سلسلة الدروس المصرية: بقلم الشيخ عبد الغني العمري حفظه الله - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الأخبار و الشؤون السياسية > النقاش و التفاعل السياسي

النقاش و التفاعل السياسي يعتني بطرح قضايا و مقالات و تحليلات سياسية

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

سلسلة الدروس المصرية: بقلم الشيخ عبد الغني العمري حفظه الله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2013-10-29, 18:08   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
ALABD ALFAQEER
عضو جديد
 
إحصائية العضو










B1 سلسلة الدروس المصرية: بقلم الشيخ عبد الغني العمري حفظه الله

الدروس المصرية (مقدمة)


بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين.

إن مصر، وإن لم تكن أولى الدول العربية المسلمة تعرّضا لموجة التغيير في هذه الفترة من الزمان، فإنها النموذج الأكمل من حيث وضوح التفاعلات السياسية والاجتماعية التي لن تسلم منها دولة بعدها. لذلك فإننا سنتناول بعض الأمور بما يناسبها من التحليل، حتى نتبين ما يُمكن أن يكون معالم في طريق المستقبل القريب والمتوسط إن شاء الله.

كثير من الناس، كانوا يظنون أن أنظمة الاستبداد السابقة، كانت هي السبب الوحيد الحائل دون عيش الشعوب في جنة الأرض؛ متناسين أن تلك الأنظمة مرتبطة إما طردا وإما عكسا بكل مكونات مجتمعاتها. بل إن تلك الأنظمة من منطلق قهرها، عملت على تأجيل المواجهات الداخلية في تلك المجتمعات، وإن لم يتفطن كل الناس إلى ذلك. هذا لا يعني أننا نفضل تلك المرحلة على هذه، لأن معاندة القدر ليست من دأبنا؛ ولكننا نريد للعقلاء أن يعرفوا لكل مرحلة ميزاتها. والحكم على مرحلة بمعايير مرحلة أخرى، لن يزيد الأمور إلا تفاقما.

وأول ما ينبغي أن نوضحه، هو شروط صحة النظر السياسي:

1. إدراك الواقع:

قد يتوهم بعض الناس أن إدراك الواقع، صار في هذا الزمان أسهل مما كان في سابق الأزمان؛ خصوصا إن اعتبرنا التطور التكنولوجي الذي أصبح من أهم عناصر المعادلة. وقد يستدل أصحاب هذا الرأي، بما يرونه من مشاركة عموم الناس في العمل السياسي، بحسب ما هو متعارف عليه اليوم. والمتعلمون منهم -والشباب خصوصا- صاروا من أكثر المحللين للأحداث على الفضائيات وعلى الصحف اليومية؛ مما يؤكد ما سبق ذكره. ورغم كل هذا، فإننا ننبه إلى أن كل ما ذكر من مواصفات، لا يدخل في الشروط التي ننبه إليها.

إن من نراهم مؤهلين للكلام، ليسوا هم كل من يحسنون الكلام، أو يجيدون توصيف الواقع، وما أكثرهم؛ إنما هم من يستشفون الواقع قبل أن يحل. هم من يتقنون قراءة المعطيات كلها، ولا يخرجونها عن سياقها بدافع الأهواء الطاغية؛ وما أقلهم!

كنت أعجب كثيرا، عندما أرى أحد المذيعين يضع الميكروفون أمام أفواه العامة من الناس، ويأخذون في الكلام عن السياسة الداخلية والخارجية للدولة بمنتهى الثقة! وقد يتصدق أحدهم بنصيحة للرئيس، يعلّمه كيف يدير شؤون البلاد! وويل له، إن لم يستمع إلى النصائح المتعددة التي قد يُتابعها أصحابها، المتربصون على برامج "التوك شو".

لا بد لمن ينظر إلى ما يحدث أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ». قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يا رسول الله؟ قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»[رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وأبو يعلى]. هذا يعني أن كلام السفهاء في الشؤون العامة، سيزيد من حدة الفتنة في هذه السنين الخداعة. والحديث يشير إلى النتائج التي وصل إليها الناس في معاملاتهم، والتي تدل على أنهم قد انعكس منهم الإدراك؛ سواء أعلموا ذلك أم لم يعلموا. ولولا انعكاس الإدراك، ما كانوا صدقوا الكاذب، ولا خوّنوا الأمين!..

2. إدراك الفرق بين المتاح، وما ينبغي أن يكون:

لا بد للمستقري السياسي، أن يُدرك الفرق بين ما يدخل ضمن علمه المجرد، وبين ما يدخل ضمن المعاملات في الواقع، التي تتطلب مرونة ومراعاة للحكمة. وهذا هو ما يجعل الشخص العامي ينتقد من يكون القرار بيده؛ نعني أنه من بين أسباب الاعتراض. وذلك لأن ذا المنصب يتعامل مع الواقع المتشعب؛ بينما العامي يحكم عليه من منطلق العلم المجرد. ومَثلهما كمن يعلم مسار سباق الجري، ومن يسابق فعلا. فالناظر لا يرى إلا صورة الشخص متحركة على المسار؛ بينما المتسابق تدخل في نظرته أمور أخرى هي كل المصاعب التي تحول دونه وما يرمي إليه من الفوز بالسباق. وأقل هذه المصاعب الريح المعاكسة له أثناء جريه.

3. الخروج عن تحكم الأهواء:

وهذا من أصعب الأمور في هذا الزمان، بسبب كون المرء لا بد له من أن يكون الواقع الراهن أو الواقع المتوقَّع إما ملائما لأغراضه أو منافرا لها. والحكم على الأمور من منطلق الأغراض الشخصية الدنيوية، هو ما نسميه هوى. هذا يعني أن الأهواء مختلفة باختلاف الأفراد والجماعات. وإن كانت الأهواء مختلفة، فإن الأحكام على الأمور، لن تكون إلا مختلفة. وهذا أمر لا يُفضي إلا إلى الصراع والاحتكام إلى القوة المادية في النهاية. ومن أجل بلوغ أقصى حد من التوافق، بغية توفير أدنى حد من شروط العيش المشترك، فلا بد من الخروج عن تحكم الأهواء بقدر المستطاع. ولا يخرج المرء عن تحكم الهوى، إلا إذا حكّم في نفسه العلم. نعني أنه لا بد أن ينظر العاقل إلى نفسه بتجرد، مثلما ينظر إلى غيره من الناس، وهذا نادر جدا؛ مما يجعل المجال السياسي أكثر المجالات استدعاء للأهواء.

