سمعُ مَنْ يقولُ:
«ليس هُناكَ دليلٌ مِنَ القُرآن والسُّنَّة علىٰ لفظة "العقيدة"، فكيف الرَّدُّ عليه؟»
سُئِلَ فضيلة الشَّيخ الدُّكتور / مُحمَّد بن هادي المدخليّ ـ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى ـ: نسمعُ مَنْ يقولُ: ليس هُناكَ دليلٌ مِنَ القُرآن والسُّنَّة علىٰ لفظة العقيدة، فكيف الرَّدُّ عليه ؟
فأجابَ: نقولُ: إنَّ لفظة «العقيدة» دلَّت عليها اللُّغة العربيَّة، ودلَّت عليها النُّصوص الشَّرعيَّة عمومًا. و«العقيدة» مأخوذةٌ مِنَ العقد، والعقد هُوَ الرَّبط والشَّدُّ للشَّيْء. وهُنا سُمِّيت العقيدة عقيدة: لعقد القلب عليها.
ونقولُ: إذا لَمْ يرق لكَ هـٰذا الاِسْم ماذا تُريد أنْ تُسمِّيها ؟! ماذا تُريد ؟! هـٰذهِ مِنَ الاِصْطلاحات الَّتِي جاءت فِي لُغة العرب وتخاطبوا بها، والعُلماء تخاطبوا بها مِنْ غير نكير، والَّذي يُنكِرُ ذٰلكَ مُخالفٌ لما جاءَ عَنْ هـٰؤلاء الأخيار رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَىٰ جَمِيعًا، ومِنْ هـٰذا القبيل قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَىٰ قَلْبِ أَحَدِكُمْ ثَلَاثَ عُقَدٍ، فَإِنْ هوَ قامَ وَذَكرَ اللهَ اِنْحلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ هُوَ تَوَضَّأَ اِنْحلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ هُوَ صَلَّى اِنْحلَّت عُقَدُهُ جَمِيعًا، فَأَصْبَحَ طَيِّبَ النَّفْسِ نَشِيطًا، وإلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ) ([1]).
والعقد: هو الشَّدُّ والرَّبطُ على القلب هُنا، والمراد هُنا عقد القلب علىٰ هـٰذا الإيمان، وعلىٰ هـٰذا الدِّين الَّذي جاءَ بِه رسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأدلَّة عليها كثيرة، وإنْ اِخْتَلَفْتَ معنا فِي هـٰذِه اللَّفظة فالألفاظ الأُخرىٰ لا يُمكن أنْ تجد لكَ مخرجًا منها؛ فمن ذٰلك قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلامَ: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلـٰهَ إِلَّا اللهَ دَخَلَ الْجنَّةَ) ([2]). وقالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ « محمَّد: 19 ».
والعلم أينَ محلُّهُ ؟ القلب. العلم مَحلُّهُ القلب. فهـٰذا العلم الَّذِي هو فِي القلب، ويُعقد عليه القلب، هـٰذا هُوَ الاِعتقاد.
ولـٰكن! نحنُ اليوم ـ كما قُلت لكم فِي أوَّل الكلام ـ أصبحنا نسمع التَّشكيك فِي المُسلَّمات والبَدَهيَّات، فضلاً عن ما ذُكِرَ فيه شيءٌ مِنَ الخلاف، هـٰذا أصبح الباب واسعًا فيه، بل الخلاف المُنكر أوْ الضَّعيف أصبحَ اليوم عند كثير مِنَ المُتكلِّمين هو الرَّاجح وللأسف؛ وما ذٰلك إلَّا لتسلُّط فتنتي الشَّهوات والشُّبهات على كثيرٍ مِنَ المُتكلِّمين فِي هـٰذا الباب، واليوم كنتُ أقرأ فِي بعض الصُّحف كلامًا لبعضهم حينما اِستُفتي فِي إزالة بعض المعالم الَّتي وُجِد بعض الاِفتتان بها، فقال: لا داعٍ إلىٰ إزالته، ولـٰكن يُعلَّم النَّاس، وإذا تعلَّموا يُصبح لا أثر لهـٰذا الشَّيء، طيب؛ الآن النَّاس كم فيهم مِنَ التَّعليم ؟! الآن نحنُ نقرأ فِي الصُّحف، ونرىٰ ونسمع بالإذاعات، الدُّكتور فُلان الدُّكتور فُلان، فأصبحت هـٰذه الكلمة تغرَّ النَّاس ـ كلمة الدُّكتور ـ، وكأنَّهُ ـ كما يقولون ـ شيخٌ فِي الشَّريعة، ومختصٌّ فِي الشَّريعة، وإذا بهِ هـٰذه الدُّكتوراة فِي شيءٍ آخر، إمَّا فِي اِقتصاد، وإمَّا فِي البيطرة، وإمَّا فِي علم النَّبات، وإمَّا فِي علم الحشرات، ونحو ذٰلك، فأصبحَ هُوَ وَمَنْ اِختصَّ فِي الشَّريعة وأفنىٰ عمره فيها ـ أصبح ـ عند النَّاس سواء، يعني كما سَمعتُ مِنْ بعض مَنْ تَكلَّم معي ونقل لي ذٰلك وهُوَ من خيرة المشايخ، لمَّا ذُكِرَ لبعضهم الشَّيخ صالح الفوزان حَفِظَهُ اللهُ، قالَ: هُوَ دكتور وفُلان دكتور؛ فبحثنا عن فلان هـٰذا الَّذي ساواهُ بِه، وإذا تخصّصه فِي ماذا ؟! تخصّصه فِي الاِقتصاد ومؤشرات الأسواق العالميَّة الماليَّة هـٰذه، الأسهم اِرتفعت، الأسهم نزلت، لـٰكن الشَّيخ صالح الفوزان اِختصاصه ماذا ؟ دين الله اِرتفع، أوْ دين الله أراد هـٰؤلاء أنْ يُنَكِّسُوه، هـٰذا اِختصاصهُ، معرفته بدين اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ، فهل تجعل هـٰذا مثل هـٰذا ؟! شتَّان !.
لَا تَعْرِضَنَّ لِذِكْرِنَا مَعْ ذِكْرِهِمْ °°° لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَىٰ كَالْمُقْعَدِ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ °°° إِذَا قِيلَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَىٰ مِنَ العَصَا.
السَّيف أقطع مِنَ العصا، هـٰذا كلُّ واحدٍ يعرفه، فما الَّذي جاء بهـٰذا إلىٰ هـٰذا. وأنا حقيقةً وليسمح لي الإخوان في مَثَل عند التَّوانسة، والأمثال تُضرب فِي بيان الدَّني النَّازل إذَا أُريد أنْ يُساوىٰ به العالي النَّفيس، عندهم قرية في « تونس » اِسمها بو حمار، وهي قرية مغمورة، حتَّىٰ يمكن بعض أهل تونس لا يعلمها، فإذا أراد واحد منهم أنْ يساوي مَنْ لا يُعبأ له ومَنْ لا مكانة له، ولا ذكر له، ولا قيمة له، بمن لهُ المكانة العالية، قالَ أهل تونس: "وإيش جاب مكَّة لـ بو حمار"!. هـٰذهِ مكَّة الكفَّار يعرفونها، وأنَّها قبلة المسلمين لا يجهلها أحد، لا مسلم ولا كافر، كلُّهم يعرفونها حتَّى الكفَّار، ويعلمون مكانتها فِي قُلوب المسلمين، وهـٰذه اِسمها « أبو حمار »، يكفيك اِسمها! فما الَّذي جاء بهـٰذا إلىٰ هـٰذا ؟!
عُلماء الحشرات هُم عُلماء فِي بابهم، يُقال لهم: عُلماء الحشرات، وعُلماء النَّبات، وعُلماء الفيزياء، وعُلماء الأحياء، أمَّا هـٰؤلاء يُقال لهم: عُلماء مُطلقًا، هـٰؤلاء عُلماء الشَّريعة، العِلم إذَا أُطلق هوَ العِلم الشَّرعيِّ، فإيش جاب مكَّة لـ بو حمار ؟! ما الَّذي جاء بهـٰذا إلى الشَّيخ صالح الفوزان ؟! لـٰكن! للأسف كما قُلتُ لكم فِي أوَّل الكلام، الإعلام برَّاق! والبريق خدَّاع! ترى السَّراب أمامك تحسبهُ ماءً، ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ « النُّور: 39 ». فهـٰؤلاء لا يرونَ إلَّا هـٰؤلاء الَّذين يصعدون ويطلعون وينزلون فِي هـٰذهِ الفضائيَّات، فأصبحَ عندهُم هـٰذا الدُّكتور كهـٰذا الدُّكتور؛ شتَّان! شتَّان! شتَّان! وإلى اللهِ المُشتكى.اهـ.
--------------------------------------------------

مِنْ كلمة بعنوان:
([ « عُلُوِّ الِهمَّة فِي الدَّعوة إلَى الله » / ضمن برامج دورات: الإمام عبد العزيز بن باز العلميَّة / المقامة بمحافظة الطَّائف،
جامع العُذل