السَّلفيُّون فِي الجَزائِر و المُؤسَّسة الدِّينيَّة الرَّسميَّة الحلقة (1)
علاقةٌ مخالفةٌ لواقعِ الحال بعيدةٌ عن الحقيقةِ العلميَّة
الحلقة (1)
للشيخ مختار طيباوي
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله وحده، و الصَّلاة و السَّلام على من لا نبيَّ بعده.
أمَّا بعد؛الغرض من هذا المقال إصلاح العلاقة المتشنِّجة بين السَّلفيَّة و المؤسَّسة الدِّينيَّة الرَّسميَّة الممثِّلة في الجزائر لــ:مذهب مالك، و الأشاعرة، و الصُّوفيَّة، و الَّتي لا سبب واضح علميٍّ أو تاريخيٍّ لها، إنَّما تشكَّلت بفعل سلوكات لبعض عوامِّ السَّلفيِّين وصغار الدُّعاة ، مع تساهل مِن المؤسَّسة الدِّينيَّة في بناء موقفها من السَّلفيِّين على إشاعات لا حقيقة لها (؟!)
فالتيِّار السَّلفيُّ من خلال مراجعه الجزائريَّة كـــ:عبد الحميد بن باديس، و البشير الإبراهيميِّ، و مبارك الميلِيِّ، و الطيِّب العُقبيِّ وغيرهم كان له دور فعَّال في الحركة الوطنيَّة،وفي نشر الوعي والثَّقافة الدِّينيَّة وسط الشَّعب الجزائريِّ، وفي الحفاظ على هُويَّته الثَّقافيَّة من خلال الحفاظ على تعليم اللُّغة و القرآن.
فهذه حقيقةٌ علميَّة تاريخيَّة واضحة وراسخةٌ اختفت نتيجة لممارسات غير مسئولة من الجانبين تحت غطاء تصنيف النَّاس ووسمهم بصوَّرٍ نمطية حينما غُلِّب خطاب الإقصاء و المغالبة، وردمت تحت اللَّبس المعرفيِّ ،ذلك أنَّ السَّلفيِّين و إن كان لبعض النَّاس عليهم انتقادات ،ولا يوافقونهم في مسائل عديدةٍ، فهذا شيء قابل للنِّقاش و للمساجلة العلميَّة الهادئة، لكن لا يجب أن يُهدر دورهم البارز في استقرار المجتمع الجزائريِّ، و الحفاظ على هويَّته بمقاومة تيارات التَّغريب ،و التَّشييع المستفحل، و الغلوِّ .
كما أنَّ جلَّ المسائل الَّتي انتقدت عليهم كموقفهم من تقليد مذهب مالك، ومن بعض ممارسات الطُّرقيِّين، وخاصَّة ما يتعلَّق بالوطنيَّة كــ:الوقوف للعَلَم، و انتقاد النشيد الوطنيِّ على عبارات وردت فيه، شابها بعضُ اللِّبس في نقل موقفهم كاملا محيَّثًا بأسبابِه مارسته بعضُ الجهات لغرض الدَّفع في نحر الحقائق، و تشويه صورتهم.
و كثيرٌ من المسائل المنتقدة على السَّلفيِّين سببُها الجهل بحقائق الأمور، أو عدم الدِّقة في التَّحرِّي لأنَّها ليست حكرا عليهم ،ولا هي من ممتلكاتهم الثَّقافيَّة، بل هي قضايا صحيحة قامت على صحَّتها أدلَّة العقول و النُّقول، و إلحاقها بالسَّلفيِّين ظلم للحقيقة التَّاريخيَّة إذ هي من الخصائص المشتركة بين سائر أهل السُّنَّة أي هي من الإسلام الصَّحيح.
إضافةً إلى ذلك وجب تصحيح الخطأ الشَّائع الَّذي وقعت فيه بعض الجهات عندما ظنَّت أنَّ السَّلفيَّة تعادي التَّصوُّف بإطلاق، واستحوذ على كيان بعضِ المتعصِّبين الرَّافضين لكلِّ نقد علميٍّ موضوعيٍّ المبالغة في مجاراة هذه الإشاعة فوجب ردُّ الاعتبار للحقيقة من خلال تجلِية موقف السَّلفيِّين من التَّصوُّف ليس من خلال مواقف بعض عوامِّ من ينتسب إليها، ولكن من خلال مراجعها المعتمدة ،مع إقامة الدَّليل على أنَّ المسائل الخلافيَّة مع الصُّوفيَّة ليست خاصَّة بالسَّلفيِّين ،بل هي كذلك داخل المتصوِّفة أنفسهم ،و أنَّ الموقف السَّلفيَّ منها لم ينفردوا به، بل هو موقف كثير من الصُّوفيَّة، ومن الفقهاء، و الأشاعرة، فإلصاقه بالسَّلفيِّين وحدهم مغالطة علميَّة وتاريخيَّة.
وعليه،كان من المفروض على المؤسَّسة الدِّينيَّة أن تبني أحكامها مع مختلف مكوِّنات المجتمع الجزائريِّ خاصَّة الجماعات الدِّينيَّة على منهجيَّة علميَّة ،وحقائق ثابتة، يمكن أن تتَّخذها منطلقًا للتَّقارب و التَّعاون على المصالح المشتركة لبلدنا ومجتمعنا.
وإذا حصرنا القضايا المختلف فيها بين السَّلفيِّين أو المنتقدة عليهم من طرف المؤسَّسة الدِّينيَّة الرَّسميَّة فلا تتعدى بعض القضايا الَّتي يكتنفها كثير ٌمن الغموض والاشتباه، إمَّا هي نتيجة صراع علميٍّ وُظِّفت فيه كلمات التَّنفير و أساليب التَّشنيع فنسب إليهم ما ليس من منهجهم ودينهم.
وإمَّا هي قضايا خلافيَّة داخل السَّلفيِّين أنفسهم، وعجز السَّلفيُّون عن بيان حقيقة موقفهم منها ،أو لم يسعوا بطاقتهم إلى التَّعريف بأنفسهم، وتركوا النَّاس تستقي حكمها عليهم من خلال تصرفات عوامِّهم، و الَّتي لا تمثِّل بأيِّ وجه من الوجوه موقف السَّلفيِّين.
إضافةً إلى عداوات عقديَّة استغلَّها بعضُ خصومهم لتشويه سمعتهم، وتحليك صورتهم عند الرَّأي العامِّ ،و خاصَّة لقطع أيّ تواصل بينهم وبين المؤسَّسة الدِّينيَّة الرَّسميَّة، وهذه المسائل هي:
1 ـ الموقف من تقليد مذهب مالك.
2 ــ الموقف من الصُّوفيَّة.
3 ــ الموقف من الأشاعرة.
4 ـالقضايا المتعلِّقة بوطنيَّتهم، وهي ملخَّصة في مسألتين: العلم و النَّشيد، يريد بعض النَّاس أن يجعلها دليلا على عدم وطنيَّتهم، في حين يعلم من له أدنى ثقافة شرعيَّة أنَّها صادرة عن مقاربات علميَّة شرعيَّة تحتاج إلى توضيح و تفصيل، نعود إليه في موضعه.
كلُّ هذا سنتعرَّض له بالتَّفصيل لكن بعد أن نأخذ بعض الاعتراضات السَّلفيَّة على موقف المؤسَّسة الدِّينيَّة الرَّسميَّة منهم، و الَّذي فيه كثير من الإجحاف بهم؛ فلا يخفى على المتتبِّع لشأن الجماعات الإسلاميَّة أنَّ السَّلفيِّين من خلال عقيدتهم في الأسماء و الأحكام خاصَّة مسألة "التَّكفير" يُشكِّلون لسان الميزان في البلد، وهم وحدهمــــ بالحصرـــ من يملك القدرة العلميَّة، و المرجعيَّة التَّأصيليَّة اللَّازمة لعقلنة التِّيارات المتطرِّفة وردِّها إلى الصَّواب.
وقد ساهموا بشكل كبير في إخماد الفتنة في الجزائر، و في إنجاح عمليَّة المصالحة الَّتي دعت إليها الدَّولة الجزائريَّة،ولا يزالون يعملون على حفظ الاستقرار وعقد الدَّولة، ويشيعون مناخا من الهدوء.
كما أنَّ دورهم في بسط الفضائل السُّلوكيَّة، ورفع نسبة التَّديُّن بعيدا عن الصِّراعات السِّياسيَّة و الأطماع الشَّخصيَّة الضيِّقة معروف ومشاهد، ولا ينكره إلاَّ جاحد للحقيقة .
وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ الحصار الَّذي تضربه عليهم الدَّولة من خلال إبعادهم عن وسائل الإعلام، و التَّضييق عليهم في المساجد سيعود عليها بسلبيَّات كثيرة عاجلا أو آجلا من حيث أنَّ الفئات الأخرى الَّتي تستعين بهم في العمل الدِّينيِّ لا يملكون بُعدا وعمقًا في المجتمع الجزائري ِّكالَّذي تملكه السَّلفيَّة ،فهي أكثر انتشارا منهم ،و خطابها العلميِّ أكثر تأصيلا.
و قد كشفت لنا التَّجاربُ في البلاد الإسلاميَّة المختلفة، ومن ضمنها الجزائر أنَّ دورهم في استقرار البلد، و في شيوع الأمن دور محوري ، وأنَّهم وحدهم الَّذين بإمكانهم معالجة القضايا المهددة لاستقرار البلد معالجة علميَّة عقديَّة قويَّة وفعَّالة.
فإذا كان هذا وزنهم الحقيقيُّ في المجتمع الجزائريِّ، وهذه مكانتهم في حفظ استقرار البلد، و المساهمة في ازدهاره ،من خلال سدِّهم للنُّقص الَّذي تعاني منه المؤسَّسة الدِّينيَّة الرَّسميَّة في مجال الوعظ، و محاربة الأمراض الاجتماعيَّة المتفشية صار من باب العدل وردِّ الحقوق إلى أهلها أن يكون لهم حضور في الإعلام و المساجد يوازي هذه المكانة، ويناسب هذا الدَّور .
وكما لجميع الجماعات الدِّينيَّة السُّنِّيَّة في الجزائر حقٌّ أن يُمثَّلوا في هذه المؤسَّسة، و في وسائل الإعلامــــ مادام خطابهم يقع ضمن المشترك ، ولا يثير أيَّة نعرة و فرقةــــ وأن يمكَّنوا من لعب دورهم في بناء الجزائر و حمايتها، و الحفاظ على مصالحها العليا، و الاجتهاد في الارتقاء بها، فإنَّ للسَّلفيِّين حقًّا أوكد لما سبق بيانُه، وعزلهم و إقصاؤهم لن يخدم البلد في شيء.
أمَّا عن الاختلاف بين السَّلفِّيين و الجماعات الإسلاميَّة الأخرى كالأشاعرة و الصُّوفيَّة فهو اختلاف طبيعيٌّ، لا ننكر أنَّه كانت في خطابات السَّلفيِّين السَّابقة حدَّة أخرجتها عن دائرة الخطاب العلميِّ، أو الحوار العلميِّ،لكنَّهم تداركوا هذا الأمر، وقاموا بإصلاحه.
فإذا ما كان للمؤسَّسة الدِّينيَّة الرَّسميَّة رغبة و تصوُّر صحيح لعلاقة صحيحة نافعة ودائمة مع السَّلفيِّين تحت خطِّ : مصلحة الجزائر و الشَّعب الجزائري في تقوية الصُّفوف و اللُّحمة الاجتماعيَّة في كنف الشَّريعة، فلا بدَّ من مراجعة هذا الأمر، خاصَّة وأن في السَّلفيِّين دعاة أكفاء معتدلين خدموا الجزائر في عدَّة مجالات، لهم مصداقية في الشَّارع ،وقبول عند النَّاس.
وعليه فإنَّ السلفيِّين لا تخرجهم مخالفتهم لبقية الجماعات الدِّينيَّة في بعض القضايا عن القواسم المشتركة،و الخصائص الأساسيَّة للشَّخصيَّة الدِّينيَّة الجزائريَّة،وخلافهم مع الصُّوفيَّة كاختلافهم فيما بينهم، وكاختلاف الأشاعرة فيما بينهم كما سنورده لاحقًا