جذور العنف عند الحركة الإسلامية .
ينزع اغلب الباحثين في رد ظاهرة العنف لدى الجماعات الإسلامية السياسية الى أسباب إجتماعية , و مع تقديري البالغ لأهمية التفسير السيولوجي في هذا المجال فإنه لا يكفي وحده . لان ظاهرة العنف الديني او العنف الذي تمارسه الجماعات السياسية , ذات التمحور الديني , له خصوصية تختلف إختلافا جذريا عن العنف الذي تقوم به الجماعات السياسية الأخرى البعيدة عن البواعث الدينية , مثل المنظمة الإرهابية العدمية ( نارودنايا قوليا ) أو إرادة الشعب .. و مرد هذه الخصوصية يرجع إلى أمر ذاتي يتعلق بالمنتمين إلى الجماعات الدينية أمراء كانوا أم أعضاء - بل في الحقيقة يشمل كافة المؤمنين بالأديان السماوية او السامية أو الإبراهيمية و هو يزداد توهجا كلما كانت الشحنة الإيمانية لدى المؤمن أو التابع ثقيلة " إنا سنلتقي عليك قولا ثقيلا " (1)., فأتباع هذه الأديان يؤمن كل واحد منهم بأمرين ..
1ـ الإصطفائية: أي أن الله جل جلاله قد ميز الدين الذي إنضوى تحت جناحه و آمن به بأن إصطفى الرسول الذي بلغ الرسالة الخاصة به وإصطفى أصحابه (الرسول) الذين عاونوه على التبليغ الذي واصلوا حمل دعوته من بعده وإصطفى أمته على سائر الامم، وتستمر هذه الاصطفائية حتى نهاية الزمن .
2 ـ الحقيقة المطلقة : فالدين الذي يعتنقه هو وحده من دون سائر الأديان والعقائد هو الذي يملك الحقيقة المطلقة في كافة الشؤون وسائر الأمور والتي لايأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها وإنها سوف تظل هي كلمة الرب الأخيرة حتى يرث الله الأرض و من عليها، ونريد فيما يلي النصوص المقدسة من كل ديانة من الديانات التي تؤكد ذالك.
نبدأ بالإصطفائية ونلتزم بالتسلسل التريخي لاتلك الأديان.
أولا: في اليهودية : (1) إصطفاء الرسول وهو موسى عليه السلام:
في الأصول الثالثة عشر التي وضعها موسى بن ميمون وجعلها أركان الإ يمان اليهودي ينص الأصل السابع على مايلي:
" أنا أؤمن إيمانا كاملا بأن نبوة سيدنا موسى عليه السلام كانت حقا وإنه كان أبا للأ نبياء من جاء منهم قبله ومن جاء بعده " (2 ) .
"وقال الله أيضا لموسى هاكذ تقول لبني إسرائيل: يهوه إله أبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني اليكم هذا إسمي الى الأبد ."(3 )
فقال موسى من أنا حتى أذهب الى فرعون وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر فقال إني معك، وهذه تكون لك العلامة أني أرسلتك ."(4 )
وأعطى الله سبحانه وتعالى لموسى عشرة علامات (أيات) لثبت لفرعون وملأه إصطفاء الله له رسولا وهي: الدم والضفادع والقمل والذباب ووباء المواشي والبرد والجراد والإظلام وضرب ( ذبح) الأبكار من بكر فرعون الجالس على كرسيه الى بكر الأسير الذي في السجن بل حتى أبكار البهائم ـ وتفصيل ذلك كله مدون في سفر الخروج .
ثانيا : إصطفاء أصحاب الرسول:
ويشمل الإ صطفاء معاوني الرسول ومساعديه المخلصين الذين آزروه في تبليغ الرسالة حال حياته وأكملوا التبليغ بعد وفاته أورفعه إلى السماء وتطلق عليهم أسماء متعددة: الشيوخ أو الرسل أو التلاميذ أو الصحابة أو الحواريون أو " الذين معه" .
" ثم مضى موسى وهارون وجمع من شيوخ بني إسرائيل فتكلم هارون بجميع الكلام الذي كلام الرب موسى به وصنع الآيات أمام عيون الشعب وآمن به الشعب "(5 ) ثم صدق موسى وهارون ونداب وأبيهو وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ورأوا إله إسرائيل " (6 ) .
وإصفاء سبعين رجلا من أصحاب موسى عليه السلام أمر ورد ذكره في القرآن الكريم: " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " (7 ) .
ثالثا: إصطفاء أمة الرسول (بني إسرائيل)
ثم ينتقل الاصطفاء الى أمة الرسول، لافرق أن تكون أمة مخصوصة تتسم بالمحدودية والانغلاق كبني إسرائيل ( في اليهودية) أم أمة عالمية لا تخص بجنس دون آخر كما في المسيحية والإسلام، لأن الأمة هنا معناها مجموع من آمن برسالة الرسول وماجاء به من عند الله تبارك إسمه .
" وإن سمعت سمعا لصوت الرب الهك لتحرص على أن تعمل بجميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم يجعلك إلهك مستعليا على جميع قبائل الأرض وتأتي عليك جميع هذه البركات وتدركك إذا سمعت لصوت الرب إلهك مباركا تكون في المدينة ومباركا تكون في الحقل " (8 )
"ثم كلم موسى والكهنة اللاويون جميع بني إسرائيل قائلين أنصت وأسمع يا إسرائيل اليوم صرت شعبا للرب إلهك " (9 )
ويرى سيحموند فرويد أن موسى هو الذي وسم الشعب اليهودي بسمة " شعب الله المختار " . ولكن الدكتور عبد المنعم حقي ينكر عليه ذلك ويقرر أن ذلك كان بفعل أحبار بني إسرائيل (10 ) . وسواء كان هذا الاصطفاء من الله جل جلاله أو من موسى عليه السلام أو من أحبار بني إسرائيل، فإن المحصل النهائية هي أن
الا صطفائية للأمة اليهودية عقيدة راسخة لدى بني إسرائيل : هي على ذات الدراجة من الرسوخ عند المسيحيين والمسلمين .
ونلفت النظر الى أن الاصطفائية هنا بالنسبة للديانة اليهودية ليست هي( الاختيارية) الخاصة باليهود في كونهم " شعب الله المختار " لأن تفسير " الاختيارية " قد تعددت وجهه ومنها أن الرب إختار اليهود لموسى عليه السلام وأبدلهم له بالمصريين الذين لا يستحقون رسالة " التوحيد" ومنها أنهم الشعب الذين إختارهم الرب لسكنى " أرض الميعاد" وواضح أنها تفسيرات أسطورية، المهم أنها بخلاف ( الاصطفائية) التي تتعلق بالعقيدة والتي هي أولى السمتين اللتين تضفيهما على أتباعها والديانات الثلاث السماوية أو السامية أوالابراهيمية .
ثانيا: في المسيحية : (1 ) إصطفاء الرسول: المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
بلغت الاصطفائية في المسيحية بالنسبة لمن بلغ الرسالة درجة لم يبلغها ( الرسول) لدى الديانتين الأخرتين( اليهودية والاسلام) اذ وصلت بالمسيح عليه السلام الى مرتبة الألوهية ( في نظر المسحيين )، وإختلاف الرأي في المسيح في هذه الدرجة سواء لدى اليهود أو المسلمين أو حتى بعض الملل داخل المسيحية ذاتها ليس هنا موضيعه إنما الذي يعنينا هو ماجاء في بيان ( الاصطفائية) بشآنه من خلال الكتب المقدسة لدين المسيحي :
" وخاطبهم يسوع أيضا فقال أنا نور العالم من تبعني فلا يتخبط في الظلام بل يكون له نور الحياة " (11 )
وهو صورة الله ( المسيح) الذي لايرى والبكر على ما قد خلق إذ به خلقت جميع الأشياء: ما في السموات وما في الأرض ما يرى وما لا يرى عروشا كانت أم سيادات أو رئاسات أم سلطات، كل ما في الكون قد خلق بواسطته ولأجله ، هو كائن قبل كل شيئ وبه يدوم كل شيئ هو رأس الجسد أي الكنيسة "(12 )
" الحق الحق أقول لكم: أنا باب الخراف، جميع الذين جاءوا قبلي كانوا لصوصا وسراقا ولكن الخراف لم تضع إليهم أنا الباب من دخل بني يخلص فيدخل ويجد المرعى" (13 )
" إذن أيها الاخوةالقديسيون الذي اشتركتم في الدعوة السماوية، تأملوا يسوع الرسول والكاهن الأعلى في الإيمان الذي نتمسك به فهو أمين الله في المهمة التي عينه لها كما كان موسى أمينا في القيام بخدمته في بيت الله الا أنه ( المسيح) يستحق مجدا أعظم ." (14 )
2 ـ إصطفاء أصحاب الرسول :
وبينما كان يسوع يمشي على شاطئ بحيرة الجليل رأى أخوين هما سمعان الذي يدعى بطرس وأندراوس أخه يلقيان الشبكة في البحيرة اذ كانا صيادين فقال لهما : أتبعاني فأجعلكما صيادين للناس "(15 )
" ثم دعا اليه تلاميذه الاثنى عشر وأعطاهم سلطة على الأرواح النجسة ليطردوها ويشفوا كل مرض وعلة وهذه هي أسماء الاثنى عشر........(16 )
" فإن إنطلقوا يجتازونا في القرى وهم يبشرون ويشفون في كل مكان " (17 )
" ولما جاء اليوم الخمسون كان الاخوة مجتمعين معا في مكان واحد وفجأة حدث صوت من السماء كأنه دوي ريح عاصفة فملأ البيت الذي كانوا جالسين فيه ثم ظهرت لهم ألسنة كلها من نار وقد توزعت على كل واحد منهم فامتلأوا جميعا بروح القدس وأخذوا يتكلمون بلغات أخرى مثلما منحهم الروح أن ينطقوا " (18 )
وقد أطلق القرآن الكرم على تلامذة المسيح المصطفين هؤلاء ( الحواريين) وأن الله هو الذي أوحى اليهم ليؤمنوا به وبرسوله وانهم إستجابوا لذلك وآمنوا وطلبوا من عيسى عليه السلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء فدعاه عيسى فإستجاب له وأنزل تلك المائدة التي غدت عيدا لأولهم وآخرهم وآية شاهدة على صدق نبوة عبدالله ورسوله المسيح عليه السلام وسميت صورة في القرآن بإسمها ( المائدة) ويطلق عليها المسيحيون ( العشاء الرباني أو العشاء الأخير) " (19 )
" و قال الحواريون نحن أنصار الله " (20)
" و بعد ذلك عين الرب إثنين و سبعين آخرين وأرسلهم إثنين إثنين ليسبقوه إلى كل مدينة و مكان كان على وشك الذهاب إليه " (21)
و بعدئذ رجع الإثنان و السبعون فرحين وقالوا يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك ......فقال لهم ......بل إفرحوا بأن أسمائكم قد كتبت في السموات "(22).
3ـ إصطفاء امة الرسول:
تؤكد الكتب المقدسة ( الإنجيل و أعمال الرسل ) أن أمة المسيح امة مصطفاة، فمرة تسميها ( ملح الأرض ) و أخرى ( نور العالم ) و ثالثة ( الموهوبة روح القدس ) .
" انتم ملح الأرض فإذا فسد الملح فماذا يعيد له ملوحته إنه لا يعود يصلح لشىء ، إلا ان يطرح جانبا لتدوسه الناس ... أنتم نور العالم لا يمكن أن تخفى مدينة مبنية على جبل ، و لا يضىء الناس مصباحا ثم يضعونه تحت مكيال ، بل يضعونه في مكان مرتفع ليضيء لجميع من في البيت ، هكذا فليضيء نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الحسنة و يمجدوا أباكم الذي في السموات " (23)
" فلما سمع الحاضرون هذا الكلام و قرتهم قلوبهم فسألوا بطرس و باقي الرسل : ماذا تعمل أيها الإخوة ؟ أجابهم بطرس: توبوا و ليتعمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح فيغفر الله خطاياكم و تنالوا هبة الروح القدس لأن الوعد هو لكم و لأولادكم و للبعيدين جميعا يناله كل من يدعوه الرب إلهنا " (24) ..
ثالثا: في الإسلام .
رسالة محمد صلى الله عليه و سلم هي آخر الرسالات نزولا من السماء و هو خاتم الرسل و لا نبي بعده ، و من ثم فكان من البديهي أن تكون ( الإصطفائية ) شديدة التميز باهرة الوضوح في الدين الإسلامي ، سواء بالنسبة للرسول (عليه السلام) أو أصحابه ( رضوان الله عليهم ) أو أمته . و النصوص المقدســـة ( القرآن و الأحاديث النبوية الشريفة ) التي تقطع بهذه( الإصطفائية ) كثيرة والإحاطة بها إن لم تكن متعذرة فإنها سوف تطيل صفحات هذا البحث و من ثم فإننا سوف نقتصر على بعض من تلك النصوص التي تؤكدها :
1ـ إصطفاء الرسول : محمد صلى الله عليه و سلم :
"أنا محمد النبي ـ قالها ثلاث ـ و لا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم و جوامعه و خواتمه و علمت كم خزنة النار و حملة العرش " (25).
" بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب و بينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي " (26 ) .
" إن جبريل آتاني فبشرني بأن الله قد أعطاني الشفاعة " ( 27 ).
" آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح فيقول الخازن : من أنت؟ فأقول : محمد ، فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك ." (28 ).
" مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها و أكملها و أجملها ، إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون و يعجبهم البنيان فيقولون : ألا وضعت هنا لبنة فيتم بنيانك ـ فقال النبي محمد صلى الله عليه و سلم فكنت أنا اللبنة " (29 ).
2ـ إصطفاء صحابة الرسول (رضي الله عنهم ).
" اقتدوا بالذين بعدي من أصحابي أبي بكر و عمر و غهتدوا بهدى عمار و تمسكوا بعهد ابن مسعود " (30 ).
دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل مثل أحد ذهبا ما بلغتم أعمالهم ." (31).
لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم و لا نصيفه " (32 ).
".... و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم " (33).
" أنا في الجنة و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد و عبدالرحمن بن عوف ، قال سعيد بن زيد و لو شئت أن أسمي العاشر سميته قيل و من هو قال أنا " (34).
و لا يكاد يخلو كتاب واحد من دواوين السنة المعتمدة ( التي تحتوي على الأحاديث النبوية الشريفة من باب ( المناقب ) الذي يتحدث عن فضائل كبار الصحابة و خاصة الخلفاء الراشدين الأربعة و الصحابيات و الحابيات ( رضوان الله عليهم )، و بعد ذلك انتقلت ( المناقب ) إلى أئمة المذاهب الأربعة : أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل ،فهناك المئات من الكتب المخصصة ل ( مناقب ) كل منهم بل إن بعضا منها يحتوي على أحاديث نبوية نسبت الى الرسول ( ص) تشيد بهم ، و في عصرنا الحاضر بين أيدينا عشرات المؤلفات ، التي حررت في في مصر و غيرها من ربوع العالم الإسلامي ، تتحدث عن ( مناقب ) الإمام الشهيد حسن البنا المرشد الاول لجماعة الإخوان المسلمين . و بعد وفاة أبي الأعلا المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية بدأت تظهر باللغات العربية و الأوردية و الإنجليزية رسائل و مقالات و كتب تتغنى ب ( مناقبه ) ، وهكذا سوف يستمر الشعور ب ( الإصطفائية ) لأنه أمر طبيعي في حقل الدعوة الإسلامية تأسيا بصاحب الرسالة ( و الذين معه ).
3ـ إصطفاء الامة .
"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله" (35).
" و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما أنزل على محمد و هو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم " (36).
" آتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة فقلت : و إن زنا و إن سرق ؟ فقال : و إن زنا وإن سرق "(37) "أهل القرآن أهل الله و خاصته " (38). " الملائكة شهداء الله في السماء و أنتم شهداء الله في الأرض "(39) . " اما ترضى أن تكون لهم الدنيا و لنا الآخرة "(40).
و يقرر الإمام سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ " فأما شعب الله حقا فهو المة المسلمة التي تستظل براية الله على اختلاف ما بينها من الأجناس و الالوان و الأوطان" (41).
عن الحقيقة المطلقة :
الأديان السماوية أو الإبراهيمية أو السامية الثلاثة : اليهودية و المسيحية و الإسلام يؤكد كل منها نزوله من السماء ، وأنه جاء بالحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها و بالكلمة الأخيرة من الله سبحانه و تعالى ، وأن على كل من ينضوي تحت لوائها و يستظل بظلها أن يؤمن بذلك إيمانا خالصا لا شائبة فيه ، و أن ما عداها من الأديان و العقائد و الشرائع و المذاهب و الملل و النحل باطل و زائغ و منحرف ، وأن الحقيقة المطلقة و الكلمة الأخيرة ملك له وحده حتى يرث الله الأرض و من عليها ـ و قد تكرر ذلك عند نزول التوراة على موسى و الإنجيل على عيسى و القرآن على محمد ( عليهم جميعا السلام )، و قرر ذلك و أكده كل واحد منهم بصورة حاسمة و جازمة ، لا لبس فيها و لا غموض و فعل ذلك من بعدهم خلفاؤهم من : الشيوخ و الرسل و التلاميذ و الحواريين و الصحابة : و الكتب المقدسة للأديان الثلاثة تنص على ذلك بصورة جلية و بألفاظ صريحة و واضحة .
أولا : فــي اليهـــوديـــة
" و دعا موسى جميع إسرائيل و قال لهم :اسمع يا اسرائيل الفرائضو الأحكام التي أتكلم بها في مسامعكم اليوم و تعلموها واحترزوا و لتعلموا أن الرب غلهنا قطع معنا عهدا في حوريب ليس مع آبائنا قطع الرب بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعا أحياء "(42).
"فاحذروا لتعلموا كما امركم الرب إلهكم لا تزيغوا يمينا و لا يسارا في جميع الطرق التي التي أوصاكم بها الرب إلهكم تسلكون كي تحيوا و يكون لكم خير و تطيلوا الأيام في الأرض التي تمتلكوها" (43).
" اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا واحد فتحب إلهك من كل قلبك و من نفسك ومن كل قوتك و لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك و قصها على أولادك و تكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق و حين تنام و حين تقوم واربطها علامة على يدك و لتكن عصائب بين عينيك و أكتبها على قوائم بيتك و على أبوابك " (44).
و في ( الاصول الإثنى عشر التي وضعها موسى بن ميمون و جعلها أركان الإيمان اليهودي يقول الأصل التاسع : "أنا أؤمن إيمانا كاملا بأن هذه التوراة غير قابلة للتغيير وأنه لن تكون شريعة أخرى سواها من قبل الخالق تبارك إسمه "(45).
ثانيا : فــــي المسيــــحيـــــة
"فالحق أقول لكم : إلى أن تزول الأرض و السماء لن يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الشريعة حتى يتم كل شيء ......... و أما من عمل بها وعلمها فيدعى عظيما في ملكوت السماء " (46).
" و أية مدينة دخلتم ولم يقبلكم أهلها فاخرجوا إلى شوارعها و قولوا : حتى غبار مدينتكم العالق بأقدامنا ننفضه عليكم ، لكن إعلموا هذا : إن ملكوت الله قد اقترب : أقول لكم : إن سدوم و عمورية ستكون حالتها في ذلك اليوم أخف وطأة من تلك المدينة "(47).
"من يسمع لكم يسمع لي و من يرفضكم يرفضني ومن يرفضني يرفض الذي أرسلني "(48).
"ثم إلتفت إلى التلاميذ و قال لهم على حده : طوبى للعيون التي ترى ما أنتم ترون أن يروا ما تبصرون ، و لكنهم لم يروا ، وأن يسمعوا ما تسمعون ولكنهم لم يسمعوا "(49).
و تذهب المسيحية في نطاق تملك الحقيقة المطلقة إلى مدى أبعد . فبينما نرى في اليهودية و الإسلام أن الرسول هو الذي أوحي له بالحقيقة من قبل السماء إذا بنا في المسيحية نشهد الصورة مقلوبة ، ف "النبوة لم تضع الحقيقة بل إن الحقيقة هي التي أعطت النبوة مرماها ، و الحقيقة العليا السامية في هذا الصدد هي شخصية يسوع "(50).
غذن يسوع بنظر المسيحية هو الحقيقة المطلقة المتجسدة و من لا يؤمن بذلك إيمانا خالصا تكون يداه خاليتين و صفرا من رصيد الحقيقة ، و معناه بكل بساطة أن إمتلاك الحقيقة المطلقة وحدها دون غيرها من الشرائع السابقة او الاحقة .
ثالثا : فـــي الإســــــلام
" و من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين "(51)
"و انزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه " (52)
فالرسالة المحمدية هي " الرسالة التي جاءت تعرض الإسلام في صورته النهائية الأخيرة ليكون دين البشرية كلها و لتكون شريعته هي شريعة الناس جميعا و لتهيمن على كل من كان قبلها و تكون هي المرجع النهائي و لتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الارض و من عليها "(53).
" اما بعد ذلك فإن أصدق الحديث كتب الله وإن أفضل الهدى هدى محمد "(54).
" و الذي نفس محمد بيده لا يسمع أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت و لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار "(55).
نصوص صريحة و قاطعة في الكتب المقدسة السماوية أو السامية أو الإبراهيمية تقطع بأن كل شريعة منها تملك دون غيرها الحقيقة المطلقة و الكلمة المنقولة عن الرب جل جلاله ، وهذا ما يؤمن به أتباع كل منها إيمانا مطلقا ، و يسلم به تسليما دون نقاش .
إن الذي تمتاز شريعته و رسوله وأصحاب رسوله و أمته ب ( الإصطفائية ) يملؤه شعور ب (الإستعلاء ) على كل من لم يؤمن بما آمن هو به و كلما كانت شحنة الإيمان عالية ـ فالإيمان يزيد و ينقص كما يرى أهل السنة و الجماعة ـ كلما كانت دفعة الإستعلاء عنده قوية ، بل غنه يحس ب ( الإستعلاء ) حتى على أهل ملته و أمته أنفسهم إن لم يكونوا مساوين له في الإيمان و الإنصياع لأحكام الشريعة و السير على صراطها المستقيم ،: وينظر إليهم على أنهم في ضلال ، يتعين عليه أن يردهم إلى النهج القويم . و إذ أن البحث يدور في فلك الجماعات الإسلامية السياسية و على راسها جماعة الإخوان المسلمين ، فإننا سوف نتناول بعض ما جاء في وثائقها المنشورة حتى نرى مصداقية هذه الدعوى و هي مدى ما تبثه في نفوس أتباعها من ( إستعلاء ) و الذي سوف نكشف فيما بعد عن دوره في تغذية اتجاه ( العنف ) . " أيها الأخ العزيز إن في نسبتك إلى الله تبارك و تعالى اسمى ما يطمح إليه الطامحون من معاني العزة و المجد = فإن العزة لله جميعا= وأولي ما يرفع نفسك إلى عليين و ينفخ فيها روح النهوض مع العاملين وأي شرف أكبر وأي دافع للفضيلة من أن ترى نفسك ( ربانيا )، بالله صلتك و إليه نسبتك " (56).
و يصف الأستاذ صلاح شادي ـ رحمه الله ـ و قد كان عضوا بارزا في جماعة الإخوان المسلمين : " أتباع الرجل ( الشيخ حسن البنا ) بأنهم كانوا خليطا من طبقات هذه الأمة ....... يربطهم جميعا الطريق الى الله ( تعلو ) فيه كرامة المسلم على كل عرض من اعراض الدنيا "(57). و بغض النظر عن وسمه لأعضاء الجماعة بانهم (أتباع ) للمرشد العام الأول فهذا يخرج عن نطاق بحثنا ، فإن توصيف صلاح شادي للإخوان المسلمين ذكر ( الإستعلاء )الذي به يتميزون ( من وجهة نظره ) صراحة و بالنص .
و يقارن أحمد كمال عادل أحد قادة ( النظام الخاص ) المشهور إعلاميا ب ( الجهاز السري ) ، بين عضو جماعة الإخوان المسلمين و غيره ( من المسلمين ) حتى ولو كان مستقيما ( متدينا ) بأن الأول ( رباني ) أما الأخر فإن غايته العليا في الحياة هي لقمة العيش و هي مثله الأعلى ، في حين أن هذه الغاية هي نفس الغاية التي لا تتعداها آذان الأنعام و قلوبها 3 (58).
و عندما عدد د. رؤوف شلبي " الخصائص الإيجابية الوصفية لدعوة الإخوان المسلمين " ذكر على لسان الشيخ حسن البنا أن أخص خصائصها أنها ربانية و شرح كونها كذلك بقوله " فلأن الأساس الذي تدور عليه عليه أهدافنا جميعا هو أن يتعرف الناس إلى ربهم وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسمو بأنفسهم عن جمودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة و جمالها "(59).
و قد وردت كلمة ( الربانيين ) في القرآن الكريم ثلاث مرات : مرة في سورة آل عمران و مرتين في سورة المائدة ـ و في المرات الثلاث جاءت في حق أهل الكتاب و اليهود على الأخص . ويفسرها علماء تفسير القرآن بأنهم (الربانيون ) هم " كاملو العلم وقال محمد بن الحنيفة رضي الله عنه حين مات عبد الله بن عباس ـرضي الله عنهما ـ اليوم مات رباني هذه الأمة ، و قال أبو العباس ثعلب إنما قيل للفقهاء الربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومون به وقال أبو عمر عن ثعلب : العرب تقول : رجل رباني و ربي ( بكسر الراء ) إذا كان علما عاملا "(60).
و كلمة (رباني ) موجودة بذات الرسم في الديانة اليهودية و فيها تعني : الحبر و الحاخام ، بل إن الله نفسه يستشير الربانيين إذا حزبه أمر ، وأن أحد الربانيين حكم بتخطئة الله الذي أقر فعلا بخطئه ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ و الربانيون بإلهام التوراة كتبوا التلمود الذي أفرخ الفكر الصهيوني العنصري للتعصب فبحسب نصوصه من لا يهاجر إلى أرض الميعاد يكون كمن لا إله له " (61).
فالرباني في كلا الشريعتين يعني المتمسك بتعاليم دينه ، المتبحر فيه مما يجعله مملوءا بشعور ( الإستعلاء ) و ( السمو ) على غيره ممن يدينون بذات العقيدة ، مما يدفعه إلى سلوك طريق العنف حيال الآخرين ، و لذلك فليس من باب المصادفة أن تؤدي ( الربانية ) في الفكر اليهودي إلى إفراز دعوة الصهيونية العنصرية .
أما ربانية الإخوان المسلمين ، فقد انتهت بهم إلى إنشاء النظام الخاص أو الجهاز السري . و قد تطورت فكرة ( الربانية ) على فلسفة كاملة على يد الشهيد سيد قطب ـ و تبلورت على أيدي الجماعات الإسلامية السياسية الحديثة مثل منظمات " التكفير و الهجرة " و " الجهاد " .....الخ و ظهرت بصورة مزيد من العنف المسلح ( و هذه تخرج عن نطاق بحثنا الذي يقتصر على جماعة الإخوان المسلمين ).
إذن ثمرة ( ربانية ) الإخوان المسلمين و ما تولده من إحساس ب (الإستعلاء ) ظهور النظام الخاص الذي وصفه الأستاذ صلاح عيسى " بأنه تنظيم حديدي نادر المثال " (62) . و نخالف الدكتور عبد العظيم رمضان في ما يذهب إليه من أنه " يمكن تحديد نشأة فكرة العنف و الإستيلاء على السلطة عند جماعة الإخوان المسلمين بنشأة ما عرف بإسم فرق الرحلات"، ومن الثابت من الأدلة لدينا أن الشيخ حسن البنا عندما بدأ في تكوين جماعته لم تكن فكرة العنف واردة في ذهنه أصلا ، وإنما كانت الفكرة هي نشر الدعوة بوسيلة " الحب و الإخاء و التعارف " كما كتبت جريدة الغخوان في 5 شعبان 1352 هـ (63 ) . و لم يحدد الدكتور عبد العظيم رمضان تاريخ إنشاء " فرق الرحلات " ، و لكنه يؤكد أن جريدة الإخوان المسلمين حتى بعد بعد منتصف 1352 هـ كانت تبشر بالحب و الإخاء و التعارف كوسيلة لنشر الدعوة .( حوالي 1932 م) ، أي عند إنتقال مقر الجماعة الرئيسي من مدينة الإسماعيلية إلى العاصمة ( القاهرة ) ، و اذ إن نشاة الجماعة ترجع الى فبراير 1928 م فبذلك يكون تبنيها لفكرة العنف قد بدا لديها بعد ثلاث أو أربع سنوات و هو فارق بسيط ، و مع ذلك فإن الثابت أن فكرة العنف لازمت الجماعة منذ نشأتها الأولى ، شانها في ذلك شان الجماعات السياسية ذات التمحور الفكري الديني ، و الادلة على ذلك كثيرة ربما يضيق البحث عن حصرها جميعا و من ثم نقتصر على بعض الأدلة التي تؤكد على ذلك :
1ـ في رسالة المؤتمر الخامس صرح الاستاذ ( حسن البنا ) :
" أيها الإخوة المسلمون و بخاصة المتحمسون المستعجلون ( كذا) منكم اسمعوها مني كلمة عالية مدوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع : إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده و لست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الإقناع بأنها أسلم طريق للوصول : أجل قد تكون طويلة و لكن ليس هناك غيرها "(64) فهنا يصرح المرشد العام الأول ان الجماعة مرسوم و محدود و لكن هو و إلى أي غاية يؤدي ، يجيبنا الأستاذ بما يلي : " في الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها روحيا بالإيمان و العقيدة و فكريا بالعلم و الثقافة و جسميا بالتدريب و الرياضة في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار و أقتحم عنان السماء و أغزو بكم كل عنيد و جبار "(65).
فلا شك أن القارىء قد إسترعى انتباهه ما جاء في كلام ( الأستاذ) مثل : أخوض، أقتحم، أغزو، و قد يقال إنه قد أخذته الحماسة في المؤتمر الخامس الذي انعقد سنة 1939 م بسراي لطف الله بالجيزة بعد ان قفز عدد الشعب من خمسين إلى ثلثمائة شعبة و بالتالي تضاعف عدد الأعضاء إلى مئات الأضعاف ، و لكن لم يعهد في (الأستاذ) الجنوح الى العاطفة في مثل هذه الأمور الحساسة التي تختص بمنهج الجماعة او مسلكها المستقبلي .
2ـ عندما نقل ( الأستاذ ) من الإسماعيلية إلى القاهرة و نقل نشاط جماعته إليها ، ودعت الحاجة إلى إختيار من يحل محله في الإسماعيلية و هنا حدث خلاف حاد بين الأعضاء بشأن هذا الاختيار أدى الى إنشقاق و تقديم بلاغ إلى النيابة العامة ضد المرشد العام ودأب المنشقون على تشويه سمعته فلم يجد أنصاره سبيلا إلى ردعهم إلا (العنف ) و الإعتداء عليهم بالضرب مما أدى إلى تقديم ( المعتدين ) على المحاكمة الجنائية (66) و قد يقال في تفنيد هذا الدليل أن استخدام ( العنف ) من جانب أولئك الأعضاء كان بمبادرة فردية و لا يمثل منهجا عاما للجماعة .
3ـ و لكننا نقرأ في البيانات الأولى لنشأة الجماعة أن (الأستاذ) كان يشدد على جانب التربية للأعضاء حتى إنه كان يقوم بنفسه بتدريبهم ، يقول د. ريتشارد رايت في كتاب ( الإخوان المسلمون ):" و نظم المؤتمر الخامس بوجه خاص تشكيلات الجوالة بصورة منتظمة من خلال ممارسة التدريبات الرياضية التي بدات في الأيام الولى للجماعة بالإسماعيلية " و السؤال الذي يدعو الرجل ( الأستاذ ) الى الإهتمام بأجسام الأعضاء بالتربية الرياضية و لماذا لم يقتصر على التربية الروحية ؟؟ و لعل الجواب واضح ......
4ـ من الوثائق المبكرة للجماعة وثيقة بعنوان ( عقيدتنا ) :
"تعتبر ميثاقا لكل اخ إنظم إليهم تحتوي على سبعة بنود و ينص البند الخامس فيها على ما يلي:
" و أتعهد بأن أجاهد في سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت وأضحي في سبيلها بكل ما أملك " ت و في ختام البند السابع و الأخير : " و أتعهد بالثبات على مبادئها و الإخلاص لكل من عمل لها و أن أظل جنديا في خدمتها و أموت في سبيلها ".
و هذه الوثيقة (عقيدتنا ) جعلت أ.أرنست رينان أستاذ الدراسات العربية و الإسلامية بالسوربون يقول :"هذه الكلمات عميقة المبحث و المقصد " (68) فهذه الوثيقة تصف الأخ بأنه (جندي) في خدمة الدعوة يجاهد في سبيلها مادام حيا و يضحي بكل ما يملك و يموت فداءا لها . و لعله من المفيد أن نذكر بأن من بين شعارات الإخوان المسلمين التي يرددونها في محافلهم : الجهاد سبيلنا و الموت في سبيل الله أحلى أمانينا.
5ـ في وقت مبكر جدا أنشأت الجماعة (مدارس الجمعة):
" حيث يجتمع الصبيان لتلقيدروس في التاريخ الإسلامي في قصص مسلية مع مبادىء الدين و الألعاب الرياضية من الصباح حتى يحين وقت صلاة الجمعة "(69). فلماذا هذا الإهتمام ب "الألعاب الرياضية " و إذا كان تلقي الصبيان لدروس في الدين و التاريخ الإسلامي في " مدارس الجمعة " التي هي ليست مدارس بالمعنى المتعارف عليه فلأي سبب حرص " الأستاذ " على تدريب الصبيان الصغار على الرياضة وإذ أنه كما تقول العرب و بضدها تتميز الأشياء فإن الجماعات الدينية ( الإسلامية ) غير السياسية مثل جماعة أنصار السنة و جماعة العشيرة المحمدية و الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب و السنة المحمدية لا تهتم بتربية أعضائها رياضيا ( بدنيا ) و إنما تقتصر على النواحي الروحية و الثقافية و الشعائرية .
6ـ النظام الخاص أو الجهاز السري لم ينشأ فجأة ، بل هو نتاج التطور الطبيعي لفصائل العنف التي بدأت منذ نشأة الجماعة في مدينة الإسماعيلية : الفرق الرياضية ، الجوالة ، فرق الرحلات ثم المعسكرات ، و هذا الأمر يتضح بسهولة لأي قارىء متفحص و متأمل في تاريخ الجماعات و لأدبياتها و مطبوعاتها .
و هكذا يتبين إن ما أستقر عليه رأي الأستاذ الدكتور عبد العظيم رمضان ،من ان فكرة العنف طرأت على فكر الجماعة و لم تكن أصلية لديها و أنها كانت في البدء تعمد إلى الدعوة و الموعظة الحسنة و الإخاء و المحبة ، تنقضه الوثائق التاريخية للجماعة ، كما أنه ينافي طبيعة الجماعات الدينية ذات التوجه السياسي .
و ليس معنى ذلك أن الجماعة كانت تجنح إلى العنف كلية و لا تدعو باللين ، و لكن ما نريد أن نؤكده أنه بجانب ذلك كانت بذرة إحذى المكونات الرئيسية في فكر الجماعة و لكنها كانت مستترة ـ كنوع من التقية ـ و كانت بندا أساسيا من بنود الخطة التي كان مقررا لها أن تتم على مراحل ، كما قرر بذلك صراحة الشيح حسن البنا ـ في خطابه أمام المؤتمر الخامس كما أسلفنا .
و هذا مسلك معهود ـ على طول التاريخ و عرض الجغرافيا إن صح التعبير ـ لكافة الجماعات الإسلامية التي ترتكز على الفكر الديني الذي يمنح معتنقيه قدرا واضحا من الإسـتـــــــــعلاء على الأخرين ، نتيجة ل " الإصطفائية " و " تملك الحقيقة المطلقة " اللتين يفتقر إليهما الأخرون الذين يحملون وصف " حزب الشيطان ".
و تختلط ( الإصطفائية ) و ( تملك الحقيقة ) في وثائق الجماعة و أدبياتها كما أسلفنا ، و ذلك ان العلاقة بين الأمرين حميمة ـ ولكن الأمر المؤكد أنهما معا أهم مقومات فكر الغخوان المسلمين ، بل لا نكون مبالغين إذا أكدنا انهما المحور الرئيسي الذي يدور عليه ذلك الفكر ، جاء ذلك على لسان ( المرشدين العامين ) و غيرهم من منظري الجماعة و كاتيبها المعبرين عنها بحيث أصبحتا من المكونات الأصلية الراسخة في عقيدتهم : فالشيخ / حسن البنا مؤسس الجماعة يشترط عند اخذ البيعة على ( الإخوان ) التجرد ، و يرى ان ( التجرد ) صفة لازمة للأخ و يشرحه بقوله : " أن تتخلص لفكرتك من كل ما سواها من المبادىء " لماذا ؟ " لأنها أسمى الفكر و أجمعها و أعلاها " (70).
فهنا نجد الأستاذ حسن البنا يشترط على الأخ أن يطرح جانبا كل المبادىء و الأشخاص التي أو الذين كان قد تأثر بها أو بهم فيما مضى و ألا يحمل بين جنبيه إلا فكرة ( الجماعة ) لأنها الحقيقة المطلقة دون ما عداها . ثم يعلل فضيلته ذلك بقوله "لأنها اسمى الفكر و أجمعها و أعلاها " و في جملة واحدة وسم فكرة جماعته بالسمو و العلو و جمع أحسن ما في الأفكار الأخرى ، و من ثم فلا حاجة ل "الأخ " بأي فكرة سواها .
أما المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي ـ المستشار السابق بمحكمة النقض ـرحمه الله تعالىـ فهو يصف دعوة الإخوان المسلمين بأنها :
" دعوة الرسول صلى الله عليه و سلم ـ لم تزد عليها و لم تنقص ، كانت و لا تزال صراعا بين الحق و الباطل ، بين الإيمان و الإلحاد ، بين المعروف و المنكر ، بين العقل و الهوى بين الخلق القويم و التحلل الذميم ، بين الإنسانية الفاضلة و الأنانية الخاسرة "(71).
إن المرشد الثاني هنا يسوي بين دعوة الجماعة و دعوة الرسول عليه الصلاة و السلام ، و لم يقل إنها مقتبسة منها او تسير على هديها أو تنسج على منوالها ، بل " هي دعوة الرسول "ذاتها و أنها تمثل الحق و الإيمان و المعروف و العقل و الخلق القويم و الإنسانية الفاضلة ، و ان غيرها من المبادىء التي قامت هي لمصارعتها يجسم الباطل و الإلحاد و المنكر و الهوى و التحلل الذميم و الإنسانية الخاسرة : و هو نص جمع بين إمتلاك الحقيقة المطلقة و الإستعلاء ، و ما دام الإخوان المسلمون على تلك الشاكلة فإنه " لا يمكن حلهم لأن الرابطة التي تربط بينهم هي الإعتصام بحبل الله المتين و هي أقوى من كل قوة"(72) و ما دامت دعوة الإخوة كذلك فإنها ستظل مستمرة إلى يوم يبعثون ، إذ أنها " الدعوة التي امرنا الله بها الى آخر الزمان " (73) و يكون إذن لا محالة واهما أشد الوهم من يظن مجرد ظن أن ( الإخوان المسلمين ) إسم لجمعية أو هيئة في مصر " و لكنه أصبح علما على بعث فكرة الإسلام الخالص النقي و نهضة المسلمين في جميع مشارق الأرض و مغاربها "(74) إذن دعوة الإخوان المسلمين ـ بنظر مرشدها الثاني ـ هي الإسلام ذاته في صورته النقية الخالصة و أنها عنوان على نهضة المسلمين في جميع بقاع العالم ، و لا توجد كلمات أشد صراحة و وضوحا على تبيان إمتلاك الحقيقة و الإستعلاء على الآخرين من هذه الكلمات التي أطلقها فضيلة المرشد الهضيبي . إن هذا القدر الذي لا تخطئه العين من ( النرجسة ) في توصيف الجماعة و فكرها و مساواتها -ب " دعوة الرسول عليه الصلاة و السلام " بالإضافة الى أنه الخط الواضح الصريح لقادة الجماعة يرجع في قدر كبير الى أنه عند صدور تلك الكلمات من المرشد الثاني كانت الجماعة تعاني ضغوطا و تهديدا من ( ثورة 23 يوليو ) إذ أنه قالها في خطبته بمدينة المنصورة لمناسبة الإحتفال بذكرى الهجرة المباركة . في المحرم سنة 1373 هـ الموافق سبتمبر 1953: بعكس كلمات المرشد الأول التي إتسمت بقدر لا بأس به من الإعتدال ـ و إن لم تخل طبعا من الإستعلاء ـ و من الإستشراف للمستقبل ، لأن الجماعة كانت آنذاك في حالة مد و إنتشار و إتساع ، و لم تكن القوى السياسية الأخرى في تلك الأيام قد تنبهت الى حقيقة مراميها ، و كانت تظن أنها مجرد جمعية دينية تفتقر الى الطموح السياسي مثل باقي الجمعيات الدينية الأخرى ....
و معلوم أن الشخص ، طبيعيا كان أو معنويا " جماعة أو هـيئة أو مدرسة " يعمد إلى الإتجاه إلى الماضي و التشبت به عند تعرضه لخطر خارجي ـ في حين أنه يتجه إلى إستشراف الآفاق المستقبلية في حالة إنعدام من أو ما يهدده " إنه ميكانيزم الدفاع ( الذي فيه ) تلتجىء الذات إلى الماضي و تحتمي به لتؤكد من خلاله و بواسطته شخصيتها و لذلك تعمد إلى تضخيمه و تمجيده ما دام الخطر الخارجي قائما " (75) و إذ ظل التهديد مسـتمرا أو الحصار قائما على جماعة الإخوان ، فإننا نجد المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني ـ المحامي ـ رحمة الله عليه ـ ( مرشد دور الستر ) لا تقل طروحاته تضخيما للذات و إعجابا بها و لو أذاب الماضي ، فنراه يقول عن جماعته أنهم " أيقظوا الوعي الإسلامي في العالم كله بعد طول جمود و أصبحت القارات الخمس تعرف الإخوان المسلمين بما فيها من شعب الإخوان المسلمين أو بما فيها من شباب يدعو بدعوة الإخوان المسلمين ..... و ليعلم العالم كله أن هذه الدعوة لن تموت لأنها كلمة الله التي تعهد بحفظها ووضعها على أكتاف رجال حملوها كابرا عن كابر بفضل من الله و نعمته " (76).
و هذه المقولة رغم ما فيها من تجن على ما سبقها من دعوات مثل الوهابية و المهدية و السنوسية . و من رجال من أمثال رفاعة الطهطاوي و عبدالرحمان الكواكبي و الأفغاني و محمد عبده و ابن باديس و الإبراهيمي ....إلخ ، فإنها ( تلك المقولة ) تشي بوضوح عن اليقين الكامل بأن الجماعة بيدها الحقيقة المطلقة " كلمة الله التي تعهد بحفظها " وواضح أن مرشد دور الستر قد وضعها في مصاف القرآن الكريم "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون " (77).
و مساواة دعوة الإخوان بدعوة الرسول و تعهد الله تبارك و تعالى لها بالحفظ دعوى لم يسبقهم إليها أحد ، فلم نسمع عن الأئمة الأعلام ، مثل أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد بن حنبل رضي الله عنهم ، إنهم ادعوا مثل هذا الإدعاء البالغ الجرأة ، و لم يقل واحد منهم أن مذهبه مساو لدعوة الرسول عليه الصلاة و السلام أو أنه كلمة الله التي تعهد بحفظها . بل كانوا يقولون في تواضع العلماء : ما نقوله صواب حتى يثبت لنا غيرنا أنه خطأ ـ و هذا مرجعه الى أنهم لم يكونوا أصحاب مطامع سياسية و لم يسع احدهم إلى كراسي الحكم .
وتيرة " الإستعلاء "تنضح بها كلمات المرشد الثالث الأستاذ التلمساني حيث يقول : " الإخوان أيقضوا الوعي الإسلامي في العالم كله .....وضعها على أكتاف رجال حملوها كابر عن كابر ".
وهكذا ، فإن جماعة الإخوان المسلمين ، شأنها في ذلك شأن أي هيئة سياسية ذات تمحور ديني ، تعتقد بـ" الربانية " في أعضائها و يقطع مرشدوها بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة و يتميز المتنفذون فيها و الأعضاء العاديون على السواء ـ في نظر أنفسهم ـ بالسمو و الإستعلاء على الغير ، وأنهم حاملو كلمة الله الذي تعهد لهم بحفظها ، فيكون من المستحيل و الأمر على ما شرحنا أن تؤمن بالحوار الديمقراطي أو الجدل بالتي هي أحسن ـ، لأن (الآخر) في نظرها ينطق عن الهوى و يرتع في الضلال و يتخبط في الظلام ، و يأمر بالمنكر و ينهي عن المعروف ، و ينقصه العقل ويفتقر إلى الخلق القويم و يحمل الإلحاد ويتمرغ في التحلل الذميم و يتسم بالإنسانية الخاسرة ، وكيف لا يكون كذلك وهو من " حزب الشيطان " و من كان هذا شأنه فأي حوار ينفع معه وأنى يكون السبيل إلى المجادلة ؟؟؟
إن مثل هذا ( الآخـر) لا دواء له إلا السيف ، ولذلك لم يكن من باب المصادفة أن يحمل شعار الإخوان المسلمين سيفين حول المصحف الشريف ، فهم المصحف ولمن عداهـم سيفان : الذي على اليمين لمخالفيه من المسلمين ممن لا يعتنقون أفكارهم و يؤمنون بمبادئهم ، و السيف الآخر ( الذي على الشمال ) لغير المسلمين ـ و هذه هي المهمة التي قام بها النظام الخاص المشهـور إعلاميا بـ " الجهاز السـري " كما تنطق بذلك صفحات حزينة من تاريخ مصر الحديث ، ثم أكملت المسيرة الدامية الجماعات الحديثة لأنها تعتنق ذات الفكر و تؤمن من أعماق نفوسها بـ " الإصطفائية " و " تملك الحقيقة المطلقة " و الثمرة لهذه الجذور هي : العـنـف .