نص السؤال
هل معرفة الذات تتوقف على وجود الغير أم على الوعي بالأنا ؟
الطريقة : جدلية .
* * يتميز الإنسان بكونه كائن حي فضوليا يطمح دائما إلى إدراك الحقيقة ومعرفة العالم الخارجي ، إلاّ أن هذا لم يثني عليه إقباله إلى معرفة ذاته ، وباعتباره كائنا عاقلا واعيا لأحواله الشعورية أصبح الاعتقاد بأن معرفة الذات تتوقف على الشعور بها ، وفي مقابل ذلك نجد أن صفة المدنية التي يتصف بها الإنسان تفرض وجود الآخر والغير حتى يدرك ذاته المتميزة عن هذا الغير وهو ما يوحي بضرورة وجود الغير لإدراك الذات .فإلى أي حد يصدق هذا الاعتقاد ؟.و هل معرفة الذات تكمن فيما يراه الغير فينا أم فيما نراه في أنفسنا ؟ أو بعبارة أخرى هل معرفة الذات تتوقف على وجود الغير أم وجود الوعي ؟
** معرفة الذات تتوقف على وجود الغير باعتباره الطرف المقابل الموجود خارجا عنا ، وهذا ما يثبت أن وجود الوعي غير كاف لمعرفة الذات وإثبات وجودها ، ذلك أن المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد والتفاعل الذي يحصل بينه وبين الآخرين هو الذي يمكنه من إدراك نفسه وباختلافه عن الآخرين ،هذا الغير الذي يواجهنا ويصدر أحكاما حول ذواتنا هو الذي يدفعنا إلى التفكير في أنفسنا ، وهنا يقول الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر :" وجود الآخر شرط وجودي ." فبالقياس إلى الغير ندرك نقائصنا وعيوبنا ومحاسننا ، وأحسن مثال على ذلك أن التلميذ يعرف مستواه من خلال تقييم الأستاذ له ، وهذا ما يدل ويثبت أن الأنا عاجز عن معرفة مكانته وقيمته بنفسه ، لهذا فهو في حاجة إلى الغير الذي هو حسب سارتر الأنا الآخر الذي ليس أنا ، وأنا أعي ذاتي وأتعرف على نفسي من خلاله ، فعندما أحس بأنني مختلف عن غيري فهنا أنا أعي ذاتي ، وهذا الوعي مصدره معرفتي لغيري وإلاّ فلن يتم هذا الوعي ، الشيء الذي يجعل الغير هو الوسيط الضروري بيني أنا وبين نفسي ،لهذا اعتبر سارتر أنا الوعي بالذات لا يتحقق بحدس مباشر كما ادعى ذلك ديكارت ،بل يتحقق عبر الغير ومن خلاله لكن التساؤل المطروح هنا هو كيف يكون الغير وسيطا بيني وبين نفسي ؟ .
يشرح سارتر وجهة نظره هذه من خلال مفهوم " نظرة الآخر" بقوله : إن نظرة الغير لي تجمدني وتحولني إلى مجرد شيء ، ففي اللحظة التي أقع فيها تحت رقابة الغير أنحط إلى مرتبة الأشياء ، ذلك أن هذه النظرة تجمد إمكانياتي وتسلبني حريتي ، وتقتل عفويتي وقدرتي على الفعل والمبادرة ، وأكبر شاهد على ذلك هو الخجل فهذا الشعور الذي يتحقق في داخلي وبيني وبين نفسي هو شعور لا يتحقق إلاّ من خلال حضور الغير في وعيي ، ذلك أن هذا الشعور لا يمكن أن يتولد عن التأمل حيث يكون الفكر على صلة بنفسه فقط ، إن الخجل في أصله خجل أمام شخص ما ، فإذا بدرت مني بادرة أو صدرت عني حركة مبتذلة لم أشعر حيالها بشيء ولم ألم نفسي عليها طالما كنت وحدي ، وإنما يختلف الأمر لو أدركت أن شخصا آخر قد لمحني ، عندئذ يتصاعد الدم إلى وجنتي ويتفصد جبيني عرقا باردا فلا بد إذن من وجود الغير كواسطة بيني وبين نفسي ، لأنني أخجل من نفسي كما تبدو لغيري ، وأنا أتعرف على نفسي كما يراها الغير ، فالخجل إذن تعرُف وهو خجل من نفسي أمام الغير هكذا أجدني في حاجة إلى الغير كما أدرك كل ما في وجودي من مقومات ، وهاهنا يحيلني الوجود لذاته إلى الوجود للغير وهما شكلان لا ينفصلان من الوجود ولا ينفكان عن الإحالة إلى بعضهما ، فإذا أردنا أن نفهم أحدهما كان لابد من الإشارة إلى الآخر. ( 1 ) إذن فمعرفة الذات في نظر سارترمشروطة بمعرفة الغير ووجوده ، وهذا ما يثبت أن العلاقة بين الذات والآخر علاقة تشيئية صراعية كل واحد يشيئ الآخر ، هذه العلاقة المتوترة بين الطرفين تطرح إشكالا اجتماعيا وأزمة تواصل مع الآخر الغير إنساني ما دام موضوعا فاقدا لما هو إنساني ، لذا يصبح في تصور سارتر مصدر خطر ما دام وجوده يعني لحظة النفي الأول للذات وجحيما ،يقول سارتر :" الجحيم هم الآخرون ." ، فالتعامل مع الغير والاتجاه إليه عبارة عن فعل بارد تغيب فيه الإنسانية والإحساس بالتعاطف . وعليه يصبح الهدف من هذه العلاقة هو معرفة الآخر وليس التعرف والتعارف معه ما دام هذا الأخير غير مؤهل لإقامة علاقة و فعل تواصلي حقيقي مع الذات كونه موضوعا فاقد للإرادة والحرية .
هذه النظرة التي أكد عليها سارتر نجدها مجسدة في تصور هيجل الذي أكد بأن الآخر ضروري لوجود الذات ما دام الإنسان يعيش في علاقة معه أكثر ما يعيش في فرديته الخاصة ، فالوعي حسب هيجل هو وعي شقي يتطور وينمو من أجل بلوغ مرحلة الاكتمال بطريقة جدلية ، ففي البدء ينحصر إدراك الإنسان لذاته في الإحساس
المباشر ما دام غارقا ومنغمسا في الحياة العضوية ، حيث يحيا بشكل حيواني من خلال غرائزه ومهمته تنحصر في الحفاظ على حياته الجسدية ، في هذه المرحلة تكون علاقته بالوجود والطبيعة علاقة مباشرة وحسية حيث
يلغى كل ما هو مغاير له ولا يعترف إلا بحقيقته كذات ،في حين الآخر هو كذلك يملك حقيقته كذات ، وبعد مرحلة الإحساس المباشر يعمل الإنسان على تجاوز هذا الوجود الحسي حين تنتصر رغبته الإنسانية على رغبته الحيوانية ، وهو ما يعني أن تصب رغبات الذات على رغبات ذات آخر وليس على شيء طبيعي ، هذا الوضع يولد صراعا مع الآخر من أجل إشباع الرغبة ، وهو صراع من أجل الاعتراف على اعتبار أن تحقيق الوعي بالذات يعني نفي رغبة الآخر ما دامت الرغبة الإنسانية لا يمكن إشباعها إلا عن طريق النفي والقضاء على ما ليس أنا ، فالإنسان يتغذى على الرغبات " رغبات الآخرين " عكس الحيوان الذي يتغذى على الأشياء والإنسان لا يصبح كذلك إلاّ في حالة انتصار رغبته الإنسانية " الرغبة في السيادة " ، لذا تدخل الذات في صراع رغبات صراع حياة أو موت ، صراع من أجل الاعتراف ، هذا الصراع هو ما نتج عنه علاقة إنسانية ، علاقة السيد والعبد ، المنتصر والمخاطر بحياته الحيوانية يصبح سيدا ، أما العبد فيرغب في الحفاظ على حياته من داخل هذه العلاقة الصراعية ينشئ الوعي بالسيادة والوعي بالعبودية ، غير أن الموت الفعلي لا يحقق الاعتراف وإنما استسلام أحد الطرفين حين يفضل الحياة عن الموت ، هذا التصور الهيجلي مخالف للتصور العقلي – الديكارتي - الذي يؤسس وجود الذات على أساس المعرفة ، حيث أن الإنسان العارف يبقى حبيس أو سجين الاطمئنان السلبي مادام يعي ذاته ويتمثل باقي الموجودات بشكل شفاف وفق عملية استدلالية تأملية . باعتبار أن تصور هيجل ينظر للإنسان على أنه كائن يتغذى على الرغبات ، وتحقيق الرغبة يدفعه إلى الخروج من حالة الاطمئنان السلبي إلى العمل لإشباع رغبته ، وإشباع الرغبات لا يتم إلا عن طريق النفي .
إضافة إلى هذا كله نجد أن استقراء علاقة الإنسان بغيره يثبت ما للمجتمع من دور فعال في تنظيم نشاط الفرد وتربيته منذ الوهلة الأولى . باعتباره المرآة التي يرى الفرد فيها نفسه ويدركها ، يقول واطسن " الطفل مجرد عجينة يصنع منها المجتمع ما يشاء ، وذلك من خلال الوسائل التي يوفرها ، فكلما كان الوسط الاجتماعي أرقى وأوسع كانت الذات أنمى وأكثر اكتمالا ، وعليه يمكن التمييز بين الأفراد من خلال البيئة التي يعيشون فيها ، فالفرد كما يقول دوركايم ابن بيئته ومرآة تعكس صورة مجتمعه ، فمن غير الممكن أن يتعرف على نفسه إلاّ من خلال اندماجه داخل المجتمع واحتكاكه بالغير ، فنحن نتعرف على الأناني مثلا من خلال تعامله مع الغير ،كذلك الأمر بالنسبة للفضولي والعنيد ...إلخ ، ولو عاش الفرد منعزلا في جزرة بعيدة لما علم عن نفسه شيء ، وهذا ما يثبت ويؤكد دور الآخر والغير في معرفة الذات لذاتها ، لهذا لا يمكننا تصور وجود ذات منعزلة عن الغير ، هذا التصور أكد عليه أيضا هيدغر من خلال تأكيده بأنه لا وجود لذات معزولة عن الذوات الأخرى ، ذلك أن الموجود هنا غالبا ما ينشغل بعالم الحياة اليومية ، وإن مشاغل هذا العالم تستحوذ على اهتمامه فيقع تحت نفوذ ما يمكن أن نسميه ذات الحياة اليومية التي هي ألـ " هم " ، هذا الموجود المشترك يذيب الأنا وينزع عنه كل ما يتميز به أو ينفرد به ، ذلك أنه يخلق حالة اللامبالاة وجعل الذوات متماثلة ومتشابهة ،فيفقد كل واحد ما له من أصالة وتميز ، حيث يصبح الهم معيارا وسطا بين الأنا والغير ، و تصبح الأنا تدرك نفسها ضمن الآخر والعكس صحيح .
* صحيح أن الفرد يعيش مع الغير ، لكن هذا الغير لا يدرك منا إلاّ المظاهر الخارجية التي لا تعكس حقيقة ما يجري بداخلنا من نزوات خفية وميول ورغبات ، وهذه المظاهر بإمكاننا اصطناعها والتظاهر بها كالممثل السينمائي الذي يصطنع الانفعالات أو الخجل عند رؤيته للغير ، كما أن أحكام الغير ليست واحدة ، وهذا ما يثبت عجز الغير في تحديد ملامح شخصية الأنا ومعرفة هذا الأخير لذاته .
** معرفة الذات تتوقف على وجود الوعي باعتباره نشاط فردي يقوم به الفرد مع ذاته ، كما أنه حدس نفسي يمكن الفرد من إدراك ذاته وأفعاله ، وأحواله النفسية إدراكا مباشرا دون واسطة خارجية ، وهذا ما جعل سقراط قديما يؤكد على أن معرفة الذات تتوقف على وجود الوعي ، وذلك من خلال مقولته المشهورة " أعرف نفسك بنفسك " ، هذه المقولة تنفي وجود تأثير للغير أو الآخر على الذات ، كما أكد على ذلك العديد من الفلاسفة أمثال سارتر وهيجل ... ، فالشعور بالوحدة أو الخوف ، أو الفرح وغيرها من الحالات النفسية ما هي إلا حالات خاصة بالفرد ، ذلك أن الشعور يُعْرَف ولا يُعرَف ، يدركه الفرد بذاته لا بتأثير غيره ، وهذا هو أيضا مضمون مقولة مان دي بيران :" إن الشعور يستند إلى التمييز بين الذات الشاعرة والموضوع الذي نشعر به ." فالموضوع قد يكون شيئا خارجيا أو داخليا لهذا لا يمكن أن يكون هذه الذات نفسها ، لآن وجود هذه الأخيرة وجودا قائما بذاته لا دخل للأشياء الأخرى في بنائه أو إيجاده ، وذلك لأن الأنا هو شعور الذات بذاتها ، والكائن الشاعر بذاته هو من يعرف أنه موجود ، وأنه يدرك ذاته بواسطة التفكير ، وإذا أردنا أن نتتبع وجهة النظر هذه فما علينا إلا أن نتطرق إلى تصور الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت حول هذه المسألة ، حيث نجده انطلق من الشك في وجود الغير وفي وجود العالم على أساس أن الحواس تخدعنا ومصدر غير موثوق في المعرفة ، وأن معرفتنا السابقة بالأشياء غير دقيقة وغير يقينية ، لكنه لم يتمكن في أنه يشك ، ومادام الشك موجودا فلا بد من وجود الذات التي تشك ، ومادام الشك ضرباً من ضروب التفكير فلا يمكن للفرد أن يشك في وجوده ، وهذا هو مضمون الكوجيتو الديكارتي :" أنا أفكر إذن أنا موجود ." ، والذي أقصى من خلاله ديكارت مفهوم الغير كطرف فعال في الوعي بالذات ، باعتبارها ذاتا فردية قادرة على معرفة ذاتها بذاتها وبصورة مباشرة ، ومن دون تدخل الغير ، أي أن الأنا تعيش عزلة أنطولوجية عن الغير حينما تصنع نفسها كأنا مفكرة لا شك في وجودها مقابل الآخر القابل للشك ، بل والمشكوك في وجوده أصلا ، ومن ثمة فالحقيقة اليقينية الوحيدة التي لا تقبل الشك وتفرض نفسها بشكل بديهي هي الأنا أفكر ، أما وجود الغير فمشكوك فيه ذاته وجودا استدلاليا صادرا عن عملية الاستدلال بالمماثلة ، أي أننا لا نعترف بوجود الغير ودوره في معرفة الذات لذاتها مادامت ذاتــا مفكرة (2) .
هذا التصور الديكارتي ما هو إلا تأكيدٌ لنشاط الذهن الخالص ومعرفة فردية لا دخل للآخر فيها ، لأن التمييز بين الأشياء وفصلها عن الذات قدرة عقلية لا حسية ، ذلك أنه لو افترضنا أن الغير هو مصدر معرفتي لأصبحت هذه المعرفة نسبية لا يقينية ، لكن عندما ارتبطت بنشاط الذهن واستدلالاته أصبحت معرفة يقينية .
وعليه يكون ديكارت قد اعتبر أن وجود الغير أو الآخر يظل وجودا احتماليا متوقفا على حكم العقل واستدلالاته وأن وجود الذات لا يكون إلا من خلال التفكير الممنهج دون الاعتماد على أحكام الغير ، ذلك لأنه بالتفكير نتمكن من عزل الأشياء أو الكائنات من أجل التفكير والنظر فيها منفصلة الواحدة عن الأخرى ، وأن هذا الفعل الذي نقوم به تصاحبه معان ٍ في عقولنا ، وأن العقل عند مقارنته بين الكائنات يلاحظ أنه بينها تشابها وأمورا مشتركة كما يراها أشياء خارجة عن شعوره ، ذلك أن هذا الأخير لا يمكن أن يقع له الإدراك ، وهو مستقل تماما عن الأشياء أو الموضوعات المشعور بها ، وعلى هذا النحو تحصل لهذه الكيفيات مدلولاتها ، ويحصل الإحساس بالتماثل بيننا وبين الآخر ، وعلى هذا فوجود الآخر والشعور به ،والاتصال معه متوقف على ما تقوم به الذات الفردية ( الأنا ) من أفعال باتجاهه ، وهذه الذات تتعرف على العالم وعلى الغير بالعقل ، وهذا ما ينفي دور الغير في معرفة الذات لذاتها . وبهذا نجد أن ديكارت لم يكتف بتعليق الحكم أمام الأمور الداعية إلى الشك ، ولو أنه فعل لبقي مستلقيا على فراش الشك يهرب من الأشباح في أحلامه ، ولكنه إذ ينكر كل ما هو غير يقيني كوجود العالم الخارجي ووجود الآخرين ، ووجود جسده بالذات ، هذا الإنكار يتضمن دائما إثبات وجود الكائن الذي يفكر ، فإذا كنت أفكر فلأنني موجود ، هذه الملاحظة الوجدانية تصمد أمام هجمات الشك المتكررة ، وتتحد أي روح شريرة مؤكدة على أن معرفة الذات لذاتها وإثبات وجودها يكون عن طريق الوعي لا الغير .
هذه النظرة الديكارتية نجدها مجسدة في تصور الفيلسوف الفرنسي مالبرانش ، والمؤكدة على نفي الآخر ، حيث أكد انه يستحيل أن نعرف على وجه الدقة وعي الآخرين وأفكارهم وأحاسيسهم ، غير أنني أستطيع على الأقل واعتمادا على المعرفة التي لدي عن حالات وعيي وشعوري الخاصة أن أفترض أو أخمن ما يجري في وعي الآخرين ، إن معرفة كهذه تعتمد على ما يسمى بالاستدلال بالمماثلة ، يقول مالبرانش :" نحن نفترض أن نفوس الآخرين هي من نفس نوع نفوسنا ، وما نشعر به نزعم أنهم يشعرون به ." غير أن المعرفة التي نتوصل إليها عبر هذه المماثلة لا تكون صحيحة ويقينية إلا عندما يكون ما نشعر به مقطوع الصلة بالجسم ، فأنا أستطيع مثلا أن أفترض أن الآخرين يعرفون بعض حقائق الرياضيات ، وقواعد الأخلاق كما أعرفها ، وأنهم يحبون الخير واللذة ويمقوتون الشر والألم ، ويرغبون في السعادة مثلي تماما ، وأنا على حق في كل هذا ، أما فيما يخص الأحاسيس التي يلعب فيها الجسم دورا من خلال تأثيره على النفس فإننا نخطئ عندما ننسبها للآخرين مفترضين أنهم يشبهوننا . هنا أيضا يقول مالبرانش :" إن المعرفة التي لدينا عن الآخرين غالبا ما تكون عرضة للخطأ عندما نستند في حكمنا على الأحاسيس التي لدينا عن أنفسنا فقط ." ، وهنا نجد مالبرانش ينفي دور الغير في تحديد المفاهيم والمعارف التي تصل إليها الذات ، ويؤكد على أن كل ما تصل إليه هذه الأخيرة ما هو إلا نتاج نشاط الذهن ، وبالتالي فمعرفة الذات لذاتها تتوقف على عامل الوعي باعتبارها خاصية فردية .
* إن الأحكام الذاتية غالبا ما تكون مبالغا فيها ، ووعي الذات لذاتها ليس بمنهج علمي يقيني حتى نعتبره معرفة يقينية ، لأنه لا يوصلنا إلى نتائج موضوعية بل ذاتية ، فالمعرفة تتطلب وجود الذات العارفة وموضوع المعرفة ، في حين أن الذات وحدها لا يمكن أن تشاهد ذاتها بذاتها ذلك أن ما يعرف بالاستبطان عند علماء النفس أمر مستحيل ،لأن الذات وحدها لا يمكن أن تكون الملاَحَظ والملاحِظ، ، وأن تشاهد ذاتها بذاتها لأن الشعور هو دائما الشعور بشيء ، فالفرد لا يمكن له أن يتأمل ذاته وهو في حالة الغضب أو الفزع ،لأن مجرد التفكير في ذلك ينقص من درجته يقول أوغيست كونت " الذات التي تستبطن ذاتها كالعين التي تريد أن ترى نفسها بنفسها "
* بعد استقرائنا لمسألة إمكانية معرفة الذات لذاتها دون الغير نجد هناك جدلا تضمن أطروحتين متناقضتين لذا يمكن القول بأن الأنا يتكون من خلال التفاعل القائم بين الأنا والآخر، وهذا ما يؤكد على الترابط الوثيق الموجود بينهما كون الفرد جزء من الكل ، فله أنا شخصي مرتبط بالصورة التي يكونها عنه الغير ، فالفرد مثلا لا يحس بقيمة فرحه إلا ضمن المجموعة وإلا يبقى حالة خاصة ، ويصبح هنا الشخص منطويا على نفسه الشيء الذي يسبب له عقد نفسية ، لذا لا يمكن تجاوز الغير لكن ضمن المعقول ، وهذا ما يؤكد دور التواصل بدلا من العزلة هذا التآلف بين الأنا والغير أكد عليه غابريال مارسال عن طريق التفكير في الذات دون العزلة عن الغير ، أي تشكيل تكامل بين الأنا والأنا الجماعي .
** إن إدراك المرء لذاته لا يحصل دون وجود الوعي والغير في نفس الوقت ، لأن الإنسان في تعامله مع الآخرين من أفراد مجتمعه يتصرف بوعي ، ويوفق بين ما يقوله الآخرون عنه وما يعتقده في نفسه ، لأن الشخصية التي تمثل الأنا تتكامل فيها الجوانب الذاتية والموضوعية ، فلا يمكن للفرد أن يحكم على أنه خجول بنفسه لأن التأكيد على ذلك يتطلب تجسيد ذلك في الواقع ( الغير) .
أصل الرياضيات : إعداد الأستاذ : سمير زاوش
هل يمكن رد أساس الرياضيات إلى معطيات العقل أم الحواس ؟
انفصلت الرياضيات عن الفلسفة نتيجة وجود موضوع معين للدراسة ومنهج متبع في ذلك إلا أن وجود أي علم يستلزم وجود أساس يقوم عليه أو مصدر يحدثه ، ونتيجة ارتباط وجود الشيء بالواقع ذهب البعض إلى التأكيد على أن أصل المفاهيم الرياضية التي توصل إليها الفرد هو التجربة الحسية " أي الواقع الحسي " أو مدركاتنا الحسية ، لكن عندما كانت الرياضيات تدرس موضوعات مجردة من كل مادة حسية كانت القضايا التي تقررها مطلقة ويقينية معتمدة في ذلك على العقل ، وهذا ما يؤكد طابعها العقلي .الاختلاف بين التصورين ترتب عنه جدلا بين الفلاسفة والعلماء حول أصل المفاهيم الرياضية فهل يمكن رد أساس الرياضيات إلى العقل أم التجربة .؟
** يرجع وجود الرياضيات إلى العقل ، هذا ما أكد عليه العقليون أو المثاليون الذين يقرون بإمكان الإنسان الوصول إلى تحقيق معرفة جوهرية عما يحيط به من أشياء بواسطة الاستدلال العقلي الخالص بغير اللجوء إلى مقدمات تجريبية ، فالعقل بطبيعته يتوفر على مبادئ وأفكار فطرية سابقة للتجربة الحسية وتتميز بالبداهة والوضوح ، وأن كل ما يصدر عن هذا العقل من أحكام وقضايا ومفاهيم يعتبر ضروريا وكليا ومطلقا ، وعلى هذا الأساس حصر هؤلاء الرياضيات في أنها جملة من المفاهيم المجردة أنشأها الذهن واستنبطها من مبادئ ومن دون الحاجة إلى الرجوع للواقع الحسي ، وذلك لأن الذهن توجد فيه مبادئ قبلية سابقة للتجربة ، وهو ما يؤكد بأن المعرفة الرياضية تتصف بمميزات منها المطلقية والضرورة والكلية ، وهي مميزات خالصة موجودة في المعرفة الرياضية وتتعذر في غيرها من العلوم التي تنسب إلى التجربة ،ذلك لافتقارها للقدرة الذهنية والعقل الإنساني ،فالمكان الهندسي والخط المستقيم ومفاهيم العدد واللانهائي ، والأكبر والأصغر وغيرها كلها معان رياضية عقلية مجردة لا تدل على أنها نشأت عن طريق الملاحظة الحسية ، إنما هي صادرة عن العقل ، وإذا أردنا أن نستقرأ هذه النظرة عبر تاريخ الفكر الفلسفي فنجدها مجسدة في الفكر الفلسفي اليوناني حيث نجد اليونان هم الذين نقلوا الممارسة الرياضية من عالم الحس إلى عالم العقل ، من التطبيق العملي إلى التفكير المجرد فجعلوا الرياضيات تتناول ما هو ثابت وأبدي لا ما هو متغير ومؤقت ، وهنا نجد الفيلسوف اليوناني أفلاطون يعتقد أن المعطيات الأولية للرياضيات توجد في عالم المثل ، وذلك لأن العقل حسبه كان يحيا في هذا العالم وكان على علم بسائر الحقائق ومنها المعطيات الرياضية الأولية والتي هي أزلية وثابتة كالمستقيم والدائرة والتعريف الرياضي ، لكنه عند مفارقته لهذا العالم نسي أفكاره فكان عليه أن يتذكرها وأن يدركها بالذهن وحده يقول أفلاطون :" ليست مهمة العلم الرياضي خدمة التجار في عملية البيع والشراء كما يعتقد الجهال ، بل تيسير طريق النفس في انتقالها من دائرة الأشياء الفانية إلى تأمل الحقيقة الثابتة الخالدة". فالمثلث المرسوم على الأرض أو الورق مثلا لا بد أن يلحقه نقص ، فقد لا يكون مستويا تمام الاستواء ، وقد لا تكون أضلعه مستقيمة تمام الاستقامة ، وعلى العكس من ذلك المثلث القائم في الذهن فهو كامل من جميع الوجوه ( 1 ) والعلاقة هنا بين الشكل الهندسي كما هو في الذهن وبين الشكل نفسه كما يرسم على الورق كالعلاقة بين الفكر والكلمة ، فكما أن الكلمة لا تعبر عن الفكر تعبيرا كاملا فكذلك الأشكال الهندسية الحسية فهي لا تعبر تمام التعبير عن الكلمات الهندسية كما هي موجودة في عالم الذهن أما في مجال الأعداد فقد صرف اليونان ومعهم أفلاطون نظرهم إلى البحث في بعض الأعداد والتأكيد على صفة المطلقية أو الأعداد الكاملة ، فالعدد الكامل عندهم هو الذي يساوي مجموع قواسمه مثل العدد " 28 " فهو يساوي مجموع الأعداد التي يقبل القسمة عليها قسمة صحيحة وهي" 1 ، 2 ، 4 ، 7 ، 14 = 28 " وبهذا المنطق اثبت أفلاطون وغيره من الفلاسفة اليونان أن الرياضيات أصلها مصدرها العقل ، وهي تمتاز باليقين والمطلقية ، صالحة لكل زمان ومكان وبعيدة عن الواقع الحسي .
أما إذا جئنا إلى الفلسفة الحديثة وجدنا الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت يعتبر أن المعاني الرياضية من أعداد وأشكال وأفكار فطرية أودعها الله فينا منذ البداية مثل فكرة الله ، وأن هذه الأفكار تتمتع بالبداهة واليقين ، ولما كان العقل أعدل الأشياء قسمة وتوزيعا بين الناس فإنهم جميعا يشتركون في العمليات العقلية حيث يقيمون عليها استنتاجاتهم ، فاليقين في الجبر مثلا حسب ديكارت يرجع إلى أنه مبنى على قواعد صورية منتظمة تطبق بشكل آلي – بوضوح تام – على الرموز بقطع النظر عن القيم التي يمكن أن تعطى لها ، وبذلك يتأتى لنا إنشاء عوالم وأشكال هندسية يعجز تصورنا الحسي عن تشييدها أو تمثيلها ، الشيء الذي يمكننا من التعامل مع كائنات رياضية جديدة قد لا يكون لها مقابل في الواقع الحسي .( 2) لهذا اعتبر ديكارت الرياضيات مثال الدقة والوضوح والبداهة بعيدة عن الشك ، فنحن لا نقبل قضية أو معتقد إلا إذا كان صادقا صدقا ذاتيا ، لأن الرياضيات تقوم على مبادئ وأفكار فطرية قبلية أوجدها العقل ولم يستمدها من الخبرة ، وهذه المبادئ تمتاز بالوضوح لذلك فهي صادقة ولا يمكن الشك فيها ، كما أن الرياضيات بنوعيها " الجبر والهندسة " أكثر العلوم دقة لأنها إستنتاجية عقلية ولا تعتمد على التجربة .
ولهذا عندما كانت الرياضيات معطى عقليًا كانت من حظ الإنسان دون غيره من الأنواع الحيوانية الأخرى التي تشترك معه في الجهاز الحسي وهذا نتيجة امتلاكه للعقل ، إضافة إلى ذلك نجد أن المفاهيم الرياضية التي نجسدها على الواقع أو الورقة أو أي سطح هي مظهر من الصورة الحقيقية الموجودة في العقل ، فالدائرة المرسومة ليست هي الدائرة بالمعنى الحقيقي ، أي أن كل مفهوم رياضي ليس له ما يقابله في الواقع الحسي ، فإذا لم نقل بالطابع العقلي لها كان كل مفهوم يوجد في الذهن له ما يقابله في الواقع الحسي وهذا يخالف الواقع " مفهوم الدائرة يصدق على ما لانهاية من الأشياء ، وهذا كله راجع إلى أن الرياضيات قضاياها مجردة علاقاتها في منأى عن أي تغيير مثل +، = ،..... إلخ وهذا تأمل خاص يتسم بالصورية والتجريد ، وخال من التناقض الشيء الذي من شأنه أن يجعل الرياضيات تتسم بالصدق واليقين . كما أن ظهور الهندسة اللإقليدية أكد الطابع العقلي للرياضيات ، حيث نجد هذه الأخيرة صحيحة وصادقة رغم أن بناءها قائم أساسا على الافتراض الذي يجسد ارتباط الصدق فيها بعدم تناقض النتائج مع المقدمات داخل النسق ، وما هذا إلا نشاط ذهني .
النقد :
لايمكن نفي دور العقل في تحديد المفاهيم الرياضية ، كون الرياضيات كعلم عقلي مجرد يستلزم تدخل العقل في ذلك ، إلاّ أن هذه النظرة مبالغ فيها كون العقل إذا عزل عن معطيات الحواس لا يعطينا إلاّ أوهام وتخيلات ميتافيزيقية لا مفاهيم رياضية منطقية ، لأن لا وجود لمنطق سليم غير منطق العقل وهذا ما يثبت أنه لا يمكن اعتبار أصل المفاهيم الرياضية هو العقل .
النظرة التجريبية { الأصل التجريبي }
المبادئ والمفاهيم الرياضية مثل جميع معارفنا فيما يرى الحسيون والتجريبيون مستقاة من الحس والتجربة ، وأنه ليس ثمة في العقل شيئا إلاّ ما تمده به المعطيات الحسية ، ولذلك فجميع أفكارنا يمكن أن تحلل – في نظرهم – إلى مدركات بسيطة مستمدة من التجربة ، والقضايا الرياضية التي يتخذ منها العقليون حجة لهم ليست في نظر جون ستيوارت ميل سوى تعميمات تجريبية مثلها مثل باقي الأفكار المجردة ، على أن منهم من يرى أن القضايا و الأفكار التي لا تستمد من التجربة ليست سوى عبارات فارغة من المعنى ، كون هذه الأخيرة هي المصدر اليقيني لكل أفكارنا ومعارفنا ، وأنها هي التي تخط سطورها على العقل الذي هو شبيه بالصفحة البيضاء ، وليس ثمة في ذهنه معارف عقلية قبلية مستقلة عما تمدنا إياه الخبرة وتلقنه له الممارسات والتجارب ، وفي هذا الصدد يقولون :" لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة ." ، ويقولون أيضا إن القضايا الرياضية التي هي من الأفكار المركبة ليست سوى مدركات بسيطة نتيجة التأمل ، وأنه عند تحليلها ترتد إلى مصدرها الحسي الذي هو صورة من صور التجربة الحسية الخارجية . فالطفل في مقتبل عمره يستعمل العيدان أو يستخدام الحصى أو الأصابع هذا ما أوحى له بفكرة العدد ،كما أن أشكال بعض الأشياء الطبيعية توحي بفكرة الأشكال الهندسية مثل قرص القمر أوحى للإنسان بفكرة الدائرة ، وهذا ما أثبته تاريخ الرياضيات عندما بين أن تجربة مسح الأراضي كما يمارسها قدماء المصريين هي التي أدت إلى نشؤ الهندسة ، إذ نشأ هذا الأخير إلى جانب علم الحساب وغيره من العلوم في مصر الفرعونية تحت ضغط الحاجات الإقتصادية والاجتماعية ، ففيضانات وادي النيل دفعت المصريين القدماء إلى ابتكار طرق وأساليب هندسية لتحديد مساحات الحقول وتنظيم الزراعة والري ، كما أن اهتمامهم ببناء الأهرامات جعلهم يتقدمون في استعمال الخطوط والحساب ، وتدل المتوفرة حاليا على أن المصريين القدماء كانوا يعرفون كيف يستخرجون مساحات بعض الأشكال الهندسية حتى تلك التي تتطلب القيام بعمليات معقدة نوعا ما " مساحة نصف الكرة ، حجم جذع الهرم ذي القاعدة المربعة الشكل ، المثلث المتساوي الساقين ، خاصية الوتر في المثلث القائم الزاوية ..... ، إلخ " .
