يظهر للمتبع للشأن الصوفي من خلال الملتقيات والندوات الأخيرة التي عقدت أن القوم مولعون بهذا العلم ويسعون جاهدين إلى تعريف الناس به. فقد عقد في هذا الشهر وحده ثلاثة ملتقيات أولها في مدينة مستغانم والثاني بزاوية الهامل والثالث بعنابة. وسيأتي رابع وخامس وسادس. بكل من عين ماضي وبجاية العاصمة. لكن لماذا كل هذا الاهتمام بالتصوف؟ لماذا هذه الصحوة المفاجئة والعناية المتأخرة بهذا التيار دون غيره من التيارات؟
إن النظر العميق لحقائق الأشياء والتجرد من العاطفة والأهواء، قد يسمح لنا بالوصول إلى الحقيقة التي تفرض نفسها على العقول السليمة فرضا، وتمنحها بما وهبت من نصاعة وقوة صحة اعتقاد ورسوخ.
إننا إذا تتبعنا مسار الحركة الصوفية في الجزائر نجد أنها عرفت تشديدا وتضييقا في فترة ما بعد الاستقلال، فقد زج بقياداتها تحت الإقامة الجبرية، ومنع أهلها من التعبير، والمشاركة في الحياة السياسية، ولما جاءت فترة الرئيس الراحل هواري بومدين ازدادت الأوضاع سوءا وعرفت الحركة الصوفية أقسى عهودها في فترة بومدين، حيث أغلقت كبريات الزوايا، وهدم بعضها، أممت أوقافها، وجففت مصادر أرزاقها، ضرب عليها سياج من حديد، فحوصرت في عقر دارها.
والأسباب والدواعي إلى ذلك واضحة معروفة لدى الخاص والعام، فلا داعي للدخول في تفاصيلها.
ولما جاء عهد الشاذلي بن جديد، عرفت الطرق والزوايا بعض الحرية وتنفست شيئا من الهواء النقي، إذ أن الرجل كان محبا لأهل العلم، مدركا لقيمة الدين في حياة الشعب، ثم أنه كان على علاقة طيبة بأهل الطرق والزوايا.
وإذا وصلنا إلى العشرية السوداء سنجد أن البلاد كلها قد دخلت في دوامة من الفوضى والاضطراب وانقلاب الموازين، وسادت لغة العنف والدمار، وظلت الأصوات المنادية بالتهدئة والحوار غير ملتفت إليها، لغياب منطق التعقل والالتزام بقضايا الأمة.
ولم تقو الحركة الصوفية على الظهور بسبب العلل التي ضربت المجتمع الجزائري في الصميم حتى كادت أن تقضي عليه لولا أن لطف الله به.
وبسبب تعرضها هي أيضا للتشتت والمضايقة نتيجة العهود السابقة، فلم تكد تسترجع أنفاسها حتى دخلت الجزائر في مرحلة ما أصبح يعرف بالعشرية السوداء.
والآن وبعد هذا الهدوء والاستقرار واستعادة الأمن والأمان، فإننا نلاحظ هذه العودة القوية لهذا التيار على جميع المستويات الشعبية والحاكمة، الثقافية والعلمية، السياسية والاجتماعية. الكل صار من الدعاة والمنافحين عنه، وهو ما يستدعي التوقف مليا لدراسة هذه الظاهرة ومحاولة الاقتراب أكثر فأكثر منها، لفهم هذا الانقلاب المفاجئ في المواقف والتصورات والآراء؟
وهل نملك حق تفسير الظاهرة بعوامل سياسية وفكرية خارجية، أم أن العوامل كانت داخلية ذاتية لا علاقة لها بالخارج وما يدعيه أصحاب التفسير التآمري للأحداث والوقائع؟
ثم ماذا علينا أن نقدم لهذا التيار؟ ماذا علينا أن نفعل ضمن هذه المساحات المتاحة؟ وكيف نستغل الفترة أحسن استغلال، ونعمل جاهدين وبالوسائل المشروعة والمتاحة على الترتيب والتوظيف والتبادل.
إعادة الاعتبار للتيار الصوفي، في الحضور الإعلامي والثقافي والحضاري، وهذه مهمة لا يستطيع الشيوخ أو العلماء وحدهم القيام بها، ما لم يدعموا من طرف السلطة التي تملك القرار، والتي يمكن لها أن توفر المناخ الحر الذي يساعد على الإبداع والتقدم. كما يمكن لها أن تقدم يد العون في تيسير استخدام وسائل الدولة للدعوة إلى الرجوع إلى الذات والمراقبة الدائمة والمراجعة المستمرة، للوصول إلى إيجاد نوع من التوازن بين التراث والتجديد، إيجاد حل للإشكالية القائمة المستعصية وهي التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، الحفاظ على الهوية دون تشدد أو انغلاق، الانفتاح على الآخر دون الضياع في بحر العولمة.
وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة. ولرفع من مستوى النقاش الدائر حول هذا الموضوع بالذات؟
أخشى ما أخشاه أن يحدث لهذا التيار ما حدث لغيره من الحركات والاتجاهات الإسلامية المعاصرة. وإن كنت أطمئن نفسي دائما من أن التصوف لم يدعو يوما إلى شق الصفوف والخروج عن الجماعة. بل كان دائما يعمل على توحيد الصف ولم الشمل ونشر قيم المحبة والأخوة والتعاون والتسامح.