موقف الجزائر من الريع العربي
لا يمكن مقاربة موقف الجزائر الرسمي من الأحداث التي تعرفها البلدان العربية عامة وسوريا خاصة، بشكل مجرد أو معزول عن الظروف الملموسة والواقع السياسي الراهن وموازين القوى في بلادنا. فالتصريحات التي يدلي بها العديد من السياسيين حول هذه الأحداث تبدو متناقضة، فوزير الشؤون الخارجية همه الوحيد إظهار موقف حياد الجزائر تجاه الأحداث الجارية، لكن بعض التصريحات الأخرى تحمل ضمنيا رفض تسمية ما يجري في هذه البلدان بـ "الربيع العربي" حسب المفردة التي نعتتها بها وسائل الإعلام الإمبريالية والعربية والخليجية، وتشمل وسائل الإعلام هذه، حتى بعض تلك التي تسمي نفسها باليسارية، مع اختلاف نسبي في التفسير. ويبدو موقف الوزير الأول عندنا واضحا أكثر من غيره فيما يتصل بمصطلح "الربيع العربي"، فهو ينكر بأن ما جرى وما يجري هو "ثورات أو انتفاضات"، مضيفا أن هذا النوع من الحركات، التي تحمل بعضها زخما شعبيا، عرفته الجزائر في التسعينات من القرن الماضي، وهي ليست مستعدة لتكرار تجربة كارثية أفرزت إرهابا إسلامويا راح ضحيته عشرات الآلاف من الجزائريين. لكن بلخادم له رأي مغاير، فهو يبدي نوعا من التعاطف مع هذه الحركات ويعتبرها "ربيعا" شريطة ألا تكون الجزائر من بينها. وللمعارضة الليبرالية مواقف مؤيدة، بل ترى فيها أملا للتغيير المنشود على طريقتها وأهدافها الليبرالية. ونستطيع أن نتعرف على مواقف الكثير من الأوساط، بما في ذلك مواقف الصحافة الخاصة والعمومية، حيث نعثر على تباينات وتذبذبات في هذه النقطة أو ذاك، ما يجعل الموقف شبيها بالفسيفساء أو ألوان الطيف. هذا التناقض، وخاصة بالنسبة للسياسة الرسمية، يعكس خضوع الجزائر لضغوط البلدان الإمبريالية التي تسعى إلى إرغام السلطة البرجوازية الحاكمة على دعم هذه الحركات، مقابل مساومة مؤداها أن الجزائر غير مشمولة بهذا "الربيع"، لأنها قد عرفت شبيهه منذ 5 أكتوبر 1988 كما تروج دوائر السلطة، ومن ثم فهي ليست في حاجة إلى ربيع آخر، وأكثر من ذلك أنها قد دخلت "عهد الإصلاحات" منذ عهد بعيد. ومع ذلك يخشى الساسة المهيمنون على مفاصل سياسة الجزائر من استمرار ضغوط البلدان الإمبريالية والبلدان الرجعية في المنطقة، لأن أحداث أكتوبر، وإن ركب موجتها الإسلاميون عندنا في ذلك الوقت، كما ركبوا هذه الموجة في تونس ومصر والمغرب واليمن وغيرها خلال هذه المرحلة، إلا أن هذه الأحداث تختلف في دوافعها وفي محركاتها عن الحركات الجارية حاليا في البلدان العربية. ومن ثم ليس هناك مانع من أن تحدث احتجاجات أو حركات في الجزائر، لأن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي سيء للغاية وينيخ بكلكله (ويضغط بثقله) على الجماهير العمالية والشعبية
خوف السلطة الحاكمة من انفلات الأمور
تخشى السلطة من انفجار عارم ينفلت عن رقابتها، ويرفع مفجروه شعارات ذات طابع وطني عميق ومعاد للإمبريالية والليبرالية بمختلف أوجهها، لذلك فإن الخوف الأكبر للسلطة ليس في الانفجار في حد ذاته، بل أن يكون مغايرا نوعيا لما يجري في المنطقة، وأن تؤدي دوافعه المختلفة، في حال نجاحها، إلى تغيير الأهداف المنشودة، وأن ينفلت الحراك من رقابتها ومن رقابة حماتها الإمبرياليين، ويمنى احتواؤه بالإخفاق.
هذا هو السبب الأساسي، من وجهة نظرنا، الذي يفسر خوف الطبقات المهيمنة في الجزائر من الآتي، وتذبذب مواقفها مما يجري حاليا، وفزع البرجوازية الكمبرادورية الحاكمة من تجذير الاحتجاجات ورفع سقف المطالب إلى حد المطالبة برحيل النظام بكل أجهزته وهياكله، والتطلع إلى إقامة ديمقراطية شعبية ذات تغييرات ومضامين جذرية. والواقع أن هذا الخوف ليس مجرد احتمال، بل هو يتجلى، وإن كان بشكل غامض أحيانا، في موقف السياسة الخارجية الملموسة من تطور الأحداث في تونس ومصر والمغرب، مرورا بليبيا والبحرين واليمن، حيث تكتسي هذه المواقف طابعا مؤيدا لأهداف ومصالح الإمبريالية، كما يتجلى في اختلاف موازين القوى بين المجموعات الحاكمة طبقا للصراعات الطبقية بينها من جهة، وباختلاف مواقف المعارضة الليبرالية من جهة أخرى، وبنوعية التغيير الشعبية من جهة ثالثة.
هناك مجموعات في السلطة تؤيد التغيير في تونس ومصر والمغرب، وإن بدرجات متفاوتة، لأن هذا التأييد يتناغم مع مواقف الإمبريالية، الولايات المتحدة
في مصر، وفرنسا في تونس والمغرب. بينما تحاول مجموعات أخرى أن تتخذ موقف "الحياد"، إن كان هناك حياد بالفعل، في ليبيا، مع السعي بألا تظهر ذلك الحياد. ويمكن تفسير اعترافها أخيرا بـ "المجلس الانتقالي الليبي" بالضغوط القوية التي تمارسها القوى الإمبريالية وحلف الناتو، والتهديد بإمكانية نقل "أحداث الربيع" إلى الجزائر.
بينما يتسم الموقف بالغموض والتردد بالنسبة لسوريا. صحيح أنه يوجد قاسم مشترك بين البلدان العربية يتمثل في سيادة أنظمة ديكتاتورية برجوازية أو حتى إقطاعية، ولكن الإمبريالية لا تريد الديمقراطية للشعوب العربية، ولا تريد حماية المدنيين من القمع السلطوي في هذه البلدان كما تزعم، وإنما تريد توجيه غضبها واستيائها توجيها يتناسب مع استراتيجيتها ومصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، وخاصة مصالح إسرائيل التي تعتبر الحليف الوفي والخادم الأمين لمصالح الإمبريالية من جهة، ولأهدافها الصهيونية في آن واحد. ولذلك تقع السياسة الجزائرية في مثل هذا التردد ومسك العصا من الوسط.