مسألة التصوّف زلّت فيها أقدام وضلّت فيها أفهام وافترقت بالسالكين فيها الطرقات منهم من تشدّد فأفرط ومنهم من اعتدل فتوسّط .. فمنشأ التصوّف كان بالبصرة التي كان فيها من يسلك طريق الزهد والعبادة ما ليس في سائر الأمصار، ثمّ أصبح مصطلحا لمجاهدة النّفس ورياضتها للخروج بها عن الأخلاق الرذيلة والدخول بها في الأخلاق الحميدة والخصال الحسنة وكان في أوّل عهده منضبطا بأصول السنّة والإعتقاد، وأئمّته مشهود لهم بالإستقامة كبشر الحافي، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، والفضيل بن عياض، والسري السقطي، وسهل بن عبد الله التستري، وعبد القادر الجيلاني وأمثالهم ممّن وثّقهم علماء السنّة وشهدوا لهم بصحّة المسلك وسلامة المنهج ونقلوا من أقوالهم ما يدلّ على ذلك، قال سهل بن عبد الله التستري:( كلّ وجد لا يشهد له الكتاب والسنّة فهو باطل ) وقال سليمان الداراني:( إنّه لتلمّ بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها الا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة ) وقال الجنيد بن محمّد:( علْمُنا هذا مقيّد بالكتاب والسنّة فمن لم يقرأ ويكتب الحديث فلا يصلح أن يتكلّم في علمنا ). ثمّ أنّ منهم من نالته بدعة طفيفة ثمّ تاب أو أخطأ في التركيز على التخويف دون فتح باب الرجاء كالحارث المحاسبي.
لكن التصوّف لم يقف عند هذ الحدّ بل خرج عن أصل وضعه حين استقلّ عن محكمات الإعتقاد وقواعد الشريعة فدخلت عليه البدع الإعتقادية والعملية حين اختلط بالفلسفات حتّى أخرجت بعض منتسبيه الى القول بوحدة الوجود والحلول والإتحاد التي حكم العلماء بكفر معتنقيها وظهرت دعاوى الشطحات وإسقاط التكاليف ونحوها من الضلالات.
فلا بدّ لنا من التفريق بين مراحل التصوّف فلا نقبله بجملته ولا نردّه، بل نقبل حقّه ونحرّره ممّا علق به من دخن ونردّ باطله ونكشف زيفه وهذا هو القسطاس المستقيم.
وإنّ من الإنصاف أن يكتال المرء لغيره بالصّاع الذي يكتال به لنفسه فإنّ في كلّ شيء وفاء وتطفيفا.