4. عدم التعميم في الأحكام:

وهذه الصفة تنتشر بين العامة كثيرا، فهم إن قبلوا يقبلون جملة، وإن رفضوا يرفضون جملة وتفصيلا. وهذا لا يمكن أن يصح؛ لأن الأمور لا توجد في الواقع منفصلة بعضها عن بعض انفصالا تاما، حتى يُمكنَ معاملتها باستقلالية؛ بل العكس هو الصحيح. ذلك أن الأمور نسبية، بما يفيد أنها متداخلة بعضها مع بعض، تداخلا متفاوتا بحسب الظروف والأحوال التي تقوي أحيانا ذلك التفاوت أو تضعفه.

5. التفلت من الخطاب الديماغوجي الموجه:

من المعلوم أن لكل رأي خطابا، يتوجه إلى عموم المخاطَبين، من أجل اكتساب أكبر عدد من الأنصار. لكن الرأي الذي لا يستند إلى العلم، ويتبع الهوى، لا يمكنه أن يخاطب الناس إلا بخطاب ملفق يكتسي ملامح علمية في بعض أجزائه بغية بلوغ غاية الإقناع للغير؛ مستعملا في ذلك كل ما يمكن أن يمرّ دون أن يشعر المخاطب أنه مخدوع فيه. وهذا هو ما يسمى الديماغوجيا. ولقد طغى هذا الصنف من الخطاب في عصرنا، وتبنته الوسائل الإعلامية، على حسب ما يعطيه الهوى المدفوع له. ولقد صار المجال الإعلامي اليوم سوقا، يُباع فيها الخطاب؛ وتخصَّص إعلاميون في المناداة على بضائعهم في هذه السوق، كما يُنادي أصحاب الخضار والفاكهة على بضائعهم في الأزقة الشعبية. وبهذا أصبح الإعلام موجِّها لإدراك العامة، ولا رقيب إلا الله.

والعوام، ليست لهم إمكانات نقدية حتى يميّزوا بين الغث والسمين من الخطاب، زد على ذلك أنهم يقعون تحت تحكم الهوى أكثر من غيرهم؛ مما يجعلهم يُساقون إلى حيث يُراد لهم، وهم لا يشعرون.

6. التخلص من عيوب العقل الجمعي:

لا شك أن العقل الجمعي، ونخص به هنا العقل العربي، له عيوب كثيرة تصبح في أحيان كثيرة من ضرب المسلمات لدى أصحابه. وهذا لا يُمكن أن يقبله العلم! الذي هو وحده الوسيلة إلى الحق والصواب. ولقد امتاز العقل العربي، بجمعه بين متناقضات كثيرة، هي وحدها كفيلة بضمان عدم تحقيقه لأغلب ما يصبو إليه. ومن هنا كانت الأماني أكثر بكثير من التحققات. والعجيب، أن العوام لا يشعرون بهذه العيوب، مع كونها متحكمة في كل مفاصل عيشهم. وهذا لا نجد له شبيها إلا في عالم الدواب، عندما تكون إحداها مربوطة وتروم التفلت؛ فهي لا تنظر إلى طريقة التخلص من الوِثاق، بل تقوم بحركة متكررة تدل على أنها تريد التخلص، من غير ملل. فالأمنية لديها بعيدة عن النتيجة، بسبب كون العلاقة بين الفعل والغاية مفقودة. وهذا يعود إلى بساطة الإدراك. هذا يعني أن العامة إدراكهم أبسط مما ينبغي أن يكون عليه إدراك من يريد أن يتكلم في الشؤون العامة. ولسنا نعني بالعامة هنا غير الدارسين؛ وإنما نعني كل من لم تتحقق لديه شروط الفعل العقلي المعتبر، وإن كان من أكبر المدرّسين والمنظرين. وهذا أيضا باب، من أبواب عيوب العقل الجماعي في تصنيف الإدراكات لدى الناس.

(يُتبع...)









 


رد مع اقتباس
قديم 2013-11-02, 12:27   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
ALABD ALFAQEER
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

الدروس المصرية (2) - مفردات الواقع المصري


1. الدولة:

الدولة المصرية كسائر الدول العربية، تسير نحو نموذج الدولة الحديثة في الفكر الغربي. والسلطة فيها بين الحكومة ومجلسي الشعب والمستشارين والقضاء، تستقي مبادئها من الفكر الغربي كل على قدره وبما يناسب اختصاصه. ومؤسسة الرئاسة فيها، كانت قبل التغيير الأخير (في عهد مبارك ومن قبله)، تخضع لتأثير الأمزجة الشخصية وتجاذبات المصالح الفردية والعائلية بالخصوص؛ فيما يشبه إدارة المزرعة أكثر مما يندرج ضمن مفهوم الحكم بالمعنى السياسي.

أما الحكومة، فكانت في أغلب الأحيان حكومة تسيير أعمال، في غياب سياسات قطاعية حقيقية. وكما هي الحال في أنظمة الاستبداد، فإن أهم وزارتين في الحكومة تكونان وزارة الداخلية، ووزارة الخارجية. الداخلية من أجل التحكم في الأوضاع، بما يُبقي النظام في حال استقرار حسب ما يراه هو؛ والخارجية، للحفاظ على علاقات ودية مع من بيدهم القوة العالمية الاقتصادية والعسكرية.

أما مجلس الشعب، فقد كان يهيمن عليه الحزب الوطني في تمثيلية ديموقراطية هزلية. والمعارضة فيه، كانت شكلية، تُكمّل الإخراج الدرامي للمسرحية، أكثر مما تمثل الشعب.

وأما القضاء، فكان يُعيّن الكبار كما هو الشأن في المحكمة الدستورية العليا، من قِبل الرئيس تعيينا؛ مما يطعن في استقلاليته بما لا يدع مجالا لأدنى شك. كل هذا مع الحفاظ على بعض النقاء في المستويات السفلى منه، حتى لا يتفطن العامة الذين يكون أكثر تعاملهم معه، إلى حقيقة ما هو كائن.

وأما الشعب، فهو في أغلبه مسلم سني توصيفا، مع أقلية نصرانية تحظى بنفوذ في مجال المال والثقافة أكبر من حجمها بكثير. لكن الحقيقة، هي أن الشعب منقسم بين إسلامي وعلماني؛ وهذا التوصيف أصح من الذي قبله. غير أن الفرق بين الإسلامي والعلماني إن استثنينا النصراني، هو فرق في الحقيقة بين نسبة الإسلام وبين نسبة العلمانية عند كل منهما؛ لأنه لا يخلو في الأغلب أحدهما عنهما معا. وهذا الوضع المعقد، هو الأصل في عدم سهولة إيجاد صيغة للحكم ترضي الجميع بعد الإطاحة بمبارك وتنصيب مرسي.

وأما الوطن، الذي هو أرض مصر، فإن معناه تم تضخيمه كشأن كل الأنظمة التي اعتمدت التلبيس والتدليس، حتى طغى على معنى الدين وغيره من المعاني في كثير من الأحيان. كانوا يريدون من وراء "الوطنية" المحرفة، أن يُكفَوا ما يخشونه من محاسبات بالمعايير الدينية أو العقلية. فكانت النتيجة تشوّها في الإدراك عند الناس، واضطرابا في المفاهيم، زاد من سوء الحال.

إذا سمعت المصري يتكلم عن مصر، خلته يتكلم عن الأرض الموعودة، أو عن الوثن المعبود لديهم. فمن "أم الدنيا" إلى "المهم أن الشخص مصري" (يعنون أنه لا يهم أن يكون المرء مسلما أو نصرانيا)، إلى "الدم المصري" الذي لا يجب أن يراق، وكأنه وحده الدم المحرم. كل هذا يزيد الخلط، ويشوش العقائد والمبادئ، مع أنه إلى عهد قريب لم يكن له أي مصداقية في الواقع...

2. المرجعيات:

إن الاختلاف في الرأي، لا يكون دائما عن تعمد المخالفة كما قد يُظن؛ ولكنه يكون نتيجة اختلاف المشهد. والمشهد يختلف من واحد إلى واحد بحسب قراءته؛ والقراءة تختلف بحسب مفاتيحها؛ والمفاتيح تختلف بحسب المرجعية. فمن أراد أن يقلل من الاختلاف في النظر، فعليه أن يوحد المرجعية بأعلى قدر ممكن. ولكن هذا، قليلا ما يتنبه إليه أصحاب الرأي؛ وينشغلون عنه بمغالبة الخصم بحق وبغير حق. وإن أردنا أن نصنف المرجعيات فإننا نُرجعها إلى أصلين وفروع:

ا. مرجعية الوحي: وهذه هي التي يزعم الإسلاميون خصوصا أنهم أولى الناس بها. وقد يصدقون في بعض دون بعض. ذلك أن الائتمار بالوحي، لا يمكن أن يبلغه المرء إلا بعد استكمال تزكية نفسه، من الشوائب التي قد تحرف صلتها به. فلا يكفي أن يستدل المرء بآيات من القرآن وأحاديث نبوية، ليكون على الحق. ولا يكفي أن يكون على الحق، ليجعل من نفسه مرجعا للناس، يقودهم حيث يريد. وما استفحلت الفتنة في الأمة الإسلامية، حتى زعمت كل فرقة أنها أحق بفهم الوحي من غيرها. وقد يتمسكون بقول في الحق عبر القرون، مع العلم أن مراتب الحق قد تتعدد في الزمن الواحد؛ مما يدعو إلى أن يُقبل مِن كل ناطق به، وإن ظهرت مخالفته.

والإسلاميون، إن كانوا تحت أنظمة الاستبداد قد اعتادوا التأكيد على المرجعية الإسلامية في مقابل غيرها، فإنهم مدعوّون اليوم، إلى معرفة الإسلام حق معرفته، ثم إلى إشاعة تلك المعرفة بين الناس. نعني أن ما كان يرجح كفتهم أمس، ما عاد ينفع في الخطاب اليوم. ولو أنهم اشتغلوا بالشق المعرفي في الدين أكثر مما اشتغلوا بالشق السياسي، لكَفوا أنفسهم وكَفوا الأمة شرا كبيرا. ولكن القدر لا يوافق التدبير دائما.

والإخوان المسلمون أو سواهم، إن كانوا يظنون أن الخلافة الراشدة ستقوم بجهودهم فإنهم يكونون واهمين؛ لأنهم لا يعلمون حقيقة الخلافة ولا شروطها. هم يظنون أن الحكم بالشريعة، هو نفسه الخلافة؛ وهذا جهل! وإننا نرى أن هذه المسألة محورية في تفكيك خطاب الإسلاميين، إن كنا نريد أن نصل معهم إلى محل التقاء.

والمساكين من أتباعهم (القواعد) لا يعلمون من الدين مصدرا ولا موردا، وإنما يأخذهم الحماس الكاذب (وقد يكونون صادقين في أنفسهم) إلى وضع أنفسهم رهن إشارة القائد إذا نادى بالجهاد. يظنون أنهم سيجاهدون ضد الكفار، وهم لن يقاتلوا إلا إخوة لهم، يختلفون عنهم في فهم الدين نفسه فحسب.

وبسبب عدم الضبط الذي ذكرناه، فإننا نتوقع للإسلاميين الذين تولوا الحكم بعد أنظمة الاستبداد، فشلا فيما كانوا يرومون. لا نشك في حسن نواياهم، ولكننا لا نوافقهم على نظرتهم إلى الأمور دائما، ولا نقر لهم بعض أساليبهم. نقول هذا من حرصنا عليهم، وإن كنا نعلم أن القدر حائل بيننا وبينهم.

ب. مرجعية العقل: ونقصد بمرجعية العقل كل ما هو إنساني (بشري)، وأصحاب هذه المرجعية هم من يُصطلح عليهم بالعلمانيين. العلمانيون قد يكونون مسلمين، لكن فهمهم للإسلام عليل، وتلقيهم عن المفكرين الذين لا دين لهم، خلَط عندهم العقائد والمبادئ. فهم (نعني بعضهم) صادقون فيما يقولون، وإن كانوا جاهلين بقراءة الصورة. وزاد من إصرارهم على ما هم عليه، تنبههم إلى سقطات الإسلاميين ومصادمتهم لأبسط قواعد العقل في معاملاتهم أحيانا. فظنوا أن ذلك من الدين، وهو من الناس لا منه. فكانت النتيجة أن صارت عندنا في مجتمعاتنا فئات تدعو إلى ما يعارض أصول الدين وأساساته. فإن وقف الإسلاميون في وجوههم، استنكروا أن يعاملوهم معاملة الكافرين. وما فطن الجميع إلى أن الإسلاميين لا يُدركون الإسلام على تمامه، وأن العلمانيين ليسوا كافرين على التمام. هذه وضعية لم تعرض لأئمة الفقه السابقين، حتى يفككوا مفرداتها ويردوها إلى أصولها؛ مما جعل متأخرة الفقهاء بسيرهم على خطى الأولين في الفروع، يكونون عاملا من عوامل الأزمة، ونافخا إضافيا في نار الفتنة المستعرة.

نعم، ليس كل العلمانيين على هذه الشاكلة "البريئة"، كما ليس كل الإسلاميين كما يزعمون. لذلك فإنك تجد من العلمانيين من هم شياطين إنسية، يعادون الدين أشد العداء، ويعملون على استئصاله من المجتمعات بكل ما يستطيعون. ومن هؤلاء من نسميهم صهاينة العرب.

ولك بعد هذا أن تتصور الصراع بين عوام الإسلاميين وعوام العلمانيين كيف يكون!...

(يُتبع...)










رد مع اقتباس
قديم 2013-11-08, 08:34   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
ALABD ALFAQEER
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

الدروس المصرية (3)


معالم في الأزمة

1. صنف الدولة:

أول ما بدأ الجدال بين مختلف مكونات الشعب المصري، حول صنف الدولة (الجمهورية) التي هم مقبلون على تأسيسها؛ هل هي مدنية، أم دينية؟! وسمعنا في هذا الشأن من النظريات، ما كان خليقا به أن يُعد من فتوحات العصر في إبهام الواضحات وجمع ما لا يجتمع إلا في فاسد الخيالات.

ا. كيف تُجعل الدولة المدنية في مقابل الدينية؟ مع أن الأصل هو الدولة الدينية (الإسلامية لأنه لا دين اليوم إلا الإسلام!) في مقابل دولة الكفر. وقد وقع الغلط في هذه المقابلة من وجهين: الوجه الأول: التحرج في تناول الدين بالكلام؛ فإننا لم نتجاوزه كما تجاوزه العقل الأوروبي الملحد. والوجه الثاني: استنساخ جدليات أوروبا في بلداننا، والبحث عن حل لها في غير بيئتها. فصرنا كمن يتناول دواء وُصف لغيره، لعلة ليست به.

وإذا كانت أوروبا قد عرفت هيمنة الفكر الكنسي على مجتمعاتها إلى الدرجة التي لم يكن لها بد من الفصل بين السياسة والدين؛ فإن البلاء عندنا هو العكس من ذلك في الفصل بينهما. أوروبا النصرانية كانت تعيش على شريعة محرفة غير كاملة من الأصل، أما نحن فشريعتنا كاملة، لم تجد من يعمل بها فحسب.

ب. أصل المسألة هو: هل الناس أحرار في العيش كما يحلو لهم، أم لا؟ وهذه قد قُتلت بحثا منذ غابر العصور. والجواب ببساطة، هو لا! لأن الإنسان ليس هو مصدر العالم الذي هو أحد مفرداته، حتى يضع له النواميس التي ينتهجها. وبما أن الله هو خالق العالم وخالق الإنسان، فإن الأمر له في كل شيء. إن أطلقنا، انطلقنا؛ وإن قيّدنا، تقيّدنا. والحال أنه سبحانه قيدنا بتكاليف فردية وجماعية، لا يمكننا الخروج عنها من دون تبعات دنيوية، وأخرى أخروية. فإن قيل: إن الدين أديان! قلنا: لا! ولا يصح أن يكون إلا دينا واحدا، هو الإسلام، الذي بدأ مع آدم عليه السلام وكمُل على يد محمد صلى الله عليه وآله وسلم. هذا حكم الله! ومن لم يعجبه، فليُبق رأيه لدى نفسه. وأصل الداء في مثل هذه الأمور، هو ديموقراطية الرأي؛ بمعنى أن لكل واحد قول ما يشاء في كل شيء، وعلى الجميع قبول جميع الأقوال في المسألة نفسها. وهذا ليس إلا الحُمق بعينه. اطلب من العالم أن يقبل منك -مثلا- قول: "إن فلسطين للفلسطينيين لا لليهود"، وانظر هل سيقبلون في هذا الأمر كل الآراء أم لا؟! فإن لم يقبلوه في أمر فرعي كهذا، فهل سيقبلونه في أمر مصيري أصلي كما هو الشأن في مسألة الإيمان والكفر؟! من هنا يظهر أن القول باعتبار جميع الأقوال، هو أسلوب شيطاني، يُضل به إبليس السفهاء من الناس. وقد انطلى هذا التلبيس على كثير من المسلمين، حتى لم يبق لهم من الإسلام إلا الاسم.

ج. قد بلغ من جهل المسلمين في هذا الزمان بدينهم إلى حد أنهم جعلوا الدولة في الإسلام دولة مدنية. وقد سمعنا هذا القول من شيخ الأزهر ومن مرشد جماعة الإخوان نفسيهما. وهو خروج عن الصواب، لا شك عندنا فيه! وسبب وقوع هذا الخروج، هو اتباع الغربيين في تحديد المفاهيم؛ وهو عندنا من دلائل الهزيمة الفكرية لدى أمتنا. وقد بلغ الجهل وضعف الإيمان من بعضهم أن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قائدا مدنيا للدولة الإسلامية في أول مظاهرها. وهذا كفر بالنبوة (جزئي)، وإن لم يُعلن صاحبه ذلك. ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان نبيا في كل أحواله؛ وإن لم يكن ضعفاء الإيمان هؤلاء، يُدركون الأسرار التي في بعض الوقائع كمسألة تأبير النخل، واختيار المنزل في بدر، وما كان يبدو اعتراضا من عمر رضي الله عنه في بعض الأمور التي كان الوحي ينزل موافقا له فيها؛ فإنه لم يكن يجدر بهم إيجاد تفسير فكري لها، بل إن سكوتهم عنها، وإيكال علمها إلى الله ورسوله كان أسلم لهم ولمن تبعهم. وإن القول بانحسار نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما كان يتعلق بنزول الوحي القرآني وحسب، يفتح بابا عظيما من الفتنة على الأمة، بزعم تمحيص ما هو من النبوة مما ليس منها في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلى أن يؤدي في النهاية إلى هدم الدين جملة، بالشك في جميعها. وقد حرص السلف على عدم الدخول فيما لا يُحسنون، تجنبا منهم للخروج عن الصراط المستقيم. أما المتأخرون، وقد درسوا المناهج الفكرية الغربية في المعاهد الإسلامية عينها، فإنهم ظنوا أن في استطاعتهم البحث فيما يُمكن أن يجعل غوامض المسائل، مقبولة لدى العقول في مستواها الأدنى المشترك. فكان منهم ذلك ضربة لأمتهم، علموا بذلك أم لم يعلموا. كان من نتائجها، ما صار يُقال اليوم عن مدنية الدولة في الإسلام. فإن قالوا: إنما رددنا على من يجعل الدولة في الإسلام كالدولة التي كانت تخضع للكنيسة في أوروبا في زمن غابر، قلنا: نحن لا شأن لنا بمفاهيم صيغت مصطلحاتها في بيئة غير بيئتنا، من أجل الخروج من أزمة لا تعنينا.

فإن علمنا أن الدولة في الإسلام هي دولة دينية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعلينا أن نعلم أنها كانت كذلك على عهد الخلفاء الراشدين؛ لأن الخلافة عندنا امتداد للنبوة. وعلى هذا فإن نظام الحكم في الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو: الخلافة إلى قيام الساعة. غير أن الله تعالى لم يشأ أن يجعل الخلافة مستمرة في كل الزمان، وإنما زين بها أزمنة دون أخرى. ومن الأزمنة التي غابت الخلافة فيها، زماننا.

ولقد رأينا أن الخلافة مجهولة لدى العلماء فضلا عن العامة؛ وهذا الجهل -لا شك- من أسباب الحيرة التي أصابت المسلمين في مثل هذه المسائل، سواء تعلق الأمر بمن يريد إقامتها، أم بمن تنبه إلى عيوب السعي إلى إقامتها اليوم. وفي غياب الخلافة، احتار المسلمون بين المعنى الأصلي للدولة عندنا، وبين المعنى العلماني الوافد؛ إلى درجة أن الإسلاميين أنفسهم وقعوا في تناقض المطالبة بتحكيم الشريعة تحت نظام مدني علماني. وهو ما نتجت عنه فروع للبلاء، نذكر ما تيسر منها فيما يأتي إن شاء الله.

د. فهل يمكن أن يعتبر غياب الخلافة في الزمان، من النقص في التشريع؟: كلا!.. أولا: لأن التشريع واحد لا اختلاف فيه بين زمن ظهور حكم الخلافة، وبين أزمنة اختفائه. وإنما هذه المسألة متعلقة بالمشيئة والقضاء الإلهيين لا بالتشريع، لتمتاز الأزمنة فيما بينها. ثانيا: لأن إقامة الدولة ليس هو الغاية الكبرى من الدين كما يتوهم البعض، وإنما الغاية عبادة الله برجاء اليوم الآخر. لهذا السبب تجد الحكم في دولة الكفر في أحيان كثيرة، يكون أفضل منه في دول الإسلام من حيث الظاهر. وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر رضي الله عنه لما وجد الحصير قد علم في جنبه الشريف: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ»[رواه البخاري]. فالمسلم إن أطاع ربه في نفسه وفي من تحته، لم يضره أن الدولة لم تحكم بالشريعة في زمنه.

2. الدستور:

عندما اجتمعت اللجنة التأسيسية للدستور في مصر، تريد أن تصوغ مواده، كانت المادة الثانية أولى مثارات الجدل فيه. هل يكتبون "أحكام الشريعة" أم "مبادئ الشريعة"؟! هذا يؤكد ما ذكرناه سابقا؛ وكأنهم أعادوا تناول "مدنية" الدولة و"دينيتها" في مستوى أدنى من الأول. ولقد حاول الفريقان الإسلامي والعلماني، الخروج من الأمر من دون إثارة المخاوف فيما بينهما. وهذا إرجاء للمواجهة الفكرية، فحسب؛ لم يطل كثيرا.

والدستور، لو كانت الشعوب تعلم ما لها وما عليها، ولو لم تتعرض إلى كل هذا الإضلال والاستعمار الفكري عبر القرون، ما كانت تحتاج إليه من الأصل والقرآن بين أيديها. إن القرآن من كونه كتاب الله الخاتم، ومن كونه جامعا لأصول الأحكام وكثير من فروعها، لا يُمكن أن يبلغه دستور من وضع عقول قاصرة مهما بلغت في رقيّها! كان كافيا لشعوبنا، أن تتكلف وضع دساتير ينسخ بعضها بعضا كل حين! إن كانت بريطانيا، التي لا شريعة لديها وإن أبقت على ملامح من العقيدة النصرانية، استطاعت أن تكون من أكبر الديموقراطيات في العالم من غير دستور، أفتحتاج أمتنا دساتير مع قرآنها المبين؟!.. كل ما نحن في حاجة إليه، هو سنّ القوانين المفصلة للأحكام، بما يساير المتغيرات المعيشية، لا أكثر!

أما ما يُذكر من كون الدستور ينبغي أن يصاغ بطريقة توافقية، لا تعتبر حتى النسبية التمثيلية، فهو من قبيل المحال؛ لأنه سيجمع المتناقضات، بحيث لن تتمكن الدولة فيما بعد من التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. وهذا الأمر أصله من الفكر الديموقراطي الكافر.

3. الديموقراطية:

أولا ينبغي أن نعلم أن للفكر الديموقراطي سندا من الحق، هو ما جعله يظهر حكمه في الوجود. لكن هذا يدخل ضمن علم الحقيقة والباطن، وهذا لا يعلمه إلا العلماء بالله (العارفون). أما العامة، فإن الفكر الديموقراطي يأخذهم في طريق الفسوق، بسبب مصادمته للشريعة. وقد كنت يوما في رفقة أحد الأولياء رحمه الله منذ سنين عديدة، فتجاذبنا أطراف الحديث حول وضع الأمة في هذا الزمان بالمقارنة إلى القرن الأول، فقال رضي الله عنه: في السابق كان الحكم للشريعة، أما اليوم فهو للحقيقة. نقول هذا، حتى نفتح بابا إلى الفهم لمن كان من أهله.

أما الديموقراطية، فإنها لن تتواجد حقيقة إلا في بيئة كفرية من حيث الظاهر؛ ذلك لأنها متحررة من الدين تحررا تاما. وهذا يخالف من الأصل الدين، الذي هو عبودية لرب العالمين. لذلك، فكل من يزعم أن الإسلام في مظهره التام، يمكن أن يكون مع الديموقراطية، فهو واهم. نعم، إن التلفيق والتدليس الذي يعتمده السياسيون (وفقهاء الفتنة من بعدهم) من أجل بلوغ غاياتهم العاجلة، يمكن أن يجمع ما لا يجتمع، ويوفق بين ما لا يتفق. وهذا، ما لم يُتخلّص منه، فإنه سيبقى من أسباب الفتنة في أمتنا على الدوام.

وانظر إلى الديموقراطية في مجتمعاتنا كيف جعلت مغنيا أو لاعب كرة ذا تأثير في الشأن العام يفوق كبار المفكرين من العقلاء وأهل الدين. هذا هو شأنها! بل إن الديموقراطية تخصص كرسيا لإبليس نفسه في البرلمانات وقبل ذلك في اللجان التأسيسية؛ لأن إبليس (من خلال نوابه) هو أيضا له حق التعبير عن رأيه. وعلى الجميع اعتباره، وإن لم يعمل به. فهل يبقى بعد هذا، من مجال للصلاح والإصلاح؟! لا، والله!

من أراد أن يكون ديموقراطيا فليكن، لكن لا تسخروا منا بإقناعنا أنها لا تُصادم الدين!

4. تطبيق الشريعة:

إن تطبيق الشريعة الذي يُنادي به الإسلاميون، هو رجاء كل مسلم صادق الإيمان؛ لكن الأمر ليس بهذه السطحية في التناول.

ا. لأن الشعوب غير مهيأة لقبول تحكيم الشريعة، لأسباب كثيرة منها فلاح الفقهاء في تنفير الناس (خصوصا الشباب) من الدين، بتمسكهم بمظاهر جامدة منه لا تليق إلا بمن لا عقل له. ودين الله ينبغي أن يُتلقى بالقبول، حتى يؤتي ثماره في النفوس. وقد يخلط بعض الناس بين إلزام القلة المارقة بالشريعة زمن تمسك الكثرة بها، وبين زمن صارت القلة من الناس هي المتمسكة في مقابل كثرة تحللت منها. وإدراك الفروق في النوازل لهو من أسس الفقه فيها. لذلك، فلا مجال إلى الدعوة إلى إلزام الناس بالشريعة الآن؛ فلم يبق من سبيل إلا تحبيب الناس في الدين.

ب. إن الإسلاميين أنفسهم لا يُدركون من الشريعة إلا بعض ظاهرها، دون البعض الآخر ودون باطنها. وكل قصور في إدراكها، يعود بالعنت على الأمة والناس أجمعين. ولو أن الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم اليوم، يفقهون هذا، لأخروا الكلام عن الشريعة، وعملوا على ما هو من قبيل إعانة الناس على قضاء حوائجهم الضرورية قبل أي شيء آخر. ذلك أفضل للجميع!..

(يُتبع...)









رد مع اقتباس
قديم 2013-11-11, 23:41   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
ALABD ALFAQEER
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

الدروس المصرية (4)

استدراكات مفهومية

1. بين المسلم والإسلامي:

إن مصطلح "الإسلامي" برز في العقود الأخيرة، مصاحبا للصحوة العامة التي عرفتها الأمة، ليميز بين المسلم "التقليدي" الذي كان قد اكتفى من الإسلام ببعض المظاهر التي تُثبت انتماءه، أكثر مما تدل على تدين حقيقي وبين من يريد أن يكون مسلما تام التدين. هذا من باب الزعم والنية على الأقل. ولقد عُرف الإسلاميون بعنايتهم بالجانب السياسي الذي كان قد أُهمل بصفة تكاد تكون تامة، في مقابل الفساد والاستبداد اللذين التصقا بمجتمعاتنا لقرون طويلة من جهة؛ ومن جهة أخرى في مقابل النظريات السياسية العالمية المعاصرة، التي لم تكن لتخلوَ من بريق يجتذب إليه الشباب.

لكننا نرى في مصطلح "الإسلامي"، دلالة أخرى قلما يتنبه إليها الدارسون والمتابعون، بسبب خفائها على غير العارفين؛ وهي أن "الإسلامي"، هو من صار الإسلام لديه أيديولوجيا إسلامية في الغالب. وهذا الوجه، هو الذي يُعتبر حقا الفارق بين المسلم والإسلامي. وسبب ظهور الأيديولوجيا الإسلامية، هو تأثر الشعوب الإسلامية بالمناهج الفكرية التي غزتها عبر المدارس العصرية التي حرص المستعمر على أن يزرعها في كل الربوع.

لم يتنبه جل المسلمين للغزو الفكري الذي صار يصوغ قناعاتهم واستنتاجاتهم، وظنوا أن ما يتوصلون إليه بهذه الطريقة، لا يُمكن أن يصادم الدين، إن كان هذا الدين حقا كما يُزعم. فنتج عن هذا التوجه تياران عامان: الأول: تيار يسعى بكل جهده إلى إيجاد تفسيرات فكرية لكل ما يمكن أن يكون من مفردات الدين عقبةً أمام العقل المسلم؛ والثاني: تيار بدأ يرد بعض الأمور التي يراها بعيدة عن العقل في نفسها، أو يراها مناقضة لبعض أسس الدين نفسه بحسب نظرته. ومن هذا التيار الثاني، ظهر من يردون بعض السنة إذا خالفت في نظرهم ثوابت القرآن. كل هذا، دون ضبط لوسائل تحصيل المعرفة الدينية، أو ضبط لكل معانيها.

وما نسميه الأيديولوجيا الإسلامية، هو الإسلام "برواية" العقل. ونعني بهذا، أن الإسلام لم يعد لدى جل المسلمين دينا كما كان في الأصل، بقدر ما صار أيديولوجيا. ولقد صار المسلم يختلف عن الإسلامي (بالمعنى الذي قررناه) في نظرته العامة إلى الدين، وفي وسائل تحصيل العلم، وفيما بعد في النتائج المتوصَّل إليها.

ومما يميّز بين الصنفين على -سبيل المثال- في مسألة التعلم، هو أن الإسلامي لا يعتبر، إلا العلوم الكسبية حتى فيما يتعلق بالعلوم الشرعية؛ بينما المسلم، عنده التعليم في أصله من الله، إما كسبا وإما وهبا. وأشد ما يُنكره الإسلامي من العلوم، علوم الوهب؛ لأنه يراها مناقضة لأسس العقل لديه.

وإذا علمنا الفرق بين المسلم والإسلامي رغم اتحادهما في الصورة، فإننا سنعلم حتما أن الإيديولوجيا الإسلامية ليست وليدة اليوم؛ بل هي قد بُدِئ في وضع حجر الأساس لها منذ القرون الأولى، عندما تُنووِل الوحي بالتفسير، باعتماد الفكر وحده (الرأي)، مما جعل العقائد تختلف بعضها عن بعض في الأصول أحيانا وفي الفروع غالبا، بسبب الاحتمالات التي تشوب العملية الفكرية وتلازمها.

وتحوّل الدين إلى أيديولوجيا، ليس خاصا بالأمة المحمدية وحدها؛ بل لقد سبقتها إلى ذلك أمة اليهود وأمة النصارى من قبل. ومن يتأمل العقيدة النصرانية اليوم، يجدها تفسيرات فكرية لما جاء الوحي الأول به؛ ضلوا بها عن الحق. والفكر التفسيري، وإن كان فكرا أكثر مرونة من الفكر الأصلي الصارم (كالفكر الرياضي)، فإنه لا يختلف عنه كثيرا. نقول هذا، لأن كثيرا من المفكرين، قد يظنون خطأ أن الفكر الديني، ليس من الفكر. وما ذلك إلا بسبب عدم تقبلهم لمرونته غير المضبوطة بضوابطهم في عملية التفسير. لكننا نؤكد أن ذلك، لا يبلغ أن يقطعه عن أصله، إلا بقدر إضافته التخصيصية فحسب؛ ونعني بذلك كونه فكرا دينيا لا فكرا مجردا.

والأمة الإسلامية، بسبب عدم تفريقها بين الدين والأيديولوجيا، فإنها وقعت تحت حكم الإسلاميين، لظنها أنها ستعود بذلك إلى الأصل الذي انفصلت عنه ولو جزئيا. أما الإسلاميون، بسبب فقدهم للعلاقة الربانية التي هي أساس التدين، فإنهم لن يتمكنوا من الترجمة العملية الأخلاقية للدين إلا فيما ندر. وهذا ما سيجعلهم في النهاية يظهرون في أعين العامة غير مختلفين عن غيرهم من أصحاب الفكر السياسي على الخصوص. وهذا، لن تُدركه الجماهير إلا بعد التجربة التي دخل فيها الإسلاميون اليوم.

ونحن نرى أن معالم الأيديولوجيا كانت متبدّية قبل هذا، يوم أن قبل الإسلاميون بما يخالف أصول الدين مما هو من الفكر الدخيل، حين قبلوا باللعبة الديموقراطية، واحتكموا إلى صناديق الاقتراع، ورضوا بعلمانية جزئية حسب المعمول به. قد يتذرع قوم منهم، أن هذا "تكتيك" هم مضطرون إلى ركوبه من أجل عدم الانسحاب من ساحة المواجهة السياسية خصوصا، وليس استراتيجية. ولكننا نتساءل عن الضمانات التي يمكن أن تجعلنا نطمئن إلى عدم ضياع البوصلة في الطريق، مما يجعل العمل الإسلامي ينصهر في الفكر العولمي الممسوخ! ما هي؟..

كان من الأجدر -بحسب قواعد الفكر نفسه- أن تتقدم مرحلة العمل السياسي المباشر، مرحلة تأسيس فكري له (نحن نجاريهم فيما يذهبون إليه)؛ تجعل الأمور غير رهينة بمتغيرات الأمزجة والظروف المختلفة. أما والحال غير تلك، فإننا نتوقع للعمل الإسلامي تخبطا كبيرا، سيزيد من حدة الفوضى التي دخلتها الأمة الإسلامية في هذه المرحلة الجديدة، التي أعقبت "الثورات" العربية.

2. مقولة "السلطة للشعب":

أصبحت جميع أطراف المعادلة السياسية، تردد مقولة "السلطة للشعب"، سواء أكانوا مصدقين بها أم مكذبين؛ وإن كنا نرى أن أغلبهم مكذبون وكاذبون. ذلك لأنه لا أحد في الحقيقة يعتبر عموم الناس، وإنما مرادهم استتباعهم فحسب؛ من أجل استعمالهم في المواجهات التي قد تصل حد أن تكون جسدية في بعض الأحيان. أما عندما يستتب الأمر، فلا يأبه أحد لمن كان يستجدي مودتهم أمس. وهذا يظهر جليا من النواب البرلمانيين في زماننا، ومع ذلك فإن العملية تقبل التكرار بسهولة، بسبب ضعف الإدراك لدى العوام.

الوحيدون الذين لم يستغفلوا العامة ويتلاعبوا بمشاعرهم، هم الأنبياء عليهم السلام والورثة من أتباعهم. كانوا يخبرونهم بما هو الأمر عليه، ويتركون لهم أن يختاروا. ولا يهمهم أن يُقبلوا بعد ذلك أو يُدبروا، إلا من باب الحرص على خيرهم. أما الساسة اليوم، إسلاميون وغيرهم، فهم يكذبون على الشعب عندما يوهمونه أن السلطة له. يريدون بذلك تخديره واستعماله في أغراضهم، وبعد ذلك ينبذونه لهمومه الفردية والجماعية. وحينها يكون الأوان قد فات، وتكون المرحلة قد تُجووِزت.

السلطة التي يُقصد منها التحكم في المصائر، وإقرار الأحكام والتشريعات، لا تكون إلا لله. والشعب عليه أن يُطيع الله طاعة عبودية، هو والحاكم سواء بسواء. ومن يقلْ غير هذا، فهو كاذب مخادع!..

يزعم بعض الإسلاميين أن مقولتهم تلك مشروطة، لأنهم يخاطبون بها شعوبا مسلمة لن تبتغي عن الإسلام بديلا. والحقيقة غير هذا، نعلمها إذا افترضنا أن الشعب ارتد في عمومه، أو فسق عن الصراط المستقيم. فماذا سيقول الإسلاميون إذ ذاك؟ هل سيبقون على رأيهم ويكفرون مع الكافرين أو يفسقون مع الفاسقين؟ أم سيُعلنون ما كان ينبغي أن يُعلن من أول خطوة. هذا الافتراض وإن كان بعيدا، نريد منه أن نتبيّن الحكم، فحسب.

لذلك، فمن الواجب على أهل الخطاب السياسي، أن يخبروا الجموع بأنه لا سلطة لديهم؛ وإنما لهم إما مناصرة الحق بعد معرفته، وإما مخالفته. ولو رأينا الشباب الذي يَدفعون به إلى الشوارع، يحارب عنهم خصومهم، لعلمنا مقدار الجريمة المرتكبة، التي يبيعون فيها الأوهام لغيرهم. ترى الشاب من أولئك، منتفخ الأوداج غرورا، يحسب نفسه بطلا من أبطال العصر، يشير في وهمه يمينا أو شمالا فتسقط رؤوس كان يُحسب لها ألف حساب. كل هذا وهم في وهم! فإنا لله وإنا إليه راجعون!..

3. الشهادة في سبيل الله:

صارت الشهادة توزع على كل قتيل من قِبل الإعلام الشيطاني، كأنها صكوك غفران جديدة. وصارت الإشادة بالشهداء -كذبا وزورا- تجعل الواحد من الفتيان يتحرق شوقا إلى يوم تُعلن "شهادته" على وسائل الإعلام المختلفة. وكأنه في معركة هو فيها مع الحق ضد الباطل؛ في معركة يبذل فيها نفسه في سبيل الله حقيقة. نعم، قد يتوهم شباب الإسلاميين خصوصا أنهم كذلك، والحقيقة أنهم غير ذلك، إلا فيما ندر. نسوا أن ينصروا الله في أنفسهم قبل أن ينصروه على غيرهم. نسوا أن النفس تفضّل موتا مع الشهرة، على ركعة في خلوة. نسوا أن شيطان الإسلاميين، لا يدعو إلى معصية صريحة، وإنما يدعو إلى طاعة جوفاء!.. حدّث أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حدّثه: «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ : أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى الله عَليه وَسَلّم عَلَى رُكْبَتِي، فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[رواه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم]. فالمسلم، يخاف على نفسه من أن يعمل ويذهب عمله سُدى؛ وأما الإسلامي، فيتخذ العمل غاية، فلا يراعي لله حرمة ولا يخاف منه حسابا.

ولقد بلغ الجهل من بعض الإعلاميين، وبلغ الحمق، أن صاروا يسبغون الشهادة على موتى النصارى أيضا، ويدعون لهم بفسيح الجنات! انمحت الحدود عندهم بين الدين الحق، والأديان الباطلة، بفعل طغيان الفكر الحقوقي الأممي على عقيدتهم الدينية. وهذا باب آخر كبير، من أبواب الإضلال الذي يراد لأمتنا.

جاء في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ أَعْلَى فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[متفق عليه]. وانظر الآن إلى من يقاتل (معنويا أو ماديا) لمغنم سياسي، أو ليشاد به في وسائل الإعلام، أو ليُرى مكانه من تنظيم أو فريق، فيصير من الزعماء ... كيف يغامر بمصيره الأبدي، وهو لا يشعر! ومن مِن هؤلاء الذين يخرجون إلى الشارع لتكون كلمة الله أعلى؟! قد يقول السلفيون، هم نحن! لأننا ندعو إلى تطبيق الشريعة! فنقول: حكّموا الشريعة في أنفسكم قبل أن تطلبوا تحكيمها في غيركم! ومن كان منكم على شك مما نقول، ورغب بصدق في معرفة آفات نفسه، فليكلمنا!.. وإلا فالموعد الآخرة!..

(يُتبع...)









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
المصرية:, الدروس, سلسلة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 18:41

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc