباري من الأباطيل , حيث قال فيه : " ممّن يرى أنّ كتاب مسلم صحيح، وأنّه ملتزمٌ بالصّحّة : الحافظُ أبو ذَرٍّ الهَرَوي تلميذ الدارقطني ".
عشرون : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على أبي إسحاق الجوزجاني الناصبي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر في هدي الساري (ص\406) : "والجوزجاني غال في النصب" , وقال في نفس المصدر (ص\446) : "وأما الجوزجاني فقد قلنا غير مرة إن جرحه لا يقبل في أهل الكوفة لشدة انحرافه ونصبه" , ومع ذلك فغن الشيخ ربيع وصفه كما في كتاب فساد المعيار بأنه (من أئمة الإسلام) , وأنه (إمام من أئمة الحديث في السنة , شديداً على أهل البدع , محباً لأهل الحديث , ناصحاً لهم , محذراً لهم من أهل البدع كاشفاً عن أساليبهم الماكرة، غيور على السنة).
واحد وعشرون : ثناء الشيخ ربيع المدخلي على سيد قطب الإخواني رأس القطبية ومنظرها , حيث قال الشيخ ربيع –كما في شريط جلسة في مسجد الرضا- : "إن سيد قطب كان ينشد الحق، ولهذا لو يسمع الإخوان نصيحته لانتهت الخلافات بينهم وبين السلفيين، هذا الرجل بإخلاصه وحبه للحق توصل إلى أن: لا بد أن يربى الشباب على العقيدة قبل كل شيء والأخلاق، العقيدة الصحيحة، وأظن قرأت في كتابة زينب الغزالي هذه، والله أعلم إذا كنتم قرأتم لها: أنه كان يرشدهم إلى كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب الحركة السلفية.
يقول: أنا قرأت أربعين سنة صرفتها في حقول المعرفة الإنسانية، وغبشت على تصوري، وأنا إن شاء الله إذا وجدت الحق واتضح لي آخذ به.
فالرجل بحسن نيته إن شاء الله توصل إلى أن المنهج السلفي هو المنهج الصحيح الذي يجب أن يأخذ به الشباب، وأن يتربوا عليه.
وعرض هذا المنهج على الموجودين في ذلك الوقت من الإخوان، ناس وافقوه وناس عارضوه، ثم غلب هذا الجانب المعارض على الجانب الموافق، واستمرت دعوة الإخوان على ما هي عليه".
وصلى الله وسلم على محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.









قديم 2014-02-05, 10:25   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

بين منهجين (9) : الحزبية : مفهومها وأقسامها وسماتها .


كثيرة هي التهم المتبادلة التي تطلق اليوم بين المتخاصمين في ميدان الدعوة السلفية –للأسف الشديد- , ومن هذه التهم : تهمة الحزبية التي لا يكاد يسلم منها سلفي إلا من سلمه الله من ألسنة من لا يتقي الله في إطلاقاته وأحكامه , هذه التهمة التي ما تركت أحدا مشرقيا ولا مغربيا , شاميا ولا نجديا , عراقيا ولا يمنيا إلا طالته , شيخا في العلم كان أو طالب علم , بل وحتى العوام لم يسلموا من غلوائها؛ بل لم يسلم منها حتى من عرف بسلامته من التحزب في أقواله ومواقفه , بل وعرف بمواقفه المتشددة من الحزبيات البدعية المحرمة ومحاربته لها –ومؤلفاتهم وأشرطتهم ومواقفهم شاهدة- :
فهذا الشيخ بكر أبو زيد –كما يقول (بعض الناس)- جاء كتابه (تصنيف الناس بين الظن واليقين) : (لإنعاش الحزبية المقيتة وانتشالها من وهدتها وإيقاظها من رقدتها) .
وهذا الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد : قيل فيه أنه : (حزبي) .
وهذا الشيخ عدنان عرعور قيل فيه أنه من (الحزبيين المبتدعين) .
وهذا الشيخ المغراوي قيل فيه : (حزبي) و(قام طلابه بما بعجز عنه غلاة الحزبيين) .
وهذا الشيخ أبو الحسن المأربي قيل فيه أنه (حزبي وقليل في حقه أن يوصف بالحزبية السرورية) .
وأما الشيخ أبو إسحاق الحويني فكذلك قيل فيه أنه (من الحزبيين) .
وكذلك قيل في الشيخ محمد حسان : (من الحزبيين) .
وكذلك الشيخ فتحي بن عبد الله سلطان الموصلي حكم عليه بأنه (حزبي) .
ولم يقف الأمر عند حدود الأفراد بل تعداه إلى الجماعات والجمعيات ؛ فبلغ الغلو ببعضهم الى اعتبار أن كافة الجمعيات الإسلامية القائمة هي (جمعيات حزبية) .
وأن كل من يدافع عن المشايخ (عرعور) و(المغراوي) و(المأربي) فهو : (حزبي بلا شك !!) .
وأن سلفية الأسكندرية –بعامة- الأصل فيهم أنهم : (حزبيون) .
بل ومن شر بلية فوضى التجريح أن من عرف بشدته البالغة على الحزبيين لم يسلم هو نفسه من أن تطاله هذه التهمة , فهذا (محمود الحداد) صاحب الحرب الضروس على الحزبيين صير له البعض حزبا قيل فيه (الحدّاد وحزبه : فاقوا أشد الأحزاب في الأكاذيب والشّائعات).
وهذا عبد اللطيف باشميل الذي لا يقل عن سابقه شدة في ذم الحزبية والتحزب يوصف بأنه (على صلة حزبية وثيقة بمحمود الحداد) .
وكذلك الشيخ عبد الرحمن العدني قيل فيه : (ظهرت حزبيته) .
بل هذا الشيخ عبيد الجابري قيل فيه أنه : (يدافع عن الحزبيين دفاعا مريرا) .
بل وهذا الشيخ فالح الحربي –نفسه- الذي كثيرا ما كان يرمي مخالفيه بأنه حزبيين لم يسلم –هو كذلك- من هذه التهمة فقيل فيه أنه (وحزبه) افتعلوا مسائل (لنصرة مناهج الحزبيين ولحرب أهل السنة) , وأن (فالحاً وحزبه أجهل وأكذب من الكوثري) .

بل حتى الشيخ (ربيع المدخلي) -صاحب المواقف المشهودة في حربه وتحذيره من كل من ثبت عنده أنه حزبي- لم يسلم هو نفسه من أن يرمى بالحزبية من قبل أناس بعضهم يقاربه في شدة محاربته للتحزب المذموم المحرم –إن لم يكن يفوقه شدة في ذلك- , ومع هذا فقد :
وصف الشيخ ربيع ومن يناصره بأنهم (الشيخ ربيع وحزبه) .
وقيل فيه وفيمن معه ويناصره بأنهم (حزب سري خطير) .
وقيل فيهم كذلك : لو (سئلت الحزبية أين أحباؤك وأخدانك لأشارت إليهم بأصابعها الخمس) .
بل قال –أحد كبار العلماء- في الشيخ ربيع المدخلي : أن بعض كتبه (تنشط الحزبية الجديدة) .
وتوجه البعض الآخر بالقول للشيخ ربيع : (إنني أتقرَّب إلى الله تعالى بكشف عوار حزبيتكم الماكرة ، التي تطعن في كثير من علماء السنة ، ومع ذلك تتظاهر بأنها على طريقة العلماء).
وقال غيرهم من المعادين للحزبيين بأن الشيخ ربيع قد وقع (في المنهج الحزبي لحبه للرئاسة) .
وقيل كذلك أن الشيخ (ربيع وحزبه هم الغلاة) .
ومما قيل في الشيخ ربيع أنه (أراد أن ينهى عن الحزبية، والفرقة، فأقام شر الحزبيات، والجماعات، وزرع أعظم ألوان الفرقة والشقاق.. بإخراج مجموعة من الذين يرون عقد الولاء والبراء على فروع معدودة في الدين، ومن الذين يخرجون من السنة عند أدنى خلاف في الرأي والاجتهاد) .

وفي وسط هذه الفوضى الهوجاء من إطلاق تهمة الحزبية بين أناس منتسبين للسلفية وكلهم يتبرأ منها بمقاله وحاله وشهادة غيره عليه ؛ يقف طالب الحق –عند ذلك كله- حائرا متسائلا:
لم هذه الفوضى في رمي المخالفين بالحزبية ؟
ولم تطلق هذه التهمة –في أوساط السلفيين- بعد خلاف المتَّهِمِ مع المتَّهَم , وتكون معدومة قبلها , بل ومبرأ أصحابها منها , بل وكان المتهِمون يشهدون للمتهَمين بحربهم للحزبيين في معاقلهم ؟.
ولم لم تكن هذه التهمة رائجة في أوساط السلفيين في حال حياة الأئمة الكبار الثلاثة؟ .
ولم لا يتبنى إطلاقها –بهذا التوسع- على المخالفين كبارُ العلماء المعاصرين ؟.
وما هو ضابط وصف المسلم بكونه حزبيا ؟.
وما هي أبرز سمات ومظاهر التحزب المذموم ؟.
وهل كل من وقع في سمة من تلك السمات يكون حزبيا بإطلاق ؟.
ثم ما هو المانع من ان يكون من يصف غيره بهذه الاطلاقات هو أيضا حزبي –على وفق أصوله وضوابط إطلاقاته- ؟.

هذا كله وغيره دفعني لتتبع أبرز سمات ومظاهر الحزبية في نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم ؛ فخرجت بنتائج عدة , من أبرزها :

أولا : إن المتأمل في كلام علماء اللغة والشرع في معنى الحزب يجد أن كلامهم يدور على معاني (التجمع , والتناصر , والتعصب) , فمعاني التحزب تدور على :
* الاجتماع على قضية معينة .
* التعاون والتظاهر والتناصر على هذه القضية المجتمع عليها .
* التعصب لهذا التجمع .
قال ابن قتيبة في غريب الحديث (1\366) : " وأراد بالتَّمايز أنَّ الناس يتميّز بعضُهم من بعض بها , ويتحزبون أحْزاباً بوقوع العَصبيَّة".
فالحزب : هو كل طائفة من الناس اجتمعت على قضية ما , وتناصرت وتعصبت عليها ؛
فإن كان تحزبهم على ما هو حق كانوا من حزب الله .
وإن كان تحزبهم على ما هو باطل كانوا من حزب الشيطان .
قال الآيجي في المواقف (3\430) : "أنه تعالى قسم المكلفين إلى حزب الله وحزب الشيطان : فلو أذنبوا لكانوا من حزب الشيطان , وذلك لأن المطيع من حزب الله اتفاقا" .
وعموم الخلق لا يخرجون عن الاندراج تحت أحد هذين القسمين (حزب الله , حزب الشيطان) , كما قال الرازي في تفسيره (2\ 30): "أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال : [أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون] , وقال في الصنف الآخر ، [أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون], ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان ، والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية ، فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان".

ثانيا: إن وصف الحزبية ليس مما يوجب مدحا أو ذما بذاته بل هو بحسب ما تضمنه من معاني موافقة أو مخالفة للشرع :
فقد يكون التحزب مباحا كالاجتماع والتعاون والتناصر لفعل ما هو مباح .
وقد يكون مشروعا إن اجتمع أصحابه على البر والتقوى .
وقد يكون مذموما إن تضمن مخالفة للشرع .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11\92) : "وأما لفظ (الزعيم) فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى : [وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] , فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال هو زعيم :
فإن كان قد تكفل بخير كان محمودا على ذلك .
وإن كان شرا كان مذموما على ذلك .
وأما (رأس الحزب) فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبا ؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم .
وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله .
فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان" .
فليس كل تحزب مذموم , فقد يتحزب الإنسان لحزب الله فيكون ممدوحا , قد يتحزب لغير حزب الله , أو لما ليس من مقالات ولا أحوال حزب الله فيكون مذموما .

ثالثا : ليس وصف الحزبية وصفا لازما مطلقا , بل هو من الأوصاف النسبية , فقد يكون الفرد المعين من حزب الله في بعض الجوانب ومن حزب الشيطان في جوانب أخرى , وهذا مبني على أصل أهل السنة والجماعة في أن المسلم قد يجتمع في حقه موجب المدح وموجب الذم , وموجب الطاعة وموجب المعصية , وبالتالي يجتمع في حق موجب إدخاله في وصف حزب الله , وموجب إدخاله في حزب الشيطان , فأيهما غلب ألحق به , كما قال ابن القيم –رحمه الله- في مدارج السالكين (1\281-282) : "فإنهم [أهل السنة] متفقون : على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين , ويكون محبوبا لله مبغوضا له من وجهين أيضا , بل يكون فيه إيمان ونفاق وإيمان وكفر ويكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الآخر فيكون من أهله ؛ كما قال تعالى [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإيمان] , وقال : [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ] أثبت لهم الإيمان به مع مقارنة الشرك".

رابعا : لا يُشرَع اجتماع طائفة وتحزُبُهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بَعضُهم بعضًا في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحدٍ اتباع كتابُ الله وسنة رسوله , كما قال شيخ الإسلام في جامع المسائل (1\191) : "ولا يُشرَع اجتماع طائفة وتحزُبُهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بَعضُهم بعضًا في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحدٍ اتباع كتابُ الله وسنة رسوله، والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضًا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، وقال تعالى: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ , وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وفي الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: [مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر].
وقال : [المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُذُ بَعْضُه بعضا] وشبك بين أصابعه. وقال : [والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يُحِب لأخيه من الخير ما يُحِبّه لنفسه]".
فمثلا : ليس كون المسلم منتسبا للدعوة السلفية أو لمشيختها مما يوجب مناصرته المناصرة المطلقة , والتحزب له ولما يقول التحزب المطلق بحيث ينصر بَعضُهم بعضًا في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحدٍ اتباع كتابُ الله وسنة رسوله، والمؤمنون –بغض النظر عن انتسابهم- إخوة يجب موالاة بعضهم بعضًا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى.

خامسا : لما كان الإنسان مدني بطبعه , اجتماعي بفطرته , مأمور –شرعا- بالاجتماع والتعاون والتناصر مع أبناء دينه , كان مما لا انفكاك عنه أن لا يسلم إنسان عن الوقوع في شيء من مظاهر الحزبية المذمومة –إلا من عصمه الله من الخطأ ؛ أو من كان لله خالصا قصده , وبالله مستعينا على سائر أمره , ومع الله في تنفيذ شرعه- ؛ فهؤلاء خير الناس من (بعض صحابة) النبي (صلى الله عليه وسلم) اجتهد فأخطأ بتحزب كل منهم إما إلى فئة علي (رضي الله عنه) أو إلى فئة عائشة (رضي الله عنها) , أو إلى فئة معاوية (رضي الله عنه) , بل وفي عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) تحزب بعضهم إلى وصف شرعي محبوب عند الله وكان هذا التحزب موجبا لإنكار النبي (صلى الله عليه وسلم) , كما في حديث جابر بن عبد الله قال : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري : يا للأنصار وقال المهاجري : يا للمهاجرين قال : فسمع النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك فقال : ما بال دعوى الجاهلية؟ فقالوا : يا رسول الله رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار فقال : دعوها فإنها منتنة].
قال الشيخ عبد العزيز آل الشيخ كما في مجلة البحوث الإسلامية (62\96-98) : "والذي يجب التنبيه عليه أنه لا ينبغي أن تكون هذه النسبة سببا لأمور غير شرعية كالعصبية الجاهلية التي ليس لها مستند شرعي ، فإن اسم المهاجرين والأنصار اسم شرعي وارد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ويقول سبحانه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأنصار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} , وغير ذلك من الأدلة ، ومع هذا فإن هذه النسبة لما خرجت إلى أمور غير مشروعة كانت غير مرضية ، فإنه لما تلاحى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحدهما: يا للمهاجرين ، وقال الاخر: يا للأنصار ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فقال: [أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم]..... الحديث . فنفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وسماها دعوى الجاهلية".

[بين الحزب الإلهي السني السلفي , والحزب الشيطاني البدعي الخلفي] .

تقدم معنا أن الناس لا يخرجون بعموم قسمتهم عن أن يكونوا من حزب الله أو من حزب الشيطان , وأن المدح والذم يتناولهم بحسب ما اجتمعوا عليه من موجب ذلك , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (11\92) : " وأما رأس الحزب فانه رأس الطائفة التي تتحزب اي تصير حزبا ؛ فان كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم , فان كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والأعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فان الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان , وفى الصحيحين عن النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) انه قال [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر]".
ولكل من هذين الحزبين سمات تميزه عن الآخر , ومن أبر هذه السمات :

[أبرز سمات حزب الله]

أولا : فحزب الله : هو كل جماعة اجتمعت على الحق وتعصبت لهلا ووالت وعادت عليه , ولهذا الحزب جملة كبيرة من السمات , من أبرزها :

أولا : أنه في المقالات يقول ويعتقد بما كان موافقا للكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة لا غير , ولهذا سمي أهله بأهل السنة والجماعة , كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3\157) : "طريقة أهل السنة والجماعة إتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا وإتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وإتباع وصية رسول الله حيث قال {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة}.
ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس ويقدمون هدى محمد على هدى كل احد وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة .
وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين , والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين .
وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين , والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة" .
وقال ابن القيم في شفاء العليل (ص\14) : " وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها , فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول فهو أصلهم الذي عليه يعولون وجنتهم التي إليها يرجعون".

ثانيا : أنه في الطاعات ؛ ليس له متبوع سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم , بخلاف أهل الأهواء والبدع والفرقة , كما قال شيخ الإسلام مجموع الفتاوى (3\346-347) : "أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى , فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر , وطاعته في كل ما أمر , وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة , بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ؛ فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة , ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة ؛ كما يوجد ذلك في الطوائف من إتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك كان من أهل البدع والضلال والتفرق , وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله , وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها ؛ وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها وإتباعا لها تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها ؛ الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه" .

ثالثا : أنه في الولاءات , يوالي أهل الإيمان بحسب ما معهم من الطاعات ويفاصل أهل البغي والعدوان بحسب ما معهم من منكرات , فلا ولاء مطلق إلا للشرع , ولا براء مطلق إلا من الكفر وأهله , كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3\419-420) : " في الصحاح عن النبي أنه قال [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر] , وفي الصحاح أيضا أنه قال [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين اصابعه] , وفي الصحاح أيضا انه قال [والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه] , وقال صلى الله عليه وسلم [المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه], وأمثال هذه النصوص في الكتاب والسنة كثيرة .
وقد جعل الله فيها عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض وجعلهم أخوة وجعلهم متناصرين متراحمين متعاطفين وأمرهم سبحانه بالائتلاف ونهاهم عن الافتراق والاختلاف فقال [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا] , وقال [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أمرهُمْ إلى اللهِ] الآية , فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد أن تفترق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى وقد برأ الله نبيه ممن كان هكذا , فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم .
وأما أهل السنة والجماعة فهم معتصمون بحبل الله وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه , وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله ويؤخر من أخره الله ورسوله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله وينهى عما نهى الله عنه ورسوله وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله وأن يكون المسلمون يدا واحدة".

رابعا : أنه في الجماعات , يرى وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم القائم , وأداء حقوقه إليه , كما قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (1\566) : "الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلى بالناس وهم يأتمون به ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما وهو لا يصلي بأحد لكن هذا ينبغي أن يكون إماما والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى إلا على الطغام , ويقولون إنه يعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان ويطاع في طاعة الله دون معصيته ولا يخرج عليه بالسيف وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما تدل على هذا كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال [من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية] , وفي لفظ [أنه من فارق الجماعة شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية] ؛ فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة وأمر بالصبر على ما يكره من الأمير لم يخص بذلك سلطانا معينا ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة".

خامسا : أنه في الإلزامات لا يلزم أحدا إلا بما ألزمه الله ورسوله , كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (5\18-19) : "ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يكرهون أحدا عليه , ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه قال له : (لا تفعل يا أمير المؤمنين فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم وإنما جمعت علم أهل بلدي) أو كما قال .
وقال مالك أيضا : (إنما أنا بشر أصيب وأخطيء فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة) .
قال أبو حنيفة : (هذا رأي فما جاءنا برأي أحسن منه قبلناه) .
وقال الشافعي : (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط) .
وقال : (إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها) .
وقال المزني في أول مختصره : (هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء) .
وقال الإمام أحمد : (ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم) , قال : (لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا) .
فإذا كان هذا قولهم في الأصول العلمية وفروع الدين لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين".

سادسا : أنه في العصبات , لا يتعصب إلا للحق وأهل الحق _فيما وافقوا فيه الحق_ , كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (2\109) : "وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه .
وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظن وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله مستحقون للذم والعقاب وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب والسنة إلا ما شاء الله بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقا وقد تكون كذبا وإن كانت صدقا فليس صاحبها معصوما يتمسكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الاثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الناقلين لذلك مصدقون باتفاق أئمة الدين والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى قد أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعته وإتباعه قال تعالى : [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] , وقال تعالى : [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمرهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] .
والله تعالى يوفقنا وسائر أخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل والهدى والنية".

سابعا : أنه في الانتساب لا ينتسب لغير السنة وما يتبعها من أوصاف وألقاب , كما قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (4\ 1549) : "الفرقة الناجية حزب الرسول وأنصاره وبنك الإسلام وعصابة الإيمان الذين لم يتحيزوا إلى فئة غير رسول الله ولم يذهبوا إلى مقالة غير ما دلت عليه سنته ولم ينتسبوا إلى غيره بوجه من الوجوه".

ثامنا : إنه في الاجتماعات والمناصرات , لا يناصر على غير موافقة الشرع ولا يجتمع –الاجتماع المطلق- مع من خالف الشرع , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة في المحبة (ص\132-133) : "فإذا كان جميع ما عليه بنو آدم لابد فيه من تعاون وتناصر , وفيه ما هو شرك بالله , وفيه ما هو قول على الله بغير علم , وفيه ما هو إثم وبغى , وفيه ما هو من الفواحش , علم أنه لابد في الإيمان من التعاون والتناصر علي فعل ما يحبه الله تعالى ودفع ما يبغضه الله تعالى وهذا هو الجهاد في سبيله وأن أمر الإيمان لا يتم بدون ذلك كما لا يتم غير الإيمان إلا بما هو من نوع ذلك .
فكل المتعاونين المتناصرين يجاهدون ولكن في سبيل الله تارة وفي سبيل غير الله تارة ولا صلاح لبنى آدم إلا بأن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا , قال تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ], وهؤلاء الذين تولوا الله فتولاهم الله.
والذين يدينون لغير الله هم ظالمون بتولى بعضهم بعضا كما قال تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمر فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أهواء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ , إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ] .
ولا يتم لمؤمن ذلك إلا بأن يجمع بين ما جمع الله بينه ويفرق بين ما فرق الله بينه وهذه حقيقة الموالاة والمعاداة التي مبناها علي المحبة والبغضة , فالموالاة تقتضى التحاب والجمع والمعاداة تقتضى التباغض والتفرق والله سبحانه قد ذكر الموالاة والجمع بين المؤمنين فقولة تعالي [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] .
وذكر العداوة بينهم وبين الكفار فقال [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليهود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] , ثم ذكر حال المستنصرين بهم فإن الموالاة موجبها التعاون والتناصر .
فلا يفرق بين المؤمنين لأجل ما يتميز به بعضهم عن بعض مثل الأنساب والبلدان والتحالف علي المذاهب والطرائق والمسالك والصداقات وغير ذلك بل يعطى كل من ذلك حقه كما أمر الله ورسوله ولا يجمع بينهم وبين الكفار الذين قطع الله الموالاة بينهم وبينه فإن دين الله هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".


ثانيا : الأحزاب الشيطانية البدعية .
وأما الأحزاب الشيطانية البدعية ؛ فهي كل جماعة اجتمعت على ما كان مخالفا للشرع , وتعصبت له , وألزمت الناس به , ووالت وعادت عليه , فلها من الذم والقدح بحسب بعدها عن موافقة الحق والتعصب له , ومن أبرز سمات هذه الأحزاب :


أولا : إلزام الخلق بما ليس بلازم لهم في الشرع , كما قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (5\18) : "ولهذا كان من شعار أهل البدع أحداث قول أو فعل , وإلزام الناس به , وإكراههم عليه , والموالاة عليه والمعاداة على تركه , كما ابتدعت الخوارج رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه وابتدعت الرافضة رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه" .
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز(8\237) , جوابا على السؤال التالي : جوابا عن السؤال التالي : "س: يتساءل كثير من شباب الإسلام عن حكم الانتماء للجماعات الإسلامية , والالتزام بمنهج جماعة معينة دون سواها؟.
فأجاب –رحمه الله- : "الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالحق , قال الله عز وجل , وقال رسوله صلى الله عليه وسلم , وألا يلتزم بمنهج أي جماعة لا أخوان مسلمين ولا أنصار سنة ولا غيرهم , ولكن يلتزم بالحق , وإذا انتسب إلى أنصار السنة وساعدهم في الحق , أو إلى الإخوان المسلمين ووافقهم على الحق من دون غلو ولا تفريط فلا بأس , أما أن يلزم قولهم ولا يحيد عنه فهذا لا يجوز , وعليه أن يدور مع الحق حيث دار , إن كان الحق مع الإخوان المسلمين أخذ به , وإن كان مع أنصار السنة أخذ به , وإن كان مع غيرهم أخذ به , يدور مع الحق , يعين الجماعات الأخرى في الحق , ولكن لا يلتزم بمذهب معين لا يحيد عنه ولو كان باطلا , ولو كان غلطا , فهذا منكر , وهذا لا يجوز , ولكن مع الجماعة في كل حق , وليس معهم فيما أخطئوا فيه".

ثانيا : الغلو في تقريب الموافق وإبعاد المخالف , كما قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية ( 5\133) : "والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق فوالوا بعضهم وغلوا فيه , وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته , وقد يسلك كثير من الناس ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم فيحصل بينهم رفض في غير الصحابة تجد أحد الحزبين يتولى فلانا ومحبيه ويبغض فلانا ومحبيه وقد يسب ذلك بغير حق , وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله فقال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] ".

ثالثا : عقد التحالف والموالاة على الجماعة لا على الحق والإيمان , كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (35\93-95) : "وكذلك تنازع الناس هل يشرع في الإسلام ان يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار فقيل ان ذلك منسوخ لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر ان النبي قال [لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة], ولأن الله قد جعل المؤمنين أخوة بنص القرآن وقال النبي [المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه], [والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه], فمن كان قائما بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن , ووجب على كل مؤمن ان يقوم بحقوقه , وان لم يجر بينهما عقد خاص فان الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ أخوةٌ] ,وقال النبي صلى الله عليه وسلم [وددت أني قد رأيت أخواني].
ومن لم يكن خارجا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك فيحمد على حسناته ويوالى عليها , وينهى عن سيئاته ويجانب عليها بحسب الإمكان وقد قال النبي [انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله انصره مظلوما فكيف انصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه].
والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته تابعا لأمر الله ورسوله فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما ابغضه الله ورسوله ويوالى من يوالى الله ورسوله ويعادى من يعادى الله ورسوله , ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك كفساق أهل الملة اذ هم مستحقون للثواب والعقاب والموالاة والمعاداة والحب والبغض بحسب ما فيهم من البر والفجور ؛ فان من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره , وهذا مذهب أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة وبخلاف المرجئة والجهمية ؛ فان أولئك يميلون إلى جانب وهؤلاء إلى جانب وأهل السنة والجماعة وسط".

رابعا : التسمية بما لم يسم الله تعالى به عباده المؤمنين , كما قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية ( 1\109) : "فالأسماء التي تعلق بها الشريعة المدح والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والطاعة والمعصية والبر والفجور والعدالة والفسق والإيمان والكفر هي الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة ؛ فأما سوى ذلك من الأسماء فإنما تذكر للتعريف كأسماء الشعوب والقبائل فلا يجوز تعليق الأحكام الشرعية بها بل ذلك كله من فعل أهل الأهواء والتفرق والاختلاف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا , كحال من يعلق الموالاة والمعاداة بأسماء القبائل أو البلدان أو المذاهب المتبوعة في الإسلام كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والمشايخ ونحوهم".

خامسا : أخذ البيعة والعهد على شروط يلتزمونها لم يوجب الشرع إعطاء العهد عليها , فهذا من الأمور البدعية الحادثة كما صرح بذلك فقيه السلف مطرف بن عبد الله بن الشخير , فيما حكاه قتادة عنه , قال : حدّثنا مُطَرِّف قال: (كنا نأتي زيد بن صُوَحان فكان يقول: يا عباد الله أكرموا وأجملوا؛ فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع، فأتيته ذاتَ يوم وقد كتبوا كتابا فنسقوا كلاماً من هذا النحو: إنَّ الله ربنا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا، ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا، قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا فيقولون: أقررت يا فلان؟ حتى انتهوا إليّ فقالوا: أقررت يا غلام؟ قلتُ: لا، قال - يعني زيدا -: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول: يا غلام؟ , قلتُ: إنَّ الله قد أخذ علي عهداً في كتابه فلن أحدث عهدا سوى العهد الذي أخذه علي فرجع القوم من عند آخرهم ما أقر منهم أحدٌ، وكانوا زهاء ثلاثين نفساً).
وقد فصل في مسألة العهود والمواثيق على الولاء والأخوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11\100-102) فقال : "وأما عقد الأخوة بين الناس في زمامنا فان كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله انما المؤمنون أخوة وقول النبي صلى الله عليه وسلم [المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه] , وقوله [لا يبع أحدكم على بيع أخيه , ولا يستام على سوم أخيه , ولا يخطب على خطبة أخيه] , وقوله [والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه], ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن ؛ فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما اوجب الله ورسوله وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن وان لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة.
وان كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار فهذه فيها للعلماء قولان بناء على أن ذلك منسوخ أم لا فمن قال أنه منسوخ كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه قال إن ذلك غير مشروع ومن قال انه لم ينسخ كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى قال انه مشروع .
وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول : على المشاركة في الحسنات وأينا خلّصَ يوم القيامة خلّصَ صاحبه ونحو ذلك فهذه كلها شروط باطلة فان الأمر يومئذ لله هو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا وكما قال تعالى [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ] .
وكذلك يشترطون شروطا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها وما أعلم أحدا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال لا حقيقة له في المآل واسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله فضلا عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك".
ومن ذلك ما تقوم به كثير من الجماعات السياسية أو الدينية من أخذ العهد والبيعة على أنصارها بوجوب لزوم ما تأمر الشريعة بإلزامه أو التزامه , وهذا أمر حادث متعين رفضه ورده , كما أشار إلى ذلك العلامة الآلوسي في تفسيره (21\18) بقوله : "وذكر بعضهم أن قوله تعالى : [وَيُزَكّيهِمْ] بعد قوله سبحانه : [يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته] إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية ، وقال بحصولها للأولياء المرشدين : فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم ، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية ، وقالوا : بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه ، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلاً يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم ، ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم ، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلاً لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر ، ولولا خوف الأطناب لذكرتها مع ما فيها" .
وقال ابن عابدين كما في تنقيح الفتاوى الحامدية (2\34) –جوابا عن السؤال التالي- : "رجل من الصوفية أخذ العهد على رجل ثم اختار الرجل شيخا آخر وأخذ عليه العهد فهل العهد الأول لازم أم الثاني ؟
الجواب : لا يلزمه العهد الأول ولا الثاني , ولا أصل لذلك" .

سادسا : التحالف والتعاقد على ما لم تأتي الشريعة بإقرار الحلف فيه, قال شيخ الإسلام في قاعدة في المحبة (123-124) : "وكل قوم لا تجمعهم طاعة مطاع في جميع أمورهم فلا بد لهم من التعاقد والتحالف فيما لم يأمرهم به المطاع , ولهذا كانت الشريعة المنزلة من عند الله الأفعال فيها التي تجب لله وتجب لبعض الناس علي بعض تارة تجب بإيجاب الله وتارة تجب بالعقد كالنذر وكعقود المفاوضات والمشاركات فلا واجب في الشريعة إلا بشرع أو عقد .
وإذا لم يكونوا علي شريعة منزلة من عند الله فإما أن يكونوا علي شريعة غير منزلة أو سياسة وضعها بعض المعظمين فيهم بنوع قدرة وعلم ونحو ذلك وما بقدرة من هذه الأمور الجامعة أوجب التحالف بينهم فإنه لا ينتظم لهم أمر إلا بطاعة أمر متحالفون عليه أو يأمرهم به من يطيعونه .
ولهذا أنكر التحالف في الأمم الخارجة عن الشريعة وفي الخارجين عنها وفي الأمور التي لا ترد إلى الشريعة وإنما يظهر ذلك حيث تدرس آثار النبوة المطاعة فيتحالف قوم علي طاعة ملك أو شيخ أو طاعة بعضهم لبعض في أمور يتفقون عليها ويتحالفون كما كان العرب في جاهليتهم يتحالفون ومنه الحليف الذي يكون في القبيلة فيصير منهم .... , وكذلك ما يوجد من التحالف بالتآخي وغير التآخي للملوك والمشايخ وأهل الفتوة ورماة البندق وسائر المتفقين علي بعض الأمور هو داخل في هذا".
يتبع









قديم 2014-02-05, 10:26   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
أبومحمد17
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

يتبع 9


سابعا : التعصب للطائفة أو الجماعة أو المقالة المخالفة للحق والشرع , فعن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال [من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية , ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته جاهلية , ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يفي لذي عهدة عهده فليس مني و لست منه] .
قال ابن الأثير في النهاية في غريب الأثر (3\482) : " العَصبِيُّ : هو الَّذِي يغْضَب لعَصَبته ويُحَامي عنهم . والعَصَبة : الأقَارِب من جهة الأَبِ لأنَّهم يُعَصِّبُونه ويَعْتَصبُ بهم : أي يُحِيطُون به ويَشتدّ بهم .
ومنه الحديث [ليس منَّا من دَعَا إلى عَصَبِيَّة أو قاتَل عَصَبِيَّة] العصَبيَّة والتَّعصُّب : المُحامَاةُ والمُدَافَعَة . وقد تكرر في الحديث ذكر العَصبة وَالعَصَبِيَّة".
وقال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (ص\71-72) : "فهذان الاسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى .
ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته".
وقال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى ( 28\422) : "ومعنى قوله [من تعزى بعزاء الجاهلية] يعنى يعتزي بعزواتهم وهي الانتساب إليهم في الدعوة مثل قوله : يا لقيس يا ليمن ويا لهلال ويا لأسد ؛ فمن تعصب لأهل بلدته أو مذهبه أو طريقتة أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله تعالى معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله".

ثامنا : الانتساب إلى غير الأسماء الشرعية التي يحبها الله ورسوله , كما قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (ص\72-73) : "فإذا كان هذا التداعي في الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقا والتداعي للنسب والإضافات التي ما هي إما مباحة أو مكروهة , وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره .
ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس , قال : [شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فضربت رجلا من المشركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري] .
حضه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الانتساب إلى الأنصار وإن كان بالولاء وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة وهي نسبة حق ليست محرمة .
ويشبه والله أعلم أن يكون من حكمة ذلك أن النفس تحامي عن الجهة التي تنتسب إليها كان ذلك لله كان خيرا للمرء , فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقا وهو المطلوب في هذا الكتاب .
ومثل هذا ما روى سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن] رواه أبو داود وغيره وهو صحيح .
فأضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية".



[أبرز سمات ومظاهر الحزبية المعاصرة]


يمكننا التعرف على أبرز سمات ومظاهر الحزبية من خلال أقوال أحد أبرز من عرف بحربه للحزبية والحزبيين , ألا وهو الشيخ (ربيع المدخلي) والذي وصفه الشيخ مقبل –رحمه الله- بأنه :
"مِنْ أبصر الناس بالجماعات وبدخن الجماعات في هذا العصر".
وأن "مَن قال له ربيع بن هادي إنه حزبي فسينكشف لكم بعد أيام إنه حزبي" .
وأنه "إن شاء الله بصير بالحزبيين، ويخرج الحزبية بالمناقيش" .
وأنه "آية من آيات الله في معرفة الحزبيين".
فاجتهدت في جمع كلامه من كتبه ومقالاته وغيرها , للخروج بأبرز سمات ومظاهر الحزبية المعاصرة , حتى يكون الجميع على حذر منها , وبالتالي معرفة متى يكون زيد أو عمرو واقعون في بعض هذه السمات , فأقول وبالله التوفيق :

أولا - من سمات الحزبيين : التحزب بالباطل على شخص ولو كان مدعيا للسلفية.
قال الشيخ ربيع في فتاوى في العقيدة والمنهج (الحلقة الثانية) : "قد يكون حزبي خرافي ,يتحزب لجماعة ضالة ؛طائفة صوفية ,تيجانية ,مرغانية ,سهروردية ,تبليغية ,ليس هناك تلازم ,وقد يكون هناك حزبي خارجي ؛قد يكون يحمل فكر الخوارج ,هذا الحزبي يحمل فكر الخوارج فهو خارجي ,من كان يحمل فكر المرجئة فهو مرجيء ,إن كان يحمل فكر الجهمية فهو جهمي لأن الحزبية ليس شرطا أن تكون منظمة {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم} ولما جاء الأحزاب يوم الأحزاب وغزوة الأحزاب ؛فِرَق جاؤوا من هنا ومن هنا وهم ليسوا بجماعة ؛قبائل ,سموهم أحزاب وليسوا منظمين .
الآن يشترطون في التحزب أن يكون هناك تنظيم ,هذا كذب ؛التحزب الباطل ,إذا تحزب بباطل أو على شخص على باطل فهو حزبي ... ؛ فعلى المسلم أن ينتبه إلى نفسه ,وقد يخطئ واحد يدعي السلفية فيتحزبون له ؛هؤلاء من حزب الشيطان خرجوا من حزبيتهم لله عز وجل ,قد يدعي السلفية وهو ضال فيتحزب له أهل الباطل ممن قد يتسمّون بالسلفية مع الأسف ! هذا من أحزاب الشياطين" .
قلت : وهذا كلام واضح صريح من الشيخ ربيع –حفظه الله- في أن التحزب لا يشترط فيه أن يكون منظما , بل مجرد التحزب للباطل أو لأهله يكون موجبا لإدخال العبد في وصف الحزبية المذمومة , وعلى قدر تحزب المسلم للباطل يكون انغماسه في الحزبية المذمومة , ولا عبرة برفع المتحزب لشعار السلفية أو لادعائه الدفاع عنها .

ثانيا - ومن سمات الحزبيين : مخالفة العلماء بغير دليل في القضايا الخطيرة .
قال الشيخ ربيع في مقال (جناية أبي الحسن على الأصول السلفية) : "يسير على طريقة الحزبيين في إعلان مخالفة العلماء بغير دليل فيكابر ويعاند بجهله وهواه كبار أئمة الإسلام في إحدى القضايا الخطيرة" .
قلت : ومن أمثلة ذلك معاندة البعض في مسألة أن أحكام النقد اجتهادية , فوجدنا من يعاند في هذه البدهية ويرفض أن تعامل أحكام من يُعَظِّم معاملة مسائل الاجتهاد .
وكذلك الحال في مسألة التثبت من خبر المستفتي في معين ؛ حيث وجدنا من يكابر فيها ويزعم أنه لو جاء الخبر الطاعن في (فلان) (وأمثاله فيقبل فيه الكلام بدون سؤال) .
وكذلك الحال في مسألة اعتبار مفصل الحال ومفصل القول ومقيده ومخصصه قبل نسبة المتكلم إلى مذهب باطل , حيث وجدنا يكابر ويعاند في هذه البدهية بل ويتقول على أهل العلم ويطعن فيمن يقول بهذا الحمل .

ثالثا - ومن سمات الحزبيين : حسن الظن بشيوخهم ورؤسائهم وعقائدهم الفاسدة .
قال الشيخ ربيع في مقال : " نقمة أبي الحسن على أبي سعيد الخدري وأصحاب رسول الله في موقفهم من ابن صياد الدجال والعطف الشديد على هذا الدجال" : "وأهل البدع مثل الروافض والخوارج والصوفية والمرجئة والقدرية وأمثالهم وأهل التحزب الباطل إنما أهلكهم حسن الظن بشيوخهم ورؤسائهم وعقائدهم الفاسدة" .
قلت : ومن أمثلة ذلك حسن ظن كثير من الأتباع بشيوخهم ورؤسائهم والتي دفعتهم إلى عدم السماع لقول من خالفهم , وتصريح بعضهم بوجوب قول شيخهم في بعض المسائل , وزعم آخرين أن من خالف قول شيخهم في مسائل المنهج أنه خالف أصلا سلفيا , , ورفض البعض قبول الحق المتأتى من غير جهة شيوخهم , واعتبار أن من علامة انحراف الرجل عن الجادة السوية مخالفته لقول شيوخه ورؤسائه , فحصروا بجهلهم وظلمهم الحق في شيوخهم , وتعاملوا مع مخالفي الشيوخ كما يتعاملون مع من خالف الله والرسول (!!) .

رابعا - ومن سمات الحزبيين : رفض الحق والمجادلة فيه , ومعاندة أهله .
قال الشيخ ربيع في كتاب (منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف) : "وقد يوجد معنى التكذيب في المبتدعين والحزبيين في رفضهم للحق في كثير من الأمور التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيجادلون فيها، ويعاندون أهل الحق" .
قلت : ومن أمثلة ذلك ؛ مجادلة البعض بما هو من بدهيات العلم كمجادلة البعض في أن أحكام نقد الرجال اجتهادية , وأن مجمل كلام غير المعصوم ومطلقه وعامه يحمل على مفصله ومقيده ومخصصه , وأنه لا بد من التثبت في خبر المستفتي في معين من المسلمين ؛ إلى غير ذلك من المسائل التي ما كنا نظن يوما أن نسمع بمن يخالف فيها ؛ نجد اليوم من يماري فيها ويجادل , بل ويعاند ويضلل من خالفه فيها .

خامسا - ومن سمات الحزبيين : غلق عقول الأتباع ومنعها من سماع القول المخالف.
قال الشيخ ربيع في كتاب (العواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم) : "استخدموا عقولكم بجد وعزم وإخلاص وصدق ، وحاكموا ما يقدمه الناصحون لكم شفقة عليكم ورحمة بكم إلى كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح ، وكل ذلك والحمد لله متوفر بين أيديكم ، فما وجدتموه موافقا لكل ما ذكرت فاقبلوه ، لا لأجل فلان وفلان ، بل لأنه الحق وما وجدتموه من خطأ فاضربوا به عرض الحائط كائنا من كان قائله .
وأخرجوا أنفسكم وعقولكم من الزنزانات والجدران المظلمة التي وضعكم فيها من لا يرقب فيكم إلا ولا ذمة من سماسرة السياسة والحزبية الذين لا يهمهم إلا تحقيق مطامعهم وأهدافهم السياسية" .
قلت : ومن أمثلة هذا التحجير على عقول الأتباع منعها من القراءة والنظر في الكتب المخالفة لطروحات شيوخها وكبرائها , كالفتوى بحرمة القراءة في كتب المأربي والمغراوي , وأخيرا شيخنا الحلبي جميع كتبه (القديمة والجديدة) ؛ وما ذاك إلا حرصا على الأتباع من أن يقفوا على حقيقة أخطاء شيوخهم , ورحم الله من قال من السلف : (إذا أردت أن تعرف أخطاء شيخك فجالس غيره) .
أما من يظن أن كل ما يقوله شيخه هو حق وصواب ؛ فليس عليه أن يهتم بمجالسة غير شيخه والاستفادة من علمه (!!) .

سادسا - ومن سمات الحزبيين : تقديس الأشخاص وآرائهم وأقوالهم .
نقل الشيخ ربيع عن الشيخ صالح السحيمي في مقدمة النصر العزيز على الرد الوجيز قوله : "المنهج الحزبي الضيق المبني على الموالاة والمعاداة في سبيل تقديس الأشخاص وآرائهم وأقوالهم ولو على حساب تضييع أصول الدين وفروعه ، فالقول عندهم ما قاله شيخ الطريقة أو أمير الجماعة مهما كانت مخالفته للحق والهدى ، والإسلام يمقت جميع الروابط التي تقوم على أخلاق حزبية أو طائفية مهما ادعى أصحاب تلك الأخلاق من حسن النية وسمو المقصد" .
قلت : ومن أمثلة ذلك التصريح بأن أحكام بعض المشايخ النقدية غير مبنية على الاجتهاد , وتصريح آخر أن التعريض بالعالم الفلاني هو بمثابة الطعن في كل العلماء .
وقول ثالث : أن من خالف أحكام الشيخ في المسائل المنهجية فقد خالف أصلا سلفيا .
وقول رابع : أنه يجب الأخذ بأقوال الشيخ في الجماعات والرجال لأنه من أبصر الناس بهم .

سابعا - ومن سمات الحزبيين : التقليد الأعمى والتبعية الحزبية على مخالفة منهج السلف.
نقل الشيخ ربيع عن الشيخ الشيخ زيد بن هادي المدخلي في مقدمة كتاب (النصر العزيز على الرد الوجيز) قوله : "التقليد الأعمى والتبعية الحزبية لمن ذاع صيتهم واشتهر نشاطهم في دعوة الخلق إلى تحكيم الشريعة الإسلامية -كما قالوا- بيد أنهم لم يوفقوا للسير في منهج الدعوة الصحيح الذي مشى عليه علماء السلف وأتباعهم قديماً وحديثاً" .
قلت : ومن ذلك تقلب الكثير من الشباب في أحكامهم النقدية تبعا لتقلب شيخهم الذي يتحزبون له , فهم يمدحون اليوم تبعا لمدحه , ويذمون غدا تبعا لذمه , ولو كان المذموم اليوم هو عين الممدوح بالأمس , وأمثلة هذا وشواهده من أرض الواقع أشهر من أن تنكر .

ثامنا - ومن سمات الحزبيين : التسلق على السلفية وتسربلها لتمرير ما يصادها ويخالفها .
قال الشيخ ربيع في مقال "رد كل المنكرات والأهواء والأخطاء منهج شرعي في كل الرسالات وسار عليه السلف الصالح الأجلاء" : "رفع راية هذه المعارضة أهل الفتن والتحزب المقيت في هذا العصر وطوروا هذه المعارضة ودعموها بطرق وأساليب ماكرة لا يعرفها حتى غلاة الصوفية ومنها:... إلباس أنفسهم لباس السلفية والتشبث بهذا الاسم والاستماتة في الذب عمن يلبسه ولو كان عنده أقل نسبة من السلفية يتظاهر بها للخداع والمكر والكيد".
قلت : ومن أمثلة ذلك نسبة البعض أقواله وأحواله إلى السلفية , بل نسبة كل من كان أو ما كان متعلقا بالشيخ إلى السلفية ؛ بل أن (بعض الناس) يرى أقواله بمثابة الآثار السلفية , واجتهاداته يعتبرها أصولا سلفية , ومعاركه مع أقرانه نصرة لاجتهاداته يراها حروبا في سبيل نصرة المنهج السلفي , ولهذا فلا نستغرب من وجود البعض من الأتباع ممن يرى أنه لا سلفية إلا ما وافق الشيخ , ولا سلفي إلا من وافق الشيخ , ولا سلفية إلا ما خرج من عند الشيخ , ولا سلفي إلا من زكاه الشيخ , فعندهم أن الشيخ ومقالاته وأحواله وتلامذته هم السلفيون بحق , بل كما قال بعضهم (هم حزب الله) الحق ؛ فكانت السلفية بالنسبة لهم –عند التحقيق- شعارا على أنفسهم لا دينا يتعبدون به ربهم على منهج السلف الصالح , وفرق بين الشعار وبين التطبيق .

تاسعا - ومن سمات الحزبيين : وضع أصول باطلة يرجع إليها عند الاختلاف لتمرير الباطل .
قال الشيخ ربيع في مقال "رد كل المنكرات والأهواء والأخطاء منهج شرعي" : "رفع راية هذه المعارضة أهل الفتن والتحزب المقيت في هذا العصر وطوروا هذه المعارضة ودعموها بطرق وأساليب ماكرة لا يعرفها حتى غلاة الصوفية , ومنها: ... دعاوى التأصيل وما أدراك ما دعاوى التأصيل ، إنه القذف بالأصول الباطلة لحماية أهل البدع والمحامات عن بدعهم وضلالاتهم ولضرب أصول أهل السنة وإسكات أهل الحق، ولمخادعة الشباب الغر الذي ينتمي إلى المنهج السلفي ثم الاستيلاء على عقولهم ومشاعرهم ليكونوا في الأخير جنداً لهم يوالون ويعادون من اجلهم ومن أجل أباطيلهم المغلفة بالتأصيل وبالسلفية".
قلت : ومن أمثلة دعوى التأصيل الفاسد :
دعوى البعض : أن من خالف الشيخ فلانا في مسائل المنهج فقد خالف أصلا سلفيا .
ودعواهم : أن من أصر على الدراسة في الدورات العلمية التي تقيمها بعض الجمعيات بعد النصح فقد خالف أصلا سلفيا.
ودعواهم : أن الأصل فيمن يثني على من جرحهم الشيخ أنه حزبي .
ودعواهم : أن الأصل في أقوال الشيخ فلان في الرجال أن الأخذ بها واجب .

عاشرا - ومن سمات الحزبيين : التكتل وتجنيد الأتباع على خلاف الحق .
قال الشيخ ربيع في كتاب إزهاق أباطيل عبد اللطيف باشميل : "بل أنت الحزبيّ الداعي إلى التكتّل، وتركض هنا وهناك في الظّلام لتكتيل النّاس على منهجك الحدّادي المتطرّف الغالي، وتجنيد من يستجيبون لك إلى حرب أهل الحق المحارب حقًّا لأهل الباطل، وأهل التحزّب والتكتّل" .
قلت : ومن أمثلة ذلك تقسيم الأدوار على الأتباع والمريدين لمحاربة (منهج السلف الصالح) وإصدار الأوامر ؛ فهذا يكتب فقط ولا يحاضر , وذاك يحاضر فقط ولا يكتب , وهذا يكتب في هذا المجال , وذاك يكتب في مجال آخر , وفلان ومؤيدوه لا تنشروا لهم شيئا في المنتدى الفلاني , وفلان إن لم يعتبر لكلامنا فهذا له بحث آخر , وكل دخيل مخالف يتم إقصاؤه وطرده , ومن يرفض الانصياع للأوامر فليبشر بسكاكين التجريح , وليستعد لهجمات أوكار الدبابير .

أحد عشر - ومن سمات الحزبيين : عدم الكلام في أخطاء الموافق وسترها .
قال الشيخ ربيع في شريط (النقد منهج شرعي) : "أهل النقد عندنا يهيِّجُون على دولة إسلامية عندها أخطاء لا يتكلمون على هذه الأوضاع ولا يقولون هذه الحقيقة أبداً لماذا ؟! لأن بينهم روابط حزبية وهذه الروابط والوشائج بينهم وبين حكومة السودان وبين حكومة أفغانستان هي التي تخرس ألسنتهم وتسكتهم وتحول بينهم وبين أن يقولوا الحقيقة ، والحقيقة قد يقولها الكافر والمسلم لكن هؤلاء لا يمكن أن يقولوا شيئاً من هذه الحقائق لماذا ؟! لأن هناك روابط حزبية بين هؤلاء المشهرين المشاغبين وبين هؤلاء الحكام المنحرفين البعيدين كل البعد عن عقائد الإسلام وعن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وعن منهج السلف الصالح بعيدين".
قلت : ومن أمثلة ذلك سكوت بعض المشايخ عن أخطاء بعض أعوانهم أوأتباعهم أو موافقيهم –ما زالوا خاضعين لهم غير خارجين عن توجيهاتهم أو معلنين المخالفة لهم- حتى إذا ما أظهروا المخالفة والعصيان ؛ تُكُلِّم فيهم بالجرح والقدح والطعن ؛ فينقلب المدح قدحا , والتزكية جرحا , وإذا ما استُفسِر منهم عن سبب السكوت طيلة المدة السابقة قيل (كنا نصبر عليهم ونناصحهم !!!) .
لكن –مهلا- إن كان سبب السكوت هو الصبر لأجل المناصحة : فلم يُسكت على فلان أشهرا , وعلى غيره سنتان , وعلى غيره ستة أعوام , وعلى آخر عشر سنوات , ولم البعض الآخر يهاجَمون مباشرة من غير مقدمة الصبر والمناصحة؟.
ولم تقلب النصيحة إلى فضيحة بمجرد إعلان المنصوح المصبور عليه مخالفة الشيخ في تقريراته أو أحكامه؟.
وهذا المعنى يعيد إلى ذاكرتي حادثة وقعت قبل ضعة أشهر في بيت أحد كبار المتصدين لتصنيف السلفيين ورميهم بالحزبية والتحزب , عندما جالسه بعض الأخوة لبيان حال (زيد من الناس) وما عنده من أخطاء وانحرافات وتلعب وتلون وكذب وتحزيب للشباب حوله بالأدلة والبراهين , فأعرض هذا الشيخ عنهم مغاضبا قائلا لهم : (إذا تكلمتم في (فلان) فإما أن تطروه أو أن تسكتوا) وما ذاك إلا لأن زيدا لسانه الناطق في بعض بلاد المسلمين .
ومنه أيضا ما نعايشه اليوم على شبكات النت من حرب ضروس يطعن فيها الشيخ الجابري بالشيخ الحجوري والعكس كذلك , فلا نرى من المتباكين على أعراض العلماء إلا السكوت والوجوم عن هذه الحرب الضروس , وما ذاك إلا لأن كلا الشيخان من العلماء المعتبرين عندهم ؛ فأين المتكلمون بالحق , الرافعون لشعار نصرته ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين .
بل الأقبح أن من تُكُلِّمَ فيه سابقا بجرح لأمر ما , جاء اليوم الذي يسحب الجارح جرحه ويصيره إلى تزكية ومدح لنفس المجروح بعد أن ثبت عند الجارح المزكي أن من جرحه ابتداء هو من أشد المدافعين عنه اليوم مع أن موجب الجرح لا زال قائما .

إثنا عشر - ومن سمات الحزبيين : الاتصال بالاتباع للتحذير من المخالف لهم .
قال الشيخ ربيع رادا على عبد اللطيف باشميل دعواه على أهل المدينة أنهم (إن لم يرضخ (المتّهم) [لطلباتهم] ، يشرع القوم في الاتّصال بالأتباع في مختلف المدن والمناطق للتحذير من (الحدّادي الجديد) ، الذي ينتقد شيخهم الألباني، وتستمرّ بذلك سلسلة التهم والافتراءات طمعًا في أن يعود هذا (الحدّادي الجديد) عن تحذيره من أخطاء الشيخ الألباني" .
فعلق الشيخ ربيع على هذه السلوكية بالقول في كتاب (إزهاق أباطيل عبداللطيف باشميل) : "معاذ الله أن نسلك هذا المسلك المشين في اتّهام الأبرياء، بل هذا مسلك الحزبيّة الحدّاديّة وأمثالها من دُعاة الباطل، ولا أدلّ على ذلك من واقع الحدّاد وحزبه الذين فاقوا أشد الأحزاب في الأكاذيب والشّائعات" .
قلت : ومن أمثلة ذلك : توجيه الرسائل عبر الجوالات ومواقع النت إلى مختلف الأقطار والمتضمنة للأوامر بدعوى النصائح بالحذر والتحذير من (كذا وكذا , ومن زيد وعمرو) , بل والاتصال بالدعاة وطلبة العلم في مختلف البلدان لإثبات المواقف من بعض الطروحات , وكتابة الردود أو البراءات ممن خالف الشيخ ورفض طرحه ؛ فمن أثبت موقفه بالموافقة على ما طلب منه تمت تزكيته ومدحه ولعله رقي إلى درجة (العلامة بأصول المنهج السلفي) , أو درجة (الشيخ العالم الفاضل الذي يؤثر الآخرة على الدنيا) ولو كان (كذابا أشرا , جهولا باغيا) , ومن أبى وأعرض تم جرحه وقدحه والتشهير به ومن ثم تسقيطه لا لشيء إلا لأنه رفض موافقة الشيخ في أحكامه .

ثلاثة عشر- ومن سمات الحزبيين : السعي في إسقاط الحق بإسقاط أهله .
قال الشيخ ربيع في مقال (رد كل المنكرات والأهواء والأخطاء منهج شرعي في كل الرسالات وسار عليه السلف الصالح الأجلاء) : "رفع راية هذه المعارضة أهل الفتن والتحزب المقيت في هذا العصر وطوروا هذه المعارضة ودعموها بطرق وأساليب ماكرة لا يعرفها حتى غلاة الصوفية ومنها : ... , نصرة الباطل وأهله وإسقاط الحق وأهله وإسقاط هذا المنهج العظيم الذي يرفع راية الحق ويسقط راية الباطل ومن هنا ركزوا على إسقاط علمائه لأن بإسقاطهم يسقط المنهج على الطريقة الماسونية : (إذا أردت إسقاط فكرة فعليك بإسقاط رجالها)".
قلت : ومن أمثلة ذلك محاولة تسقيط أهل العلم السلفيين , بالطعن الصريح فيهم تارة –كما تجد أمثلة على هذا الطعن في قائمة المتكلم فيهم من أهل العلم من قبل الغلاة في التجريح على الرابط :
https://www.kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?t=2862
أو بالتعريض بما هو منقص من قدرهم ومكانتهم بدعوى أنهم يزكون من يجهلون حاله , ويمدحون من يخدعهم بالتظاهر أمامهم بما محصلته أنهم لا يفقهون واقع بعض المسائل التي يحكمون فيها .
بل أدر نظرك وجول بصرك لوجدت أن خيرة المشايخ السلفيين وطلبة العلم الأقوياء والدعاة المبرزين قد تم جرحهم والطعن فيهم , فلم يسلم منهم إلا من كان على منهج غلاة التجريح أو مغازلا لهم , أو مخالفا حالت (مواطنته = جنسيته) دون الطعن فيه (!!) .

أربعة عشر - ومن سمات الحزبيين : التعصب لقول الشيخ فلان في غيره , ومن ثم الاختلاف على ذلك.قال الشيخ ربيع في مقال (نصيحة الشيخ ربيع للسلفيين في فرنسا) : "فليس دين الله ومنهج السلف بهذه المنزلة التي يتصورها كثير من الشباب أن يحصل التمزق والاختلاف والعداوة والبغضاء لأتفه الأسباب ، ومنها أن فلاناً تكلم في فلان فيتعصب طرف لفلان وطرف آخر لفلان ثم تقوم المعارك والصراعات بين الطرفين أو الأطراف ، هذا العمل يبرأ منه الله ورسوله ودين الإسلام إذ هذا من عمل الشيطان الذي يريد الفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء بين المسلمين لأتفه الأسباب.
كما أنه من طرق أهل الأهواء والبدع والتحزب البعيدين عن منهج السلف وتعقل السلف وحكمتهم وبصيرتهم وبعد نظرهم وثباتهم وتماسكهم تجاه الأحداث واحترامهم للأخوة والمودة التي أمر الله باحترامها والحفاظ عليها" .
قلت : وهذا الكلام من الشيخ ربيع مؤيد لمعنى كلام شيخنا الحلبي الذي يدندن به دائما : (لا ينبغي أن يكون خلافنا في غيرنا سببا للاختلاف بيننا) , وللأسف فهنالك العشرات من الأمثلة –من واقعنا المعاصر- الدالة على صدق كلام الشيخ ربيع ؛ فكم قد تفرق السلفيون بسبب تعصبهم لكلام فلان في فلان ؛ بدءا من الكلام في عدنان عرعور حيث تفرق السلفيون إلى فريقين ما بين مدافع عن الشيخ عدنان وطاعن فيه منتصر لمن رد عليه , ثم تفرق الطاعنون في الشيخ عدنان إلى فريقين بسبب الطعن في الشيخ المغراوي , ثم تفرق الطاعنون في الشيخ المغراوي –بعد ذلك- إلى فريقين بسبب الكلام والطعن في الشيخ المأربي , ثم تفرق الطاعنون في الشيخ المأربي بعد ذلك إلى فريقين بسبب الكلام في الشيخ فالح الحربي والطعن فيه , ثم تفرقت البقية المتبقية ما بين مؤيد ليحيى الحجوري وطاعن فيه مؤيد للشيخ الجابري وعبد الرحمن العدني والعكس.
ولعل أن مثل هذا الواقع المزري هو الذي دفع المشايخ (صالح السحيمي , وعبيد الجابري , وملفي الصاعدي) إلى تذكير الشيخ ربيع بخطورة التحزب على الطروحات المتعلقة بتجريح الأشخاص , كما جاء في رسالة المناصحة الموجهة إليه من قبلهم , وفيها يقولون : (ونحن إذ نبعث إليكم هذه الرسالة واثقون أنكم تدركون تمام الإدراك ما آل إليه حال السلفيين - إلا من رحم الله - من التحيز، والتهاجر، والتقاطع، والموالاة، والمعاداة في الأشخاص، وهو عين التحزب المقيت الذي طالما حاربتموه) .

خمسة عشر - ومن سمات الحزبيين : تزيين الباطل بهيئة الحق , والحق بهيئة الباطل في باب الغلو بالمدح .
قال الشيخ ربيع في مقال (مناقشة فالح في قضية التقليد) مبينا حال بعض المناصرين لفالح الحربي المغالين فيه : "ولما تصدى بعض السلفيين لنقد هذا الغلو , أهانوه أشد الإهانة وأطلقوا ألسنتهم بالسب والشتائم والاتهامات الخطيرة لهذا الناقد ولمن على شاكلته من خيار الشباب السلفي , وقلبوا الأمور فجعلوا صاحب الحق ظالماً وجعلوا الباطل حقاً وأهله مظلومين على طريقة أهل الأهواء وغلاة الحزبية" .
قلت : ومن أمثلة ذلك إطلاق البعض لألسنتهم بالسب والشتائم الخطيرة لمن انتقد غلو الأتباع في الشيوخ , وضرب الأمثلة على هذا الغلو ونقدها وبين زيوفها وباطلها , وطالب بان يعامل الغلاة شيخهم كما يعاملوا سائر أهل العلم , وأن لا أحد فوق العلم ؛ فلم يكن من جواب على هذه الدعوى إلا التشنيع والسعي في قلب الحقائق في محاولة لجعل صاحب الحق ظالما , وجعل الظالم هو المحق .

ستة عشر - ومن سمات الحزبيين : تصنيف المسلمين وتجريح المخالفين بدعوى إماطة الاذى عن طريق الدعوة .قال الشيخ بكر عبد الله ابو زيد –رحمه الله- فيما نقله عنه عبد الرحمن عبد الخالق في الرد الوجيز : "وإذا علمت فشو ظاهرة التصنيف الغلابة، وأن إطفاءها واجب، فاعلم أن المحترفين لها سلكوا لتنفيذها طرقاً منها:
* إنك ترى الجراح القصاب كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإن ذلك من شعب الإيمان؟؟
* وترى دأبه التربص والترصد: عين للترقب، وأذن للتجسس كل هذا للتحريش، وإشعال نار الفتن بالصالحين وغيرهم.
* وترى هذا (الرمز البغيض) مهموماً بمحاصرة الدعاة بسلسلة طويل ذرعها، وردئ متنها، تجر أثقالاً من الألقاب المنفرة والتهم الفاجرة، ليسلكوا في قطار أهل الأهواء، وضلال أهل القبلة، وجعلهم وقود بلبلة، وحطب اضطراب!!
وبالجملة فهذا (القطيع) هم أسوأ غزاة الأعراض بالأمراض والعض الباطل في غوارب العباد، والتفكه بها، فهم مقرنون بأصفاد: الغل، والحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، والبهت، والإفك، والهمز، واللمز جميعها في نفاذ واحد.
إنهم بحق (رمز الإرادة السيئة يرتعون بها بشهوة جامحة نعوذ بالله من حالهم لا رعوا)" (التصنيف/22-23)
ويقول أيضاً: "وكم جرت هذه المكيدة من قارعة في الديار بتشويه وجه الحق، والوقوف في سبيله، وضرب للدعوة من حدثاء الأسنان في عظماء الرجال باحتقارهم وازدرائهم، والاستخفاف بهم وبعلومهم، وإطفاء مواهبهم، وإثارة الشحناء والبغضاء بينهم، ثم هضم لحقوق المسلمين في دينهم، وعرضهم، وتحجيم لانتشار الدعوة بينهم بل صناع توابيت، تقبر فيها أنفاس الدعاة، ونفائس دعوتهم.. انظر كيف يتهافتون على إطفاء نورها فالله حسيبهم" (التصنيف/24)
وقال أيضاً حفظه الله: "ولا يلتبس هذا الأصل الإسلامي بما تراه مع بليج الصبح وفي غسق الليل من ظهور ضمير أسود وافد من كل فج استعبد نفوساً بضراوة، أراه -تصنيف الناس- وظاهرة عجيب نفوذها هي (رمز الجراحين)، أو (مرض التشكيك وعدم الثقة) حمله فئام غلاظ من الناس يعبدون الله على حرف، فألقوا جلباب الحياء، شغلوا به أغراراً التبس عليهم الأمر فضلوا، وأضلوا، فلبس الجميع أثواب الجرح والتعديل، وتدثروا بشهوة التجريح، ونسج الأحاديث والتعلق بخيوط الأوهام، فبهذه الوسائل ركبوا ثبج تصنيف الآخرين للتشهير والتنفير، والصد عن سواء السبيل" (التصنيف/9)
وقال أيضاً : "ويا لله كم صدت هذه الفتنة العمياء عن الوقوف في وجه المد الإلحادي، والمد الطرقي، والعبث الأخلاقي، وإعطاء الفرصة لهم في استباحة أخلاقيات العباد، وتأجيج سبل الفساد والإفساد إلى آخر ما تجره هذه المكيدة المهينة من جنايات على الدين، وعلى علمائه، وعلى الأمة وعلى ولاة أمرها.. وبالجملة فهي فتنة مضلة والقائم بها (مفتون) و(منشق) عن جماعة المسلمين" (التصنيف/29)
وقال أيضاً حفظه الله: "وفي عصرنا الحاضر يأخذ الدور في هذه الفتنة دورته في مسالخ من المنتسبين إلى السنة متلفعين بمرط ينسبونه إلى السلفية -ظلماً لها- فنصبوا أنفسهم لرمي الدعاة بألسنتهم الفاجرة المبنية على الحجج الواهية، واشتغلوا بضلالة التصنيف" (التصنيف/28)
وقال متوجاً ذلك القول البليغ في هذه المجموعة: "ولكن بلية لا لعاً لها، وفتنة وقى الله شرها حيث سرت في عصرنا، ظاهرة الشغب هذه إلى ما شاء الله من المنتسبين إلى السنة، ودعوى نصرتها، فاتخذوا (التصنيف والتجريح) ديناً وديدناً، فصاروا إلباً إلى أقرانهم من أهل السنة وحرباً على رؤوسهم وعظائمهم، يلحقونهم الأوصاف المرذولة وينبزونهم بالألقاب المستشنعة المهزولة حتى بلغت بهم الحال أن فاهوا بقولتهم عن أخوانهم في الاعتقاد والسنة والأثر (هم أضر من اليهود والنصارى)، و(فلان زنديق)..
وتعاموا عن كل ما يجتاب ديار المسلمين، ويخترق آفاقهم من الكفر والشرك، والزندقة، والإلحاد، وفتح سبل الإفساد والفساد، وما يفد في كل صباح ومساء من مغريات وشهوات،وأدواء وشبهات تنتج تكفير الأمة وتفسيقها، وإخراجها نشأً آخر منسلخاً من دينه، وخلقه..
وهذا الانشقاق في صف أهل السنة لأول مرة حسبما نعلم يوجد في المنتسبين إليهم من يشاقهم، ويجند نفسه لمثافنتهم، ويتوسد ذراع الهم لإطفاء جذوتهم، والوقوف في طريق دعوتهم وإطلاق العنان للسان يفري في أعراض الدعاة ويلقي في طريقهم العوائق في عصبية طائشة، فلو رأيتهم مساكين يرثى لحالهم وضياعهم. وهم يتواثبون، ويقفزون، والله أعلم بما يوعون، لأدركت فيهم الخفة والطيش في أحلام طير، وهذا شأن من يخفق على غير قاعدة، ولو حاججت الواحد منهم لما رأيت عنده إلا قطعة من الحماس يتدثر بها على غير بصيرة، فيصل إلى عقول السذج من باب هذه الظاهرة: الغيرة، نصرة السنة، وحدة الأمة، وهم أول من يضع رأس المعول لهدمها، وتمزيق شملها" (التصنيف/39-40) .
فعلق الشيخ ربيع على هذه الأقوال البديعات بالقول في كتاب النصر العزيز على الرد الوجيز : "نقل عبد الرحمن عن الشيخ بكر أبو زيد أقوالاً لاتنطبق إلا على الحزبيين الذين هم أولى الناس بالوصف بالجراحين" .
ثم نقل في نفس الكتاب –بعد ذلك- قول الشيخ بكر أبو زيد : "فإذا علمت فشو ظاهرة التصنيف الغلابة وأن اطفاءها واجب فاعلم أن المحترفين لها سلكوا لتنفيذها طرقاً منها : إنك ترى الجراح القصاب كلما مر على ملأٍ من الدعاة اختار منهم ذبيحاً فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة تمرق من فمه مروق السهم من الرمية ثم يرميه في الطريق ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإن ذلك من شعب الإيمان .
وبالجملة فهذا القطيع هم أسوأ غزاة الأعراض بالأمراض والعض بالباطل في غوارب العباد والتفكه بها ، فهم مقرنون بأصفاد الغل ، والحسد والغيبه والنميمه ، والكذب والبهت والإفك ، والهمز واللمز جميعها في نفاد واحد".
فعلق الشيخ ربيع على كلام الشيخ بكر –رحمه الله- بالقول : "أقول : هذه الأوصاف لاتنطبق بحق إلا على أهل البدع والأهواء , وإلا على أهل التحزب السياسي الباطل الذين لاتقوم حزبيتهم إلا على هذه الأوصاف الذميمة".
قلت : ومن هذا القبيل تصنيف السلفيين إلى (حدادية , وعرعورية , ومدخلية , ومغراوية , ومأربية , وجامية , وحربية , وحوينية , وحسانية ... إلخ) , وإخراج الجميع من دائرة السلفية بدعوى إماطة الأذى عن طريق الدعوة , وأن هذا التصنيف هو من قبيل جهاد أهل البدع والأهواء .

سبعة عشر - ومن سمات الحزبيين : الحملات الشعواء بالأكاذيب والشائعات على من يرد ضلالات زعمائهم الباطلة.
قال الشيخ ربيع في مقال (رد كل المنكرات والأهواء والأخطاء منهج شرعي في كل الرسالات وسار عليه السلف الصالح الأجلاء) : "رفع راية هذه المعارضة أهل الفتن والتحزب المقيت في هذا العصر وطوروا هذه المعارضة ودعموها بطرق وأساليب ماكرة لا يعرفها حتى غلاة الصوفية ومنها: الحملات الشعواء بالأكاذيب والشائعات على من يرد ضلالات زعمائهم الباطلة ولو كانت طعناً في الأنبياء أو الصحابة ولو كانت إلحاداً كالحلول ووحدة الوجود وتفننوا جداً في نشر هذه الشائعات والحرب واستخدموا في إشاعتها وتعميمها كل الوسائل والطرق من الأشرطة والكتب إلى شبكات الإنترنيت لتصل لكل أحد" .
قلت : ومن جنس هذا ما يقوم به البعض من حملات شعواء ظالمة بأكاذيب وشائعات تستهدف كل من يقف في وجه غلوهم وانحرافهم وتحريفهم (لمنهج السلف الصالح) في مسائل نقد المخالف والموقف منه , وتفننوا جداً في نشر هذه الشائعات التي استخدموا في إشاعتها وتعميمها كل الوسائل والطرق من الأشرطة والكتب إلى شبكات الإنترنيت لتصل لكل أحد , فتسحب الطعونات من شبكات الأنترنيت وتصور وتطبع وتوزع في الأسواق , وترسل المقاطع الصوتية عبر الجوالات .

ثمانية عشر - ومن سمات الحزبيين : التستر خلف أسوار التقية والكذب.
قال الشيخ ربيع في الحد الفاصل بين الحق والباطل : "ولن تجدي المغالطات عند الله وعند أولي الألباب والبصائر ولن تنطلي على أولي النهى مهما أمعن المغالطون في مغالطاتهم ومهما تستر الحزبيون خلف أسوار تقيَّتهم".
قلت : ومن أمثلة ذلك أثبات الكلام في مواطن ومواضع , والنفي له وانكاره في مواضع أخرى , وتكلف التأويلات الباردة , والوصية للأتباع بكتمان ما يسمع منه وينقل عنه خشية الفتنة تارة , وخشية المجابهة تارة أخرى.

تسعة عشر - ومن سمات الحزبيين : الخيانة في نقل الأقوال وبترها .
قال الشيخ ربيع في كتاب بيان فساد المعيار : "تقول : إنك رجعت إلى المصدرين اللذين أحلت عليهما بترجمة ابن حبان، فحينما رأيت قول يا قوت في معجم البلدان : (وفنون العلم) لماذا لم تذكره؟! أليس هذا من المكر الدنئ، لأنك تصورت أن القراء سيقولون لعله أخذها من قوله : (وفنون العلم) بعد ذكر (الطب والنجوم)
ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار.
ألا إن الخيانة والبتر قد صارا من طباع الحزبيين الذين شوهوا الإسلام والمسلمين" .
قلت : ومن أمثلة هذا البتر ما وقع به كثير من المتصيدين للزلات والعثرات , فعمدوا إلى أقوال بعض أهل العلم السلفيين من المعاصرين فقصقصوها وجردوها من سياقاتها (سباقها ولحاقها) ثم عرضوها على من لا يشترط التثبت في خبر المستفتي في معين ؛ فصدرت فتاوى التجريح والطعن والتبديع , وبعضها كان يصدر عبر الجوال ؛ كما وقع مع الشيخ (أبي سعيد بلعيد) حيث بدعه بعض المشايخ وأمر بهجره وهو لا يعرفه ولم يسمع له , بل بمجرد ما نقل إليه , وكذلك مثله ما حصل لشيخنا مشهور من تبديع أصابه وفتوى تمنع من الاستماع له اعتمادا على مكالمة هاتفية نقلت له بعض ما ينسب إلى شيخنا من نقولات مبتورة مشوهة , وغير هذه الأمثلة كثير كثير .

عشرون - ومن سمات الحزبيين : تضخيم أخطاء المخالفين وتحميلها ما لا تحتمل .
قال الشيخ ربيع في بيان فساد المعيار : "الرجل حزبي محترق حملته حزبيته الجاهلية على الثأر لأهل البدع بالظلم والتعالي والغرور والشماتة، فتراه يقع على الخطأ الذي يعلم العقلاء أنه سبق قلم أو خطأ مطبعي فيفرح به ويضخمه ويضع له العنوان المثير ؛ فأوقعه الله في أخطاء هي على معياره ومنهجه عظائم (!!!)" .
قلت : ومن أمثلة ذلك تنزيل الخلاف اللفظي منزلة الخلاف الحقيقي , ومعاملة مسائل الاختلاف السائغ كما تعامل مسائل اختلاف التضاد , واعتبار الشذوذ في الفروع بمنزلة الشذوذ في الأصول , وعدم التفريق بين الخلاف في مسائل الاجتهاد والخلاف في مسائل الاتفاق , وتنزيل المخالف في الجزئيات بمنزلة من خالف في الكليات , وتتبع الزلات والعثرات بدل التماس الأعذار والمسوغات ؛ فوقع (بعض الناس) في أخطاء هي على معيارهم ومنهجهم عظائم (!!!) .

واحد وعشرون - ومن سمات الحزبيين : الجور في الأحكام وعدم العدل فيها .
قال الشيخ ربيع في كتاب بيان فساد المعيار : "وحسبك دليلاً على جوره في الأحكام هذا الكتاب ، فهو إذا لم يتب أحد القضاة الثلاثة الذين قال فيهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم)
: (القضاة ثلاثة ، واحد في الجنة ، واثنان في النار ،فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار] , وقد جمع هذا المسكين صفتي الأخيرين ، وهذا داء قلما يسلم منه حزبي محترق" .
قلت : ولا أكثر جورا من الحكم على بعض المسلمين بأنهم (بلاء البلاء) ، و(فتنة الفتن) ، (الدجال المعاصر) , (دجال العصر) , (والله هؤلاء الأتباع لو جاءهم الدجال لركضوا وراءه ، لو جاءهم الدجال الآن ، لو جاءهم من يَدَّعي الربوبية ، أو يَدَّعي النبوة ؛لركضوا وراءه) , وأن (فلانا وأمثاله يهيئون هذه النفوس لاستقبال الدجال الأكبر) , فلان (ومن معه لا يَرِدون الحوض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة) .

إثنان وعشرون - ومن سمات الحزبيين : استهداف العلماء وطلاب العلم والدعاة السلفيين بالتشويه والإشاعات الباطلة والكذب والتزوير والتدليس .قال الشيخ صالح السحيمي في مقدمة كتاب النصر العزيز : "الجماعات الحزبية الغالية التي استهدفت العلماء وطلاب العلم والدعاة السلفيين بالتشويه والإشاعات الباطلة والكذب والتزوير والتدليس وتحريف الكلام عن مواضعه" .
قلت : ومن ذلك رمي من خالف الشيخ بأنواع الفرى والأكاذيب تحت مسمى الدفاع عن أهل العلم , وقائمة المتكلم فيهم من أهل العلم والدعاة وطلاب العلم بالطعن والتشويه استنادا على الأكاذيب والفرى والبغي والظلم طويلة ومعلومة , وهي كل يوم في ازدياد .

ثلاث وعشرون - ومن سمات الحزبيين : الطعن في الشيخ الألباني وإخوانه وتلامذته.
قال الشيخ ربيع في بيان فساد المعيار مبينا أبرز ملامح الحزبيين المعاصرين :"الطعن في الشيخ الألباني الذي يحاربه الحزبيون ويحاربون كل إخوانه وتلاميذه من أهل المنهج السلفي".
قلت : ومن أمثلة ذلك ما نراه اليوم من حملة شعواء تستهدف دعوة الشيخ الألباني ممثلة بتلامذته , ما بين زعم أن الشيخ الألباني ليس له تلاميذ طيلة فترة وجوده في الأردن والتي قاربت العشرين عاما , وما بين متهم لهؤلاء التلاميذ بأنهم غيروا منهجهم وبدلوا بعد وفاة الشيخ , وما بين مكابر يزعم أن هؤلاء أصلا كانوا من الإخوان المسلمين لكنهم لم يكونوا يظهرون ذلك في حال حياة الشيخ الألباني فلما مات أظهروا ما عندهم , إلى جهول يفتي بحرمة النظر والقراءة في كتاباتهم ومؤلفاتهم .

أربع وعشرون - ومن سمات الحزبيين : موالاة الذين مزقوا الأمة وأهانوا العلماء .
قال الشيخ ربيع في كتاب (النصر العزيز) : "وأنقل فقرة لا ينطبق ما فيها من مدح إلا على السلفيين أهل السنة حقاً، لا على من تولى أهل البدع ودافع عنهم من الحزبيين الذين مزقوا الأمة وأهانوا العلماء .
قال الشيخ ابن باز : "ثانياً : أنه تفريق لوحدة المسلمين وصفهم وهم أحوج مايكونون إلى الوحدة والبعد عن الشتات والفرقة . . . وكثرة القيل والقال فيما بينهم .
وخاصة أن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة المعروفين بمحاربة البدع والخرافات والوقوف في وجه الداعين إليها وكشف خططهم وألاعيبهم ، ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق أو من أهل البدع والضلال".
قلت : ومن ذلك صنيع البعض الذين لم يسلم منهم عالم سلفي إلا من كان موافقا لهم على باطلهم ؛ فلم يتركوا عالما ولا طالب علم مبرز في بلد من بلدان المسلمين (شرقها وغربها , عربها وعجمها) إلا وتقصدوه بالطعن والتشويه والسعي في إسقاطه بمختلف الذرائع والدعاوى , بما أفضى إلى تفريق لوحدة السلسلفيين وتمزيق صفوفهم في وقت هم أحوج ما يكونوا فيه إلى الوحدة والبعد عن الشتات والفرقة , بل وامتحنوا العباد وعقدوا راية الولاء والبراء على الموافقة في أحكام النقد أومخالفتها , ومع ذلك نجد من ينتسب إلى السلفية يوالي هؤلاء أشد الموالاة ويدافع عنهم وينافح بل ويزكيهم ويطعن فيمن يخالفهم , والواقع خير مثال وشاهد .

خمس وعشرون - ومن سمات الحزبيين : العمل لصالح النفس لا لصالح الإسلام .
قال الشيخ ربيع في كتاب جماعة واحدة لا جماعات وصراط واحد لا عشرات : "من ثمرات الحزبية التي لا تعمل دائما إلا لصالحها فقط ولا تعمل لصالح الإٍسلام ولا لصالح المسلمين" .
قلت : ومن أمثلة ذلك ما سمعنا وقرأنا عمن فرق جموع السلفيين بسبب انتقادات وجهت لشخصه أو طرحه من قبل بعض من اختلف معه ؛ فتفرقت الدعوة جراء ذلك إلى عرعورية , ومغراوية , وفالحية , ومأربية , ومميعة .. إلخ .
وكم سمعنا عن شخوص نوصحوا في السر فأبوا إلا أن يردوا علانية غير معتبرين لمصلحة دعوة ولا وحدة صف , وكان مبدؤهم : إما التراجع والاعتذار عن النصيحة , أو الحرب والفضيحة.
وكم سمعنا من مدح وتزكية لأناس قام في حقهم موجبات كثيرة للجرح والقدح لكن حال دون جرحهم موافقتهم للمزكي في مواقفه ومعاركه .

وفي الختام أقول :
هذه أبرز سمات وعالم وملامح الحزبية المعاصرة , لعله لا يسلم من الوقوع في بعضها أحد كبيرا كان أو صغيرا , عالما كان أو متعلما , عامدا كان أو متأولا , فليتأمل كلٌّ منا مع نفسه –فهو أعرف بها من غيره- ما هي السمات التي قامت به مما سبق , فليراجع نفسه ويستغفر ربه , وينخلع من حزبيته , فكل بني آدم خطاء , وخير الخطائين التوابون....









قديم 2014-02-05, 14:18   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
علي الجزائري
عضو محترف
 
الصورة الرمزية علي الجزائري
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز لسنة 2013 وسام التميز 
إحصائية العضو










افتراضي

هل لك أن تدلنا على صاحب هذه التأصيلات ؟









موضوع مغلق

الكلمات الدلالية (Tags)
منهجية, منهجين, سلسلة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 01:42

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc