وجدت هذه المقالة المفصلة لنظرة سيد قطب للمجتمعات الاسلامية وموقعها من الشريعة والعقيدة ، فأحببت ان تشاركوني بارائكم ولكم الشكر:
-تختلف نظرة الشهيد سيد قطب للمجتمع بشكل جذري عن نظرة الإمام البنا له، فقطب يعتبر أن جميع المجتمعات القائمة اليوم هي مجتمعات جاهلية، "ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة" والجاهلية المقصودة هنا كما يعرفها قطب نفسه- هي "الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية" .
وقطب على خلاف الإمام البنا- ينظر للجزء الفارغ من الكوب فيعتبر أننا اليوم في جاهلية تامة، فـ"كل ما حولنا جاهلية"، وهو بذلك "لا يقصد جاهلية العمل والسلوك وإنما جاهلية العقيدة" كما يشير العلامة يوسف القرضاوي، فحكم بذلك بكفر الأمة بأكملها، لا فئة أو طائفة منها وحسب وهو بذلك يخرج المجتمعات المعاصرة بأكمها من الإسلام، ولكنه لا يعتبرها مرتدة ولا يقيم عليها أيا من أحكام الردة كما يشير الدكتور القرضاوي، لأنهم في رأيه (أي قطب) لم يدخلوا الإسلام من الأصل، كونهم لم يفهموا معنى شهادة لا إله إلا الله من الأصل. والحقيقة أن قطب استخدم عشرات من الألفاظ في كتاب (معالم في الطريق) وحده لتأكد أن تلك الفكرة كانت ما أراد، وأن التعبير لم يخنه في ذلك؛ فقد اعتبر المسلمين "مسلمون نظريا" ، وأضاف أنه "لم يعد للمسلمين إسلام" واعتبر أن الإسلام "يرفض الاعتراف بشرعية هذه المجتمعات كلها " وغيرها من العبارات الصادمة، والتي يعتبرها الدكتور محمد عمارة مستوى من المجازفة والغلو غير مسبوق في تاريخ الصحوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة على الإطلاق.
ولهذه النظرة أثر كبير على تعامل الشهيد قطب مع المجتمع؛ فهو أولا يطالب أنصاره بالاستعلاء على المجتمع، كونهم يملكون الحق الذي يبعد عنه المجتمع، وهذا الاستعلاء النفسي بامتلاك الحق خطوة لابد منها حتى لا يتوه الحق في الباطل، فيجب "أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته....إننا وإياه في مفترق طريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق،" والفصل هنا بين المجتمع والتنظيم شديد الوضوح، ولا طريق وسط بينهما ولا مجال للالتقاء، ولا فائدة من محاولته، بل الضرر من وراء ذلك كبير. وهكذا يمهد قطب بالاستعلاء لخطوة تالية وهي الانفصال التام عن المجتمع، أو "العزلة الشعورية" كما يسميها. ذلك أن للمجتمع "منطقه السائد وعرفه العام وضبطه الساحق ووزنه الثقيل على من ليس يحتمي منه بركن ركين،" ومن ثم فالعقيدة تدعو المؤمنين لأن يستقلوا، "وتقول لهم أنتم الآن مجتمع؛ مجتمع إسلامي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي."
ثم إن هذا المجتمع حينما يستقل يكون مطالبا بتكوين تنظيم منظم يتحرك من خلاله لأن العقيدة الإسلامية "تحب أن تتمثل في نفوس حية، وفي تنظيم واقعي، وفي تجمع عضوي وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها،" وقطب هنا يشير إلى أن العزلة إنما تكون شعورية لا عملية، حيث أنه لا يريد الانفصال ماديا عن المجتمعات، فهو لايزال يحاول استقطاب أفرادها إلى مشروعه أو تنظيمه، ولا فارق عنده ما بين المشروع والتنظيم، إذ أن الإيمان بالأول يوجب بالضرورة –كما هو واضح في كلامه- العمل في إطار الثانية. وبالتضاد فإن ذلك معناه أن كل من هو خارج التنظيم هو خارج على الفكرة، وهو أمر شديد الخطورة بالطبع، وشديد البعد عن أفكار الإمام البنا الذي قال: كم منا وليس فينا وكم فينا وليس منا.
يؤكد قطب على فكرته تلك بتأكيده على أن الإسلام هو "منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس" وتبرير قطب لوجود التنظيم لا ينحصر في كونه ضرورة توجبها الشريعة الإسلامية، وإنما هناك أسبابا أخرى لذلك، مثل كون "الجاهلية لم تكن ممثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحيانا لم تكن لها نظرية على الإطلاق، إنما كانت متمثلة دائما في تجمع حركي" وبالتالي فلابد من وجود تنظيم إسلامي مضاد ليكون طليعة للمشروع الإسلامي بعد ذلك
ولأن المجتمع جاهلي ولا توجد بينه وبين التنظيم مساحات مشتركة فإن التغيير لا الإصلاح هو الحل لـ"أسلمة المجتمع؛" وهي لا تتم إلا بأن يزيل هذا التنظيم المسلم "هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام؛" وهو بالتالي يكون مجتمعا إسلاميا منعزلا عن المجتمع حتى تكون له القوة الكافية للقفز على السلطة - التي يراها مصدر الفساد- ومن ثم التحرير العام، ولا داعي لتقييم هذه الفكرة وآثارها إلا من ناحية صلتها بأفكار الإمام البنا، فذلك مقصد البحث.
ولا شك أن هذا المنهج في التغيير يتناقض مع منهج الإمام البنا التدريجي الذي يبدأ بالفرد فالأسرة فالمجتمع ولا تكون الحكومة إلا في النهاية، في حين أن مشروع قطب يبدأ بالوصول ثم الإصلاح من أعلى. وفي ظني فإن ذلك ليس إلا لتأثر قطب بالسيد أبي الأعلى المودودي رحمه الله، مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، والذي كان يسعى لذلك النوع من التغيير، بل وتبنى ذلك الخط الفكري العام، لأن دعوته قامت في الأساس على فصل باكستان عن الهند بسبب الانتماء الديني الإسلامي للباكستانيين،و بالتالي فقد ركز المودودي على مساحات الاختلاف، ورفض وجود أي مساحة اتفاق مع المجتمع الهندي، وانفصل، ونظَّر للتغيير من أعلى.
المهم أن منهج الأستاذ قطب الذي يرى بحتمية التغيير واستحالة الإصلاح لابد وأن تختلف وسائله عن غيره ممن يرى بإمكان، بل وبوجوب الإصلاح. وبالرغم من عدم دعوة قطب الصريحة إلى استخدام العنف، فإنه لم يأخذ منها إلا موقفا تأقيتيا، بمعنى أنه كان يرى أن الوقت غير مناسب لاستخدامه؛ "فلا ضرورة في هذه المرحلة لاستخدام القوة،" وهو بذلك ترك الباب مفتوحا أمام هذا الخيار، بل ولم يقدم غيره في رؤيته للتغيير، فأسس بذلك لما يسمى بالـ(عنف المؤجل)، أي الاعتقاد السائد لدى بعض أبناء التيارات المختلفة بأن سبب عدم لستخدام العنف هو أن وقته لم يحن بعد ليس إلا. والحقيقة أن رؤيته للمجتمع وتجهيله له على هذا النحو لعب دورا في ذلك، عمقه فيما يبدو ما لاقاه من تعذيب تغلبت به الرغبة في الخلاص على عاطفة الحب والرغبة في الإصلاح خاصة مع مشاعره المرهفة التي تظهر جليا في كتاباته؛ وكان البون شاسعا بين فكره وفكر الإمام البنا في هذا الإطار؛ ففكر البنا "فكر يزرع أرضا وينثر حبا ويسقي شجرا وينتشر مع الماء والهواء، أما فكر سيد قطب فهو يحفر خندقا ويبني قلاعا عالية الأسوار سامقة الأبراج، قلوعا ممتنعة، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب" كما يشير المستشار البشري.
وفي ظني فأن تلك الرؤية الفكرية والحركية للأستاذ سيد قطب لم تنبع عن غلو في فهم الشريعة، فالرجل قدَّم في الظلال، بل وفي بعض فقرات المعالم قدرا من المرونة والتسامح في فهم الشريعة، بل وصرح في غير موضع بأنها ليست ستاتيكية جامدة، بل هي متغيرة قادرة على التعامل مع مقتضيات الواقع في ظل أسسها وقواعدها. وإنما يتأتى الغلو من جهة أخرى، فهو غلو في المقاومة دارت حول مفهوم التوحيد، شبيه في هذا الإطار بغلو الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ولكن ابن عبد الوهاب اهتم في الأساس بإصلاح الجوانب الشركية في العبادات والتصرفات الفردية المباشرة وغلا في ذلك، واهتم قطب بالمقاومة في الميدان الحضاري والحياتي العام وغلا فيه أيضا فخلع عن "لا إلى إلا الله" بالكلية كل من قصر في جانب من جوانبها حتى وإن كان تقصيرا وليس إنكارا، ولم يفرق في ذلك بين الأصول والفروع، ولا بين العالم والجاهل، وجعل المسائل كلها من العقائد.
وفي اعتقادي فإن المشكل الحقيقي المتعلق بفكر كل من قطب وابن عبد الوهاب - رحمهما الله- هي عجزهما عن رؤية ألوان الطيف المختلفة؛ فكلاهما رأى الأبيض والأسود فقط، رغم أن ذلك ليس موجودا في عالم الأشخاص، ومساحاته ضيقة جدا في عالم الأفكار، فكان في خياراتها خوفا مبالغا من التفريط أدى لغلو قد يكون مفهوما ولكنه يبقى غير مبرر.
المهم أن هذا الغلو الشديد في المقاومة قد أدى بقطب إلى رفض بعض المفاهيم كالوطنية؛ فعلى الرغم من قبول البنا بالعديد من صور الوطنية كما أسلفنا فإن قطب اعتبر العقيدة هي وحدها "الجنسية التي يريدها الإسلام للناس،" وأكد على أن المنهج الإسلامي يقيم التجمع "على آصرة العقيدة الإسلامية وحدها دون أواصر الجنس والأراض واللغة واللون والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة" فأنكر أشد الإنكار أي انتماءات أخرى معتبرا إياها من بقايا الجاهلية السخيفة التي يجب التخلص منها.
أنكر قطب كل مفاهيم الوطنية فاعتبر أن من صور "الشرك الخفية: الشرك بالأرض والشرك بالجنس والشرك بالقوم والشرك بالنسب والشرك بالمنافع القريبة" لأن "وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم؛" "فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله" (وهو يرى أنها لا تقام في أي مكان) "ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته." والفارق كبير بين تلك الرؤية ورؤية الإمام البنا، والحق إنني أعجز عن فهم كلام الأستاذ سيد في ضوء حب الرسول لمكة، وبكاؤه لفراقها، وشعر بلال الذي ألقاه عنها، وموقف الرسول من أهله وعشيرته.
تلك الرؤية كانت سببا كذلك في غياب الرؤية الفكرية بالكامل عن المشروع القطبي؛ فهو مشروع آني تنظيمي، لا يعلم على سبيل اليقين (ولا غلبة الظن) آلية واضحة للتغيير، ويرى الحديث في شكل الحياة بعد التغيير ترفا وإهدارا للوقت، إذ الهدف في المرحلة الحالية هو (التكاثر التنظيمي) لامتلاك القوة اللازمة للتغيير. يعلل قطب ذلك بقوله إن الإسلام "لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا" ومن ثم فلا داعي للتفكير فيما سيكون، وهو يربط هنا بين التشريع والرؤية الفكرية والبرنامج العملي كما لو كانوا شيئا واحدا، وذلك أمر طبيعي في إطار رؤيته للشريعة باعتبارها تُفَصِل أحكاما لكل شيء، أي لا وجود في فكره لتلك المنطقة التي يسميها العلامة القرضاوي بمنطقة العفو، والتي هي في الشأن العام منطقة المصالح المرسلة التي لا نص فيها، ولذلك يقول إنه بعد "قيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من بين مغتصبيه من البشر ورده لله وحده" فإنه يجب "سيادة الشريعة وحدها وإلغاء القوانين البشرية!" والشطر الأول (سيادة الشريعة) مفهوم ومتفق عليه، وهو ما عبر عنه قطب من قبل بالحاكمية، وأما الثانية فهي في ظني ليست إلا تجسيدا للغلو في المقاومة الذي انتهجه الشهيد قطب رحمه الله.
المهم أن قطب يرفض أن يقدم حلولا للمشكلات العصرية في إطار الشريعة وردودا على الشبهات حول التشريعات الإسلامية لأن "الذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب النظام وأن يصوغ تشريعات للحياة بينما ليس على الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها...لا يدركون طبيعة هذا الدين ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد الله" ، ولا مجال هنا للقول بأن قطبا قدم تفصيلات للمشروع في كتبه الأولى، كالعدالة الاجتماعية في الإسلام، فقد كان ذلك قبل تحوله الفكري، فقد نقل عنه غير واحد ممن رافقوه أنه قال "إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة" والفارق بين ما كتبه في بداياته وفي نهايته كبير، وهو يعبر عن ذلك باعتبار الفارق بينه وبين الشافعي هو أن الشافعي غير في الفروع، في حين غير هو في الأصول، والعلامة القرضاوي يعلق على ذلك فيقول إن سيد الجديد الثائر الرافض صاحب "المعالم" قد عارض سيد القديم، الداعية المسالم صاحب "العدالة" بل واعتبر قطب تقديم هذه الحلول خروجا عن "منهج التكوين الرباني، وعن طبيعة منهج التفكير الرباني كذلك" وذلك بإخضاع الإسلام لمناهج التفكير البشرية "كأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد" ثم اتهم من يفعل ذلك بالوهن والضعف النفسي والهزيمة النفسية أما الضغط الغربي، فكان يصر على أن القضية المحورية الأساسية والوحيدة هي قضية الحاكمية ثم السير في الخطوات التنفيذية هكذا بدون إطار فكري يوضح الرؤية ويرسم الطريق.
ابراهيم الهضيبي