إضافة إلى هذا كله نجد تاريخ العلم يدلنا أيضا على أن الرياضيات قبل أن تصبح علما عقليا قطعت مرحلة كلها تجريبية ويشهد على ذلك أن العلوم الرياضية المادية هي التي تطورت قبل غيرها ، فالهندسة كفن قائم بذاته سبقت الحساب والجبر لأنها أقرب إلى التجربة .وبهذا يصبح أصل الرياضيات هو التجربة لا مصدر آخر .
النقد :
صحيح أن التجربة والواقع يمدان العقل بمختلف المعارف ، إلاّ أن هذا المبرر غير كاف لجعل التجربة الحسية مصدرا وأساسا لعلم الرياضيات ، ذلك أن الإقرار بذلك يوقعنا في تناقض مع طبيعة الرياضيات التي علم عقلي مجرد موضوعه المفاهيم الكمية القابلة للقياس .
التركيب :
عند النظر في ما جاءت به النظرية العقلية والنظرة الحسية نجدهما يفصلان بين العقل والتجربة ، رغم أن تاريخ الرياضيات يبين لنا أن المعاني الرياضية لا يمكن اعتبارها أشياء محسوسة كلها ، ولا مفاهيم معقولة خالصة ، بل يمكن أن يتكاملا معا لتفسير نشأة المعاني الرياضية ، لهذا فلا وجود لعالم مثالي للمعاني الرياضية في غياب العالم الخارجي ، ولا وجود للأشياء المحسوسة في غياب الوعي الإنساني بمعزل عن ملكة التجريد ، لذا نجد المعاني الرياضية لم تنشأ دفعة واحدة بل نمت وتطورت بالتدريج عبر الزمن ، فقد بدأت حسية تجريبية ، ثم تطورت وأصبحت مفاهيم استنتاجيه مجردة ، بل تعبرعن أعلى مراتب التجريد باستعمال الصفر، الأعداد الخيالية والمركبة ، المنحنيات التي لا مماس لها ، المجاهيل " س " ، .... لهذا قال بياجي " إن المعرفة ليست معطى نهائي جاهزا ، وأن التجربة ضرورية لعملية التشكيل والتجريد ." ، وهذا ما يثبت دور العقل والتجربة في إعطائنا مفاهيم رياضية ، وهنا نجد العالم الرياضي السويسري فردينناد غونزيث يقول :" في كل بناء تجريدي يوجد راسب حدسي يستحيل محوه وإزالته ، وليست هناك معرفة تجريبية خالصة ، ولا معرفة عقلية خالصة ، بل كل ما هناك أن أحد الجانبين العقلي والتجريبي قد يطغى على الآخر دون أن يلغيه تماما ." .
** يمكن القول في الأخير أن أصل الرياضيات وإن اختلفت فيه وجهات النظر يكون نتيجة تكامل أساسي العقل والتجربة ، مع القرار بالغلبة للعقل كون الرياضيات علم عقلي والإقرار بعكس ذلك يوقعنا في تناقض ، كون الرياضيات عالم العقل والتجريد ، وهذا ما أثبته تطور الرياضيات في العصر الحديث حيث ابتعدت عن الطابع الحسي المطلق نتيجة التجريد المعتمد .
قارن بين السؤال المشكلة .
الطريقة : مقارنة
** عندما كانت المعرفة خاصية إنسانية سعى الإنسان منذ القديم إلى محاولة تجاوز مختلف العراقيل ومعرفة مختلف الشروط والأسباب التي تتحكم في حدوث الظواهر التي هو خاضع لها حتى يتمكن من التكيف ،هذه العملية تتم من خلال إجابته عن جملة من الأسئلة المرتبطة بذلك ، ونتيجة تدرج السؤال في الصعوبة والإثارة أصبح يثير مشكلة . وجود السؤال والمشكلة طرح مسألة العلاقة بينهما . فما هي أوجه الاختلاف والتشابه بينهما ؟ وفيما تتمثل طبيعة العلاقة التي توجد بينهما ؟
* * للمشكلة والسؤال نقاط للاختلاف تؤكد التمايز الموجود بينهما ، فنجد مجال كلّّّ منهما مختلفاً ، ذلك أن المشكلة مسألة فلسفية تدرج ضمن مجال معين بحيث يحصر الموضوع ويطرح طرحا فلسفيا كقولنا مثلا متى يثير السؤال الفلسفي الدهشة ؟ فمجال البحث هنا محدود مرتبط بالسؤال الفلسفي وعلاقته بحالة انفعالية مجسدة في الدهشة على غرار السؤال الذي نجد مجالات البحث فيه متعددة وواسعة حيث يتجاوز فيه السهل والبسيط إلى الصعب وذلك حسب درجة الإثارة الموجودة فيه . إضافة لذلك نجد أن السؤال والمشكلة يختلفان من حيث الصياغة ، ذلك أن صياغة السؤال تكون دائما استفهامية مادام السؤال هو المطلب كتساؤلنا عن ثمن الشيء ؟ أو ما حقيقة الشيء ؟ ، هل العقل مصدر المعرفة ؟ ... إلخ أما المشكلة فقد تصاغ صياغة موضوعية مرتبطة بمشكلة فلسفية تثير دهشة أمام العقل دون أن تقدم في صياغة استفهامية (؟) كما هو الحال في مجرد عرض أطروحة فقط ندعى إلى النظر فيها بعد مشكلتها كما هو الشأن في الأطروحتين الآتيتين حيث يجتمع الضدان " الحرية والحتمية " " بين السلب والإيجاب علاقة تكاملية " فنجد أنفسنا هنا أمام فكرتين تتطلبان البحث والدراسة دون صياغة تساؤلية (؟) ، وفي بعض الأحيان يضاف إليهما المطلوب التالي " حلل وناقش " .
