
محمد صالح البدراني
لا جدل ولا إنكار, بل تأييد وإكبار, وبات الأمر وكأنه واقعًا أنَّ “الفيس بوك هو من أحدَثَ الثورات العربيَّة”, وهذا لعمري أمرٌ إلى السذاجة أقرب!
إنَّ تبادل الرؤى والمعاناة لا يصنع ثورة, فالناس مدركة لمعاناتها, من أبسطهم إلى أكثرهم فكرًا وثقافة, وإنْ تباينوا في طريقة الوصف والتشخيص، فلا تسمع من الناس ما تحسّه بل ما تعاني منه، وفي مراجعة للكلام الذي انطلق به شباب الفيس بوك نجد أنَّه احتوى على أهدافٍ متواضعة, وتكتيكٍ قصير المدى, لا يتعدى حراك اليوم واليومين، فما الذي جعل من هذا الحراك ثورة؟, إنَّه حراكٌ سابق لهذا الحراك, ولكنَّه لم ينتهِ لثورة, بل قُمِعَ وانتهى, إذن لابد من أمرٍ مهم أحدث الثورة بشكلها.
في تونس كان هنالك ضغطٌ أكبر من أنْ يتحمَّله شعب, وكانت القوانين والمتابعات كأيّ قوانين لمستبدٍ ظالمٍ, تقفل الطريق أمام التراجع خطو, بعد أنْ تحرَّكَت بها, وكانت الحياة رخيصة أمام المعاناة، فلم يَعُد للشعب ما يفقده، لم يَعُد للأُمَّة ما تفقده، وهؤلاء الحُكَّام لصوصٌ وأذلاَّء للأجانب, مُستأسِدِين على شعبهم.
الحُريَّة محضُ عنوانٍ لما بعدها, للاختيار, للتغيير, وليس للتعبير فقط, فلا حُريَّة لمن لا يملك القرار, ولا ديمقراطيَّة في بلدٍ مُحتل, سواء احتل من الخارج أو بواسطة الظَّلَمَة المُتكبِّرِين، هويَّة مفقودة, والبحث عنها جارٍ.
من أجلِ هذا كان الناس في شعاراتهم ما بين استعادة الأمس والنَّظَر للمستقبل، العيشُ هو الوصف للحراك الشعبي اليومي العادي المُخدَّر لا بالوعود التي يُدرَك أنَّها كاذبة, بل مُخدِّرٌ من ألمِ ضياع الكينونة والخوف الغريزي، والعجز عن إحداثِ شيءٍ بل عن اليقين من شيءٍ أمام إرادة الحاكم التي اسْتَعْبَدَت المحكوم، تلك التساؤلات التي لا تُجيب عليها حوارات الفيس بوك, رغم أنَّها تُردِّدُها كمعاناة، لكن هنالك فكرٌ وتنظيم, وهنالك من تربَّى ومَلَكَ في داخلهِ القُدرة على الرَّفض المُستنير من خلال عقله, وليس من خلال حاجاته وغرائزه، وحين ينفجر الغضب يكون لهذه الناس أنغام التغير التي تهتف بها جموع الحشد الذي لا يحمل السلاح بل يحمل ألمه ولا يتراجع, لأنَّه لا مجال للتراجع, وعندما يتقدم لابد أنْ يدرس الخطوات.
هنالك قوَّة صامتة ومسلحة هي قوة الجيش، وهنالك في هذا الجيش شُرَفَاء يُدرِكون أنَّ وجودهم هو بوجود هذا الشعب وليس الحاكم، لكنَّ الحكام يُحاولون دومًا امتلاك هذه القوة لتكون سورًا لهم وليس للوطن, هؤلاء الشرفاء في بلدٍ لم يكتب له الضياع إن ملكوا الإرادة فعلوا, وهذا ما قام به الجيش في تونس ومصر حين آمن بحقِّ الشَّعب فسعى لحماية ثورته وتملك قلب شعبه، وإن لم يملك الجيش الإرادة تشتت, كما حصل في دولٍ أُخرى، والخاسر بتشتت الجيش هو الوطن, فالسور الذي يحيطه درعًا متينًا تقوَّض, حين تمَّ قطع الحبل السُرِّي بينه وبين الوطن والشعب, واختار الظلم.
لقد كانت ثورة تونس هي المنار المُضِيء الذي عرّف الشعوب قُدرتها, وللإنصاف نقول أنَّ ابن علي كان رجلاً يحمل عقل تاجر, قدَّرَ الربح والخسارة, فخرج حين عرف أنَّ الوقت ملائمٌ للخروج، أمَّا الطّغاة الذين تلوه فما هم إلا شُذَّاذ جاءوا في زمنِ العبث, عبثوا طوال أعمارهم لينالوا في النهاية الجزاء الأوفى.
“وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ”..
لقد علَّقَ شعب تونس الجرس، ولم تعد الأمة تخاف القطط السمينة, ولم يعد الشعب مكونًا من فئرانٍ, بل الإنسان الذي آمن بالتغيير, ذلك الذي يحمل إرادة لن تلين, حتى أمام كل من يحاول أن ينقلب على مسار التغيير.
إنَّ على الطغاة أنْ يُدركوا أنَّ زمن تمسكهم بالكراسي انتهى, وأنَّهم أصبحوا في حقبةٍ ولَّت من التاريخ، وأنَّ على دول الغرب أنْ تُدرِك كيف تقيس مصالحها على الوضع الجديد, وليس من خلال الدعايات والأكاذيب, وخداع الذات أو الأبويَّة والاحتواء, فهي سلبيَّة لا تقلّ رعونة عن رعونة الطغاة الذين هم إلى زوال.
لقد آن الأوان ليتولَّى الأمر جيلٌ يفقه الواقع, ويُديره بقدراتٍ تتخلى تدريجيًّا عن سلبيَّات الركون للذل والاستعباد، وعلى من يتصور أنَّ التكنولوجيا صنعت الثورة أن يفيق, فهي آلية من آلياتٍ استخدمها العقل في زمنٍ ما لمرحلةٍ ما, ويتغير الاستخدام لهذه الآلية أو غيرها.
إنَّما لا يَصنع الثَّورات والتغيير إلا العقول المُستنيرة, وليست تلك العقول الفوضويَّة, المليئة بالرَّغبات والأُمنيَّات..
إنَّ “الشعب يريد” مرحلة, لكن المرحلة بعدها أنَّ “الشعب يصنع مستقبله”, وصُنع المستقبل ليس إلا بإرادة العقلاء, بفكرٍ سليمٍ, وعقلٍ راجحٍ, وتوحيدٍ للأهداف مهما اختلفت الأفكار, فقبول التباين يعني قبول الحياة، وإنْ كان نظام الاستبداد قد تهاوى فلابد من صناعةٍ للتغيير من نظامٍ مُسترشدٍ بهوية الأمة, لا بإرهاصات وَلَدَتها ظُلماتُ القُنُوط والضعف, بل بإرادة الأمة في حمل هويتها التي تعرفها أمام الأمم, لتشارك ببناء مدنيَّة القرن الجديد, وليس قرنًا تابعًا مُشوَّهًا من زمن الخوف والانهزام.
إنَّ مُراجعة الأفكار مطلوبة, وليس الإصرار عليها يعني الصمود, إنَّما الصمود يكون أمام ما تسوله النفس من خداعٍ للذات بالبقاء على عقلية ولدتها الهزيمة ولا تصلح لزمن الانتصار ومنهج التغيير.
الحق أقول لكم أنَّ الثورات صنعها اكتشاف الشعب لقدراته, اكتشافه أنَّ به قدرة على إحداث التغيير, بل أن يقظة الفكر كانت من أدام استمرار الحراك الثوري, بعقلٍ رشيد لتصطف الأفكار وتضع المنهج الجديد.