أول قصة شاركت بها وفزت والحمد لله
لقد شاركت بهذه القصة في المهرجان الدولي للكتاب والكتاب الشباب في صيف 2008 وبالضبط في 29/08/2008
https://www.14october.com/files/issue...fc/8787kkk.jpg
و إليكم القصة ، أنا أنتظر في ردودكم والسلام عليكم .
" لا أريد أن أقول لكم أنه لم يكن لدينا كلاب ، كان
هناك الكثير، ولكنها كانت تتشابه جميعها ."
- جوستاف لكليزيو -
كلما تنفَس الصبح أهرع حافي القدمين إلى سوق المدينة الملعون مكرها غير مختار،
ينادي الباعة بلهجة جلفاوية على بضائعهم من الكمثرى والفراولة والكرز، خضار وفاكهة متراصة فوق الألواح والصناديق الخشبية.. "هاك الخوخ المسعدي .. هاك الحلو .. هاك الحلو ".. في الرواق المقابل سماكات متجاورة تفوح برائحة السردين والتونة والسلمون، يطغى صراخ أحدهم " ليك الخوخ .. ليك الخووووخ".. تتداخل الصيحات وتنفرج في نغم بلدي مستمر ، يجوب المتسوقون أروقة سوق المدينة المغطاة ويكتظ بهم ميدان الخضر والفواكه ، نساء ملتحفات يتفحصن ما يعرضه الباعة بعين واحدة تطل من فتحة الملاحف ، محجبات يقفن أمام طاولات "الدوارة" ورؤوس الماعز والضأن يسمن الجزارين في أثمان الكبد ورقاب الدجاج، رجل طويل بكرش منتفخ يشتري بطيخة حمراء ،أركض إليه بأقصى سرعة عارضا أكياس النيلون الزرقاء سرعان ما يصل إليه قبلي شاب يزأر " ساشي يا المعلماااا ؟ " ، يتناول الرجل البدين الكيس دون أن يرى وجه الفتى وينهمك في تذوق حبة البطيخ بعد أن شق البائع في وسطها مربعا صغيرا بمدية كبيرة وألقمه جزئها المنفصل ،أنعطف إلى ميدان الخبز فتلسعني رائحة "المطلوع" من قفف الصبيات وهن ينادين على خبزهن "هاك السخووون.. هاك السخووون" أرى امرأة كوبية تقلب في كومة "كمَأة" فأنطلق نحوها كالسهم ، يزاحمني فتية آخرون بزمجرة وتدافع ، لم تعبأ المرأة بعدد الأيدي التي امتدت نحوها بأكياس النيلون وانخرطت في عملية تفاوض شاقة مع البائع ولكنها انتبهت إلي ألوح بكيس فارغ قائلا **"a su servicio senora" ، تبتسم المرأة الأجنبية في وجهي وتتحول إلي ممتنة ، وقد شجعها صغر سني على الاطمئنان إلي، كنت أشعر بكهرباء الحسد تسري إلي من عيون باعة الأكياس المتجولين ، أنظار التجار تركزت على يد المرأة الكوبية تعبث بشعري ، ثم طلبت مني بإسبانية جميلة أن أترجم أقوالها للبائع عن وزن الكومة المعروضة والسعر وحساب الفكة المتبقية ، كانت تنعم بغنيمة التوفيق والسعادة كمن عثر على دليل في طريق متشعب المسالك، وكنت أفيض بالخيلاء والتباهي معها وأقوم على ابتياع حاجاتها ، تحلب ريقي لمنظر كبد الخروف يترجرج من وقع خطواتها داخل كيس اللحوم في يدها .. أتناوله عنها ، دلفنا إلى محل الحليب ومشتقاته ، زبادي ، لبن رائب، حليب بقر، أجبان معلبة ، زبدة ، سمن نباتي.. تناولت الكيس الثقيل مع كيس اللحوم و سرنا إلى الجهة الجنوبية من السوق حتى تشنجت ربلة ساقي كعادتها من التعب .. الشاب الذي سبقني إلى رجل البطيخ يعترض سبيلنا بكيس فارغ لكنها لم تعبأ بإلحاحه ، توعدني بنظرة ، تمتمت بشتمه ، يرمني مجهول بنواة تمرة في رأسي .. أسمع كلمات بذيئة عن أرداف المرأة وشعرها ، كانت مدركة للسوء الذي يشحذها الباعة به في نظراتهم وهمهماتهم الفاحشة وتغطي على ذلك بابتسام اللامبالاة والتجاهل أو بمحادثتي بصوت خفيض يصطنع الإشفاق و الأمان ، طريق طويل يفضي إلى محطة الحافلات ، ننتهجه مرورا بطاولات اللباس الصيني .. بذلات صيفية بكمين قصيرين لكل الأعمار .. جوارب علامة " بيل" ..قبعات صيفية لمختلف الماركات الرياضية العالمية، أقمصة ضيقة تحمل صور "شيقفارة " و" رونالدينو" ..سراويل " بارا" تتدلى من حبال موصولة بين أشجار الخروب.. طاولات زجاجية لعرض الأقمصة السلفية بعلامات متنوعة مثل "إكاف"،"الحرمين"، قوارير متفاوتة الأحجام لعطور "سلمى" الفواكه" عطر الجنة" ، حزم متراصة لأعواد السواك فوق عبوات المفتقة وخلطات تقوية علامة "غذاء العروسين " و "عقدة الفرس" .. كتب مبسوطة فوق رداء أبيض .. المجموعة الصحيحة للألباني.. تفسير الجلالين .. تحفة العروس .. متن الآجرومية.. أصوات صفير تطارد المرأة من خلف عربات الفول السوداني والسجائر ، وسوسات من باعة الأقراص المضغوطة ، تتوقف لحظة أمام طاولة لبيع النظارات الشمسية المقلدة ، يزداد ساقي انقباضا فأبتسم عزاء ، وصلنا إلى محطة الحافلات أخيرا ، كانت أعراض السرور تغلف وجه الكوبية وهي تقدم لي ورقة مالية من فئة المائتي دينار ،أشكرها باقتضاب وأنقلب على عقبي لكن المرأة نادتني فانقرصت لصوتها خشية أن تكون قد ندمت على كرمها الزائد ، تطبع قبلة على خدي فأميز رائحة " بالموليف " من الروائح التي اختلطت على جسدها من واقي الشمس ومراهم أخرى ، تسلمني علبة تونة كبيرة فأومأ لها إيماءة الشكر بملامح وجهي وأعجل بالعودة إلى السوق .. هاهو الشاب الذي توعدني مرة أخرى، أحاول أن أتجاهله باحثا عن مديتي ذات الثلاثة نجوم وألوح بها من بعيد محذرا ، أتحسس جيبي وربطة الأكياس المغلقة تحت قميصي ،أندس وسط الزحام صائحا كعادتي " صاشي كبير .. صاشي صغير ..صاااااااااشي ..صاااااااااشي " يتعقبني الشاب مع اثنين آخرين فأفتح نصل السكين من قبضته وأستعد للمواجهة ، ينادي علي بائع الكمأة فأهرول نحوه بكيس ، يشتريه ويستوقفني بكلمات شكر على مساعدتي إياه مع المرأة الكوبية ولكنه يلاحظ اضطرابي وتوتري ، يمسك بالمدية في يدي فأحررها منه بخفة وأنظر نحو الشاب المتربص .. ما إن رآني مع بائع الكمأة حتى طأطأ رأسه ورضي من الخصومة بالاستسلام المبكر، هدأ البائع من روعي و آمن خيفتي . . صاح تاجر على كيس فركضت نحوه ومضيت إلى غيره ، مطاعم الأكل الخفيف من النقانق والبيض المسلوق والبطاطا المقلية تصطف في رواق واحد ، قشور بطاطا وفضلات مرق تسد فتحة المجاري ، في الجهة المقابلة عربات الحمالين مركونة بتقارب .. طاولات لبيع الساعات وإصلاحها ، ساقي تؤلمني ، ركن بيع القشاشيب والبرانس يعج بالحركة ، عجائز يعرضن قوارير السمن الطبيعي والقطران وقلادات " السخاب" .. أنادي ملء صوتي "صااااشي .. صااااشي" .. أهرول .. أبيع .. أجوس .. أتوقف .. أنقل بضاعة أحدهم .. يزداد ساقي انقباضا فأمضي لأستريح قرب جدار القمامة الخلفي .. أقرأ ماكتب عليه "VOTE F.L.N" بالدهان الأحمر .. رسم فاحش ، صور باهتة لأفيشات الحملة الانتخابية.. أضغط على ساقي وأمسح حبات عرق تفصدت بها جبيني وأمشي حذو الجدار، براز متصلب في كل عشرة أمتار، أحتاط أن أدوس على نفاية لينة وأجلس منهكا متوجسا ، أفتح علبة التونة وأتناول قطعة كبيرة .. تتمسح قطة صغيرة بقدماي فأمنحها القطعة ، تركض بها بعيدا، يموء قطان أسودان فأرميهما بحجر ، بدأت القطة تعدو بأقصى سرعتها ولكن القطط السوداء جرت خلفها بشره وافتراس ، تملصت من اعتراض هر كبير ثالث ، منتفخة منكوشة الشعر واصلت عدوها ، أرمي بحجر آخر من بعيد فتنتفض القطط عنها ، القطعة مازالت بين أسنانها .. أتلذذ بأكل التونة ، نعست ، نمت ، وفي اللحظة التي انسحب فيها النوم عن جسدي وعيوني ارتعدت فرائسي من فكرة عودة الشاب الشرير فقبضت على مديتي .. تحسست نقودي وورقة المائتا دينار في جيبي وابتسمت .. رميت علبة التونة الفارغة فاجتمعت قطط حولها وتهارشت في لعقها ، مشيت قرب حائط القمامة ، رائحة بول قوية تنبعث كلما تحرك تيار خفيف للريح ، كتابات دهنية متداخلة غير مفهومة .. "نعم للعهدة الثا........." والبقية ممحية ، صورة قديمة للفريق الوطني ملصوقة بالغراء .. عبارات كثيرة متجاورة .. تحيا الجزائر .. بوسعادة F الكبدة .. رسم لقلب كبير يشقه سهم يقطر بالدم .. آلمتني ساقي فضغطت عليها .. مشيت قليلا بين برك الماء الآسن و كتل من طماطم متعفنة مبعثرة.. ضغطت على ساقي .. تجشأت ، ينبعث طعم الملوحة في لساني ، أهوي إلى الأرض من شدة الألم في ساقي ، ضغطت عليه حتى تصلب .. تحجر.. احمر .. تورم .. هجس هاجس الخوف في نفسي .. أشعر بالشاب الذي توعدني قادم نحوي .. رائحة البول الكريهة والعفن تملأ خياشيمي ، أرفع رأسي فيقع نظري في الجدار على كتابة كبيرة
" لالجيري مون آمور".. رسم لزورق متآكل كتب على جانبه "حراقة" باللون الأسود ، أقف على قدم واحدة .. تطالعني كتابة أخرى لم أتبين حروفها ثم أسير بين الأوساخ بصعوبة حتى ألتصق بالجدار ، أخرجت مديتي وجرحت جرحا في ربلة ساقي المتشنجة .. غمست أصابعي في الدم المنبجس وبدأت أكتب بخط كبير على الجدار " أعيدوا إلينا الوطن " ، كان الألم يقطعني وبدأت أدوخ من فرطه ، القطة الصغيرة تتوثب بحذر إلى الخلف وسط قطط القمامة المتكالبة عليها ببطء ودم بارد .. عطر الكوبية يمتزج برائحة التراب والدم ينساب بألم لذيذ .. يتراءى لي الشاب الشرير يركض نحوي وأنا قعيد لا أقوى على الدفاع والعراك .. شابان من خلفه ، ثلاثة ، أربعة ، رحت أبكي وأصيح على الأرض" صاااااااااااااااااشي .. صاااااااااااااااااشي" ..أنَت القطة أنينا صاخبا .. وقبل أن يغمى علي من الضرب رأيت رسم الزورق يتحرك في الجدار بعيدا.. بعيدا.. واختفى مثل عطر المرأة تحت نور الشمس.
* أكياس لحمل البضائع
** عبارة بالاسبانية تعني : في خدمتك سيدتي .
بقلم سرحان سفيان .
