كانت جالسةً عَلى الكنبة البيضاءِ التِي صارت سوداءَ لكثرةِ من تعاقبَ عليها مِن الجالسِين والنائمِين والآكلِين والشارِبين من أهل البيتِ والضّيُوف, تُطَرِزُ الثوبِ الذِي أعطتهُ إيَّاهَا إحدَى العَمِيلات ..
أمَا هُو فَكان جالساً فِي الكنبة المُقابِلة لهَا,يُدخِن سيجارته الثالثة على التوالي أو الرابعةَ, من يدري؟..
فما عادَت تعرفُ الحسابَ لشدة ما يدَّخنُ من سجائرَ,أو لعلَّها توقفتْ عن الحِسَابِ,منذ توقفتْ عن توقعِ إقلاعه عن التدخين,
بعد أن جربت كُلَّ الوَسائلِ المُمكِنة القَائمَة علَى التَرْغِيب والترهِيب دون جَدوى.
كان مُصراً على إحراق تلك اللعينة أمامها,حتى صارت تكتفِي بالتأملِ فِيه وهو يَحترق في قلبها بعدَ أنْ كَانت تحترقُ حباً لهُ,كما تحترق سيجارته تلك بين يديه تارةً وفي فمه تارةً أخرى.
لم تعد تزكم أنفها رائحة الدخانِّ, فرائحة الثومِ المنبعثة من أصابعها تشغلها عن أي رائحةٍ أخرى..
ربَّاه كم تمقتُ تلك الرَّائحةَ الكريهةَ, رائحةَ المطبخِ والشُّقة وأوساخ الأطفال وعرق زوجِها..
رائحةِ حَياتِها العفِنة هذهِ..
رَائحَتها هِي..
فقد باتت تتقزَّز مِنْ نفسِها جِداً وكأنَّمَا رائحة المكان والأشخاص المحِيطِين بِها فِيه, تغلغلت فِي مسَّامِها الجِلدِية,
لتُصبِح هي الأُخرى مَصدرَ رائحةٍ بعد أن كانت مُجرَّد مُسْتقبلِ لَها.
التفتتْ للغرفةِ المُجاورَة بعد أن سَمِعتْ صوتاً ما,
كانتْ حَماتَها العجُوزَ وهي تلعنُ حظَّها الأسودَ الذي جَعل زوجَها الثانِي يُطاردُ أنثى في عمرِ الزهور,
تاركاً إيَّاها في هذا العفنِ اللَّعين مع ابنِها العاقِ العَاطِل وزوجته الغريبة..
ابتسمت ابتسامةً صفراءَ وهي ترَى زوجةَ ابنها الغريبةِ تلك ترمقُها بنظراتٍ يغلب عليْها الفراغُ من كل المعَاني المُمكنة التي قد يسْتقيها شخصٌ من النَّظر لعَيني شَخصٍ آخر.
توقفتا عن تبادلِ النَّظراتِ بعد أن سَمعتا صَوت الأطفالِ الأربعة وهمْ يَطرقون الباب بِقُوةٍ:
- شششت أنا من رأيتها أولا , أنا من سيحصل عليها ..!
- ششش أنا الأكبر فيكم, وأنا من سيحصل عليها ..!
- شش ولكني أنا..أنا من أحضرتها إليكم, كلكم كنتم خائفين في البداية,كلكم كنتم مرعوبين من الكلب,لكني أنا
الشجاع المهيب,البطل العظيم الجسور,تشجعت وأحضرتها إليكم ..وأنتم لا زلتم في شباك الخوف مترنحين ..!
-أنا من حملتها طول الطريق وأنا فقط من سيأخذها ..!
تعالت أصواتهم واختلطت بدخانِ السيجارةِ ورَائحةِ الثَّوْمِ ولَعنات العجوز,وضيقِ المكانِ ,والفرَاغ الذي يقطنُ القُلوب قبل الجيوبَ,وصوتُ مغنية من مغنيات هذا العصر تتغنج عبر الأثِير "آه ونص",
و ضحكات مجلجلة تنبعث من الشقة المجاورة,ونُباحُ الكِلابِ الضَّالةِ فِي الشَّارعِ,وصوتُ السيَّاراتِ ورائحةُ الدِيزل,وطنجرةُ ضغط فوق النار تصرخ بأعلى الأصوات,وصورة غير واضحة لمذيعٍ يعلنُ عبرَ التلفاز "تعلمكم الحكومة الجديدة أنها ستبدأ في خطتها العتيدة والتي استقتها من الإيديولوجية المجيدة السارترية الأفلاطونية والرأسمالية...".
ورأسُها الصغير جِداً الكبيرُ جداً المثقلُ بالهموم,والأحلامِ الوردية والمنزلِ الجمِيل والفارس الوسيم,والعقد الذهبي الذي خطف لُبَّها منذ رأته ذات مرة وهي مارة أمام أحد محلات الذهبِ وسط المدينة,
وأمنيةٌ تعششُّ في دواخِلها الصغيرة المُرهقة من تفاصيل الحياةِ والفراغ المُتخمِ..أمنية بريئةٍ تهتِفُ فِيها"ليتنِي ما تزوجتُ ولا أحببتُ !.. وليتني ما ولدتُ ولا لهذه الدُّنيا خرجتُ ..! ليتني ياليتني أمُوت وأدفنَ في التراب فلعلَّ الدِيدان هُناكَ أرحمُ مِن هذَا الواقِع اللَّعِينْ..!"