![]() |
|
خيمة الأدب والأُدباء مجالس أدبيّة خاصّة بجواهر اللّغة العربيّة قديما وحديثا / مساحة للاستمتاع الأدبيّ. |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() مرغريت كانت تعيش في هذه الأرض قبل عام واحد من حضور ((مدام دي لاتور)) امرأة صالحة كريمة رقيقة الحال اسمها ((مرغريت)) وفدت إليها على اثر نكبة حلت بها في مسقط رأسها ((بريطانيا)) و خلاصتها أن نبيلا من النبلاء الاصطلاحيين ، أي الذين اصطلح الناس على تلقيبهم بهذا اللقب ، نزل بلدتها للاصطياف بها فراها فأحبها و كانت فتاة غريرة ساذجة تصدق كل ما يقال عنها ، فصدقت ما حدثها به عن الحب و الزواج و السعادة و الرغد ، كأنما خيل إليها أن العظماء عظماء في أحاديثهم و عهودهم ، كما هم عظماء في مظاهرهم و أزيائهم لا يخلفون إذا وعدوا ، و لا ينكثون إذا عاهدوا ، فاتصلت به اتصال الزوج بزوجها حينما وعدها أن يتزوج منها عند عودته إلى وطنه و استئذان أبويه. و ما هي إلا أيام قلائل حتى ملها و اجتواها كما مل الكثيرات من قبلها ، فرحل عنها فجأة أعظم ما كانت غبطة به و أملا فيه و ترك لها تحت وسادتها شيئا من المال خيل إليه انه الثمن الذي يقوم لها بوفاء ما بذلت من عرضها و شرفها ، فجن جنونها و هرعت إلى فرضه البحر التي علمت انه سيسافر منها فلم ترى من سفينته الماخرة على سطح الماء إلا ما يرى الرائي من أعقاب النجم المغرب فبكت إلى ما شاء الله أن تفعل ، ثم عادت إلى منزلها دامية العين قريحة القلب ، و لم تلبث إلا قليلا حتى شعرت أنها تحمل جنينا في أحشائها فأسقط في يدها و علمت أنه قد استحال عليها البقاء بين أهلها و قومها بعدما فقدت تلك الجوهرة الثمينة التي هي كل ما تملك العذراء في يدها ، و كل ما تستطيع أن تقدمه إلى زوجها ، فأزمعت الرحيل إلى احد المستعمرات النائية لتواري في قاعها السحيق سواتها و عارها ، فوفدت إلى هذه الجزيرة بعد عناء كثير و عقبات عظمى و استطاعت بمعونة بعض المحسنين الراحمين أن تبتاع لها خادما زنجيا يعينها على أمرها و يساعدها على حراثة الأرض التي أوت إليها و استخراج ثمراتها. و عاشت هنا عيش الصالحات القانتات لا تعرف أحدا من الناس ، و لا يعرفها احد سواي و كانت تجلس دائما على هذه الصخرة العالية أمام كوخها ترضع ولدها و تنسج نسيجها ، فلما وفدت هيلين ((مدام دي لاتور)) رأتها جالسة في مكانها الذي اعتادت الجلوس فيه ، فعجبت لأمرها و أنست بمرآها أنسا عظيما ، لأنها ما كانت تتصور قبل أن تراها أن في الناس إنسانا له حال تشبه حالها ، فدنت منها و حيتها ثم جلست بجانبها و أخذت تسائلها عن شانها فقصت عليها مرغريت قصتها كما وقعت ، و كشفت لها بشجاعة و إخلاص عن مكان المصرع الذي زلت فيه قدمها ، و لم تكتمها من أمرها شيئا ، ثم ختمت حديثها بقولها : إن الله لم يظلمني ، و لم يقس علي فيما فعل ، بل عاقبني على جريمتي التي اقترفتها عقابا عادلا شريفا ، فله العتبى معطيا و سالبا ، و له الحمد على نعمائه و بأسه. رثت لها هيلين ((مدام دي لاتور)) و أوت إليها و أعجبها منها إخلاصها و صراحتها ، و قوة يقينها و إيمانها ، فلا تر بدا من أن تمنحها من بنات قلبها مثل ما منحتها ، فأفضت إليها بسرها و حدثتها حديثها من مبدئه إلى منتهاه فقالت لها مرغريت : أما أنا يا سيدتي فقد لاقيت عقوبتي التي استحقها بما أسرفت على نفسي ، و فرطت في أمري ، فما شانك أنت و أنت فتاة صالحة شريفة لا ذنب لك ، و لا جريرة ؟ ثم دعتها إلى كوخها الحقير فلبت دعوتها و دخلت معها راضية مغتبطة ، و هي تقول : أحمدك اللهم فقد وجدت لي في هذا المغترب النائي أختا لم أجد مثلها بين أهلي و قومي ، و ما احسب إلا أن آلامي قد انتهت. كنت اسكن في ذلك الحين وراء هذا الجبل على بعد مرحلة و نصف من كوخ مرغريت ، و لكني كنت على بعد ما بيني و بينها ، و اعتراض هذه العقبات دوننا ، متصلا بها أزورها ، و أتفقد حالها ، و ارعي لها ما يرعى الجار لجاره الملاصق ، و تلك خلة لا توجد إلا في سكان القفار المهجورة ، و المغتربات النائية ، فلا الجبال الشامخة ، و لا الصحاري الشاسعة ، و لا الشقة البعيدة بقادرة على أن تفرق بينهم و تمنع اتصال بعضهن ببعض ، كأنما هم يقطنون محلة واحدة ، أو منزلا واحدا ، أما في أوروبا فكثيرا ما يعيش الرجل بجانب الرجل لا يفصل بينه و بينه إلا جدار قائم أو ممر ضيق ، أو ظلة دانية ، ثم هو لا يعرفه ، و لا يحييه ، و ربما أنكر وجهه و صورته ، و هناك قلما يستطيع القادم الغريب أن ينزل ضيفا إلا عند نفسه في أخصب البلاد و أغناها و أرغدها عيشا ، و أصلحها حالا ، و هنا يجد ساعة نزوله المنزل الرحب ، و المناخ الكريم في كل دار و كوخ ، سواء في ذلك فقراء الناس و أغنياؤهم و سوقتهم و أشرافهم ، كان الناس حين يعودون إلى حياتهم الفطرية الأولى حياة البساطة و السذاجة ، و العيش في الأجواء الحرة المطلقة ، تعود لهم معها أخلاقهم الطبيعية الجميلة التي فطروا عليها من كرم و سماحة ، و جود و إيثار ، و ود و إخاء. و بعد : فلما سمعت أن جارتي قد نزلت بها ضيفة غريبة أتيت إليها أتفقد حالها و أعينها على أمرها ، فإذا أنا بين يدي فتاة جميلة رائعة تحيط بوجهها المشرق المتلألئ هالة وضاءة من الشرف و النبل تغشاها سحابة خفيفة من الكآبة ، و يتراءى في عينيها المتضعضعتين الذابلتين الأثر الذي يراه الإنسان دائما في عيون الفتيات المنكسرات : الذل و الانكسار في ميدان الحياة. و ما هو إلا أن جلست إليها جلسة خفيفة حتى ألممت بشأنها كله ، فأخذت أحدثها و صديقتها عن مستقبل حياتهما في هذه الجزيرة و كيف تستطيعان أن تعيشا فيها سعيدتين هانئتين ، فاقترحت عليهما أن تتخذا هذا الوادي مزرعة لهما تقتسمانها بينهما و يعينهما على استصلاحها و استثمارها خادماهما الزنجيان ، فأعجبهما مقترحي و عهدتا إلي بتنفيذ ما أشرت به. و كانت مساحة الوادي نحو عشرين فدانا ، فقسمته قسمين ، قسما أعلى ، و قسما أدنى ، أما الأول فيبتدئ من رؤوس تلك الصخور العالية التي تكسوها السحب أرديتها الشفافة البيضاء و تنبعث من خلالها مياه نهر ((اللاتينية)) و ينتهي عند هذه الفجوة التي تراها أمامك ، و يسمونها هنا ((لامبرازير)) لأنها تشبه في شكلها فوهة المدفع ، و تكثر في هذا القسم الصخور و الوعور التي يتعذر السير فيها ، إلا انه كثير الأشجار و النخيل ، حافل بالينابيع و الغدران. و أما الثاني فيبتدئ من هذا المكان منحدرا مع النهر الجاري بجانبه إلى نهاية الوادي حيث ينحرف النهر بعد ذلك سائرا في رملة ميثاء بين جبلين شامخين إلى مصبه في البحر ، و ارض هذا القسم سهلة لينة كثيرة الخضرة و الأعشاب ، إلا أن المستنقعات تكثر فيها في فصل الأمطار و تكاد تتحجر تربتها أيام الجفاف فتصبح كأنها ارض صخرية ، فهما في الحقيقة قسمان متعادلان تتكافأ حسناتهما و سيئاتهما. فلما فرغت من تهيئتهما اقترعت بين السيدتين عليهما ، فكان القسم الأول نصيب هيلين ((مدام دي لاتور)) و القسم الأدنى نصيب مرغريت فرضيت كل منهما بنصيبها إلا أنهما أبتا أن تفترقا في مسكنهما و عيشهما فرأيت أن أنشئ لهما كوخين متجاورين تجدان فيهما من السعة و الراحة لهما و لولديهما أكثر مما تجدان في الكوخ الواحد ، و أن اجعل احدهما في ذيل القسم الأول ، و ثانيها في رأس القسم الثاني ، فتسكن كل منهما في أرضها ، و كأنها تعيش مع صاحبتها في مسكن واحد ، فأعجبتهما تلك الفكرة و اغتبطتا بها ، فاستعنت بالزنجيين على قطع الأحجار من الجبال ، و اجتلاب الأخشاب من الغابات ، و صنع مواد البناء و أنشأت لهما كوخين فسيحين يدور بهما سياج متين من الأغصان المتشابكة ، و غرست حولهما خميلة من الأشجار اللاتينية تظللهما و تقيهما وهج الشمس و غائلة المطر. و هنا صمت الشيخ و اطرق ، ثم رفع رأسه بعد قليل فإذا دمعة رقراقة تترجح في مقلتيه كلما حاولت أن تسيل امسكها و استمر في حديثه يقول : نعم بنيتهما و شيدتهما و أنشأت لهما السقوف و الأبواب و الكوى و النوافذ و ها أنا ذا أراهما الآن بين يدي ساقطتين متهدمتين ، فلا أبواب و لا سقوف و لا نوافذ و لا كوى ، و لا قطان و لا سكان ، و كان الله تعالى أراد أن يستديم تلك الذكرى في نفسي ، فلا تبرح مخيلتي حتى تذهب معي إلى قبري فأبقى على هذه البقايا الماثلة من جدرانهما و أحجارهما ليستثير مراها شجني و يهيج آلامي و أحزاني ، أو كأن طوارق الحدثان التي لا تبالي أن تعصف بقصور الملوك و صروح الجبابرة و تذهب ببقاياها و آثارها إلى الأبد ، وقفت وقفة الإجلال و الإعظام أمام هذه الأكواخ الحقيرة المشعثة فأبت أن تقضي عليها القضاء كله إجلالا لها و احتراما لذكرى أصحابها الأوفياء المخلصين. و بعد فلم أكد افرغ من بناء الكوخين حتى شكت هيلين و جاءها المخاض فولدت طفلة جميلة كأنها النجم اللامع في سطوعه و إشراقه ، و سألتني أن أكون (عرابها) و أن أتولى تسميتها كما توليت تسمية و لد صديقتها ، فأشرت على مرغريت أن تفعل ، لأني أردت أن تكون لها أما ثانية فسمتها ((فرجيني)) و قالت لامها : سيهب الله ابنتك نعمة الفضيلة و العفة فتحيا حياة سعيدة هانئة ، فاني ما فقدت السعادة إلا منذ اليوم الذي انحرفت فيه عن طريق الفضيلة.
|
||||
![]() |
![]() |
الكلمات الدلالية (Tags) |
مرغريت |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc