غزة.. الاستجابة الرشيدة للنهضة ويقظة الأمة
نحمد الله تعالى، الذي لا يُحْمَدُ على مكروه سواه, تألمنا لأهل غزة، وحزنا لشلال الدم الْمُرَاق في شوارع غزة , وحاراتها، ومفارق طرقها, وتعاطفنا مع الشهداء والجرحى, وكَمِّ الدماء الهائل في غزة الصابرة والصامدة, ولكننا نصبر ونحتسب, ونستخلص العِبَر .
ورغم الألم الهائل, رغم المعاناة, رغم الدم والدموع, فإن ما حدث في غزة قد أيقظ الأمة, وكان الدم هو وشيجةَ الارتباط بين كل شعوب الأمة, وهو الكاشف لمعدن هذه الأمة, تحقيقًا لمقولة أنّ الاستشهاد هو مُحَرِّك التاريخ , وأننا أُمَّة لا تصحو إلا على مطارق الألم .
المظاهرات التي اندلعت بالملايين أحيانا, وبمئات الألوف غالبا, وعشرات الألوف في بعض الأحيان، في كل العواصم العربية والإسلامية , بل في كل المدن والقرى الصغيرة والكبيرة من طنجة إلى جاكرتا, ومن اسطنبول إلى جنوب أفريقا , أكدتْ أننا امة تستيقظ بالفعل، وأن المارد قد خرج من القمقم, وأن الأمر له ما بعده بالفعل.
ما معنى هذا الشعور الجارف بالانتماء والتعاطف الذي عَبَّرت عنه جماهير الأمة، في عواصِمَ كان البعض يظن أنها غابت عن الوجدان الإسلامي، أو العربي؟ إنه بَعْثٌ للعروبة والإسلام من جديد.
ما معنى أن يذهب الطبيب المصري واليمني والإندونيسي والتركي... الخ إلى غزة تحت القصف والنار , من غير هيبة ولا وجل من الموت؟ إلا أن يكون ذلك مُؤَشِّرًا للعالمية الإسلامية الثانية, وأن وحدة الأمة حقيقةٌ واقعية، رغم الغياب، أو التواطؤ العربي والإسلامي الرسمي!!
ولكن يجب أن نضع الكثير من النقاط على الحروف، تَحَسُّبًا وخوفًا من استجابةٍ غيرِ رشيدةٍ لهذه الصحوة , فيضيع الأمل من جديد, ولأن هذا الأمر حيوي، فإننا لا بد أنْ نحذر من الوقوع في الأخطاء الفادحة, التي عادةً ما تُضَيِّعُ منجزاتنا، وتعيدنا أحيانًا إلى مربع الصفر، أو ما تحت الصفر.
الحقيقة أن العالَمَ الرسمي كان متواطئًا مع إسرائيل، واستثمرت إسرائيل هذا التواطؤ الرسمي، وكشفت عن كَمٍّ هائل من الحقد والعدوان وانعدام الضمير. ولكن يجب أيضًا أن نلفت النظر أن هذا الأمر لا يجب أن يقودنا إلى الاستنتاج الخطأ, فلقد تعاطف معنا كل شعوب العالم , حتى في أوروبا وأمريكا, ولم تندلع مظاهراتٌ مُؤَيِّدَةٌ لإسرائيل، إلا عدد ضئيلٌ نوعًا وكَمًّا، كان من اليهود الصهاينة فقط, ولم يتجاوب معهم أحدٌ من الشعوب والعواصم التي تظاهروا فيها, بل إنّ هناك من اليهود غير الصهاينة مَنْ وقف معنا, ورفض ممارسات إسرائيل، وهذا ما يعني أن العالم كُلَّه، غَيْرَ الرسمي , كان معنا, ويجب أن نأخذ هذا في اعتبارنا, فلا يكون خطابنا طائفيًّا أو عنصريًّا، ولا سلوكنا غير مسئول إزاء هذا كله.
لقد وقف معنا الأحرار في كل مكان , والأحرار في الحقيقة كانوا كل شعوب العالم بلا استثناء، إلا حفنة قليلة نادرة , لذلك يجب أن نؤكد احترامنا لكل الشعوب وتعاطفنا معها, وعدم إلقائها بانفعالات طائشة في المعسكر العادي. نعم أوروبا الرسمية مثلًا كانت مع إسرائيل , وأمريكا الرسمية كانت مع إسرائيل, بل وصل الأمر إلى حد أن الكونجرس الأمريكي أعلن تأييد العدوان الإسرائيلي على غزة، وأصدر قرارًا بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الصاروخية من غزة, والغريب أن القرار صدر بأغلبية 390 صوتًا وعارض خمسة فقط , أي أن كلًّا من نواب الحزبين الديمقراطي والجمهوري قد تواطئوا مع إسرائيل, وكان الديمقراطيون أكثرَ حماسًا لإسرائيل في هذا الصدد, بل إن زعيمة الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس، النائبة نانسي بيلوسي، عبَّرَت عن موقف شديد الظلم، حين طالبت حماس بالاعتراف بإسرائيل، والتوقف عن إطلاق الصواريخ، وقذائف الهاون على البلدات الإسرائيلية، ونبذ العنف، والتخلص من بنيتها التحتية الإرهابية، وأَصَرَّت على تضمين القرار هذه المعاني! أي: مطالبة حماس بالاستقالة من التاريخ والجغرافيا, والخضوع لسكين الذبح الصهيوني بلا حراك, ونسيت بيلوسي، ونسي الكونجرس شلال الدم الفلسطيني، والدمار الهائل الذي ألحقته آلة الحرب العسكرية الصهيونية بغزة!!
وبديهيٌّ أن الحكومات الأوروبية منتخبةٌ، وأن الكونجرس في أمريكا منتخب, وهذا يعني أن الناخبين- أي الشعوب في تلك الدول- مسئولون عن مثل هذه المواقف, وقد يستنتج البعض من ذلك أن من حقنا إلحاقَ الأذى بتلك الشعوب، ولكن هذا استنتاج خاطئ وجزئي؛ لأن هذه الشعوب وقفت بالفعل معنا, ونحن ندرك أن اللعبة الديمقراطية في الغرب لعبة زائفة, ومن ثَمَّ يجب أن نحترس من أن يقودنا أحد في اتجاه أعمال إرهابية ضد تلك الشعوب, ويجب أن نحذر من هذا بشدة قبل فوات الأوان.. وصحيحٌ أن مناظر الضحايا في غزة تزيد رقعة الإرهاب الإسلامي, وتَصُبُّ المزيد من الزيت عليه, ولكن يجب أن تكون استجابتنا رشيدةً، وغير تلقائية، ولا غريزية، وليست رَدَّ فعل, ولعل هذا هو أهم دروس المعركة على الإطلاق, وأخطر المنزلقات في هذا الصدد.
نفس الأمر وأكثر منه، بالنسبة للحكومات العربية الإسلامية التي تُرَاوِحُ موقفها بين التواطؤ والعجز, وصحيحٌ أن هذه حكوماتٌ غَيْرُ منتخبة في غالبيتها, والحكومة الوحيدة المنتخبة كانت الحكومة التركية, ووقفتْ موقفًا جيدًا, والمهم هنا أن تكون ردود فعلنا تجاه هذه الحكومات رشيدًا، فلا نصُفّ مجتمعاتنا بدعوى مقاومة هذه الحكومات، بل تقوى المجتمعات وتضعف الحكومات بالقتال السياسي، وليس العنف.
الاستجابة الرشيدة لتنظيم الأمة: أنْ نَعْمَلَ على إبداع أشكالٍ من التنسيق والوحدة بين شعوبنا, وأن نؤكد على خيار المقاومة, وأن ننبذ الأوهام حول السلام, ويجب هنا أن نحذر حماس التي حصلت على تقدير وحب وتعاطف هائل، من الانزلاق نحو أشكال من المساومات مع إسرائيل، تحت ضغط النظام الدولي، أو العربي، أو الإقليمي، وإن كنا نظن أن ذلك لن يحدث؛ لأن تجربة الصمود في غزة- لا شك- قد قَوَّتْ عزيمة وعقيدة حماس، وليس العكس؛ لأن إسرائيل أصلًا من الغباء، بحيث إنها لن تسمح بذلك والحمد لله رب العالمين.
الاستجابة الرشيدة تقتضي الانفتاح على كل أجزاء العالم، فيصبح المسلمون جزءًا من المعاناة العالمية، والمناهضة العالمية للرأسمالية، والاستكبار، والتحالف الصهيوني الأمريكي، ولا بأس من تقديم الإسلام كأيديولوجية للفقراء والمستضعفين، وكجذر ثقافي للثورة العالمية على الرأسمالية، والنهب والقمع، وفي الإسلام منظومةٌ نظرية تسمح بذلك وتراث حضاريٌّ يمكن البناء عليه في هذا الصدد, خاصةً بالنسبة للعدل الاجتماعي، والتسامح، واللاعنصرية، والانفتاح على الآخر.
وبديهي أن معطيات الاستجابة الرشيدة لليقظة والصحوة التي فَجَّرَها شلال الدم في غزة واسعة, وتستحق المزيد من الاهتمام من المفكرين والباحثين , والحركات السياسية العربية والإسلامية والعالمية.
كتبه / د محمد مورو
نقله / اخوكم ابو ابراهيم