ممنوع وضع مثل هذه الصور انذار شفهي
سوف نعتمد في هذه المقالة على مدوّنة شعريّة ضيّقة لعلي الكيلاني مثلت أشهر أناشيده وردت في كتاب الحبيب الأسود عن الشاعر تحت عنوان " علي الكيلاني أناشيد بعيدة المدى" و هذه الأناشيد هي " أجاويد – قسما يا غزة – برقية من قانا – وين الملايين – غضب الشعب – يا أمي – ثوري – كل يوم شهيد –الوريد – القديس صدام – الرباط و أناشيد النجع " و سوف تتمحور هذه المداخلة حول المفاصل التالية :
العدول في شعر علي الكيلاني
شعر الشيطان و شعر الملائكة
الجليل في شعر علي الكيلاني
الأصيل في شعر علي الكيلاني
1 ـ العدول في شعر علي الكيلاني
إن المتناولين لظاهرة الشعر يوغلون بالحظوة التي يولونها للشعر إلى درجة أنهم يهملون جانبا كبيرا منه معتبرين ذلك ضمن باب النظم الذي لا يختلف عن الكلام العادي إلا بالإيقاع أو يتعللون بأن الشعر ليس مجالا للشعارات السياسية و لا للمضامين الثورية لكن علي الكيلاني إذ يرى أن الشعر ينطق بالمسكوت عنه فهو ينطلق من نظرة أخرى ترى أن المضمون و تناول ما تنوسي عمدا ينال حظا كبيرا من الشعر بل هو الشعر عينه و المفارقة عند هؤلاء أنهم يقبلون أن يكون الشعر شكلا جميلا و أجوف و لا يقبلون أن يكون لهذا الشكل مضمونا ثوريا منطلقين من نظريات شعرية لأمم و صلت درجة الرفاه والسطوة ولم يعد يهمها من الشعر إلتزامه و إنما ثورة شكله . لذلك يعدل شعر علي الكيلاني عن السائد من المقول الشعري الذي يمثل نسخا باهتة لأصل بعيد فيشكل علي الكيلاني بهذا العدول العدول ذاته الذي يؤسس الشعر مطلقا . و ما أجمل الشعرية التي تولد حماسة بقدر ما تثير من إنزياح :
في الدار أمي نلتقي – و صعبت علينا دارنا
وين نتلاقى تعرفي – أخبارنا و أسرارنا
يا أمي مليانه قلوبنا – و لمين ينشكي
الرمل غطى دروبنا – و لوين بنمشي
كلام يبدو عاديا في ظاهره يستطيع أن يقوله اي انسان لأنه إن كان الشعراء ينطلقون من ان ملكة الحساسية مولدة الجمال و متذوقته فإن علي الكيلاني يغير نقطة الإنطلاق بتغيير الملكة المبدعة ذاتها ليصبح وحي الشعر عنده نابعا من الجرأة أولا والذائقة ثانية و يمكن أن نسمي إلتقاء هاتين الميزتين بالرّباطة . لم يعد الذهن متعدد الملكات بما فيه من حساسية بل القلب متعدد المناقب بما فيه من رباطة جأش ووفاء هو مولّد الشعر لذلك فنحن إزاء شعر علي الكيلاني بحاجة مرة أخرى لعلم المعاني و علم البيان و علم البديع و نظريتنا العربية في النقد الأدبي التي يتم إغفالها عمدا ضربا للمعنى
لنفهم هذا المقطع: وين الملاين
الشعب العربي وين
الدم العربي وين
الغضب العربي وين
الشرف العربي وين
وين الملاين .... وين
هذه الفقرة تندرج ضمن الإنشاء الطلبي بالإستفهام المعبر عن النداء مركزة على من لهم علاقة بالمال وبالأمة وبالحماسة و بالغضب و بالشرف هذه الحماسة التي تضيع هباء في إتجاهات مجهولة قاصدا شاعرنا علي الكيلاني بذلك توظيفها الصحيح من أجل قضية الأمة العربية و نصرة طموحاتها الشرعية فعدول شعر علي الكيلاني هو عدول يطلب العدالة :
ترتاح أولاد الفلاشا –و تشقى الملاين
في صدري مخزن رشاشات – ونقول خوتي وين
جاء النوم ونام الباشا – و نحن مشردين
قوة تستعرض في الشاشة - و صدت من التخزين
فليس التجديد عنده في شكل النص و نمطه و موسيقاه فحسب و إنما التجديد الشكلي عنده يجب أن يكون في مرتبة ثانية بعد التجديد في المضمون ومن الغريب ان قضايا الأمة المنسية اصبحت مضمونا حديثا لا يتناوله إلا شاعر كعلي الكيلاني بعد أن إنتشرت ثقافة الإستسلام و التسليم فهو التجديد الذي يطالب به كل فرد عربي و يطرب له عندما يسمعه لأنه ينقص عنه ما ران على قلبه من شعر النخبة الغارقة في أوهام التجديد الشكلي فالفرد العربي يحتاج إلى من يبوح عوضا عنه بأوجاعه و ألامه المتعلقة بقضاياه الحقيقيّة فالإلتزام هنا هو منبع الشعرية و موجه عدولها و انزياحها و فجوتها و باعث إرتياحها و حيرتها . فالصورة الشعرية تخفت أمام صورة النبض الحي لمعاناة الناس أو تتخذ مقامات ثانوية فشعر الحياة لا يحتاج أيقونات لان لأيقونة صلب للفكرة و موت للعبرة ، هي تنزيل لما لا ينزل و إعلاء لما لا يعلو . فهل التجديد الشكلي و الصورة يناقضان الإلتزام ؟ إن الشعر عند علي الكيلاني هو شعر الموقف و ليس شعر اللذة فالذي يضرب بالصواريخ و الراجمات والطائرات و يداس بالدبابات و الذي يجبر على الصمت و الإنصات ليس في حاجة إلى ترهات .
إن الشعر الذي يرفضه علي الكيلاني هو شعر اللعب الذي هو بمثابة مقابلة كروية. فهل يستطيع أي فرد عربي أن يتلذّذ بمقابلة رياضية و الأقطار العربية تغزى الواحد تلوى الأخر؟ هل هنالك مجال للتلذذ و الشعوب تقصف و تباد؟. و إذ تمادت هذه الموضة الزائفة و أصبحت ظاهرة عامة عند المبدعين أصبح الملتزمون هم القلة و شعرهم هو شعر النخبة بحق و عدولهم هو العدول الصحيح .
لكن المقطع الثاني من أغنية وين الملايين يتألق بجمالية فائقة تقطر ألما و غنائية و تستدعي الوظيفة التأثيرية لللغة إذ تهدر بقوة اللفظ و سلطانه برغم الإحساس الواضح بالضعف الذي تعيشه الأمة العربية وذلك عدول أخر لا يقدر عليه إلا شاعر ملتزم مثل علي الكيلاني وهو إستلهام القوة من وضعية الهوان . و هو عدول عن بيت أبي الطيب الشهير:
و من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
هذه هي غنائية الفعل الملحمي . فالشعر الغنائي سمي كذلك لأنه يتناول أحاسيس الفرد سوء كان الشاعر أو شخصا من شخوصه و يصف أفراحه و أحزانه . لكن شعر علي الكيلاني الغنائي يعدل مرة أخرى ليكون بالإضافة إلى الغنائية الفردية المتصلة بالشاعر الفردي غنائية جماعية متصلة بأحاسيس الأمة كلها فغني أيها الشاعر بعاطفة جياشة للفعل الخلاق وامزج الملحمي بالغنائي و التأليف الشعري بالتأليف الموسيقي فإنّ عصرك قادم لا محالة و شعريتك منتصرة حتما .
الثورة رجال - ما تشرى بالمال
ثورة شعب بيده حجارة
تحدي أساطيل
ضحى بكباره وصغاره
واجب مش جميل
اللي في وسط الضلوع
أقوى من الدروع
يزهو علي الكيلاني بمباغتتنا كل مرة محدثا فينا فجوة و مطورا للهجة عامية خصوصية لتصبح مفهومة في كل الأقطار العربية و ينظم مضمونا لا يمكن إلا أن يوحد بين كل الرؤى السياسية . فكأن الأمة تتحد فيه و تغني و ليس أبدع من الشعر في لحظات الفعل يقول المتنبي:
"بناها فأعلى و القنا يقرع القنا – و موج المنايا حولها متلاطم
أما شعر الصالونات فهو الذي يجعل علي الكيلاني يقول " جاء النوم ونام الباشا و نحن مشردين " فاعدل
عن السائد ما شئت أيها الشاعر و تغنى بملء ملكاتك الشعرية و الموسيقية فشعرك هو الأبقى و ما عرف الشابي إلا بقوله:
" إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر "
و سوف يستجيب القدر لك ولنا حتما.
2 ـ شعر الشيطان وشعر الملائكة
تتردد على الالسن مقولة " الشيطان يكمن في التفاصيل " لكن لا أحد إستطاع أن يستخرج منها تطرية أدبية و شعرية ملائمة لوضعيّة الأمة العربية الراهنة المجزءة بالتفاصيل و قد لاحظ كبار الثوريين في العالم لكبار المخرجين السينمائيين أن الكاميرا التي تركز على التفاصيل الصغيرة هي كاميرا رجعية ليست ثورية فالثورة عنوان أي عنوان جامع كما يقول علي الكيلاني و ليست ثرثرة مغرقة في أمور الزينة و التزويق . والثورة إيمان وليست أمنية و الإيمان يتناقض مع الشيطان إن الشيطان يلقي للشاعر أمنية فينساق وراء وهم الجمالية الكاذبة الذي ينظّر له شعراء الحداثة اليوم.
أكتب يازمان
الثورة عنوان
الثورة إيمان
و ليس من عاملين موحدين في هذا الزمن للأمة العربية إلا العنوان والإيمان فالعنوان هو كل القواسم المشتركة المؤسسة للهوية العربية و الإيمان هو المنهج الحقيقي و الزعيم الأوحد ، فالعنوان والإيمان لا تأتي بهما إلا الملائكة أما الشيطان فيأتي بعكسهما أي بالتفريق و التشكيك فيجعل أتباعه يلهون بالتفاصيل الزائفة تحت مسميات عديدة منها الحداثة والجمالية و الشعرية و غيرها . ولا تأتي الملائكة إلا موحدة الأهداف مؤيدة للقضايا العادلة و العظيمة:
نحن الحق و نحن الثورة * و هم أصحاب الفيل
جيل الحق و جيل الثورة * طيور الأبابيل
لازم نرميهم بحجارة * حجارة من سجيل
وقديما جعل العرب الشعر نداء عند الضيق "يا ليت شعري " معبرين بهذا الإنشاء الطلبي بالتمني عن قدرة الشعر الملائكية لنجدة الفرد و الأمة عند الأزمات فيا ليت شعر علي الكيلاني يكون نجدة لهذه الأمة الصاعدة.
3 ـ الجليل في شعر علي الكيلاني:
إن كل النقاد بإهتمامهم بالجميل أهملوا جانبا كبيرا من العمل الإنساني في المجال الإبداعي و الذي أشار إليه كانط في كتابه نقد ملكة الحكم و أسماه بالجليل الذي يأسرنا بعظمته دون أن يغرق في تفاصيل الرونق الشيطاني فالجليل يكثف و يوجز و يجمل لتنبثق في لحظة نسيان الجمال و حضور الجلال جمالية لافتة قابعة في أعماق كينونة العمل الإبداعي فأنظر إلى الكون في جلاله تكتشف جماله حتما و الأهرامات الفرعونية لا تأسرك في بادئ الأمر إلاّ بجمالها ثم تبدأ رويدا رويدا في إكتشاف جمالها ذلك هو شعر علي الكيلاني شأنه شأن الرباط في بهائه و صموده و هل كانت العمارة العربية إلاّ شيئا من هذا القبيل متأسسة على جمالية الوضوح و البساطة و الإلتزام بالهدف مستلهمة روح النص القرأني في جلاله و إجماله؟.
أجاويد هلنا أجاويد وأحنا أجاويد جينا
صناديد هلنا صناديد و أحنا الصنديد لينا
ما نضربوا غير تكميد في وين مدّت أيدينا
و من قبل ما نعرفوا سيد و ما نعلموا غيرزينا
و من قبل لا صار تجريد يرمي المحيط علينا
منذ أوّل قصيدة – أغنية كانت سمة المنتج الشعري عند علي الكيلاني مؤسسة على الجلال شكلاو مضمونا ليواصل في كل ماجادت به قريحته على نفس الوتيرة مدعوما بالعظام من كل مقام.
بسم الله نبدأ يارفيق
غير الله ما لينا نصير
شدد العزم قدامك طريق
ماهياش مفروشة حرير
ضعيف الجهد والعظم الرقيق
ما يوصلش حتى بالخبير
نبيك رفيق كيف خوي الشقيق
لي عضيد عل الحمل الكبير
واركب على سمحة الدير
اللي مجبّرة بالسوادي
وفزّع نواجع مشاهير
عقاد خيلهم في الجهاد
هذا هو الشعر الجليل الذي يحافظ على جلال الفطرة و هيبتها فما قتلتنا إلاّ حضارة زائفة طمست فينا باسم الثقافة و الحداثة كل مقومات الحياة الدافقة المتدفقة فتكلسنا في بنيان النسيان و التهمتنا أمراض العزلة والهوامات لغياب الفعل و النبض الواقعيين فألغينا القبيلة و العشيرة لنقبع في مؤسسات كاذبة و صغيرة و تجرّد الفرد من حماية حقيقية و طغت عليه الفردية و الإنتهازية و غابت الوطنية و الحمية.
4 ـ الأصيل في شعر علي الكيلاني:
من هذه القمة الشماء التي يحط عليها نسر علي الكيلاني تنبع أصالته شعرا و موقفا. فمن غير الأصالة باعث على المواقف الخالدة؟ و من غيرها يجعل الكل يسكت و يرتفع صوته مجلجلا عاليا في كل المحطات النضالية و في كل مواسم الثورة المبشرة بحصاد الإنتصار؟ فليس إنتهاك القدس و لا إعدام صدام و لا العدوان على غزة إلاّ بذورا للإنتفاضة ستحصد محصولها أجيال يكون علي الكيلاني من أبائها المبشرين ألم ينته شريط عمر المختار بالتبشير بجيل جديد يحمل مشعل الثورة؟ ذلك أن التفصيل في كل أشعاره الأخرى التي تتعلق بتدوين مكونات الهوية العربية الحضرية و البدوية إنما هو إجمال للتأصيل و تدوين للجليل دون السقوط في زخرف القول العليل المنادي بالقطرية و الفردية و المتعة الفنية التي لا يصورها علي الكيلاني شكلا فقط و إنما مضمونا شموليا حمّالا لقيم عربية تأسست على الكونية المعطاء التي تجعل لكل الحالات الخاصة للأمة مكانا راقيا فلا العروبة و لا الإسلام في معناهما الصحيح يرفضان الأخر
ويقمعان الإختلاف. فالأصالة العربية هي أصالة ثقافية و ليست أصالة دموية عكس الهويات الشوفنية المغرقة في الخصوصية و في أصالة العرق و المتقوقعة حول نسل تليد.
في غزة و بلاطة في قدس و رام الله
ثرنا بالبلاطة وكبرنا بإسم الله
نتحدى بأحرارنا ثائرين صغارنا
وما بتعود ديارنا ولا بيغسل عارنا
إلا الدم والحجار.[/size][/color]