![]() |
|
قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث .. |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
خُلَاصَةُ تَفْسِيرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ دَرْسِ: الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() سُورَةُ الْفَلَقِ
قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[الفلق:01]: الأمر المفرد للنبي عليه السلام. ومن حسن الأدب في مقدرات القرآن أن تقدِّر في مثل هذا الأمر أيُّها الرسول أو أيُّها النبي، لأنهما الوصفان اللذان نطق بهما القرآن في نداء النبي- عليه السلام-، وأن لا نقدر يا محمد كما هو جار على الألسنة وفي التصانيف، فإن القرآن لم يخاطبه باسمه والأمر لنبيّنا أمر لنا لأننا المقصودون بالتكليف ولا دليل على الخصوصية فهو في قوّة: قل أنت، وقل لأمتك يقولون. وأعوذ: أستجير وألتجيء ويتعدى هو وجميع تصاريفه بالباء، كأستجير. والعوذ والعياذ مصدران منه كالصوم والصيام، وفي القرآن مما جاء على المعنى اللغوي: ﴿ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ﴾[الجن:06] ومن كلام العرب: (قد استعذت بمعاذٍ)([1]). والرب: الخالق المكوّن المربي، ومواقع استعمال هذه الكلمة في القرآن هي التي تكشف كل الكشف عن معناها الكامل. والفلق: الفجر المفلوق المفري. ومن لطائف هذه اللغة الشريفة أن الفتح والفلح والفجر والفلق والفرق والفتق والفري والفأ والفقأ والفقه كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم. ومما وصف به ربنا نفسه في القرآن: ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾[الأنعام:96] ،و ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾[الأنعام:95] ، فهما من أسمائه تعالى([2]). ومواقع هذه الألفاظ التي تضاف إلى كلمة (رب) في القرآن كمواقع أسماء المخلوقات التى أقسم بها الله، كلاهما عجيب معجز، فكل لفظة تستعمل في المقام الذي يناسبها وتناسبه، وكل لفظة تبعث في الأسلوب الذي وقعت فيه متانة وقوّة وفي معناه وضوحا وجلاء، وسر إضافة الفلق إلى ربّ هنا أن الفجر بمعناه العرفي هو تشقق الظلمة عن النور، فإن الليل يكون مجتمع الظلمات مسدول الأرواق([3]). فإذا جاء الصبح حصل الانفلاق. والذي يبقى بعد ذلك الانفلاق هو النور الذي نفى الظلمة. ولا ينفي ظلمات الشر والضلال والباطل إلّا أنوار الخير والهدى والحق من خالقها، وفالق أنوارها. وكما أضيف (الفلق)، بمعنى الفجر، إلى كلمة (رب) هنا أقسم به في آية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ﴾[الفجر:01]. .................................................. [1] : قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ( اعلم أن لفظة (عاذ) و ما تصرف منها تدل على التحرز و التحصن و النجاة و حقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ، و لهذا يسمى المستعاذ : معاذاً كما سمى : ملجأً ووزراً. و في الحديث : أن ابنة الجَون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه و سلم فوضع يده عليها قالت : (أعوذ بالله من).فقال: ( لقد عُذْت بمَعاذ ، الحقي بأهلك )[أخرجه البخاري برقم (5254]) .أنظر: بدائع التفسير (3/388). وراجع تفسير المعوذتين لابن القيم فهو تفسير لم يسبقه إليه أحد. [2] : باب الأسماء توقيفي : يعني: يتوقف في ألفاظه، على ما جاء في الشرع، فلا يسمى الله ولا يوصف إلا بما جاء في الكتاب والسنة ، و ما كان من باب الإخبار فهو أوسع من باب الأسماء كما أفاده ابن القيم رحمه الله تعالى في البدائع (1/161). [3] : من راق يروق : و جاء في اللسان : (هو جمع رواق وربما قالوا : روق الليل إذا مد رواق ظلمته وألقى أروقته)، و معنى: رَوَّقَ اللَّيلُ : مَدَّ رُواق ظُلمَتِهِ .و الله أعلم. ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾[الفلق:02]: من كل مخلوق فيه شر، فلا يدخل في عمومه إلّا كل شرير من أي العوالم كان، كما يدخل في عموم الناطق كل ذي نطق، أو من شر كل مخلوق. ومن مخلوقات الله ما هو خير محض كالأنبياء والملائكة. ومعلوم أن المخلوقات كلها خلقت بحق ولحكمة فهي في نفسها خير، فإن كان لا ينشأ من أعمالها أو آثارها إلا الخير فهي الخير المحض، وإن كان ينشأ عنها الشر أحيانًا أو دائمًا فعملها هو الشر وهو المستعاذ منه. وتصح نسبة هذا القسم إلى الله من حيث الخلق والحكمة، ونسبة أعماله إليه من حيث التقدير والتكوين لا من حيث الرضى والتكليف، فالله لا يرضى بالشرّ ولا يكلف به، وقصارى إبليس -وهو مادة الشر في هذا الوجود- أن يزيد الشر ويلبسه بالخير، فالشر بيد الله خلقة وحكمة لا رِضًا وتكليفًا، والخير بيد الله خلقة وحكمة ونعمة وأمرًا. وقد يكون الشرّ ذاتيًا لا ينفك، وقد يكون نسبيًّا باعتبار حالة تعرض واتجاه يقصد ونعم الله على عباده قد تنقلب عليهم شرًا وبلاءً بسبب سوء تصرفهم فيها، كالمال الذي سماه الله خيرًا في القرآن([1]) - يكسبه صاحبه من الوجوه الشرعية وينفقه في الوجوه المشروعة. ويتحرى رضا الله في جمعه وتفريقه فيكون خيرًا بذاته وبعمل صاحبه، ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شرًا لا من ذاته بل من عمل صاحبه. وهذا العالم الإنساني المكلف هو الذي يتجلّى الخير والشرّ في أعماله، ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقًا، وإنما عيب عليه الشر وقبح منه لأنه قادر على تمييزه واجتنابه ومكلف بذلك، وقد وضع له الدين قوانين ثابتة للخير والشر، وَوَضَّح له أن الخير ما نفع وأن الشر ما أضر. ولكنه وإن أُوتي قوّة التمييز لم يؤت قوّة الاستعصام ابتلاء من الله. فأما المخذول فيأتي الشر عامدًا متعمدًا وهو يعلم أنه شر. وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز. والخير والشر لا يوزنان بميزان حسِّيٍّ يستوي الناس كلهم في إدراكه، وقد تَدِقُّ الفوارق بينهما حتى تخفى، وفي هذه المواقف يجب الالتجاء إلى الله ليرينا الخير خيرًا ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر فلا يلتبس علينا شيء بشيء، وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح تندفع ألسنتنا ونقول: ﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾. وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين (رب) و(الفلق). فإن ربَّ الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم. والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فتُرَى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالمًا فقد تخفى عليه حقائق المعقولات فيزيغ فكره ويطغى. ومناسبة أخرى: وهي أنَّ الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام، ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه هو عين ما يضايقهم من ذلك في الشر. هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيبًا بديعًا لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في العرض على الأذهان. هذه الثلاثة هي: - الغاسق إذا وقب. - والنفاثات في العقد. - والحاسد إذا حسد. و الغاسق: الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلًا وعلى غرّة. و وقب: دخل في الوقب، وهو النقرة في الشيء. والنفاثات: السواحر ينفثن الريق واللفظ، جمع نفاثة، كثيرة النفث. والعقد: جمع عقدة، بيان لعادة السواحر المعروفة من عقد الخيوط ونفث الريق عليها. والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء، فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الإخفاء تخييلًا وإيهامًا، والحسد داء دفين. فالثلاثة كما ترون شرها خفي، وكل شر يخفي عمله أو يخفى أثره يجلّ خطبه ولعظم خطره. فيعسر التوقّي منه والاحتياط له. لأنك تتقي ما يظهر ويستعلن لا ما يخفى ويستتر، لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص. أما نكتة الترتيب فإن الليل ليس شرًا في نفسه ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور، والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس قوية في الاعتبار مسبّبة للحكم على أحدهما بحكم الآخر. بخلاف النفاثات والحساد فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتيا لهما. ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي، كما أن بين الاثنين تفاوتا في ذاتية الشر وقوّته وعسر التوقِّي منه. فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه، بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير فشره أشد والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترقٍّ من الأخف إلى الأشد. ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهرًا بين الثلاثة: (الغاسق) و (النفاثات) و (الحاسد)، فإن الجميع ظلام، ظلام الزمن وظلام السحر وظلام الحسد. وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد للمراد. الأول: أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظُّلَم وتكاثفها، فكأن بعض أجزائها يدخل بعضًا، والظلام يبدأ خفيفًا مشوبا بإسفار من أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويحلو لك حتى يغطّي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب. والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني. وفائدة القيد حينئذٍ أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم. فالطارق يطرق والسارق يسرق والحيات تنتهش، والضواري تفترس، وظلام الليل يستر ذلك كله ويعين عليه ويعوق عن الاستصراخ والاستنجاد، والعرب تقول في ما يشير إلى هذا: (اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ). فالمستعاذ منه على هذا الاحتمال شرٌ يقع في زمان، والاحتمال الثاني أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسّيًّا فيقتضي ظرفًا مكانيًّا، وما هذا الظرف إلّا الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها ويكون دخوله فيها أبين من دخولها في الفضاء وملؤه إياها أشد، فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء خصوصا من الآدميين، والمستعاذ منه شر يقع في مكان، وعلى الاحتمالين لما كان الليل معوانًا لذوي الشر على شرهم أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه. والنفاثات: صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلًا كان أو امرأة، وأما للنساء وخُصِّصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهُنَّ به أشهر. والنفث: إخراج الهواء من الفم مدفوعًا بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل، والنفث وإن كان عامًا لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطًا ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم وينفثون على كل عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور.﴿ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾[البقرة:102]. وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلّا لأنه يؤثّر في بعض النفوس القابلة للتأثر به، حاش النفوس المعصومة كنفوس الأنبياء، فإن شرور الدنيا وأسوأها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم. ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([2]) وما يوهمه لفظ الرواية فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني. ونحن نعتقد دينًا أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده. ونقطع علمًا وتجربة أن للقوى النفسية تأثيرًا أعظم من تأثير القوى الجسمانية، وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون وتأثير التنويم في المنوّم، وأن التأثير والتأثر النفسانيين يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوّة وضعفًا، وأن تأثير العين ليس من ذاتها وإنما هو من النفس التي من وراء العين، ولو كان التأثير من ذات العين لكانت كل عين ناظرة تُحدث ذلك الأثر، وإن هذا التأثير لون من ألوان النفس، فإن كانت خيرة كان تأثيرها خيرًا، وإن كانت شريرة كان شرًا. فالنفث المذكور في الآية إنْ أثَّر فإنما يؤثر بالقوّة النفسية التي من ورائه، والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلّا نفث الشر، لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق وإنما تنفث السم. وكالعدو يلقاك بطعن الأَسَل([3])، لا بطعم العسل إذ كان ذلك من طبيعة العداوة. هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة، وأما النفوس الخيرة الطيبة كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير. وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ جَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ ثم نَفَثَ فِيهِمَا وَهُو يَقْرَأُ المُعَوذتين ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ بَدَنِه، يَبْدَأُ بِرَأْسَهُ وَوَجْهَهُ ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)([4]). فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله. ثم قالت في تمامه: (فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ [بِهِ]([5]))([6]). وفي رواية: كان يقرأ بالمعوذات، فلمَّا ثقل كنتُ أنفثُ عليه بهذا، وأمسح بيد نفسه؛ رجاء بركتها([7]). وفي رواية مسلم عنها: (أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله)([8]). فهذه الأحاديث- وهي ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ المعوذات وينفث حين القراءة نفث الخير قطعًا. وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها. وأن النفث إيصال للقوة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيرًا وشرًا، ولولاهما لما كان النفث إلّا من فعل السحرة. والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءًا من روحانيتها على نفس أخرى أو على بدن، وكأن تحريك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية واستدعاء لها حتى تتصل بالريق الذي ينفث كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادِّي، وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثًا مجردًا بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة. ومن الشواهد لنفث الريق ما أخرجه مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بأصبعه هكذا -تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان([9]) بالعمل- ثم رفعها وقال: (بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)([10]). ... [بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث سكت لحظة كمن يستجمع خواطره ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع]: إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة فلا يستقل بتفسيره إلّا الزمن، وكذلك كلام نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبين له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع لم تفهم أسرارها ومغازيها إلّا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون، وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف القرآن: (لا تنقضي عجائبه)([11]). والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونهما بالفكر الخامد والفهم الجامد، وإنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم، وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات، لم يأت مصداقها أو تأويلها بعد. يعنون أنه آتٍ وأن الآتي به حوادث الزمان ووقائع الأكوان وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه. ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم: أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسبابه في هذا الحديث؟ فماذا (تراهم)([12]) يقولون؟ يقول المتخلف القاصر: تربة المدينة بِرِيق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفاء ما بعده من شفاء. ويقول الطبيب المستغرب: هذا محال في التراب مكروب، وفي الريق مكروب. فأنَّى يشفيان مريضا أو ينفسان عن مكروب؟!. ويقول الكيمياوي: ها هنا تفاعل بين عنصرين، ودعوا التعليل، فالقول ما يقول التحليل. ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية، ولو كانوا يدينون بالوثنية: آمنا بأن محمدًا رسول الله. فقد علّم الناس من قبل أربعة عشر قرنًا أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه تشفي من القروح والجروح، ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقدًا من المحبة والإخلاص له. وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به وليقرر لهم من منن الوطن منة كانوا عنها غافلين، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تُغذي وتُروي، فجاءهم من علم النبوة أنها تَشْفي، فليس هذا الحديث إرشادا لمعنى طبي ولكنه درس في الوطنية عظيم. ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى والطب فإنه بباب حب الوطن أشبه، وما نرى رافع لعقيرة بقوله: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِوَادٍ وَحَوْلِي (إِذْخِرٌ)([13]) وَ(جَلِيلُ)([14]) وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ *** وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ([15]). إلّا سائرًا على شعاعه، وما نرى ذلك الغريب المريض الذي سئل: فيم شفاؤك؟ فقال:[ شمة من تربة اصطخر، وشربة من ماء (نهاوند)([16])]([17]) إلّا من تلامذة هذا الدرس. ولقد زادنا إيمانًا به بعد إيمان أنه يقول: (تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا)، و لم يقل: (تربة الأرض بريق بني آدم)، فليس السر في تربة وريق ومرض، ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا فهذه- والله ربنا- صخرة الأساس في بناء الوطنية والقومية لا ما يتبجح به المفتونون([18]). ويقول الروحانيون: إن هناك روحًا طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خلق المريض منها وتغذى بنباتها ومائها، وتنفس كبده في جوّها وهوائها. من ريقة منفوثة نفث الخير من نفس مؤمنة قوية الروحانية، فيكمل التكوين بين الريق والتربة مع اسم الله الذي قامت به السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني، وإذا تجلت النفس بعجائبها لم يبق في الوجود عجيب. ويقول غير هؤلاء ما يقول، وهذه المتون كاسمها متون، وهذه الأصول كاسمها أصول. وهكذا تأتي بعض المتون من كلام الله وكلام رسوله معجزة للعقول، فتتطاير من حولها الفهوم والآراء تطاير الشعراء، ويظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون، والعلوم حرف العقول، والزمان من وراء الكل يصيح أن انتظروا ... ==== [1] : و ذلك في قوله تعالى : ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 180] ، و قوله تعالى : ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾[البقرة:272]. قال ابن كثير في تفسيره : (وقوله : ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ : أي : مالا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، و عطاء ، و سعيد بن جبير ، و أبو العالية ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، وغيرهم . و قال البغوي في تفسيره : (﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾أي مالا نظيره قوله تعالى : ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾). [2] : تقدم تخريجه. [3] : أي بطعن النَّبْل و الرماح. [4] : أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب فضائل القرآن : باب فضل المعوذات ، رقم (5017) عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ![]() [5] : ساقطة من الأصل . [6] : أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الطب : باب النفث في الرقية ، رقم (5748). [7] : أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الطب : باب المرة ترقي الرجل رقم (5751) عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (أنَّ النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،كان يَنْفِثُ على نَفْسِه في مرضه الذي قُبِضَ فيه بالمعوّذات، فلمَّا ثَقُلَ كنتُ أنا أنفثُ عليه بهنّ، وأمسحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لبَرَكتِها). [8] : صحيح مسلم : كتاب السلام : باب رقية المريض بالمعوذات و النفث ، رقم (2192) عن عائشة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي وفي رواية يحيى بن أيوب بمعوذات). [9] : سفيان هو : ابن عيينة رحمه الله. [10] : كتاب السلام : باب رقية المريض بالمعوذات و النفث ، رقم (2194) قال : (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن أبي عمر واللفظ لابن أبي عمر قالوا حدثنا سفيان عن عبد ربه بن سعيد عن عمرة عن عائشة به). و فيه : (ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها) و هذا ما يفسر قول الشيخ رحمه الله : (كما فسرها سفيان بالعمل). [11] : ضعيف. وهو قطعة من حديث أخرجه الترمذي في سننه : كتاب فضائل القرآن : باب ما جاء في فضل القرآن ، رقم (2906). و انظر السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني رحمه الله برقم (6393). [12] : كذا في آثار الإبراهيمي ، و في آثار ابن باديس جمع عمار طالبي ( تقولهم). [13] : (إِذْخِرٌ): بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين حشيش مكة ذو الرائحة الطيبة[شرح الزرقاني على الموطأ]. [14] : (جَلِيلُ): بجيم وكسر اللام الأولى نبت ضعيف يحشى به البيوت وغيرها[شرح الزرقاني على الموطأ]. و جاء في شرح الزرقاني : قال أبو عمر(وهو ابن عبد البر): (إذخر وجليل نبتان من الكلأ طيبا الرائحة يكونان بمكة وأوديتها لا يكاد أن يوجدان في غيرها ). [15] : البيتان لبلال رضي الله عنه أخرج مالك في الموطأ : كتاب الجامع : باب فضائل المدينة : ما جاء في وباء المدينة ،رقم (1703) ط.الرسالة ، و من طريقه البخاري في صحيحه : كتاب مناقب الأنصار : باب مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة ، رقم (3926) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال قالت فدخلت عليهما فقلت يا أبت كيف تجدك ويا بلال كيف تجدك قالت فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول كل امرئ مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله. وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته فيقول : أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ *** وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ. قالت عائشة فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة). [16] : نهاوند : اسم لمدينة إيرانية تقع قرب همدان ، و بها قامت المعركة العظيمة ، معركة ناهوند ، قال الذهبي في السير : (وقال النهاس بن قهم عن القاسم بن عوف الشيباني ، عن السائب بن الأقرع ، قال : زحف للمسلمين زحف لم ير مثله قط ، زحف لهم أهل ماه وأهل أصبهان وأهل همذان والري وقومس ونهاوند وأذربيجان ، قال : فبلغ عمر رضي الله عنه فشاور المسلمين ، فقال علي ، رضي الله عنه : أنت أفضلنا رأيا وأعلمنا بأهلك . فقال : لأستعملن على الناس رجلا يكون لأول أسنة يلقاها ، يا سائب اذهب بكتابي هذا إلى النعمان بن مقرن ، فيسر بثلثي أهل الكوفة ، وليبعث إلى أهل البصرة ، وأنت على ما أصابوا من غنيمة ، فإن قتل النعمان فحذيفة الأمير ، فإن قتل حذيفة فجرير بن عبد الله ، فإن قتل ذلك الجيش فلا أراك . وروى علقمة بن عبد الله المزني ، عن معقل بن يسار أن عمر شاور الهرمزان في أصبهان وفارس وأذربيجان فأيتهن يبدأ ، فقال : يا أمير المؤمنين أصبهان الرأس ، وفارس وأذربيجان الجناحان ، فإن قطعت أحد الجناحين مال الرأس بالجناح الآخر ، وإن قطعت الرأس وقع الجناحان ، فدخل عمر المسجد فوجد النعمان بن مقرن يصلي فسرحه وسرح معه الزبير بن العوام ، وحذيفة بن اليمان ، والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن معد يكرب ، والأشعث بن قيس ، وعبد الله بن عمر ، فسار حتى أتى نهاوند ، فذكر الحديث إلى أن قال النعمان لما التقى الجمعان : إن قتلت فلا يلوي علي أحد ، وإني داعي الله بدعوة فأمنوا ، ثم دعا : اللهم ارزقني الشهادة بنصر المسلمين والفتح عليهم ، فأمن القوم ، وحملوا فكان النعمان أول صريع . وروى خليفة بإسناد ، قال : التقوا بنهاوند يوم الأربعاء فانكشفت مجنبة المسلمين اليمنى شيئا ، ثم التقوا يوم الخميس فثبتت الميمنة وانكشف أهل الميسرة ، ثم التقوا يوم الجمعة فأقبل النعمان يخطبهم ويحضهم على الحملة ، ففتح الله عليهم . وقال زياد الأعجم : قدم علينا أبو موسى بكتاب عمر إلى عثمان بن أبي العاص : أما بعد ؛ فإني قد أمددتك بأبي موسى ، وأنت الأمير فتطاوعا والسلام . فلما طال حصار إصطخر بعث عثمان بن أبي العاص عدة أمراء فأغاروا على الرساتيق . وقال ابن جرير في وقعة نهاوند : لما انتهى النعمان إلى نهاوند في جيشه طرحوا له حسك الحديد ، فبعث عيونا فساروا لا يعلمون ، فزجر بعضهم فرسه وقد دخل في حافره حسكة ، فلم يبرح ، فنزل فإذا الحسك ، فأقبل بها ، وأخبر النعمان ، فقال النعمان : ما ترون ؟ فقالوا : تقهقر حتى يروا أنك هارب فيخرجوا في طلبك ، فتأخر النعمان ، وكنست الأعاجم الحسك وخرجوا ، فعطف عليهم النعمان وعبأ كتائبه وخطب الناس ، وقال : إن أصبت فعليكم حذيفة ، فإن أصيب فعليكم جرير البجلي ، وإن أصيب فعليكم قيس بن مكشوح ، فوجد المغيرة في نفسه إذ لم يستخلفه ، قال : وخرجت الأعاجم وقد شدوا أنفسهم في السلاسل لئلا يفروا ، وحمل عليهم المسلمون ، فرمي النعمان بسهم فقتل ، ولفه أخوه سويد بن مقرن في ثوبه وكتم قتله حتى فتح الله عليهم ، ودفع الراية إلى حذيفة . وقتل الله ذا الحاجب ، يعني مقدمهم ، وافتتحت نهاوند ، ولم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة . وبعث عمر السائب بن الأقرع مولى ثقيف - وكان كاتبا حاسبا - فقال : إن فتح الله على الناس فاقسم عليهم فيئهم واعزل الخمس ، قال السائب : فإني لأقسم بين الناس إذ جاءني أعجمي ، فقال : أتؤمنني على نفسي وأهلي على أن أدلك على كنز يزدجرد يكون لك ولصاحبك ؟ قلت : نعم . وبعثت معه رجلا ، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلا الدر والزبرجد واليواقيت ، قال : فاحتملتهما معي ، وقدمت على عمر بهما ، فقال : أدخلهما بيت المال ، ففعلت ورجعت إلى الكوفة سريعا ، فما أدركني رسول عمر إلا بالكوفة ، أناخ بعيره على عرقوب بعيري ، فقال : الحق بأمير المؤمنين ، فرجعت حتى أتيته ، فقال : ما لي ولابن أم السائب ، وما لابن أم السائب ولي ، قلت : وما ذاك ؟ قال : والله ما هو إلا أن نمت ، فباتت ملائكة تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا ، يقولون : " لنكوينك بهما " فأقول : " إني سأقسمهما بين المسلمين " فخذهما عني لا أبا لك فالحق بهما فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم ، قال : فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة ، وغشيني التجار ، فابتاعهما مني عمرو بن حريث بألفي ألف درهم ، ثم خرج بهما إلى أرض العجم فباعهما بأربعة آلاف ألف ، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا )[ سير أعلام النبلاء للذهبي (26/126-127-128-129)]. [17] : أظن أن الشيخ رحمه الله قد اقتبسها من إحدى رسائل الجاحظ و هي رسالة : ( الحنين إلى الأوطان) و فيها : (ووجدنا من العرب: من قد كان أشرف على نفسه، وأفخر في حسبه؛ ومن العجم: من كان أطيب عنصراً وأنفس جوهراً أشد حنيناً إلى وطنه، ونزاعاً إلى تربته. وكانت الملوك على قديم الدَّهر لا تؤثر على أوطانها شيئاً. وحكى المُوبذ أنَّه قرأ في سيرة إسْفنديار بن يستاسف بن لُهْواسف، بالفارسية، أنه لمَّا غزا بلاد الخزر ليستنقذ أخته من الأسر، اعتلَّ بها، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: شمَّةً من تُربة بلخ، وشربةً من ماء واديها. واعتلَّ سابور ذو الأكتاف بالرُّوم، وكان مأسوراً في القدّ، فقالت له بنت ملك الرُّوم وقد عشقتْه: ما تشتهي مما كان فيه غذاؤك؟ قال: شربةً من ماء دجْلة، وشمَّةً من تربة إصطخر! فغبرت عنه أيّاماً ثم أتته يوماً بماءِ الفرات، وقبضةً من تراب شاطئه، وقالت: هذا من ماء دجلة، وهذه من تربة أرضك، فشرب واشتمَّ من تلك التُّربة فأفاق من مرضه)[ رسالة الحنين إلى الأوطان للجاحظ (ص:39-40)ط.دار الرائد العربي –لبنان-]. [18] : قال محمد عثمان فتحي : ( و لم تكن القومية في رأي ابن باديس إلا الحفاظ على شخصية الشعب الجزائري الإسلامية العربية أمام المحاولات الدائبة لفرنسته). انظر: عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإسلامية في الجزائرية (ص:38) [بواسطة الرد النفيس على الطاعن في العلامة ابن باديس لمحمد حاج عيسى الجزائري (ص:264)] و راجع المطلب التاسع من الرد النفيس في قضية تقديم الوطن و القومية على الدين فإنه مهم. .................................................. ... ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾[الفلق:5] : الحاسد: الذي قامت به صفة الحسد. وهو الذي يُحب أن تُسلَب النِّعَم من غيره وقد تلج به هذه الصفة الذميمة فتزين له سلب النعم حتى من نفسه إذا توقف على ذلك سلبها من غيره، فهو لا يحب الخير لأحد ويتمنى أن لا يبقى على وجه الأرض منعم عليه. وإنما ينشأ الحسد من العجب وحب الذات فتسول له نفسه أن غيره ليس أهلًا لنعم الله، وكفى بهذا محادّة للمنْعِم. والحسد شرٌّ تلازمه شرور، العُجب والاحتقار والكِبْر. وقد جمع إبليس هذه الشرور كلها؛ حسد آدم عُجْبًا بنفسه: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾[الأعراف:12]و [ص:76]، ورآه لا يستحق السجود احتقارًا له فقال: ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾[الإسراء:62]ثم تكبر ولم يسجد ورضي باللعنة والخزي، ولا أشنع من صفة يكون إبليس فيها إمامًا. والحسد شرٌّ على صاحبه قبل غيره؛ لأنه يأكل قلبه ويؤرق جفنه ويقضّ مضجعه، ولا يكون شرًا على غيره إلا إذا ظهرت آثاره بأن كان قادرًا على الإضرار أو ساعيًا فيه، ولهذا قال تعالى: ﴿إِذَا حَسَدَ﴾. والمتمني للشيء لا يمنعه من إتيانه إلا العجز. وأعظم ما ينمي الحسد ويغذيه امتداد العين إلى ما متع الله به عباده من متاع المال والبنين، ونعمة العافية والعلم، والجاه والحكم وقد نهى الله نبيه عن مد العين إلى ما عند الغير فقال: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[طه:131]. وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج، وقد وصف الحكماء له أنواعًا من العلاج فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء([1]) للغزالي([2]) آثار ابن باديس (101/2-120) إعداد و تصنيف عمار طالبي .ط.دار الغرب الإسلامي تونس. آثار الإبراهيمي (341/1-355) جمع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي.ط. دار الغرب الإسلامي تونس. - يتبع مع سورة الناس - ===== [1] : قال الإمام الطرطوشي المالكي عن كتاب الإحياء : ( شحن كتابه –أي الغزالي- بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض في مبلغ علمي أكثر كذبا على رسول الله صلى الله عليه و سلم منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة و معاني (رسائل إخوان الصفا) و هم قوم يرون النبوة مكتسبة ، وزعموا أن المعجزات حيل و مخاريق)[ سير أعلام النبلاء للذهبي: (19/334)]. [2] : هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي، حجة الإسلام جامع أشتات المنقول والمعقول، ومن مصنفاته: «إحياء علوم الدين»، «المستصفى» في الأصول، «المنخول» توفي سنة (505ه).[انظر: الإعلام بمنثور تراجم المشاهير و الأعلام لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله (ص:378-379)]. سُورَةُ النَّاسِ قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس :1]: قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان) وعلمنا أنها تسمية نبوية، وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما. أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو الناس، كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى: الفلق. والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام ومن ثلاثة أنواع منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة. والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام: قسم يصدر عنه الضرر ويعمله، وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه، وهو شر من الأول. وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح ومالك هديها، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فهو يحسن له الأشياء القبيحة ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح وإرادة الخير، ويزين للإنسان كل ما يرديه من القبائح ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، قريبا منه متصلا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك. ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرًا وأكثر شرًا وأخسر عاقبةً خصص التعوذ منه بسورة كاملة. رب الناس: هو مربّيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود ما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما منَّ به عليهم فيما ينفعهم، ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه:50]. وأصله من ربه يربه ربا، إذا قام على إنشائه وتعاهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال. ولفظه المصدر ولكن معنى اسم الفاعل كالعدل يراد به العادل. و[مَلِكِ]([1]) النَّاسِ: هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية. وإِلَهِ النَّاسِ: هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية. وبلاغة الترتيب إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني، فالأول: طور التربية والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية. والثاني: طور القوّة والتدبير، وهما من مظاهر الملك. والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية. والمستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه. وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته، وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها أو بما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوّة الموسوسة مثل قوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة:268]. أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وخالقه كقوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص:82]. وكقوله تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:62]. وكقوله تعالى: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾[النساء:119]. فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره. فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها. والرب رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته. ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجّه الخطاب وإليهم يساق التحذير. وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما. فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم لتثبيت سنّة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم. ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربويين وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال. وقد ضلُّوا بالفعل في ربويية الله وفي ألوهيته .. ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ويصدّوهم بذلك عما شرع الله. وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء. واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها ما دام لا يملك لنفسه ذلك وما دام محاسبًا عليه وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر. ففي تخصيص الناس بالذكر تنبيه إلى أنهم أحوج المربُويِينَ إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد. ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنَّة من استعباد الأقوياء. ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل والأخيار منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب فإنهم كثيرًا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾[البقرة:13]. ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس، توضيح المعنى وإلفات النفس إليه وإيقاظ شعورها به والتسجيل على الناس بأن لهم ربًا هو مالكهم وإلههم([2]). ==== [1] : في الأصل (مالك) !. [2] : قال ابن القيم رحمه الله تعالى : (ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر، ولم يوقع المضر موقعه، فيقول: رب الناس وملكهم وإلههم: تحقيقا لهذا المعنى. وتقوية له، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة. والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات، حتى كأنها صفة واحدة. وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب. وأخر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إله مَنْ عبده ووحّده واتخذه دون غيره إلهًا، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه. وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن المشرك ترك إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره باطلاً)[بدائع التفسير (3/439)]. ................................... ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾[الناس:4]: الوسواس هنا صفة الموسوس وإن خالف المعهود في أبنية الصفات، أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال والزلزلة. وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء، والعرب تسمي حركة الحلي وسواسًا([1])، وهذا المعنى واضح في المراد هنا فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع ويحكي الحيلة في ذلك ولا يرمي رميته إلّا في الخلوات. وإن الناس ليعرفون عرفانًا ضرورًّيا من الفرق بين المصلحين والمفسدين أن الأولين يصدعون لكلمة الحق مجلجلة ويرسلون صيحته داوية ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا ويستترون إذا فعلوا ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات. والخناس: وصف مبالغة في الخانس من الخنوس وهو التأخر بعد التقدم ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقًا في الكيد وتقصيًا في التطور حتى يبلغ مراده([2]). فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرًا وفرًا وهجومًا وانتهازًا واستطرادًا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾[الأعراف:17]. يرشدنا بذلك لنعِدَّ لكل حالة من حالاته عُدَّتها، ولنُضيِّق عليه المسالك التي يسلكها. كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية ثم دواليك حتى تملّ أو يملّ. وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد فهو مبالغة في التحذير منه لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره. -يتبع- ====== [1] :قال ابن القيم رحمه الله : (وأصل الوسوسة: الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه. فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يسوس الشيطان إلى العبد. ومن هذا: وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن. والظاهر- واللّه أعلم- أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس. وهو الإذن. فقيل: وسوسة الحلي. لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له. ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها. فقالوا: وسوس وسوسة. فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه) [بدائع التفسير (3/441-442)] [2] : قال ابن القيم رحمه الله : (وأما الخناس : فهو فعال ، من خنس يخنس : إذا توارى واختفى. ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه : (لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة ، وأنا جنب. فانخنست منه)[رواه البخاري (283) ، و مسلم (371)]. وحقيقة اللفظ : اختفاء بعد ظهور. فليست لمجرد الاختفاء، ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾[التكوير:15] قال قتادة : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار ، فتختفي ولا ترى. وكذلك قال علي رضي الله عنه : هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى)[بدائع التفسير (3/446)] ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾[الناس:5]: قال :﴿يُوَسْوِسُ﴾بالمضارع إشعارًا بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها. وقال: ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ والصدر ملتقى حنايا الأضلع، ومستودع القوى التي كان الإنسان إنسانًا بها ومجمع المضغ التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46]. ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردًا وجمعًا والحكم عليها بالشرح والحرج والضيق والشفاء والإخفإء والإكنان- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية ولا أجزاءها المادية وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس يوجّه كيده ووسوسته دائمًا إلى هذه القلعة التي هي الصدر لأنها مجمع القوى. وقال: ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ ولم يقل في قلوب الناس، لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنًا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره ولا يستطيع له نقبًا. ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾[الناس:6]: الجِنَّة جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين. واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون في قوله تعالى: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾[سبأ:46]. ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة ليلتئم طرفا الكلام ويحصل التقصي الوصفي في المستعاذ به والمستعاذ منه. وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة، إلى قسمين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وذكر أن بعضهم يوحي إلى بعضٍ زخرف القول([1])، وشيطان الجن ميسر للشر فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله. ومن شياطين الإنس بطانة السوء وقرين السوء. وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينًا من الجن([2]). وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾[الزخرف:36]، وقال: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾[فصلت:25]. وهو من باب توزيع الجمع على الجمع، أي لكل واحد قرين، فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن ثم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس يزينون له ما بين يديه وما خلفه ويصدّونه عن ذكر الله فماذا يصنع؟ ما عليه إلّا أن يلتجئ إلى الله ويستعيذ به ويتذكر فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ وإنما يؤخذ إذا كان غافلًا، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾[الأعراف:200]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[الأعراف:201]. ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخِّر ذلك المقدم في آية أخرى لسرّ آخر، فيقدم السماء على الأرض في مقام ويؤخرها عليها في مقام آخر، ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن في آية الأنعام لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء وهي من الإنس أظهر ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح، وفي آية (الناس) قدم الجنة على الناس لأن الحديث عن الوسوسة وهي من شياطين الجنّ أخفى وأدقّ وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمرَّ. فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد فيربى عليه ويكون شرا منه لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به، ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جِنِّيٌ لإنسي ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولّد منها فتن ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل، وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفّل كان شرّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى وأوشك أن يكون خيرًا محضا لولا أن العصمة لم تكتب إلّا لطائفة منه وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالإنسان إذا انحط يكون شرًا من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال. ... انتهى تلخيص الدرس وقد حرصنا على ما وعته الذاكرة من معانيه وقيده القلم من ألفاظه ثم تصرفنا في المواضيع التي طرقها الأستاذ بما لا يخرج عن مراده ولا يخالف طريقته في تفسير كلام الله. والله ينفعنا بالقرآن ويوفقنا إلى خدمته. آثار ابن باديس (2/121-128) إعداد و تصنيف عمار طالبي .ط.دار الغرب الإسلامي تونس. آثار الإبراهيمي (1/355-359) جمع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي.ط. دار الغرب الإسلامي تونس. ===== [1] : كما في قوله تعالى : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[الأنعام:112]. [2] : منها ما أخرجه مسلم في صحيحه مرفوعا :كتاب : صفات المنافقين و أحكامهم : باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا ، رقم (2814) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير). و من حديث عائشة رضي الله عنها برقم (2815) : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال ما لك يا عائشة أغرت فقلت وما لي لا يغار مثلي على مثلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقد جاءك شيطانك قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم قلت ومع كل إنسان قال نعم قلت ومعك يا رسول الله قال نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم ).
|
||||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() بارك الله فيك وجزاك خيرا
|
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() بارك الله فيك |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||
|
![]() بارك الله فيك |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 5 | |||
|
![]() شكرا |
|||
![]() |
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
ابن باديس, تفسير |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc