اللغةُ العربيّةُ لِسانُ الحَضارةِ الإسلاميّة
الدكتور عبد الرحمن بودرع
يُعدّ اللّسان في كل أمةٍ جلاءَ الأذهان وصقلَ الخواطر وديوانَ الأخبار والآثار. وإن لسان العرب المبين، من أبين الألسنة دلالةً، وأوسعِها معجمًا، وأذهبِها في فنونِ القولِ والبلاغةِ، وصنوفِ البيان والفصاحةِ، ممّا خدم الكتابَ المنزلَ، وكلامَ نبيّه المُرْسَل، وكان عوْنًا على فهمِهما. ولقد عُني به العلماء منذ القديم وخصُّوه بعنايةٍ لم يَحْظَ بها أي لسانٍ آخر؛ فوضعوا له الضوابطَ، خَشيةَ تفشّي اللّحن فيه، وجَمَعوا مُفرداتِه وعباراتِه من البوادي ومَظانِّ الفَصاحة، جمعوا الشعر من رُواته، والأمثالَ والخُطبَ من القبائلِ، وأسّسوا علومَ النحو والصّرف والبلاغة والعروض. لقد أنفقوا الأعمارَ في خدمةِ اللّغة، وبذلوا أنفسَهم لحمايةِ حواشيها من أعاصيرِ الزّمن. فظلّت لغةُ العربِ إلى قِدَمِها، متجددةً متطوِّرةً، متّصلةً اتِّصالاً عضويًا بالطبيعة والحياة، وشؤون العبادةِ، وبُنِيَتْ على أسُسِها حضارةٌ شامخةٌ، ظلّت لَها الغَلَبَةُ والظّهورُ طيلةَ قُرونٍ.
ولكن مرّت بهذا اللّسان قرونٌ تالِيَةٌ، تقلَّبَ فيها بين الصّعودِ والهبوطِ، والغزارةِ والنّزارة، وأتى عليه حينٌ من الدّهرِ عصفت به رياحُ التّغيير، وتبيَّن للعاقل - في زماننا هذا - تغيُّرُه، ولاح للّبيب تبدّلُه؛ حيث كاد يذبل فرعه بعد النضارة، واعترتْه بين أهلِه وذويه حالَةٌ شديدةٌ من الغُرْبَة، وهمومٌ وكُرْبة، وتَهديدٌ بالانقراضِ. ولا غَرْوَ، فإنّ هذ اللّسانَ المبينَ، اعتراه من الفتن ما اعترى هذا الدّين، من النّوى والغربة، في وطنِه وعُقرِ دارِه.
* * *
وبعدُ، فإنّ اللّغةَ نعمةٌ من النّعمِ التي لا ينفكُّ الإنسانُ ينتفعُ بها، وهبةٌ عُظْمى لا تقلُّ عن نعمةِ الحواسِّ التي يُدْرِكُ بها العالَم. وإنّ اللّسانَ يتحرّكُ بحُروفٍ معدوداتٍ، ثمّ يُزاوجُ بينها فتصيرُ مَقاطِعَ، وبينَ المقاطعِ فتصيرُ كلماتٍ، يدلُّ بها على كلِّ ما تقعُ عليه حواسُّه وما ينبضُ به قلبُه وما تجيشُ به عواطفُه، ثمّ يزاوجُ بين الكلماتِ فيؤلِّفُ منها المقالاتِ والفصولَ والمُصَنَّفاتِ، فتتحوّلُ هذه إلى علومٍ وفنونٍ وآدابٍ، وفَلْسَفاتٍ وأفكارٍ ومَناهجَ، ومدنيّاتٍ وحَضاراتٍ، وإذا بها عوالمُ تضجُّ بالحياةِ والحركةِ، وتموجُ بشتّى الأحاسيسِ والأفكارِ، والأشكالِ والألوان. وهي قبلَ ذلكَ كلِّه يستعملُها النّاسُ للتّفاهُمِ والتّلاقُحِ والتّواصلِ، ولولم تكن للنّاسِ لغةٌ يتخاطبون بها لما عرفوا لهم هدفًا، ولما استطاعوا وصْلَ ماضيهم بحاضرِهم، ولا نقلَ المعرفةِ من جيلٍ إلى جيلٍ.
ولكنّ الإنسانَ من فَرْطِ إلْفِه بها واعْتِيادِه عليها لا يُبْصِرُ سرَّ قوّتِها ووجهَ الجدَّةِ فيها، فقد تسلَّمَها من أسلافِه وفرَّطَ في حقِّها، فلم يوفِّها ما تستحقُّ من العنايةِ والرّعايةِ، حَتّى باتت مهدّدةً بالزّوالِ، وهذا مظهرٌ من مظاهرِ غُرْبَتِها بين أبنائها وذويها.
اللغة والحضارة الإسلامية:
كانَ البدْءُ (بَدْءُ النُّبُوَّةِ) بِتَعْليمِ الكَلِمَة: { وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا...}([1])، والخَتْمُ (خَتْمُ النُّبُوَّةِ) بِتَعْليمِ الكَلِمة: { اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ }([2]). وأَخْرَجَ الإِمامُ أَحْمَدُ من حديثِ عَمْرو بْنِ العاصِ رضيَ الله عنه قالَ: «خَرَجَ عَلَيْنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوْمًا كالمودِّعِ فقالَ: أنا مُحمَّدٌ النّبِيُّ، [ثلاثَ مرّاتٍ] ولا نبيَّ بعدي، أوتيتُ فواتِحَ الكلِمِ وخَواتِمَه وجوامِعَه ...»([3]).
فالوَحيُ نَزَلَ كَلِمةً، فكانَ بهذه الكلمةِ مَصْدرًا من مَصادِرِ العِلْمِ والمعرِفةِ. وحدّثَ محمّدُ بنُ رافعٍ والفضلُ بنُ سهلٍ الأعرج عن شبابةَ بنِ سوار بنِ عاصِمٍ عن أبيه عن ابنِ عُمَرَ عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّمَ أنّه قالَ: « إنّ الإسلامَ بدأَ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأَ، وهو يأْرِزُ([4]) بينَ المسجدينِ كما تأرِزُ الحيّةُ في جُحرِها»([5]).
الإسلامُ هوالعُمقُ الحَضارِيّ للغةِ العربيّة، تُصابُ بِما يُصابُ به الدّينُ من انتشارٍ أوانحِسارٍ، وبِما يَعْتَريه من غربة أو ازْدِهارٍ، فمن المعروفِ أنّ اللّغةَ العربيّةَ انتشرَت بانتشارِ الإسلامِ وامتِدادِ فتوحاتِه في إفريقيا وآسيا، وكانَ لها من القوّةِ والنّفوذِ ما مكَّنَها من التّغلُّبِ على لُغاتِ الأمصارِ القديمةِ. ويرجعُ تمكُّنُها إلى بنيتِها الدّاخليّةِ ودقّةِ نظامِها وقواعِدِها وغِنى معجمِها، وإلى آدابِها وتُراثِها الذي يؤسِّسُها، وعلى رأسِ الثّقافةِ التي تُسْنِدُها القرآنُ الكريمُ والحديثُ النّبويُّ الشّريفُ ببلاغتِهِما المعجِزةِ، ويرجعُ تمكُّنُها كذلك إلى قدرتِها على التّعبيرِ والإبانةِ عن مختلِفِ جوانِبِ الفكرِ والوجدانِ، ومن أسبابِ تمكُّنها أيضًا صلتُها بالإسلامِ؛ فهي لُغةُ مصادِرِ التّشريعِ ولُغةُ التّعبُّدِ؛ يقولُ الإمامُ الشّافعيّ: «ولِسانُ العربِ أوسعُ الألسنةِ مذهبًا وأكثرُها ألفاظًا، ولا نعلمُه يُحيطُ بجميعِ علمِه إنسانٌ غير نبيٍّ [...] والعلمُ به عندَ العربِ كالعلمِ بالسّنّةِ عندَ أهلِ الفقهِ، لا نعلمُ رجُلاً جَمَعَ السُّنَنَ فلم يَذهبْ منها عليه شيءٌ [...] وهكذا لسانُ العربِ عندَ خاصّتِها وعامّتِها، لا يذهبُ منه شيءٌ عليها ولا يُطلبُ عندَ غيرِها، ولا يعلمُه إلاّ مَن قبِلَه منها، ولا يشركُها فيه إلاّ مَن اتَّبَعها في تَعلُّمِه منها، ومَن قبِلَه منها فهو من أهلِ لِسانِها، وإنَّما صارَ غيرُهم من غيرِ أهلِه بتركِه، فإذا صارَ إليه صارَ من أهلِه، ومن نطَقَ بقليلٍ منه فهو تَبعٌ للعربِ فيه، فعلى كلِّ مسلِمٍ أن يتعلّمَ من لسانِ العربِ ما بلغَه جهده، حتّى يشهدَ به ألاّ إله إلاّ اللهُ وأنّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، ويَتْلُوكتابَ الله، وينطِقَ بالذِّكرِ فيما افتُرِضَ عليه من التّكبيرِ، وأُمِرَ به من التّسبيحِ والتّشهّدِ وغيرِ ذلك [...] فكانَ تنبيه العامّةِ على أنّ القرآنَ نزلَ بلِسانِ العربِ خاصّةً نصيحَةً للمُسْلِمينَ، والنّصيحةُ فرضٌ لا ينبغي تركُه، وإدراكُ نافلةٍ لا يدَعُها إلاّ من سَفِه نفسَه وترَك موضِعَ حظِّه »([6]).
ويقولُ ابْنُ تيميةَ رحمه الله: «ومَعلومٌ أنّ تعلُّمَ العربيةِ فرضٌ على الكِفايةِ، وكانَ السّلَفُ يؤدِّبونَ أولادَهم على اللّحنِ، فنحنُ مأمورونَ أمرَ إيجابٍ أوأمرَ استحبابٍ أن نَحفظَ القانونَ العربيَّ، ونُصلِحَ الألسنةَ المائلةَ عنه، فيحفظ لنا طريقة الكتابِ والسّنّةِ والاقْتِداءِ بالعربِ في خِطابِها»([7]).
وقد ذكرَ ابنُ تيميةَ أنّ اللسانَ العربيَّ شعارُ الإسلامِ وأهلِه، واللّغات من أعظمِ شعارِ الأممِ التي بها يتميّزونَ([8]).
لقد انتشرتِ اللّغةُ العربيّةُ بذاتِها وبعاملِ الدّينِ. وقد ذكرَ لنا الشّافعيُّ عاملَ الإسلامِ في تمكُّنِها، وتتحدَّثُ الأخبارُ عن قدرتِها على الانتشارِ؛ حيثُ إنّ اتّصالَها بالتّراثِ العلميِّ القديمِ بدأَ منذ القرنِ الأوّلِ في حركةِ ترجمةٍ لكُتُبٍ في النّجومِ والفَلَكِ والطّبِّ والكيمياءِ، برِعايةِ خالِد بْنِ يزيدَ بنِ معاويةَ الأمويِّ، وما زالتِ العربيةُ في اتّصالِها بالعُلومِ إلى أن اتّخذت في العصرِ العبّاسيِّ وضعًا رسميًّا. هذا وقد انطلقَ العُلماءُ المسلمونَ يتأمّلون في الظّواهرِ الكونيّةِ بعقليةٍ متحرِّرةٍ من الخُصومةِ القديمةِ بين العقلِ والدّينِ، التي عرَفها التّراثُ العلميُّ اللاّتينيُّ؛ حيثُ كانت الكنيسةُ تتدخّلُ لتُحرِّمَ وتُحلِّلَ، حتّى انتهى المطافُ اليومَ بالكنيسةِ والمجتمعِ الغربيِّ إلى إسقاطِ وصايةِ الدّينِ، وكلُّ ذلك لم يُعْرَفْ في تاريخِ المُسْلِمينَ ولا في دينِهم؛ لأنّهم نظّموا حياتَهم العلميّةَ والاجتماعيّةَ والسّياسيّةَ بالدّينِ، فظهروا على الأممِ الأخرى .
ولابدَّ من الإشارةِ هنا إلى أنّ العربيّةَ لم تعتمدْ في انتشارِها على السّلطةِ الحاكمةِ، كما تصوّرَ بعضُ الدّارسينَ فيما سمّوه بسلطانِ اللّغةِ الغازِيَةِ، والدّليلُ على ذلكَ أنّ العربيّةَ ما زالتْ قائمةً فينا بالرّغمِ من خضوعِ سائرِ بلادِ العربِ لحالةِ الاستعمارِ سنينَ عددًا. ولولا أنّ العربيّةَ صالحةٌ في ذاتِها للاستمرارِ والمواكبةِ لانحصرت في نطاقِ التّعبُّدِ والأحكامِ الفقهيّةِ، أو في مجالِ السّلطةِ السّياسيّةِ ...
لقد وصلت إلينا اللّغةُ العربيّةُ في تُراثِ الجاهليّةِ مهذّبةً مصقولةً حتّى بلغت مستوى عاليًا من الدّقّةِ، دقَّةِ الدّلالةِ وإحكامِ الصّياغةِ والعبارةِ، استطاعَ معه العلماءُ في عصرِ التّدوينِ وما بعدَه أن يستخلِصوا من تُراثِ الفصحى قواعِدَ النّحووالصّرفِ، والاشتقاق والوضع، وضوابِطَ العروضِ، وأساليبَ البيانِ. وصلت إلينا وقد أهملتِ الحوشيَّ والغريبَ والمُسْتثقَلَ، وهذّبت صيَغها بالإعلالِ والإبدالِ والقلبِ والإدغامِ والحذفِ، وما زالت أسرارُ العربيّةِ محجوبةً، وما زالَ الميدانُ متّسِعًا لاكتشافِ الجديدِ في دلالاتِ الألفاظِ في النّصوصِ المختلفةِ، وعلى رأسِها القرآنُ الكريمُ.
ومن المُفيدِ أن يتساءَلَ المرءُ: كيفَ تأتّى لِلُغَةٍ عاشت في بيئةٍ بدويّةٍ صحراويّةٍ معزولةً عن غيرِها من اللّغاتِ أن تتضمّنَ طاقاتٍ هائلةً من التّعبيرِ؟ والجوابُ أنّها استطاعت أن تتفوّقَ في التّعبيرِ والانتشارِ والظّهورِ على كثيرٍ من اللّغاتِ واللّهجاتِ؛ لأنّها تضمّنت الضّوابطَ والقوانينَ التي مكَّنتْها من التّطوُّرِ والمُواكبةِ، ومن التّوليدِ والتّفريعِ والتّعبيرِ في مختلِفِ المجالاتِ والمقاماتِ، إنّها قوانينُ نمو اللّغةِ، وهذه القوانينُ هي القِياسُ والاشتقاقُ والقلبُ والإبدالُ والنّحتُ والارْتِجالُ...
أمّا ما يُثارُ من شُبُهاتٍ معاصرَةٍ حولَ اللّغةِ العربيّةِ مثل شبهةِ «اللّغة الدّينيّة»([9]) في مقابلِ «اللُّغةِ العصرِيّة»، وشبهةِ «الجُملة القرآنيّة» في مُقابلِ «الجُملةِ الإنجيليّة»([10]) فمصدرُه الاستعمارُ الذي وجَد النّاسَ يحفظونَ القرآنَ الكريمَ منذ طفولَتِهم وإن لم يفهموه ولم يتّخذوه لِسانَهم، فظنّوا أنّ الفصحى لغةٌ دينيّةٌ، مثلما عدّوا اللّغةَ اللاّتينيّةَ لغةً دينيّةً، وكأنّه لا يقترِن بالدّينِ إلاّ كلُّ ما آلَ أمرُه إلى الموتِ والزّوالِ، فعمِلَ الاستعمارُ منذ استيلائه على بلادِ العربِ على الاستهانةِ بالعربيّةِ وتنزيلِها منزلةَ الأجنبيّةِ في عُقرِ دارِها، تُدَرَّسُ في غربةٍ شديدةٍ على نفوسِ النّاشئةِ، ويُدفعُ بها إلى الانحِلالِ والتّراجعِ، ولكنّ اجتهادَ الاستعمارِ منذ دخولِه وما أثمرَه من ثمارِ التّمكينِ لثقافتِه ولغتِه على حسابِ لغةِ البلادِ العربيّةِ وثقافتِها، لا ينبغي أن يثنِيَ العزائمَ، بل يجبُ أن يكونَ حافزًا للعودةِ إلى إحياءِ اللّغةِ والذّاتِ والرّجوعِ إليها والاعتقادِ الجازمِ بأنّ الأمّةَ تمرُّ من امتحانِ الغربةِ في اللّغةِ، مثلَما مرّت وما زالت تمرّ من امتحانِ الغربةِ في الدّين.