قال شيخ الإسلام في شرح حديث النزول:
وقال أبو عمرو الطلمنكي : وأجمعوا - يعني أهل السنة والجماعة - على أن لله عرشا وعلى أنه مستو على عرشه وعلمه وقدرته وتدبيره بكل ما خلقه قال : فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى : { وهو معكم أين ما كنتم } ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء . قال : وقال أهل السنة في قوله : { الرحمن على العرش استوى } الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز واستدلوا بقول الله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وبقوله :
{ لتستووا على ظهوره } وبقوله : { واستوت على الجودي } . إلا أن المتكلمين من أهل الإثبات في هذا على أقوال : فقال مالك رحمه الله : إن الاستواء معقول والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . وقال عبد الله بن المبارك ومن تابعه من أهل العلم وهم كثير : إن معنى استوى على العرش : استقر وهو قول القتيبي وقال غير هؤلاء : استوى أي ظهر . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى : استوى بمعنى علا وتقول العرب : استويت على ظهر الفرس بمعنى علوت عليه واستويت على سقف البيت بمعنى علوت عليه ويقال : استويت على السطح بمعناه وقال الله تعالى : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وقال : { لتستووا على ظهوره } وقال { واستوت على الجودي } وقال : { استوى على العرش } بمعنى علا على العرش . وقول الحسن : وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشده استيعابا لأن فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه واستحسنوه . ثم تكلم على فساد قول من تأول استوى بمعنى استولى . وقال الثعلبي وقال الكلبي ومقاتل : { ثم استوى على العرش } يعني استقر قال وقال أبو عبيدة ; صعد . وقيل استولى . وقيل : ملك . واختار هو ما حكاه عن الفراء وجماعة أن معناه أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه قال : ويدل عليه قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } أي عمد إلى خلق السماء . وهذا الوجه من أضعف الوجوه ; فإنه قد أخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض وكذلك ثبت في " صحيح البخاري " عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض } . فإذا كان العرش مخلوقا قبل خلق السموات والأرض فكيف يكون استواؤه عمده إلى خلقه له ؟ لو كان هذا يعرف في اللغة : أن استوى على كذا بمعنى أنه عمد إلى فعله وهذا لا يعرف قط في اللغة لا حقيقة ولا مجازا لا في نظم ولا في نثر . ومن قال : استوى بمعنى عمد : ذكره في قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } لأنه عدي بحرف الغاية كما يقال : عمدت إلى كذا وقصدت إلى كذا ولا يقال : عمدت على كذا ولا قصدت عليه مع أن ما ذكر في تلك الآية لا يعرف في اللغة أيضا ولا هو قول أحد من مفسري السلف ; بل المفسرون من السلف قولهم بخلاف ذلك كما قدمناه عن بعضهم . وإنما هذا القول وأمثاله ابتدع في الإسلام لما ظهر إنكار أفعال الرب التي تقوم به ويفعلها بقدرته ومشيئته واختياره ; فحينئذ صار يفسر القرآن من يفسره بما ينافي ذلك كما يفسر سائر أهل البدع القرآن على ما يوافق أقاويلهم . وأما أن ينقل هذا التفسير عن أحد من السلف فلا بل أقوال السلف الثابتة عنهم متفقة في هذا الباب ; لا يعرف لهم فيه قولان ; كما قد يختلفون أحيانا في بعض الآيات . وإن اختلفت عباراتهم فمقصودهم واحد وهو إثبات علو الله على العرش