مقالة حول الطبيعة والثقافة
السؤال « اذا كانت الطبيعة ما وجده الانسان ، فإن الثقافة هي ما أوجده » : ما رأيك ؟
الطريقة : مقارنة .
* إن المقابلة بين الطبيعة من حيث هي استعدادات فطرية وجدها الانسان ، وبين الثقافة من حيث هي معطيات مكتسبة أوجدها ، تدفع الى الاعتقاد بأنهما منفصلان تماما ؛ فماهي حقيقة العلاقة بين ماهو طبيعي فطري وماهو ثقافي مكتسب ؟
1 - إن الطبيعة والثقافة تمثل كليهما البيئة التي يستقر فيها الإنسان ، و المحيط الذي ينتمي إليه ، فلا يمكن إطلاقا تصور إنسان الا في وسط طبيعي وآخر ثقافي ، أما وجوده خارجهما فليس الا مسألة نظرية وليدة الخيال .
ومن جهة أخرى ، تمد الثقافة والطبيعة كلاهما الانسان بوسائل التكيف والقدرة على التلاؤم ؛ فالمنجزات الثقافية هي أدوات لإكمال ماهو ناقص أو مقا ومة ما يهدد بقاء الانسان ، والطبيعة تزود الانسان بوسائل تكيف نشوئية طبيعية كالقدرات العقلية وخاصتي التلذذ و التألم لإختبار المنافع و المضار . فالانسان إذن مدين للطبيعة بوجوده ، وللثقافة والهيئة الاجتماعية ببقائه .
هذا ، وتؤثر كل من الطبيعة والثقافة على شخصية الانسان ، فالملاحظة البسيطة تكشف عن تنوع سلوكات الافراد وملامحهم الفيزيولوجية بل وقدراتهم العقلية ، وذلك لتباين الوسط الطبيعي الذي يحيط بهم واختلاف الثقافة التي ينتمون اليها . ومن جهة ثانية ، فالانسان يولد اصلا حاملا لاستعدادات فطرية ، لتتحكم الطبيعة الخارجية في تحديد ملامحه بعد ذلك ، فالمناخ والموقع الجغرافي والغذاء امور تتحكم في لونه وشكله وابعاد جسمه ، فتقوم الثقافة – بمختلف مظاهرها – بالتحكم في تلك الجوانب فتطبعها بطابع خاص .
2 - ولكن اذا كانت الثقافة بالمفهوم العلمي تشمل كل ما اكتسبه الانسان من البيئة الاجتماعية ، فإنها بذلك مخالفة تمامالاختلاف لما هو طبيعي ، سواء تعلق الامر بالطبيعة الخارجية التي لم تمتد يد الانسان إليها ، أو الطبيعة الانسانية التي تمثل ما يحمله الوليد البشري معه منذ الولادة . وعليه فالطبيعة تمثل كل ما يتقبله الانسان ويخضع له دون اختيار منه ، فلا مجال لإرادته في تغيير طبعه او تعديل آليات الهضم او الابصار ، بينما مظاهر الثقافة تمثل مجال الابداع والتطوير والتغير ، فما من ثقافة تظل جامدة ساكنة ، وما من مجتمع الا ويتطلع افراده الى ابداع اساليب جديدة تسمح باشباع حاجياتهم وتحقيق التكيف مع المواقف الجديدة .
ليس ذلك فحسب ، بل ان ماهو طبيعي عام وشامل ، وذلك واضح في تتابع ظواهر الطبيعة في شكل علل ومعلولات ، وترابطها ترابطا سببيا تؤدي فيه نفس العلة الى نفس النتيجة دائما ، والامر ذاته في الطبيعة البشرية ، فمهما تمايز الافراد واختلفوا فهناك وحدة تختفي وراء هذا الاختلا ف الظاهر ، لأن الحاجة الى الاكل والنوم والهواء وآليات الهضم والتنفس .. واحدة . وفي المقابل ، تتصف الثقافة بالتنوع في الزمان والمكان ، فاذا كان الانسان اينما وجد يطلب الاكل والنوم ، فان الوسائل الثقافية المتبعة في تلبية تلك الحاجات تختلف من مجتمع لأخر ، بل وتتباين داخل المجتمع الواحد من جيل الى جيل ، ومثل ذلك يقال على اللباس والمسكن واللغة والعادات وغيرها من مظاهر الثقافة المتعددة .
3 - ورغم ذلك ، الا ان الوسط الطبيعي يتحكم في التنوع الثقافي ذاته ، فاذا كان شكل البناء ومادته ونوع اللباس والغذاء عند الا سكيمو يختلف عما هو عليه الحال في المناطق الاستوائية ، فان المناخ والموقع الجغرافي – كعوامل طبيعية – هي التي تفرض ذلك الاختلاف . وهو امر يتعدى مظاهر الثقافة المادية الى المعنوية منها ، فحتى القوانين والتشريعات تعكس – في كل ثقافة – تحكم العامل الطبيعي ، كا لاختلاف بين المجتمعات في تحديد سن البلوغ لتحكم المناخ ودرجة الحرارة في نضج الفرد .
وبالاضافة الى ذلك ، فالطبيعة تمثل الارضية التي تقوم عليها الحياة الثقافية والمادة الخام لإبداع مظاهرها ، فلولا القدرات العقلية – وهي في الاصل استعدادات طبيعية – التي يمتاز بها الانسان عن غيره لما كانت له ثقافة ، ولإجل ذلك لا يصنع ضعاف العقول ثقافة . كما لا يمكن ان ننكر ان بعض المهارات الثقافية كالرقص والتزحلق والرياضة ليست الا تنظيما لحركات المشي الطبيعية ، ولو انعدمت هذه زالت تلك .
هذا ، والاستعدادات الطبيعية لا تنمو ولا تتطور الا حينما يعيش الفرد في وسط مجتمع ويتفاعل مع ثقافته ، فما يحمله الفرد من ذكاء وقدرات وطباع يبقى مجرد بذرة لا تؤدي الى ابداع ولا تكون شخصية حقيقية بمعزل عن الهيئة الاجتماعية ، وهو امر يجد تأكيدا له في حالة الفتاة " كمالا " التي اكتشفت عام 1920 بغابات ا لهند ، ولم يكن في احوالها ما يدل على مظاهر السلوك البشري ، لأنها في عزلتها عن المجتمع فقدت كل ماهو ثقافي من مشي على قدمين ولغة وتفكير وسلوك مهذب .
* وهكذا يتضح ان الاختلاف بين ماهو ثقافي وماهو طبيعي لا يبرر اطلاقا القول بانفصالهما التام ، إذ الواقع ان في الانسان يتشابك ماهو فطري بما هو مكتسب ، الى درجة يتعذر معها وضع خط فاصل بينهما ، وعليه يجوز القول ان العلاقة بين الطبيعة والثقافة هي علاقة تداخل ، حيث لاوجود لطبيعة خالصة ، وكذلك لا وجود لثقافة غير متداخلة مع الطبيعة .