![]() |
|
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
الأزهر الشريف : حول التصوّف ...
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() المصدر : قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية حول كثرة تعريفات التصوف س : لماذا أكثر الصوفية في تعريفاتهم للتصوف ، وهل اشتقاقه اللغوي من الصوف ؟ وما علاقة الصوف بالزهد والذكر ؟ ولِمَ لَمْ يسموا أنفسهم باسم يدل على خصائصهم ؟ الجواب : بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فقد كَثُرت التعريفات التي حاولت صياغة المعنى المراد بالتصوف، يقول السهروردي البغدادي (ت 563) : «وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول» (1). وقد جمع نيكلسون ثمانية وسبعين تعريفا من مصادر مختلفة(2). وفي سبب هذا التعدد الهائل من التعريفات يقول نيكلسون : «وكذلك حال الذين يعرضون للتصوف بالتعريف، لا يستطيعون إلا أن يحاولوا التعبير عما أحسته نفوسهم، ولن يكون تعريف مفهوم يضم كل خفية من الشعور الديني المستكن لكل فرد، ما دامت هذه التعريفات، على أية حال، تصور باختصار لائق بعض وجوه التصوف وخصائصه»(3). ولقد عبر السهروردي بشكل أكثر دقة عن سبب ذلك التعدد في تعريفاته حينما قال : «لأنهم أشاروا فيها إلى أحوال في أوقات دون أوقات ... فقد تذكر أشياء في معنى التصوف ذكر مثلها في معنى الفقر .. وحيث وقع الاشتباه، فلابد من فاصل. فقد تشتبه الإشارات في الفقر بمعنى الزهد تارة وبمعاني التصوف تارة، ولا يتبين للمسترشدين بعضها مع البعض، فنقول : التصوف غير الفقر، والتصوف غير الزهد. فالتصوف اسم جامع لمعاني الفقر، ومعاني الزهد مع مزيد أوصاف وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفيا وإن كان زاهدا وفقيرا»(4). وما يؤكد ذلك ما مر من عبارة القوم «الصوفي ابن وقته»(5). كما أن المسئول الواحد عن تعريف التصوف أو الصوفي قد يجيب بغير معنى، انطلاقا من المقام أو الحال الذي يكون غالبا عليه في أثناء الإجابة، أو مراعاة لحال السائل(6). ولذلك اختلفت العبارة، والمعنى المشار إليه واحد، وهو كما قال القائل(7) : عباراتنا شتى وحسنك واحد *** وكل إلى ذاك الجمال يشير الاشتقاق اللغوي للتصوف وعلاقته بالصوف : وبعد فتصوف : على وزن تَفَعْلَ من الصُوف، قال الفيومي : «الصُّوفُ للضأن و(الصُّوفَةُ) أخصّ منه وكبش (أَصْوَفُ) و (صَائِفٌ) كثير الصوف و(تَصَوَّفَ) الرجل وهو (صُوفِيٌّ) من قوم (صُوفِيَّةٍ)»(8). وجاء في تاج العروس : «وصَوَّفَهُ أَيْضاً : أََبُو حَيٍّ من مُضَرَ وهو الغَوْثُ بنُ مُرِّ بنِ أُدِّ بنِ طابِخَةَ بنِ الياس بنِ مُضَرَ قالَه ابنُ الجَوّانِيِّ في المُقَدِّمَةِ سُمِّيَ صُوفَةُ لأَنَّ أُمَّه جَعَلتْ في رَأْسِهِ صُوفَةً وجَعَلَتْهُ رَبِيطاً للكَعْبَةِ يَخْدُِمُها قالَ الجَوْهَرِيُّ : كانُوا يُخْدُمُونَ الكَعْبَةَ ويُجِيزُونَ الحاجَّ في الجَاهِلِيَّةِ أَي : يُفيضُونَ بِهِمْ زادَ في العُبابِ مِنْ عَرَفات... وفيه : «قالَ أَبو الهَيْثَمِ : يُقال : كَبْشٌ صُوفانٌ ونَعْجَةٌ صُوفانَةٌ. وقالَ غيرُه : الصُّوفانُ : كلُّ من وَلِيَ شيئاً من عَمَلِ البَيْتِ وكذلِك الصُّوفَةُ. وفي الأَساس : وآل صَوْفانَ : كانُوا يَخْدُمونَ الكعبةَ وَيَتَنَسَكُونَ ولَعَلَّ الصُّوفِيّةَ نُسِبَتْ إِليهم تَشْبيهاً بهم في التَّنَسُّكِ والتَّعَبُّدِ أَو إِلى أَهْلِ الصُّفَّةِ فيُقالُ مكان الصُّفِّيَةِ : الصُّوفِيَّةُ بقلبِ إِحْدَى الفائَين واواً للتَّخْفِيفِ أَو إِلى الصُّوفِ الذي هو لِباسُ العُبّادِ وأَهْلِ الصَّوامِعِ»(9). وجاء في موضع آخر منه : «والصَّفّان : قَرْيةٌ بمِصْرَ، وقد رأَيْتُها، وقَدْ نُسِب إِليها جَماعَةٌ من المُحدِّثِينَ.ويُقال في النِّسْبَةِ إِليها : الصَّفِّيُّ. وأَبو مالكٍ بِشْرُ بنُ الحَسَنِ الصَّفِّيُّ نُسِب إِلى لُزُومِه الصَّفَّ الأَوّلَ خَمْسِينَ سنةً، وهو من رِجالِ النَّسائِيِّ نَقَلَهُ الحافِظُ. والصُّفِّيَّةُ بالضمِّ : هم الصُّوفِيَّة نُسِبُوا إِلى أَهل الصُّفَّة أَشارَ له الزَّمَخْشَرِيّ في ص و ف»(10). فقد تكون العلاقة بين الصوف والصوفية كونهم اختصوا بلبسه إعراضا عن زينة الدنيا، يقول ابن خلدون : «قلت : والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف، فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمواجد مدركة لهم»(11). وقد يقول قائل : لم يصطلح القوم على اصطلاح يدل على أخلاقهم أو أحوالهم أو مقاماتهم ؟ والجواب أن الصوفي لا يقف عند مقام واحد أو حال واحدة، وإنما هو في طور انتقال دائم. وقد أبان الصوفية أنفسهم عن ذلك بقولهم : «الصوفي ابن وقته»(12). ويفصل هذا المعنى السراج الطوسي (ت 378) حيث يقول : «فلما كانوا -الصوفية- في الحقيقة كذلك، لم يكونوا مستحقين اسما دون اسم، فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالا دون حال، ولا أضفتهم إلى علم دون علم؛ لأني لو أضفت إليهم في كل وقت حالا هو ما وجدت الأغلب عليهم من الأحوال، والأخلاق، والعلوم، والأعمال، وسميتهم بذلك، لكان يلزم أن أسميهم في كل وقت باسم آخر، وكنت أضيف إليهم في كل وقت حالا دون حال حسب ما يكون الأغلب عليهم، فلما لم يكن ذلك، نسبتها إلى ظاهر اللبسة؛ لأن لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام، وشعار الأولياء والأصفياء . فلما أضفتهم إلى ظاهر اللبسة كان ذلك اسمًا مجملا عامًّا مخبرًا عن جميع العلوم والأعمال والأخلاق والأحوال الشريفة المحمودة...»(13) كما أن نسبة القوم إلى ما يلبسونه فيه اهتداء بالقرآن الكريم، حيث سَمَّى الله سبحانه وتعالى أتباع عيسى بن مريم عليه السلام بالحواريين؛ إذ أن هذه التسمية مأخوذة من صفة البياض في اللباس، حيث كان أصحاب عيسى عليه السلام وناصروه يتميزون بلبس البياض(14) وهي صفة ثيابهم، يقول السراج الطوسي أيضا: «وكانوا قوما يلبسون البياض، فنسبهم الله إلى ذلك، ولم ينسبهم إلى نوع من العلوم، والأعمال، والأحوال التي كانوا بها مترسمين ...»(15). يقول الدكتور الشيبي عن هذه العلاقة : «وفي صدر الإسلام، كان الصوف يظهر في بعض المواطن رمزًا للتضحية والمبايعة على الموت في سبيل الله. ذكر ابن سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أصحابه في بداية وقعة بدر أن الله أمدهم بالملائكة ربطًا على قلوبهم. وأن الملائكة نزلت والصوف في نواصي خيلهم فأمرهم صلى الله عليه وسلم بقوله : «إن الملائكة قد سومت فسوموا» فكان أن «أعملوا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم»(16) ويتصل بهذا أيضا أن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، كان في هذا اليوم معلما بصوفة بيضاء» (17). ولعل بما ذكر يتضح سبب كثرة تعريفات التصوف، وسبب نسبة أهل الطريق والعرفان بالصوفية إلى الصوف والثياب. والله تعالى أعلى وأعلم. قائمة المصادر والمراجع : 1- المصباح المنير: ابن علي المقري الفيومي - المطبعة الأميرية ط 7 1928 2- تاج العروس: محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الملقب بمرتضى الزبيدي - دار الهداية 3- مقدمة ابن خلدون: للعلامة عبد الرحمن بن خلدون ، تحقيق د. حامد أحمد الطاهر ط1 2004 - دار الفجر للتراث. 4- عوارف المعارف: عبد القاهر بن عبد الله السهروردي البغدادي ، ملحق بنهاية الجزء الخامس من إحياء علوم الدين للغزالي- دار الفكر- بيروت 5- اللمع: أبو نصر السراج الطوسي- تحقيق د. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور دار الكتب الحديثة – القاهرة 1960 6- في التصوف الإسلامي وتاريخه: رينولد نيكلسون – ترجمة أبو العلا عفيفي - مطبعة لجنة التأليف والترجمة – القاهرة 1956 7- تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى آخر القرن الثاني: د. عبد الرحمن بدوي وكالة المطبوعات – الكويت ط2 1978 8- إيقاظ النائمين: صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي - مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي – طهران 1361هـ الهوامش: (1) عوارف المعارف ، ص 81. (2) تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني، ص 15. (3) نيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة أبو العلا عفيفي مطبعة لجنة التأليف والترجمة القاهرة 1956. (4) عوارف المعارف، للسهرودي ص 79. (5) عوارف المعارف، ص 80. (6) من أقوال الجنيد في التصوف على سبيل المثال : " أن تكون مع الله بلا علاقة " اللمع، ص 45. وقوله : " التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحيك به " و " التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع أتباع " الرسالة القشيرية، ص 280 . (7) صدر الدين الشيرازي، إيقاظ النائمين، تقديم وتصحيح : د. محسن مؤيدي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، طهران، 1361، صـ 12.. (8) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي 1/352 طبعة المكتبة العلمية-بيروت. (9) تاج العروس، لمرتضى الزبيدي 24/42 (10) نفس المرجع 24/30. (11) مقدمة ابن خلدون، للعلامة عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق د. حامد أحمد الطاهر ص 576، 577 الطبعة الأولى 2004 دار الفجر للتراث. (12) عوارف المعارف، ص 80. (13) اللمع، ص40. (14) ورد في صحيح البخاري أن الحواريين سموا كذلك لبياض ثيابهم " كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ". دار ابن كثير، دمشق، 1993. (15) نفسه ص 40-41. والجدير بالذكر أن الكلاباذي قد أشار إلى بعض التسميات التي أطلقت على الصوفية نسبة إلى أحوالهم أو مقاماتهم من مثل " غرباء "لخروجهم عن الأوطان، و " سياحون " لكثرة أسفارهم وسياحتهم في البراري، " وشكفتية " لإيوانهم إلى الكهوف عند الضرورة. والشكفت : الغار والكهف. وأهل الشام سموهم " جوعية " لأنهم ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه " و" فقراء " من تخليهم عن الأملاك. التعرف لمذهب أهل التصوف ص 29-30، على أن هذه التسميات لم تصمد كثيرا أمام مصطلح " الصوفي " لأنها من أبعاضه. وكلما عبر المصطلح عن المعنى تعبيرا أدق، أثبته التواطؤ والعرف ونفي غيره. (16) ابن سعد، الطبقات، تحقيق : د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 2/16. رأي في اشتقاق كلمة صوفي، مجلة كلية الآداب، بغداد، ع5، سنة 1962، ص 239 ـ 240. (17) رأي في اشتقاق كلمة صوفي، د. كامل مصطفى الشيبي ص 240.
|
||||
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() المصدر : دار الإفتاء المصرية التصوف : مصادره وعلاقته بالتشيع ما مدى صحة ما قيل بأن التصوف يرجع في نشأته إلى مصادر غير إسلامية ؟ أو أن في أصول التصوف جذورًا تَمْتد إلى التَّشَيُّع، وأنهما عملا على هدم الدولة الإسلامية السنيَّة، وتعاونا مع أعدائها ؟الإجابة : إن الأحكام الشمولية والعمومية - وهو ما تُحَاول أن تُرَوِّجه بعض التيارات الفكرية المعاصرة بخصوص التصوف الإسلامي - لا تتصف عادة بالعمق ولا بالتدقيق كما تتعرى في الغالب عن الحياد والإنصاف الذي ينبغي أن يتَّصف بها المسلم في جميع آرائه واتجاهاته. من ثَمَّ فإن المراجعة الفاحصة والمنصفة لموقف العلماء والباحثين المتخصصين حول التصوف ونشأته ومصادره تؤكد أن التصوف الإسلامي السني نشأ نشأة إسلامية خالصة، ولا يمنع هذا من وجود تيارات واتجاهات صوفية وُجِدَت داخل الحضارة الإسلامية تأثرت بالعديد من العوامل والنظريات والأفكار التي لا ترجع في أصولها وجذورها إلى مذهب أهل السنة والجماعة. وخلافا لما هو مُرَوَّج له فإننا نجد موقفا واضحا وحاسما ومُشَجِّعا ومؤيدا للتصوف الإسلامي المبني على الكتاب والسنة حتى عند العلماء الذين يُظَنُّ بهم غير ذلك كالإمام أحمد بن حنبل، والإمام تقي الدين ابن تيمية، والحافظ الذهبي، وابن قيم الجوزية، وابن كثير، وابن رجب، والشيخ محمد بن عبد الوهاب([1]). مصادر التصوف : كان التصوف عند أول تكونه أخلاقا دينية، فمن الطبيعي أن يكون مصدره الأول إسلاميا، فقد استمد من القرآن والسنة وأحوال الصحابة وأقوالهم، على أن أقوال الصحابة رضي الله عنهم لم تكن تخرج عن الكتاب والسنة، وعلى هذا يكون المصدران الأساسيان للتصوف في الحقيقة هما القرآن والسنة، ومن القرآن والسنة استمد الصوفية أول ما استمدوا آراءهم في الأخلاق والسلوك، ورياضاتهم العملية التي اصطنعوها من أجل تحقيق هدفهم من الحياة الصوفية. ([2]) فما من شيء يتحدث عنه فقهاء السَّيْر إلى الله ممن اجتمعت لهم شريعة وتَحَقُّق إلا وله أصله الأصيل في الكتاب والسنة([3])، ويتفق الجميع على ضرورة ووجوب الرجوع إلى مصدري الإسلام: الكتاب والسنة، وعدم الخروج عليهما عقيدة ولا شريعة ولا سلوكا، ورد ما خرج عنهما من اعتقادات أو تشريعات أو سلوكيات، فأصول التصوف عند الصوفية الحقيقيين هي الكتاب والسُّنَّة وما يرجع إليهما من مصادر التشريع الأخرى التي ذهب إليها علماء الأمة([4]). فهذا الإمام الجنيد سيد الطائفة يقول: "مذهبنا -ويقصد التصوف- مُقَيَّد بأصول الكتاب والسنة".وقال أيضا: "الطُّرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرَّسول صلىالله عليه وآله وسلم واتّبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحةعليه"([5]). وقال الإمام القشيري: "إن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم، وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم".([6]) وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "من دعا إلى الله بغير ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مُدَّعٍ". وقال أيضا: "ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}" [السجدة: 24]. وقال أيضا: "إذا عارض كشفُك الصحيحُ الكتابَ والسنةَ فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام". ([7]) وقال الإمام الشاطبي عن الصوفية: "إن كثيرًا من الجُهَّال يعتقدون فيهم –أي الصوفية- أنَّهم متساهلون في الاتِّباع، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشَّرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتِّباع السنة واجتناب ما خالفها".([8]) وقال أيضا: "إن الصوفية هم المشهورون باتِّباع السنة، المقتدون بأفعال السلف الصالح، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التَّام والفرار عما يخالف ذلك، ولذلك جعلوا طريقتهم مَبْنِيَّة على أكل الحلال واتِّباع السُّنَّة والإخلاص وهذا هو الحق".([9]) وقال الشيخ ابن تيمية في حديثه عن الصوفية: "الصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق الْمُقَرَّب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب".([10]) والكلام في علاقة التأثير والتأثر بين التصوف وغيره من التيارات الفكرية والعقدية والفلسفية سواء من داخل الإسلام أو خارجه قد تكفل ببحثه والحديث عنه بالتفصيل العديد من العلماء وكبار الباحثين([11])، وانتهوا إلى أن التصوف الإسلامي السني لا شك أنه بني في أساسه وأصوله على الكتاب والسنة وعقيدة أهل السنة والجماعة، وإن كنا لا ننكر وجود بعض المؤثرات والتأثيرات عند بعض الصوفية، أو خلال بعض أدواره التاريخية، والميزان على الجميع هو الكتاب والسنة كما سبق أن بينا، ويلخص هذا الموقف الدكتور النشار بقوله: ((أنا لا أنكر أبدا كما رددت كثيرا أن العوامل الفكرية الخارجية قد أثرت في التصوف في مراحل متعددة، ولكن لا أستطيع أبدا كباحث محايد أن أنكر نشأة حياة روحية أصيلة عند المسلمين منذ البدء تستند على مصدريهم الكبيرين: الكتاب والسنة))([12]). بل إنه مع ما دار من نقاش طويل بين المستشرقين – فضلا عن غيرهم - حول مصادر التصوف الإسلامي، فقد أقر العديد منهم بأثر القرآن الكريم في تكوين نظريات الإسلام الصوفية، ويقرر ماسينيون وبجانبه مرجليوث أن في القرآن البذور الحقيقية للتصوف، وهذه البذور كفيلة بتنميته في استقلال عن أي غذاء خارجي ([13])، وبناء على هذا فيجب – كما يؤكد الدكتور إبراهيم مدكور- أن نبحث عن أصول التصوف الإسلامي في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قبل أن نذهب للبحث عنها في المصادر الخارجية. وبعد أن استعرض الدكتور محمد مصطفى أستاذ العقيدة بالأزهر الشريف ما قيل حول مصادر التصوف الإسلامي الخارجية قال: ((تلك هي باختصار أهم الآراء المختلفة في القول برجوع التصوف الإسلامي إلى مصدر خارجي، وكلها تنفي أصالته، وتجحد انتماءه إلى المصادر الثقافية الإسلامية الأصيلة، ولكن الصوفية وجمع كبير من علماء المسلمين ممن انتصروا لقضية التصوف، أو على الأقل نظروا إليه في موضوعية متأنية، رأوا رأيا آخر فالتصوف يضرب في الواقع بجذوره في مصادر الإسلام الأصيلة...)) ([14]). ومن جهة أخرى فإن الزهد والتصوف ((ليس خصوصية دين سماوي بعينه، وإنما هو مبدأ عام نزل به الوحي في الأديان السماوية الثلاثة، قد يختلف الشكل التاريخي الذي ظهر به من عصر إلى آخر، لكن الجوهر والأساس كان واحدا، ولما قرأ المستشرقون كتب الصوفية لم يفرقوا فيها بين ما هو إسلامي صحيح، وما هو أجنبي دخيل، ولم يفرقوا بين الأصل الصحيح وبين ما طرأ على هذا الأصل من تجاوزات وتطرف، فطردوا قولهم بأن الزهد أثر أجنبي طرأ على الإسلام، ولو قرأوا الإسلام في أصوله لأنصفوا أنفسهم وأنصفوا الحق معهم))([15]). ويرى بعض كبار الباحثين أن الخلاف حول مصادر التصوف لا طائل من ورائه ؛ لأن التصوف ظاهرة روحية وثقافية تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من عوامل ومؤثرات، ولا شك في أن تعاليم الإسلام ومبادئه ذات الشأن الأول في نظر المسلمين عامة، عنها أخذوا وبها اهتدوا، وفي مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير قدوة، وحقا إن الإسلام في دعائمه الكبرى ليس دينا صوفيا، ولكنه لا يتعارض مع التصوف، بل على العكس يدعو إلى شيء منه، ويخلص من هذا إلى أن التصوف ظاهرة إسلامية نبتت في جو الإسلام وبيئته، وتأثرت أساسا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واعتمدت على ما جاء في الكتاب والسنة، وشاركت المدارس الإسلامية الكبرى في بعض ما عرضت من مشاكل، ولكنها كالظواهر الإسلامية الأخرى لم تسلم مما سرى إليها من عوامل خارجية، فالبيئة الإسلامية لم تسلم من الدخيل، من أشخاص وآراء، ومن الأفكار ما يجري مجرى الهواء دون أن يعرف له أصل واضح ولا مصدر صريح، ومنها ما يمكن تتبع تسلسله والوقوف على منبعه، ومن التعجل القطع بنسب أو علاقة ما بغير دليل، وليس من اليسير أن نجزم بأن عملا أو رأيا صوفيا معينا قد أخذ عن مصدر أجنبي شرقي أو غربي، إلا إن قام دليل قاطع، وقد يتوسع بعض الباحثين في ذلك توسعا أقرب إلى الظن والتخمين، وبوجه عام لا تخلو محاولة تفسير الظواهر الإنسانية في ضوء عامل واحد من تعسف، ويجدر بنا أن نبدأ أولا بتفسير التصوف الإسلامي على أساس من الظروف المحلية، فإن عز علينا ذلك بحثنا عن الأشباه والنظائر في الثقافات الأجنبية([16]). لا علاقة للتصوف السنى بالتشيع : وقد اتُّهِمَ التصوف بعامة بأن جذوره تتَّصل بالتَّشيع وهذا غير صحيح على إطلاقه، فالتصوف الإسلامي السني ليس له علاقة بالتشيع من حيث النشأة أو الفكر أو طريقة التَّعلم أو الأصول والغايات أو غير ذلك -كما وضَّحنا، فالتصوف الإسلامي السني المنتشر في طول البلاد الإسلامية السنية وعَرْضِها ليس له علاقة بالتشيع لا على مستوى الأصول ولا على مستوى النظريات، ولا على مستوى الرجال وأعلام التصوف، ولا حتى على مستوى الممارسات اليومية. فعلى مستوى الرجال وأعلام التصوف، سنجد أن كثيرا من كتب طبقات الأولياء كالحلية وطبقات الشعراني تبدأ بترجمة الخلفاء الراشدين الأربعة على ترتيبهم عند أهل السنة فتبدأ بذكر أبى بكر الصديق فعمر بن الخطاب فعثمان بن عفان فعلى بن أبى طالب رضي الله عنهم أجمعين، ومن جهة أخرى فإن أعلام التصوف السنيين - وكثير منهم من الأشراف المنتسبين لآل البيت – مذكورون في كتب طبقات التصوف وكتب التاريخ المختصة بأعلام أهل السنة، ولا ذكر لهم في كتب أعلام الشيعة. كما سنجد في أعلام التصوف كثيرين من أشراف آل البيت، سنجد أيضا فيهم كثيرين ممن ينتسبون – من حيث النسب – إلى سيدنا أبى بكر الصديق كالسادة البكرية بمصر، ومنهم من ينتهي نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب كالشيخ محمد بن عنان وهو من كبار أولياء مصر وإليه ينتهي نسب السادة العنانية بمصر، وله ترجمة في طبقات الشعراني، وكذلك الشيخ العارف الكبير الإمام الرباني أحمد السرهندي الفاروقي مجدد الألف الثانية، وكذلك الشيخ خالد ضياء الدين وينتهي نسبه إلى سيدنا عثمان بن عفان، وكلاهما من كبار رجال النقشبندية وعليهما تدور سلاسل هذه الطريقة. ومن جهة أخرى فليس في طبقات الصوفية التي بين أيدينا ترجمة لأحد من أعلام الشيعة، إلا من كان من الشخصيات الإسلامية العامة كسيدنا على بن أبى طالب أو ابنيه السيدين الحسن والحسين، وغيرهما من أعلام آل البيت الذين لا تختص بهم فرقة دون أخرى، ولا يعنى ترجمة أحد منهم في رجال التصوف أن التصوف صار شيعيا([17]). ومن جهة الممارسات اليومية فسنجد مثلا رايات الطرق الصوفية مثلا تكتب في أركانها أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة (أبو بكر – عمر – عثمان – على)، وهو ما يؤكد سنية هذه الطرق. كل ما تقدم يؤكد على سريان أصول أهل السنة والجماعة في التصوف السني بداية من الأصول النظرية والفكرية ومرورا بالأعلام والرجال وانتهاء بالممارسات اليومية. على أن البحث في الصلة بين التصوف والتشيع هو بحث قديم أدلى فيه العديد من العلماء والدارسين بآرائهم، فمن هؤلاء الإمام ابن خلدون الذي - مع تصوفه الأصيل([18])- رأى أن هناك بعض التيارات الصوفية المتفلسفة تأثرت بالتشيع، كما أن هذا الموضوع تناوله بالبحث بعض الدارسين المعاصرين، وإن انتهوا إلى نتائج متفاوتة، والذي نراه هو ما قدمناه أن التصوف السني الأصيل لا علاقة له بالتشيع([19]). والشيعة هم الذين انتحلوا التشيع لعلي كرم الله وجهه، وقالوا إنه الإمام بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنص الجلي أو الخفي وأنه الوصي بعده بالاسم أو الوصف دون الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وأن الإمامة لا تخرج عنه ولا عن أولاده وإن خرجت فبظلم من غيرهم أو بتقية منه أو من أولاده. والشيعة فرق متعددة منها ما تطرف في التشيع حتى خرج عن ربقة الإسلام بمزاعم مُكَفِّرة ومعتقدات باطلة، فمنها فرقة تزعم أن الإله قد حلَّ في علي وأولاده وأنه قد ظهر بصورتهم ونطق بألسنتهم وعمل بأيديهم. ومن عقائد بعض فرق الشيعة الغلاة القول بتحريف القرآن، وتكفير الصحابة، وعدم أحقيَّة خلافة الخلفاء الراشدين الثلاث الأوائل: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. ويرى متبعي الشيعة أن الإمامة منصوص عليها ومحددة من قبل الله، بينما يرى أهل السنة أن الإمامة لم يتم تحديدها من قبل الله، والإمامة فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده وليست خاصة لأحد. ومن أصولهم أيضا تكفير بعض الصحابة وخاصة عند الغلاة منهم، ومنها العصمة لأئمتهم، فالأئمة عندهم معصومون كالأنبياء، واستخدامهم التقية. بهذا تبين لنا أن أصول الشيعة وعقائدهم تخالف أصول الصوفية السنيين جملة وتفصيلا، أما ما قاله البعض من أن الصوفية شاركت الشِّيعَة في الْمُغَالاة في حُبِّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وذريَّته، فأمر مردود؛ لأن الصوفية لم يغالوا في حُبٍّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أحبُّوهم وأحبوا جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وكيف لا! وقد أُمِرْنَا بِحُبِّ آل بيت النُّبوة، قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فالآية تُوصِي بحبِّ قرابته صلى الله عليه وآله وسلم ومودتهم، وجعل محبتهم في أعماق قلب كل مسلم. والمغالاة لا تكون في المحبة، إنما تكون في الاعتقاد، فطالما كان المسلم سليم الاعتقاد فلا حرج عليه في محبة أهل البيت رضوان الله عليهم جميعا، ومحبة أهل البيت درجات يرزقها الله لمن أحبه، فكلما زاد حب المسلم لآل البيت ارتقى بهذا الحب في درجات الصالحين؛ لأن حب أهل البيت الكرام علامة على حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علامة على حب الله عزَّ وجل، وفي هذا المعنى قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي أما القول بأن الصوفية أثبتت العصمة لشيوخهم كما أثبتت الشيعة العصمة لأئمتهم، فهو مردود أيضا؛ لأنه لا عصمة لكائن من كان إلا من عصمه الله وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واعتقاد الصُّوفِيَّة فيمشايخهم لا يخرج عن كونهم مُرْشِدين ناصحين لا معصومين، وإن كان الله يحفظ بتوفيقه وعنايته وإرشاده من شاء من عباده من الوقوع في المعاصي، والحفظ غير العصمة، فهذا الإمام الجنيد يُسَأل: هل يزني الولي؟ فقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]. وهذا الجواب لا يخرج إلا من عالم قد مُكِّن من الحجة، فلو قال: نعم! لعارض قول الحق {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، ولو قال: لا! لاتَّهم الناسُ الصوفيةَ بالقول في عصمة المشايخ. وأما ما قيل بأن الصوفية والشيعة عملا على هدم الدولة الإسلامية السنيَّة، وتعاونا مع أعدائها، فقد ساعد الشيعةُ التتارَ – على ما يذكره المؤرخون – على الدخول إلى بغداد عاصمة الخلافة فخرب بلاد الإسلام وقتل من المسلمين ما لا يحصيه إلا رب الأنام. وكذلك ما قيل من أن المتصوفة يسير أكثرهم في ركاب الظَّلَمة والمستعمرين، لأنهم تربوا على ذلك. وهذا كلام مردود أيضا وكله مغالطات، لأن الصوفية لهم دور ملحوظ في الجهاد في سبيل الله، وقد ظهر دورهم هذا في المعارك الكبرى فهذا القائد نور الدين زنكي الذي حارب الصليبية المشهورالورع التقي الصوفي، كان جليس رجال التصوف وهو الذي قرر كتاب إحياء علوم الدينللجيش كله وهو من أشهر كتب التصوف.([20]) والقائد البطل صلاح الدين الأيوبي الذي حرَّر بيت المقدس، كان يوصف بالصُّوفي الزاهد الورع النقي التقي([21])، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي جهاده المعروف ودوره في معركة المنصورة([22]). كما كان المرابطون في الثغور والأربطة – على طول البلاد الإسلامية وعرضها شرقا وغربا - جميعهم من الزهاد والعباد والصوفية، فكانوا يتخذون من الأربطة والثغور هدفا لإحياء سنة الجهاد والرباط في سبيل الله، بالإضافة إلى التخلي لعبادة الله تعالى وتهذيب النفس. وفي ذلك يقول الدكتور حسين مؤنس: "وهذه الصوفية المجاهدة استمرت بعد ذلك في عالم الإسلام، وإليها يرجع الفضل في إنقاذه من أزمات الصليبيات والمغول، فقد كان رجال هذه الطرق هم القوة الضاربة المقاتلة في كل معارك الإسلام الكبرى مثل حطين وعين جالوت بحمص، وكان أولئك الصوفيون المجاهدون يسمون في المراجع بالمطوعة وهم زهاد ومتصوفة ومريدون يخرجون للقتال حسبة لله تعالى ويبلون أعظم ما يبلي الجنود المحترفون، وأخبارهم كثيرة فيما بين أيدينا من المراجع.([23]) وقد امتد هذا الدور في العصر الحديث، فلكثير من الطرق الصوفية دور لا ينكر في مقاومة الاستعمار الغربي، كما حدث في الجزائر والمغرب، وكثر من بلاد إفريقية، وكذلك في آسيا حيث ساهمت الطرق في محاربة الشيوعية، ويأتي على رأس هؤلاء في العصر الحديث الأمير عبد القادر الجزائري، وأحمد بن الصديق الغماري المغربي، والحركة السنوسية في ليبيا ومنها المجاهد الكبير عمر المختار، والأربطة والزوايا الصوفية نشأت أساسا في تفاعل الرباط في سبيل الله والتصوف أو الجمع بين الجهادين الكبير والأكبر، كما ذكر الشيخ زاهد الكوثري في بعض مقالاته نماذج عدة لدور الصوفية في الجهاد ومقاومة الاستعمار. ([24]) كما كان لكثير من الطرق الصوفية أثرها في نشر الإسلام في البلاد التي وجدت فيها هذه الطرق ؛ "لأن هذه الطرق تنظيمات تقوم على الدين والإيمان وتعمل لخير الدين والإيمان، عملا منظما مستمرا"([25]). وأخيرا نقول : إن التصوف الإسلامي السُّنِّي يضرب في الواقع بجذوره في مصادر الإسلام الأصيلة، ولم يرجع في نشأته إلى مصادر غير إسلامية، ولا تمتد جذوره إلى التشيع؛ لأنه لا علاقة للتصوف الإسلامي السُّنِّي بالتشيع لا من حيث النشأة أو الفكر أو طريقة التَّعلم أو الأصول أو الغايات أو حتى الممارسات الشعبية وغير ذلك. يُتبع .... |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() تابعٌ لموضوع "التصوف : مصادره وعلاقته بالتشيع" |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||
|
![]() المصدر : قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية أهمية التصوف ما أهمية التصوف ؟ وهل من الضروري الالتزام به ؟ الإجابة : أهمية التصوف : إن التكاليف الشرعية التي أُمر بها الإنسان في خاصَّة نفسه ترجع إلى قسمين: أحكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، أي: تتعلَّق بقلبه. فالأعمال الظاهرة نوعان : أوامر ونواهٍ؛ فالأوامر الإلهية هي: كالصلاة والزكاة والحج...، وأما الأعمال القلبية فهي أيضًا: أوامر ونواهٍ؛ أما الأوامر: فكالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله...، وكالإخلاص والرضا والصدق والخشوع والتوكل...، وأما النواهي: فكالكفر والنِّفاق والكبر والعجب والرياء والغرور والحقد والحسد. وهذا القسم الثاني المتعلِّق بالقلب لا يقل أهمية عن القسم الأول عند الشارع؛ لأن الباطن أساس الظاهر ومصدره، ففي فساده إخلال بقيمة الأعمال الظاهرة، وفي ذلك قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً} [الكهف: 110]. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوَجِّه اهتمام الصحابة لإصلاح قلوبهم، فيقول: "أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ"(1). ويقول عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"(2). فما دام صلاح الإنسان مربوطًا بصلاح قلبه الذي هو مصدر أعماله الظاهرة، تعيَّن عليه العمل على إصلاحه بتخليته من الصفات المذمومة التي نهانا الله عنها، وتحليته بالصفات الحسنة التي أمرنا الله بها، وعندئذٍ يكون القلب سليمًا صحيحًا، ويكون صاحبه من الفائزين الناجين قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89]. وعلى هذا فسلامة الإنسان في آخرته هي في سلامة قلبه، ونجاتُه في نجاته من أمراضه المذكورة -كالحسد والرياء - وقد تخفى على الإنسان بعض عيوب نفسه، وتدق عليه عِلَل قلبه، فيعتقد في نفسه الكمال، وهو أبعد ما يكون عنه، فما السبيل إلى اكتشاف أمراضه؟ والتعرف على دقائق عِلَل قلبه؟ وما الطريق العملي إلى مُعَالَجَة هذه الأمراض، والتخلُّص منها ؟ إن التصوف الإسلامي المبني على الكتاب والسنة هو الذي اختص بمعالجة الأمراض القلبية، وتزكية النَّفْس والتخلُّص من صفاتها الناقصة. أما تحلية النفس بالصفات الكاملة؛ كالتوبة والتقوى والاستقامة والصدق والإخلاص والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والأدب والمحبة والذكر والمراقبة... فللصوفية بذلك الحظ الأوفر من الوراثة النبوية، في العلم والعمل(3). حكم سلوك طريق التصوف : حث جمهور العلماء على سلوك طريق التصوف حيث لا يكمل دين المرء إلا به، وجعلوه واجبا محتما لمن ابتلي بأمراض النفوس والقلوب كالحسد والرياء والكبر وغيرها مما يجب على المرء شرعا التخلص منه، وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول : أنه مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة المبينة في حديث جبريل الطويل، فمقام الإحسان هو مقامهم الذي هم فيه من العمل بظاهر الكتاب والسنة ولا مقام فوق ذلك، ولا شك أن الدين يجب اتباعه بجميع أركانه، الإيمان والإسلام والإحسان... فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان ليحرز الداخل فيها والمدعو إليه مقامات الدين الثلاثة الضامنة لمحرزها كمال الدين فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة فمَنْ أخلَّ بمقام الإحسان الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه، وقد بَيَّن القرآن العظيم من أحوال التصوف والطريقة ما فيه الكفاية، فتكلم على المراقبة والمحاسبة والتوبة والإنابة والذكر والفكر والمحبة والتوكل والرضا والتسليم والزهد والصبر والإيثار والصدق والمجاهدة ومخالفة الهوى والنفس، وتكلم عن النفس اللوامة والأمارة والمطمئنة، وعلى الأولياء والصالحين والصديقين والمؤيدين، وغير هذا مما يتكلم فيه أهل التصوف والطريقة رضي الله عنهم. الوجه الثاني : أن التصوف هو العلم الذي تكفَّل بالبحث عن علل النفوس وأدوائها وبيان علاجها لتصل إلى مرتبة الكمال والفلاح وتدخل في ضمن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] ولا شك أن علاج النفس من أمراضها وأدرانها أمر يوجبه الشرع القويم ويستحسنه العقل السليم، ولولا ذلك لما كان هناك فرق بين الإنسان والحيوان. الوجه الثالث : أن التصوف عُنِيَ بتهذيب الأخلاق وتزكيتها ومخالفة هو النفس والأخذ بعزائم الأمور والارتفاع بالنفس عن حضيض الشهوات إلى حيث تستمتع بما تورثه الطاعة من لَذَّة رُوحِيَّة تصغر بجانبها كل لذة مهما عظم قدرها. الوجه الرابع : أن التصوف هو خلق الصحابة والتابعين والسلف الصالح الذي أمرنا بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، لأنه من أركان الدين. الوجه الخامس : أن في سلوك الطريق صحبة المشايخ الكمل، والاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، وقد أمر الله بذلك في قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]. الوجه السادس : أن سلوك الطريق يُنَوِّر بصيرة الشخص ويسمو بِهِمَّتِه حتى لا يبقى له تعلُّق إلا بالله ولا يكون له الاعتماد إلا عليه، فيصير مصون السر عن الالتفات إلى الخلق مرفوع الهِمَّة عن تأميلهم اكتفاء بالحق، متحققًا بالحقيقة في جميع الأحوال مُتَوَسِّمًا بالشريعة في الأقوال والأفعال، وهذا أعلى ما يُطْلَبُ من المؤمن، وإليه أشار عليه الصلاة والسلام لابن عباس بقوله: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"(4). الوجه السابع : أن في سلوك الطريق بصحبة شيخ مُرْشِدٍ عارف خروجا من رُعُونات النَّفس وحماية للمريد من كل ما يمنعه من الوصول إلى الله تعالى من أنواع الجهل والغرور ودواعي الهوى الموقعة في ظلمة القلب وإطفاء النور، ولهذا قال ابن عطاء الله في لطائف المنن: "شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى، شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلى فيه أنوار ربك، نهض بك إلى الله فنهضت إليه، وسار بك حتى وصلت إليه، ولا زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه فزج بك في نور الحضرة وقال: ها أنت وربك"(5). الوجه الثامن : أن في سلوك الطريق الإكثارَ من ذكر الله والاستعانة بصحبة الشيخ على ذلك، ولا شك أن الذكر يصفي القلوب ويدعو إلى اطمئنانه، كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وكل أمْرٍ أمَرَ الله به في القرآن جعل له حدًّا وشرطا ونهاية إلا الذِّكْر، فإن الله تعالى لم يقيده بحد ولا شرط ولا نهاية، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 41-42] (6). وقد رغَّب الصوفية في اتخاذ الشيخ مرشدا إلى الله، وهو الشيخ العارف السالك المتصف بصفات تجعله مربيًا مرشدا، وهو الذي اتصف بكمال المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكره القشيري في رسالته: "ثم يجب على المريد أن يتأدَّب بشيخ؛ فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبدًا. هذا أبو يزيد يقول: مَن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. وسمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول : الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غراس فإنها تورق، ولكن لا تُثمر؛ كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفسا نفسا فهو عابد هواه، لا يجد نفاذًا". (7) الهوامش: (1 ) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الإيمان» باب «فضل من تبرأ لدينه» حديث (52)، ومسلم في كتاب «المساقاة» باب «أخذ الحلال وترك الشبهات» حديث (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. ( 2) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه» حديث (2564). (3 ) وللتوسع في بيان أهمية التصوف راجع: لطائف المنن، ابن عطاء الله السكندري، تحقيق: عبد الحليم محمود (ص 63) وما بعدها، شفاء السائل وتهذيب المسائل، ابن خلدون (ص 44) وما بعدها. التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد، (ص 37 – 68). (4 ) أخرجه الترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» حديث (2516). (5 ) للاستزادة في موضوع وجوب اتخاذ شيخ راجع: إيقاظ الهمم، ابن عجيبة (27). التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد، (ص 99 – 103). (6 ) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف (ص 7) وما بعدها . (7 ) مقدمة شفاء السائل وتهذيب المسائل، ابن خلدون (ص 9). المصادر والمراجع : 1) التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد، القاهرة: دار النصر، ط 2، 1419 هـ / 1999 م. 2) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لابن عجيبة، تقديم وتحقيق محمد أحمد حسب الله ، ذخائر العرب (رقم 56) ، القاهرة : دار المعارف ، بعد سنة 1404 هـ / 1983 م.إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عجيبة، دار المعارف. 3) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، عبد الله الغماري ، القاهرة : مكتبة القاهرة ، 1415 هـ / 1994 م.حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، عبد الله الغماري. 4) سنن الترمذي، تحقيق: الشيخ/ أحمد محمد شاكر، بيروتالناشر: دار إحياء التراث العربي (بيروت). 5) شفاء السائل وتهذيب المسائل، لابن خلدون، تحقيق: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر المعاصر، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1996م. 6) صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، بيروت الناشر: دار ابن كثير، اليمامة (بيروت)، الطبعة الثالثة 1407 هـ - 1987م. 7) صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت الناشر: دار إحياء التراث العربي- بيروت. 8) لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار المعارف. |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 5 | |||
|
![]() المصدر : دار الإفتاء المصرية الطُّرق الصوفية لماذا تفرَّقت الصُّوفية إلى طُرُقٍ متعددة ؟ وهل يجوز الدخول في هذه الطرق؟ وما الحكم فيما يفعله المنتسبون إلى هذه الطرق من ممارسات خاطئة ؟ الإجابة : الطرق الصوفية : الطريقة الصوفية هي المدرسة التي يتم فيها التطهير النفسي والتقويم السُّلوكي للمريد، والشيخ هو القيِّم أو الأستاذ الذي يقوم بذلك مع الطالب أو المريد، وهو الذي يُلَقِّن المريدين الأذكار ويعاونهم على تطهير نفوسهم من الخُبْثِ وشفاء قلوبهم من الأمراض، وهو الذي يرى الأسلوب والمنهج الأمثل الذي يصلح مع هذا المريد من بين مناهج التربية. والمعلوم أن طريق الله واحد، والخلاف من جهة المريدين، فنضرب مثلا - ولله المثل الأعلى - بالدائرة، فنجد أن أنصاف أقطارها متساوية وكلها توصل إلى المركز، فالله تعالى مقصود الكل، فلذلك يجوز الدخول في أي الطرق التي توصل إلى المقصود، طالما أنها تقوم في أسسها وأصولها وسلوكها وطريقتها في التربية على الكتاب والسنة، وطالما أنها نقية من أي بدع أو مخالفات للشريعة الإسلامية أو اعتقاد أهل السنة والجماعة . والتصوف باعتباره أحد العلوم الإسلامية، والتي تراعى كلها - خاصة العلوم النقلية - اتصال أسانيدها إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لكل طريقة صوفية أسانيدها التي تصلها بأحد الصحابة ومنهم إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بذاته، وكثيرًا من هذه الطرق ينتهي نسبها وسلسلة رجالها إلى سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، كما أن هناك طرقا أخرى ينتهي نسبها إلى بعض الصحابة كالطريقة البَكْرِيَّة والطريقة النقشبندية التي ينتهي نسبها إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كما توجد سلاسل أخرى تنتهي إلى سيدنا أنس بن مالك، أو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ([1]). والعوامل الحضارية والفكرية والعلمية والعملية التي أدت إلى نشوء المذاهب الفقهية، والمذاهب العقدية، هي بعينها التي أدت إلى نشأة الطرق الصوفية، بل الأمر في التصوف ونظرا لطبيعة الحياة الروحية والوجدانية واتساعها وتنوعها يعطى مجالا أوسع لتعدد طرق التربية والسلوك وتهذيب النفس([2]). وكما أن لكل مذهب من المذاهب الفقهية أصولا تأسست عليها، وتم تخريج فروعها في ضوئها، فالأصول الفقهية لمذهب الإمام الشافعي مثلا مختلفة عن الأصول الفقهية لمذهب الإمام مالك أو الإمام أبى حنيفة أو الإمام أحمد رضي الله عنهم مع كون جميع أصول هذه المذاهب - على اختلافها - مبنية على أساس من الشريعة، لكن كل إمام اختار مجموعة من الأصول الفقهية بنَى عليه مذهبه بناء محكما مطردا لا اضطراب فيه، فكذلك الطرق الصوفية الكبرى اختار كل منها مجموعة من الأصول السلوكية التي ترجع في أساسها إلى الشريعة الإسلامية، وبنَى عليها طريقا محددا للسلوك يجرى عليه السالك باطراد حتى يتحقق بدرجة الإحسان دون أن يضطرب سلوكه أو يتردد، نظرا لكثرة أبواب الطاعات والعبادات التي وردت عن الشارع الحكيم مراعاة لتعدد استعدادات البشر، فبعض الطرق تبني سلوكها على الذكر الجهري، وبعضها على الذكر السري، وبعضها على الذكر القلبي، ويهتم بعض الطرق بالخلوة ويعتبرها أحد أسس الطريق والسلوك، وبعضها يقدم الجلوة والخلطة بالناس على الخلوة والانقطاع عنهم، وبكل ورد من السنة الشريفة ما يؤيده . كما أن أصحاب المذاهب لم يقصدوا في الأساس إلا الاجتهاد، مثلهم مثل غيرهم من المجتهدين، ولم يروموا بالأصالة إلى تكوين مذهب له أتباع ومقلدون، وإنما تكوّن ذلك شيئا فشيئا نتاجا لما لاقته مذاهبهم من نجاح وتوفيق، ونتاجا للتراكم العلمي والمعرفي، بحيث تحول الاجتهاد الفردي لمؤسس المذهب - وعبر القرون - إلى مدرسة فقهية متكاملة لها أصولها ورموزها ومصادرها ومراجعها . فكذلك الحال بالنسبة للطرق الصوفية، إنما كان غرضُ مؤسيسها - الذين تنسب إليهم - تربيةَ مريديهم غير قاصدين لتأسيس طريقة بالمعنى المتعارف عليه، ولِمَا صادفته أساليبهم وطرقهم في التربية من نجاح وانتشار وقبول في أوساط المسلمين تطورت - مثلما تطورت المذاهب الفقهية - من مجرد اجتهاد فردي في أسلوب التربية على يد مؤسس الطريقة إلى مدرسة سلوكية متكاملة لها أصولها وأسسها ورموزها وأذكارها وأورادها . وبقدر ما تتسم به المذاهب الفقهية الأربعة المتبعة من عمق وأصالة في التأصيل والتفريع والتخريج، بحيث يبدو كل مذهب كصرح ضخم محكم البنيان، فكذلك تتسم الطرق الصوفية السُّنِّية الكبرى الأصيلة أيضا بذات العمق والأصالة وإحكام البنيان، ويصبح معه من السذاجة بمكان أن يتخيل غير المطلع والمتخصص أن المذهب الفقهي مجرد مجموعة من الأحكام والفروع الفقهية، أو أن الطريق الصوفي مجرد شعارات وأوراد، كما يصبح معه أيضا اختزال هذه الطرق التربوية العميقة على أيدي بعض أتباعها إلى مجرد طقوس شكلية واحتفالات هو خروج عما أراده مؤسسو هذه الطرق ورجالها العظام من القرب من الله تعالى([3]). على أنه مهما تعددت الطرق الصوفية فالمعيار في القبول والرد هو مدى التزام هذه الطريقة أو تلك بالكتاب والسنة والفهم والعلم الصحيحين والعمل الصادق بهما، فحيث وجد هذا جاز العمل بذلك، وحيث فقد لم يجز. الممارسات الخاطئة ليست من التصوف الإسلامي الصحيح : التحق بالصوفية بعض الْمُدَّعين للتصوف ممن لا دين لهم ولا صلاح ولا علم بالكتاب والسنة، وهم الذين يُشَوِّهُون صورته، لذلك لا يجوز أن يَحْكُم الناس على التصوف بما يرونه من هؤلاء الْمُدَّعين، فهؤلاء قد اتخذوا طريق التصوف سُلَّما لتحصيل أغراضهم وشهواتهم وابتدعوا فيه بِدَعًا ما أنزل الله بها من سلطان، وزعموا أنها الحقيقة، وأنهم يجوز لهم ما يكون مُحَرَّما في الشريعة، وكذبوا فإن الشريعة والحقيقة صنوان، وما خالفت الحقيقةُ الشريعةَ قط إلا في نظر جاهل، فمثل هؤلاء ليسوا من التصوف في شيء. ومن الظلم البَيِّن أن يعترض بعض الناس بفعل هؤلاء الجهلة ويجعله حجة على التصوف والصوفية، فما التصوف إلا اتباع الكتاب والسنة، وما الصوفية إلا قوم جاهدوا أنفسهم في الله، فهداهم الله، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.