ومن جهة أخرى نجد أن السؤال يختلف عن المشكلة من حيث النتائج ، وذلك نتيجة ارتباط المشكلة بمجال معين ،الشيء الذي جعل الباحث أو الدارس مجبراً على دراسة هذه المسألة ضمن نزعة معينة أو اتجاه محدد ، فعندما يطلب منّّّّّا الإجابة بالنفي أو الإثبات بأن لكل سؤال جواب ،أو ليس لكل سؤال جواب ؟ فكل أطروحة منهما نجدها صحيحة ضمن السياق الذي تعالج فيه ، على غرار السؤال الذي نجد له مجالات متعددة يستعصى فيها على الإنسان الوصول إلى إجابة أو حل لهذه المسألة ، فيصبح السؤال هنا بمثابة إشكالية غير قابلة للحل ، وذلك نتيجة دمج المشكلة في الإشكالية نظرا لدرجة صعوبتها في انتظار مبادرة المفكرين ومحاولة الفلاسفة كما هو الشأن في السؤال التالي : هل هناك ما يدعو إلى الحديث عن الثوابت المطلقة في عصر المتغيرات ؟
وهنا نتساءل هل هناك من لا يؤمن بالتغير وهو سمة الأشياء وخاصة المعرفة أي ( النسبية ) .
إضافة إلى هذا كله نجد أن المشكلة تختلف عن السؤال من حيث التضمن ، حيث نجد أن السؤال متضمن للمشكلة لهذا أصبحت هذه الأخيرة جزء منه ، باعتبار أن السؤال الفلسفي يثير مشكلة وإشكالية ، فإذا كان السؤال يعالج إشكالية تصبح المشكلة هنا جزء من الكل ، فإذا قلنا فيما يتمثل
أساس القيم الأخلاقية ؟ . هذا السؤال يتضمن إشكالية تدرج ضمنها مشكلات فلسفية تتمثل في وجهة نظر العقليين ، وجهة نظر الطبيعيين ، وجهة نظر الاجتماعيين ، إضافة إلى وجهة نظر ذوي النزعة الدينية .
* رغم كل هذه الاختلافات إلا أن هذا لا يعني أنه لا توجد بينهما نقاط للتشابه والتي نذكر من أهمها : كلٌّ من المشكلة والسؤال لهما الهدف نفسه حيث نجدهما يهدفان إلى البحث عن الحقيقة ، وذلك لأن وجود كل واحدا منهما يستلزم حلاً يتجاوز من خلاله الفرد جهله لهذا الشيء ، ومعرفة شروط وأسباب حدوث الظواهر ، فالبحث عن أساس القيم الأخلاقية من خلال وجود سؤال هل يمكن القول بأن العقل أساس القيم الأخلاقية ؟ الهدف منه هو تحديد معيارٍ دقيقٍ لتحديد الخير والشر أو قيمة سلوكات الإنسان ، وأساس استنباط الأحكام الشرعية . إضافة إلى ذلك نجد أن كلا من السؤال والمشكلة يثير العقل وهذا نتيجة فرض الضرورة على العقل فكرة وجود جواب لكل سؤال يطرح وطبيعة الإثارة التي يتركها السؤال في نفسية كل فرد ، وهذا ما يتطلب بذل نشاط ذهني يمكن الفرد من تحديد جواب عن السؤال أو المشكلة المطروحة ، وهذه العملية تتم من خلال النشاطات الفكرية التي يقوم بها الذهن كالتذكر، والتخيل والذكاء ، .... ، إلخ .
كما أننا نجد السؤال والمشكلة يشتركان في كونهما يصاغان صياغة استفهامية على شاكلة سؤال وهذا حسب طبيعة الموضوع الذي يتناوله كلا منهما ، لأن الذهن لا ينفعل إلا لوجود تساؤل أو إثارة .
* وعليه فإننا نصل إلى أن الشيء المشترك بين السؤال والمشكلة يتجسد في التفكير ، لهذا يعتبر هذا الأخير أساس العلاقة بينهما ، وذلك لأن مصير السؤال الفلسفي يتوقف على الإنسان ككائن عاقل وفضولي يعيش على الفطرة والاكتساب ، لذا فإن تحديد كلّّ من السؤال والمشكلة يتطلب بذل جهد عقلي للفصل في المسألة المطروحة وهنا يقول جون ديوي :" إن التفكير لا ينشأ إلا إذا وجدت مشكلة ، وأن الحاجة إلى حل أي مشكلة هي العامل المرشد دائما في عملية التفكير."
** مما سبق ذكره يمكننا الإقرار بأنه رغم الاختلافات والتشابهات الموجودة بين السؤال والمشكلة فإنه لا يمكننا أن نأخذ العلاقة الموجودة بينهما على أساس الاطراد أو العكس ، فقد يكون لهما حلٌّ أو يبقى معلقا على اعتبار أنه يتناول قضية صعبة تثير التوتر ، ومن ثم يدعونا إلى التفكير ومحاولة البحث عن الإجابة ، وإذا كانت هناك علاقة بين الطرفين فيجب أن تقام على أساس عقلي محض .