فهذا الإمام الشافعي يقول :
( لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خير له من الكلام ، ولقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك ) .
رواه ابن أبي حاتم في ( آداب الشافعي ومناقبه ) : ( ص182) ، وسنده صحيح .
وقال البغوي - رحمه الله - في ( شرح السنة ) : (1/216) :
( واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات ، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه ) .
ويدخل في علوم أهل الكلام ما فشا في عصرنا هذا مما يعلم في بعض المدارس النظامية من علوم أهل الهيئة كقولهم ( إن الجبال ناشئة من تصادم الصفائح في باطن الأرض ) ، وقولهم ( إن المجموعة الشمسية تكونت من ضباب غاز نتيجة لتجاذب أجزاء الغبار ) ، وقولهم : ( الخسوف من الظواهر الطبيعية التي تنتج عن دوران القمر حول الأرض ودوران كليهما حول الشمس ) ، وقولهم : إن المجموعة الشمسية كانت جسما كالضباب مكون من الغاز وبفضل الجاذبية والطاقة تجمعت عناصر هذا الضباب ضمن كتل ثم انفصلت تدريجيا إلى كتل كبيرة إلى أن تكونت منهما المجموعة الشمسية ) ، وغير ذلك مما يصادم المنقول ويخالف المعقول ، وأصبح تعلمه أمرا ضروريا عند كثير من أهل هذا الزمان ممن غلب عليه إيثار الدنيا على الدين .
وقد قال الذهبي - رحمه الله - :
( فو الله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن يصلي بها الصلوات الخمس ويؤمن بالله واليوم الآخر خير له من هذه العلوم ) .
وعلماء الكلام بداية أمرهم في ضلال ، ونهاية أمرهم إلى تباب .
وقد أخبر الشهرستاني وهو أحد المتكلمين بما آل إليه أمره بعدما طاف البلاد وعلم خطورة علم الكلام وعدم ثمرته للإنسان فقال :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
( ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
(
فلم أرى إلا واضعا كف حائر
( ... على ذقن أو قارعا سن نادم
وقال شقيقه في الخوض بعلم الكلام والجدل في الدين : الرازي :
نهاية إقدام العقول عقال
( ... وأكثر سعي العالمين ضلال
(
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ...
( ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول
عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن .
أقرأ في الإثبات : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } طه5
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } فاطر10
واقرأ في النفي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى:11]
{ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [طه:110]
ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي - انظر: (( الفتوى الحموية )): (ص7) , و (( سير أعلام النبلاء)) : (21/501) , و ((طبقات الشفاعية)) : (8/96)-
وقد ضل أكثر من خاض في علم الكلام وما استطاعوا التخلص منه فالشبه خطافه , ومن أراد التقرب إلى الله بهذا العلم لم يزدد من الله إلا بعدا . قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [الصف:5].
فإذا عرفت قبح علم الكلام ومضرته , وأنه بدعة وضلالة ؛ فاعلم أن من أصول أهل السنة والجماعة : هجر أهل الكلام والبدع , ومنابذتهم , والتحذير منهم , والتنكيل بهم , سواء كان المبتدع داعية إلى بدعته ,أو لم يكن داعية , إلا أن الداعية أعظم حتى أنه إذا لم يندفع شره إلا بقتله جاز لإمام المسلمين قتله . فإذا كان قطاع الطريق إذا لم يندفع شرهم إلا بقتالهم جاز قتالهم , فكيف بالمبتدع الذي ضرره على الإسلام والمسلمين أعظم من ضررهم !
واعلم أن ما يوسوس به بعض جند الشيطان من أهل هذا العصر على العامة وأشباههم من دعواهم أن مجانبة المبتدعة يوقع الشقاق والاختلاف بين الأمة وهي بحاجة إلى توحيد كلمتها . مخالف لهدي سيد المرسلين وصحابته الأكرمين .
وما ارتدى هذا المنهج أحد إلا خذل لأنه مبني على الجهل والمداهنة بل والنفاق وبئس الاتفاق المبني على مصاحبة أهل البدع ومجالستهم ومداهنتهم وهذا الاتفاق المزعوم ؛ أمره في مريج وآخر مآله إلى شقاق لأن مبناه على المشاقة لله والرسول :
{ َوَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [النساء:115]
فهذا وعيد شديد على من اتبع غير سبيل المؤمنين , ومنه مجالسة أهل البدع ؛ لأن سبيل المؤمنين مبني على موالاة المؤمنين , فمن تولى المبتدعين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا .
قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } المجادلة22.
ومجالسة أهل البدع محادة لله ورسوله .
وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله فتحب أهل السنة والجماعة وتبغض أهل البدعة والضلالة .
وهذه ملة إبراهيم - عليه السلام - التي من رغب عنها فقد سفه نفسه. ومن أخل بهذا الأصل فقد أخل بأصل من أصول الإسلام, وهدم ملة إبراهيم - عليه السلام - التي مدراها على الولاء والبراء .