([4]) وليس من التصوف الإسلامي: الكذب على الله، والدعاوى العريضة، والبلادة، والبطالة، والجهالة بدين الله، وادعاء الولاية، والمتاجرة بالكرامات، وليس منه ما يحدث في الموالد من اختلاط محرَّم، ومباذل وسفاسف لا يرضاها عاقل، وادعاءات فضفاضة وتغييب للعقول. وليس منه أيضا ادعاء الغيب والدجل والشعوذة والاتصال بالجن والشياطين والسحر والألفاظ الأعجمية والساذجة، واستغلال ذلك في جذب مريد التربية. وأما ما قيل بأن من شعائر الصوفية تقديس القبور والدعوة إلى زيارة أضرحة أولياء الله الصالحين، فمردود أيضا؛ وهو دعوى مجردة من الدليل، ونصوصهم بين أيدينا ليس فيها أن ذلك ركنا من أركان التصوف أو قاعدة من قواعده، أو مقاما من مقامات السلوك، ولم يستحب الصوفية الحقيقيون من ذلك إلا ما استحبته الشريعة ولم يجوزوا أو يمنعوا إلا ما أجازته أو منعته، فزيارة الأضرحة ليست جزءا من السلوك الصوفي ولا هي مقام من مقامات الطريق ولا منزل من منازله، ولو طمست كل الأضرحة - لا قَدَّر الله - ما طمس الطريق الصوفي ولا اختل منه شيء. ولا يعدو ما وقع في كلامهم حوله أن يكون ضمن الكلام على الآداب المتعلقة بأفعال السالك سواء في علاقته مع ربه أو شيخه أو إخوانه أو نفسه أو ما في الأكوان، فلا يتجاوز كلامهم فيه الكلام عن أدب من الآداب الشرعية، فلقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على زيارة القبور، فقال: "فزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْتَ"([5]) وأولى القبور بالزيارة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبور آل البيت النبوي الكريم؛ لأن في زيارتهم ومودتهم برًّا وصلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قبور الأولياء والصالحين. والصلاة في القبور المنهي عنها ليست هي الصلاة في المسجد الذي به ضريح سواء اتصل الضريح بالمسجد أو انفصل عنه، لأن الصلاة في هذه المساجد صحيحة ومشروعة وقد تصل إلى درجة الاستحباب، بدليل قوله تعالى {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] فوجه الاستدلال بالآية أنها ذكرت القولين - وهما نبني عليهم بُنيانا أو لنتخذن عليهم مسجدا - دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان المناسب أن تشير إليه وتدل على بطلانه. قال الرازي في تفسير الآية: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد. ([6]) ومن السنة حديث أبي بصير الذي رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أن أبا بصير كان في سيف البحر وحضرته الوفاة، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليه برسالة هو ومَن كان معه يأمرهم بالرجوع إلى بلادهم، فمات أبو بصير وكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده يقرأه، فدفنه أبو جندل مكانه، وبني على قبره مسجدا ([7]). وأما استدلالهم على عدم جواز الصلاة في هذه المساجد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا"([8]) وفي رواية لمسلم زاد: "قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ"([9])- فغير مُسَلَّمٍ؛ لأن علماء الأمة لم يفهموا من هذا الحديث أن المقصود النهي عن اتصال المسجد بضريح نبي أو صالح، وإنما فسروا اتخاذ القبر مسجدا تفسيرا صحيحا، وهو أن يُجْعل القبر نفسه مكانا للسجود، ويسجد عليه الساجد لمن في القبر عبادة له. وبهذا تبين لنا أن ما يفعله الصوفية في بناء الأضرحة وزيارتها أمر لا حرج فيه. والله أعلم. المصادر والمراجع : 1) الاستيعاب، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، دار الجيل . 2) التصوف الإسلامي – رياضة روحية خالصة، د. سعيد مراد (رئيس قسم الفلسفة – آداب الزقازيق)، القاهرة : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، 2002 م . 3) التصوف الإسلامي في ميزان الكتاب والسنة، د. عبد الله يوسف الشاذلي (الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف)، مصر : طنطا ، مكتبة الأزهر الحديثة ، 2001 م . 4) التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه، د. محمد عبد اللطيف العبد (أستاذ ورئيس قسم الفلسفة الإسلامية سابقا – دار العلوم – جامعة القاهرة) ،، القاهرة: دار النصر، ط 2، 1419 هـ / 1999 م. 5) السيرة الحلبية المسماة : (إنسان العيون فى سيرة الأمين المأمون) ، على بن برهان الدين الحلبى الشافعى ، القاهرة : مصطفى البابي الحلبي . 6) الطبقات الكبرى، ابن سعد، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى، 1968 م. 7) الطرق الصوفية فى مصر نشأتها ونظمها وروادها ، للدكتور عامر النجار ، القاهرة : دار المعارف ، ط 5 ، د ت . 8) الطريق الصوفى وفروع القادرية بمصر ، للدكتور يوسف زيدان ، بيروت : دار الجيل ، ط 1 ، 1411 هـ / 1991 م . 9) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، عبد الله الغماري، القاهرة: مكتبة القاهرة ، 1415هـ / 1994م. 10) صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، اليمامة، الطبعة الثالثة ، 1407 هـ - 1987م. 11) صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت : دار إحياء التراث العربي. 12) كشف المحجوب ، الهجويري، دراسة وترجمة وتعليق: د. إسعاد عبد الهادي قنديل، القاهرة : المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1394هـ/ 1974م. الهوامش : ([1]) للتوسع بخصوص انتهاء نسب سلسلة الطرق الصوفية إلى الصحابة رضوان الله عليهم راجع: كشف المحجوب، الهجويري، (1/267- 274) ([2]) للتوسع بخصوص تعدد الطرق الصوفية راجع: إتحاف أهل العناية الربانية باتحاد الطرق الصوفية الشيخ فتح الله بن أبي بكر البناني المغربي (ت 1353 هـ)، التصوف الإسلامي – رياضة روحية خالصة، د. سعيد مراد (رئيس قسم الفلسفة – آداب الزقازيق)، (ص 191 – 310)، التصوف في الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه،.د. محمد عبد اللطيف العبد (ص 91 – 98). ([3]) وكما سنجد لكل مذهب كتاب أو أكثر يتكلم عن تاريخه ونشأته وتطوره كالفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية للسقاف في مذهب الشافعية، والمدخل لابن بدران في مذهب الحنابلة، وهكذا في بقية المذاهب، بالإضافة إلى كتب أصول الفقه المؤلفة على أصول كل مذهب، فسنجد أيضا كمًّا متنوعا وقيما في أصول أكثر الطرق، كدرة الأسرار وتحفة الأبرار لابن الصباغ، والمفاخر العلية في المآثر الشاذلية لابن عياد الشافعي وكلاهما في أصول الطريقة الشاذلية، وألف الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي كتابه القيم:"تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية"، ومثل:بهجة الأسرار للشطنوفي في طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني، والبهجة السنية في آداب الطريقة العلية النقشنبدية للخاني، وجميعها طبع مرارا بمصر وغيرها، وغير هذه الكتب كثير في هذا الشأن، مما يكشف للمطلع عن عمق وأصالة هذه الطرق، وأساليبها في التربية والسلوك. ومن الدراسات المعاصرة في هذا الشأن: الطريق الصوفي وفروع القادرية بمصر، للدكتور يوسف زيدان، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1411 هـ / 1991 م. وكتاب: الطرق الصوفية في مصر نشأتها ونظمها وروادها، للدكتور عامر النجار، القاهرة:دار المعارف، ط 5، د ت. ([4]) حسن التلطف في بيان وجوب سلوك التصوف، (ص 12، 13). ([5]) أخرجه مسلم في كتاب «الجنائز» باب «استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه» حديث (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ([6]) تفسير الرازي (21/106). ([7]) ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1614) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/134)، وصاحب السيرة الحلبية (2/720) . ([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز» باب «ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور» حديث (1265) واللفظ له، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن بناء المساجد على القبور» حديث (529) من حديث عائشة رضي الله عنها. ([9]) أخرجه مسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «النهي عن بناء المساجد على القبور» حديث (532) من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه. |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 6 | |||
|
![]() المصدر : قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية. هل فَرَّق الصوفية الأمة عندما تخيروا لأنفسهم اسمًا خاصًّا ؟ س : يقول بعض الناس إن الصوفية فَرَّقُوا الأمة عندما تخيروا لأنفسهم اسمًا خاصًّا، وقد سمَّى الله المسلمين جميعهم بالمسلمين، فلم لم يكتفوا هم باسم المسلمين وزادوا عليه اسم الصوفية ؟ الجواب : بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومنه ومن والاه. وبعد، فتتضح الإجابة على هذا السؤال بالإجابة على سؤال آخر وهو: هل اقتصر أئمة المسلمين وقادتهم على اسم المسلمين، أم زادوا في التسميات للإشارة إلى معنى أخص؟ والجواب أن أئمة المسلمين في كافة المجالات، العلمية، والعملية، والتطبيقية، زادوا في التسميات للإشارة إلى معنى أخص. إذن فلم يكن الصوفية بدعًا بين طوائف المسلمين؛ عندما اختصوا باسم زائد على تسميتهم بالمسلمين، بل إنهم كانوا في ذلك موافقين للأمة بأسرها من لدن الصحابة الكرام إلى يومنا هذا، ولكننا لا ندري ما سر المحاولات المتتابعة للإنكار على الصوفية في هذا المسلك؟ وقد أحسن الأستاذ الدكتور/ أمين يوسف عودة، البيان لهذا المعنى حيث قال : «لقد أثار مصطلح التصوف حفيظة فئات غير قليلة من أهل السنة، ووقفوا دونه موقف الريبة، لا باعتبار التسمية فقط، ولكن باعتبار السلوك والنتائج المعرفية المترتبة عليه. وهذا الوجه هو الأقوى في إثارة الحفيظة؛ لأن التسمية في حدِّ ذاتها لا تسبب إشكالا إذا كان مضمونها موافقًا للكتاب والسنة والإجماع، حسب تصورات أهل السنة أنفسهم. وهناك شواهد وافرة قدمها الإسلام منذ الوهلة الأولى. ولعل أول هذه الشواهد مصطلح [الصحبة والصحابة]، والصحابة مصطلح أطلق على كل من صحب الرسول صلوات الله وسلامه عليه مؤمنًا به، وبانتقاله إلى الرفيق الأعلى، لم يحز أحد بعد ذلك على شرف هذه التسمية، لكنها بقيت شاهدًا إلى يومنا علامة على الرجال والنساء الذين مارسوا فعل الصحبة أصل التسمية. بل إن الصحابة سموا بالمهاجرين والأنصار، وهاتان تسميتان أخريان، الأولى: أطلقت على الذين هاجروا من مكة إلى المدينة فرارًا بدينهم، والأخرى: الأنصار، وهم الذين استقبلوهم وقاسموهم حياتهم ونصروا نبي الله صلى الله عليه وسلم، حين جابهته قريش بالعداء، وكان الأنصار قبل ذلك يعرفون بأسماء قبائلهم، الأوس والخزرج. فإذا ما انتقلنا إلى عصر التابعين، وجدنا أن مصطلح [التابع] قد حدث، وأطلق على من عاصر نفرًا من الصحابة واقتفى آثار حياتهم الدينية والدنيوية. والعلاقة هنا بين الاسم والمسمى لا تحتاج إلى مزيد بيان. وكذلك يقال في بقية المصطلحات ذات الطابع السلوكي أو العلمي، كمصطلح [الزُّهد] أو [الزُّهَّاد] الذي أطلق على جماعة تنبذ الشئون الدنيوية وتقف جُلَّ وقتها على العبادة ابتغاء الفوز بنعيم الآخرة، والنجاة من عذاب النار، وهو مصطلح ذو طابع سلوكي. وهناك مصطلح [الفقيه] أو[الفقهاء] وهو مصطلح ذو طابع علمي، غلب إطلاقه على المشتغلين باستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها. وهكذا، نعثر على جملة من التسميات يتم التواطؤ عليها؛ انطلاقًا من طبيعة المعنى المراد التعبير عنه. بل إن بعض التسميات قامت على أساس من صفة اللباس. فقد ورد في قوله تعالى: {قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [المائدة : 112]. إن هذه التسمية مأخوذة من صفة البياض في اللباس، إذ كان أصحاب عيسى عليه السلام وناصروه يتميزون بلبس البياض(1). ولا شك أن كل من نصره بعد ذلك وإن لم يلبس البياض يندرج في زمرة الحواريين من جهة المعنى. فالتسمية بالحواري مشتقةٌ من صفة اللباس أصلا. على أن مضمونها يفيد التأييد والمؤازرة والنصرة للمسيح عليه السلام. ولا يخفى على أحد ما تضفيه سِـمَةُ البياض على هذه الصحبة من طهارة ونقاء. والقرآن نفسه لا يني يحدثنا عن أصناف عباد الله المؤمنين، مسميًّا كل زمرة منهم بتسميةٍ هي الغالبة على سلوك أشخاصها. فمنهم التوَّابون، والصابرون، والمحسنون، والساجدون، والراكعون، والذاكرون، والمتوكلون ... إلى غير ذلك من نعوت مستمدة من غلبة الصفة التي تقوم في العبد، ومن طريف ما قيل من شعر في ذكر هذه التسميات، قول السيد الحميري (ت 170 هـ) في مدح آل محمد صلى الله عليه وسلم (2) : أهل التقى وذوي النهى وأولي الـ *** على والناطقين عن الحديث المسند الصائمين القائمين القانتيـ *** ـن الفائقين بني الحجى والسؤدد الراكعين الساجدين الحامديـ *** ـن السابقين إلى صلاة المسجد الفاتقين الراتقين السائحيـ *** ـن العابدين إلاههم بتودد فلا مشاحة إذن من إطلاق التسميات على هذا النحو ما دامت مستفادة من الفعل، أو الشيء، أو بما اقترن بهما من مستلزمات، أو لواحق أخرى؛ كاللباس، والهيئة، والمكان، والزمان، وما شابه. ولنا في أهل الصُّفَةِ مثال على التسمية المكانية. وهو نعتٌ تَسمَّى به فقراء المهاجرين الذين لم يجدوا مأوى لهم، فلاذوا «بصفة» مسجد الرسول صلى الله عليه آلة وسلم ونسبوا إليها. وهنا نجد أنهم قد حازوا على شرف التسميات الثلاث، شرف الصحبة، وشرف الهجرة، وشرف الصفة، وانضووا تحت معاني المصطلحات الثلاثة. فإذا كان أمر التسميات لا مشاحة فيه، ما دام مضمونه لا يخالف كتابًا ولا سنةً، فلنا فيما تقدم أسوة في اعتبار مصطلح [التصوف]، واحدًا من المصطلحات التي شاع أمرها في أوائل القرن الثاني. ولنا عودة على تحديد هذه الفترة لاحقًا» (3). ونرى فيما نقل من هذا البحث لإزالة هذا الوهم. والله تعالى أعلى وأعلم. قائمة المصادر والمراجع : 1- صحيح البخاري، للإمام البخاري، دار ابن كثير. 2- الديوان، جمعه وحققه وشرحه شاكر هادي شكر، دار مكتبة الحياة – بيروت. 3- في أصل مصطلح التصوف ودلالاته [بحث]، أ.د أمين يوسف عودة، مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول 2003، مجلة تصدر عن المركز العلمي الصوفي بالعشيرة المحمدية – القاهرة. الهوامش : (1) ورد في صحيح البخاري أن الحواريين سموا كذلك لبياض ثيابهم «كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم». دار ابن كثير- دمشق، 1993. (2) الديوان، جمعه وحققه وشرحه: شاكر هادي شكر، دار مكتبة الحياة- بيروت، ص 187. (3) بحث أصل مصطلح التصوف ودلالته، للدكتور/ أمين يوسف عودة 97 : 100. |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 7 | |||
|
![]() السلام عليكم ورحمة الله وبركاته |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 8 | ||||
|
![]() اقتباس:
|
||||
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc