الحمد لله وبعد:
فقد كثر الكلام واللغط حول حكم بناء مسجد في المقبرة وحكم الصلاة فيه حيث زعم بعض أنصار عبادة القبور والمشاهد أنّ الصلاة فيه جائزة صحيحة بناءا على أنّ الأصل جواز الصلاة في المقابر!!
وهذا خطأ عظيم لا يسعني السكوت عنه أو المرور عليه دون التنبيه عليه، خاصة وقد جمع بعضهم وريقات خالية من الأدلّة الشرعية وفقيرة إلى الأصول العلمية حاول فيها صاحبها التدليس على عوامّ النّاس المساكين الذين لا ناقة لهم في مجال العلم الشرعي ولا جمل.
والحقّ أنّ كاتب تلك الوريقات قد خلّط وخبط ولم يذكر دليلا واحدا على صحّة ما يدّعيه من جواز الصلاة في وإلى المقابر، وغاية ما ذكره هذا الأخ غفر الله لنا وله في وريقاته تلك لا يعدو أن يكون نقلا عن بعض الصوفية القبورية عبّاد الأوثان من أمثال المدعو أحمد بن صدّيق الغماري المغربي الذي وصفه هذا الأخ بالحافظ الحجّة تدليسا على النّاس وقلبا للحقائق !!
ويكفي في الرّد على هذه الوريقات أنّها حملت بين طياتها كلاما لرجل صوفي قبوري رافضي من غلاة الأشاعرة المحرفين لصفات الله تعالى بل يكفي في الردّ على صاحب الوريقات وعلى حافظه المزعوم أنّ لهذا الأخير –أعني الغماري- رسالة بعنوان: ((إحياء المقبور في أدلّة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور)) وعنوان هذه الرسالة ينبّؤك على مضمونها!!
فالرجل يدعو وبكل جرأة وصراحة إلى اتخاذ القبور مساجد!! وهذا عين المحادّة لله ولرسوله!
وصدق الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عليه رحمة الله حين قال عن أمثال هذا الغماري: ((والعجب أنّ أكثر من يدّعي العلم ممن هو من هذه الأمّة لا ينكرون ذلك، بل ربّما استحسنوه ورغبّوا في فعله. فلقد اشتدّت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنّة بدعة والبدعة سنّة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير))
(فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص229 مكتبة الصفا الطبعة الأولى سنة 1424 هـ)
قال الإمام الرباني محمّد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى وهو يتحدّث عن الغماري هذا ورسالته المذكورة آنفا: ((هو الشيخ أبو الفيض أحمد الصديق الغماري في كتبابه المسمى " إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور " وهذا الكتاب من أغرب ما ابتلى به المسلمون في هذا العصر وأبعد ما يكون عن البحث العلمي النزيه فان المؤلف يدعي ترك التقليد والعمل بالحديث الشريف .فقد التقيت به منذ بضعة أشهر في المكتبة الظاهرية وظهر لي من الحديث الذي جرى بيني وبينه أنه على معرفة بعلوم الحديث وأنه يدعو للاجتهاد ويحارب التقليد محاربة لا هوادة فيها وله ذلك بعض المؤلفات كما قال لي ولكن الجلسة كانت قصيرة لم تمكني من أن أعرف اتجاهه في العقيدة وإن كنت شعرت من بعض فقرات حديثه انه خلفي صوفي.
ثم تأكد من ذلك بعد أن قرأت له هذا الكتاب وغيره حيث تبين لي أن يحارب أهل التوحيد ويخالفهم في عقيدتهم مخالفة شديدة ويقول البدعة الحسنة وينتصر للمبتدعة ولم يستفد من دعواه الاحتهاد إلا الانتصار للاهواء وأهلها ما يفعل مجتهدوا الشيعة تماما وإن شئت دليلا على ما أقول فحسبك برهانا على ذلك هذا الكتاب " . . . المقبور " فإن قبر كل الأحاديث المتواترة في تحريم البناء المساجد على القبور الذي قال به الأئمة الفحول بلا خلاف يعرف بينهم فهو والحق يقال : جريئ ولكن في محاربة الحق كيف لا وهو يرد كل ما ذكرناه من الأحاديث واتفاق الأئمة دون أي حجة اللهم إلا اتباع المتشابه من النصوص كآية الكهف هذه شانه في ذلك شأن المبتدعة في رد النصوص المحكمات بالمتشابه نعوذ بالله من الخذلان))....تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد حاشية ص 57.
ولولا طلب الاختصار لنقلت لك من حال الغماري هذا ما يندى له الجبين من قوله بإيمان فرعون!! وزعمه أنّ الله يتجلى في الكلاب والخنازير والقرود!!
فقد قال الغماري في كتابه " الجواب المفيد " ( ص 96 ـ 97 )
(ومسألة إيمان فرعون ألف فيها إثباتاً وانتصاراً للشيخ الأكبر ـ العلامة الجامي ـ ورد عليه ذلك المغفل !! علي القاري الحنفي بكتاب سماه ((فر العون من مدعي إيمان فرعون)) مطبوع بالآستانة هو والأصل المردود عليه
ولكن انبرى له العلامة الصوفي المطلع المتضلع من العلوم المعقولة والمنقولة محمد بن رسول البرزنجي , فألف كتاباً لطيفاً سماه: ((التأييد والعون لمدعي إيمان فرعون)) أتى فيه بما يبهر العقول ، كما فعل في أبوي النبي ، وقد قرأت الجميع والحمد لله , والتأييد عندي عليه خطه.اهـ فانظر كيف وصف العلامة علي القاري بالمغفّل! ووصف هذا الجامي المبتدع بالشيخ الأكبر (وهو ليس العلامة محمد أمان الجامي رحمه الله تعالى فتنبّه)
ونقل في أحد كتبه شعرا لأحد كفرة الصوفية ولن ينكره بل أتى به في سياق المدح وهو هذا:
محبوبي قد عم الوجود ****وقد ظهر في بيض وسود
وفي النصارى واليهود****وفي الخنازير والقرود
وهذه المعلومات نقلها عنه تلميذه وصهره (زوج ابنته) أبو خبزة.
قلت: يكفي في نقض هذه الخزعبلات حكايتها، و الله المستعان .
فهل من كان هذا حاله يستشهد به وبكلامه !! نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة. ولي مقال منشور على موقعي www.sahab.ws/8059 بعنوان (أحمد بن صدّيق الغماري من الشيوخ الذين يروّج لهم شمس الدين في جريدة العربي) فراجعه مشكورا غير مأمور.
وممّن استشهد بكلامهم صاحب الوريقات أيضا الشيخ عطيّة صقر الأزهري وهذا الشيخ غفر الله لنا وله عليه بعض المؤاخذات كما نبّه على ذلك أهل العلم وطلبته، والذي يظهر لي والله أعلم بسريرة الرجل أنّه رحمه الله تعالى متؤثّر بالتصوّف والصوفية عبّاد القبور والأوثان، يظهر ذلك جليا في كتابه (أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام) فقد قرّر في (ص163) : أن ثواب قراءة القرآن الكريم يصل إلى الميت! بل ويقرّر أن القرآن إذا قرىء بحضرة الميت فانتفاعه به مرجو ! سواء كان معه إهداء الثواب أم لم يكن ! (ص202) يقرر في (ص225) أن أول خلق الله هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! ويستدل بالحديث الموضوع المكذوب ، إن أول ما خلق نور نبيك يا جابر ! وهذا الحديث من كذب الصوفية واختلاقهم! وفي (ص 408 ) : سئل عن الطريقة البرهانية الصوفية القبورية فقال هي أحدى الطرق الصوفية ، والطرق الصوفية بوجه عام مدارس تربية !! إن كان منهجها متفق مع الدين والعقيدة والشريعة ! فهي مشروعة و إلا كانت غير مشرعة! بل إنّ الرجل يقرّر أن رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممكنة في اليقظة وليس هناك نص يدفع هذا أو يمنعه !! (ص284) كما يفتي بجواز الإحتفال بالمولد النبوي وغيره من موالد أولياء الصوفية الدجّالين!! (ص271) وهذا يدلّ دلالة صريحة على تأثّر هذا الرجل بالصوفية عبّاد القبور فلا عجب أن يجيز الصلاة في وسط تلك القبور!! ولا عجب أيضا أن يستشهد بكلامه صاحب الوريقات المشؤومة الداعي إلى السجود وسط القبور!!! وانظر المزيد من طوامّ هذا الرجل في ما كتبه أخونا أبو عبد الرحمن سمير بن سعيد المصري حفظه الله تعالى في مقالته (أحسن الكلام في الردّ على كتاب: أقبح الكلام في الفتاوى والأحكام) وهو منشور على الشبكة.
والوريقات من ضحالة العلم بمكان فلا أرى ضرورة الردّ عليها فقرة فقرة ويكفينا في ذلك ما سندوّنه في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى:
فأقول:
قال شيخ الإسلام الثاني الإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله تعالى:
فصل: ومن أعظم مكايده (أي إبليس) التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور. حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله، وعبدت قبورهم، واتخذت أوثانا، وبنيت عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل، ثم جعلت أصناما، وعبدت مع الله تعالى...
وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضى الله عنها: "أَنَّ أُمَّ سَلمَةَ رَضىَ اللهُ عَنْهَا ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ تَعالى عليهِ وَآلِه وَسلمَ كَنِيسَة رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لهَا: مَارِيَة. فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسَلّم: أُولِئكَ قَوْمٌ إذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولِئكَ شِرَارُ الْخَلقِ عِنْدَ اللهِ تَعالَى".
وفى لفظ آخر فى الصحيحين: "أنَّ أُمَّ حَبيبَةَ وَأُمَّ سَلمَةَ ذَكَرَتَا كنَيِسَةً رَأَيْنَهَا".
فجمع فى هذا الحديث بين التماثيل والقبور، وهذا كان سبب عبادة اللات. فقد رأيت أن سبب عبادة وَدّ ويغوث ويعوق ونسراً واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
قال شيخنا (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى): "وهذه العلة التى لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هى التى أوقعت كثيراً من الأمم إما فى الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وتماثيل يزعمون أنه طلاسم للكواكب ونحو ذلك.
فإن الشرك بقبر الرجل الذى يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر.
ولهذا نجد أهل الشرك كثيراً يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها فى بيوت الله، ولا وقت السحر.
منهم من يسجد لها.
وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه فى المساجد.
فلأجل هذه المفسدة حسم النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة فى المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس.
فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد المصلى ما قصده المشركون، سدا للذريعة".
قال (يعني ابن تيمية): وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة فى تلك البقعة، فهذا عين المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى.
فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الصلاة عند القبور منهى عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.
فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبى عليه الصلاة والسلام بالنهى عن ذلك والتغليظ فيه.
فقد صرح عامة الطوائف بالنهى عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة.
وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعى بتحريم ذلك.
وطائفة أطلقت الكراهة.
والذى ينبغى أن يحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن فاعله والنهى عنه.
ففى صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلى قال: سَمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَآله وسلم قبل أنْ يَموتَ بخمْسٍ وَهوَ يقول: "إِنى أبْرَأُ إِلى اللهِ أَنْ يَكُون لِى مِنْكمْ خَلِيلا. فَإنَّ اللهَ تَعَالى قَدِ اتَّخَذَنِى خَلِيلا، كما اتّخَذَ إِبْرَاهِيم خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذا مِنْ أُمَّتىِ خَلِيلاً لاتّخَذْتُ أَبَا بكْرٍ خَليلا ألا وَإِنَّ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ كانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلاَ تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فإِنى أَنْهَاكُمْ عَنْ ذلِكَ".
وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لمّا نُزلَ بِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ: وَهُوَ كَذلِكَ، لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِم مَسَاجِدَ، يُحذرُ مَا صَنَعُوا" متفق عليه.
وفى الصحيحين أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم قالَ: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
وفى رواية مسلم: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ".
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى آخر حياته، ثم إنه لعن وهو فى السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسولُ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ فى مَرَضِه الَّذِى لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائهِمْ مَسَاجِدَ، وَلَوْلا ذلِكَ لأبْرِزَ قَبُرهُ غَيْرَ أنَّهُ خُشِىَ أنْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً" متفق عليه.
وقولها: "خُشي" هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره. وروى الإمام أحمد فى مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إِنَّ مِنْ شِرَار النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ القُبُورَ مَسَاجدَ". وفى صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى أنس بن مالك يصلى عند قبر، فقال: القبر، القبر.
وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضى الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور. وفعل أنس رضى الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه، فإنه لعله لم يره، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه.
فلما نبهه عمر رضى الله تعالى عنه تنبه.
فروى مسلم فى صحيحه عن أبى مرثد الغنوى رحمه الله أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:"لا تجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلا تُصَلوا إِلَيْهَا".
وفى هذا إبطال قول من زعم أن النهى عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شئ عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة، كما يقوله المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة.
فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم فى قبورهم طريون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة فى القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر.
فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التى لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التى كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها فى المساجد.
وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله.
فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة؟
ومما يدل على أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد. ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر، فتزول اللعنة، وهو باطل قطعاً.
ومنها: أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "اللهُمَّ لا تجْعَلْ قَبْرِى وَثَناً يُعْبَدُ. اشْتَدَّ غَضبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
فذكره ذلك عقيب قوله: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد" تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم. وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد.
وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهى بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إنى أنهاكم" ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم فى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
فإن هذا وأمثاله من النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان. فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين.
وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد. ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.
فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن فى طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم التى أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم.
وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم.
(موارد الأمان المنتقى من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيّم بقلم الشيخ المحدّث علي حسن عبد الحميد حفظه الله تعالى ص243-252 دار ابن الجوزي الطبعة الثامنة سنة 1424 بتصرّف)