المقدمــة
*الفصل التمهيدي : ماهية جريمة تبييض الأموال
المبحث الأول : مفهوم جريمة تبييض الأموال
المطلب الأول : تعريف جريمة تبييض الأموال
المطلب الثاني : مصادر الأموال المبيضة
المبحث الثاني : آلية تبييض الأموال
المطلب الأول : أساليب تبييض الأموال
المطلب الثاني : مراحل تبييض الأموال
* الفصل الأول : الإطار القانوني لجريمة تبييض الأموال
المبحث الأول : التكييف القانوني لجريمة تبييض الأموال
المطلب الأول : إشكالية التكييف الجزائي لجريمة تبييض الأموال
المطلب الثاني : تمييز جريمة تبييض الأموال عن بعض الجرائم المتشابهة
المبحث الثاني : أركان جريمة تبييض الأموال
المطلب الأول : الركن الشرعي
المطلب الثاني : الركن المادي
المطلب الثالث : الركن المعنوي
* الفصل الثاني : مخاطر جريمة تبييض الأموال و مكافحتها
المبحث الأول : مخاطر جريمة تبييض الأموال
المطلب الأول : المخاطر الاقتصادية
المطلب الثاني : المخاطر الاجتماعية
المطلب الثالث : المخاطر السياسية
المبحث الثاني : مكافحة جريمة تبييض الأموال
المطلب الأول : مكافحة الجريمة على الصعيد الوطني
المطلب الثاني : مكافحة الجريمة على الصعيد العالمي
المطلب الثالث : عقبات المكافحة .
الخاتمــة
المقدمــــة
تعتبر ظاهرة تبييض الأمـوال ( blanchiment d’argent )أخطـر ظواهـر عصر الاقتصاد الرقمي باعتبار أنها التحدي الحقيقي أمام مؤسسات المـال والأعمـال وبالنظر لكونها ترتبط بأنشطة غير مشروعة وعمليات مشبوهة يتحقق منها دخول طائلة تؤثر سلبا على الاقتصاد المحلي والعالمي .
وتشمل عمليات تبييض الأموال مجمـوعة الأنشطة التي تتـم بعيدا عـن أجهزة الدولة القانونية ، ولا تسجل في حسابات الدخـل الوطني وهـذه الأنشطة تمثل مصدرا للأموال القذرة التي يحاول أصحابها تبييضها في مرحلة تالية وذلك بإجراء مجموعة من العمليات والتحويلات المالية والعينية على هذه الأموال لتغيير صفتـها غير المشروعـة
وإدخالها ضمن النظام الشرعي لإكسابها صفة مشروعة ، وبذلك تهدف عمليات تبييض الأموال إلى إخفاء مصادر أموال المجرمين وتحويلها بعد ذلك لتبدو كاستثمارات قانونية.
وإذا كانت جريـمة تبييض الأمـوال حديثة النشأة فإنها كظـاهرة لا تعتبر كذلك بحيث أن لفظ " غسل الأمـوال " " MONEY LAUNDERING " بـدأ مصطلحـا و ظاهرة إجرامية في الولايات الأمريكية في المدة ما بين 1920م إلى 1930 م ، حيث استخدم رجال الأمـن الأمريكيون لفظ "غسل الأموال " للدلالة على مـا كانت تقوم بـه عصابات المافيا من شراء للمشروعات و المحلات بـأموال قـذرة ذات مصدر غـير مشروع ، و مـن ثـم خلطها برؤوس أموال و أرباح مـن تلك المشروعات لإخفـاء مصدرها عن أعين الرقابة ، وهو ما قام به أحد أشهر قادة المافيا ( آل كابون) ، والذي أحيل عام 1931 على المحاكمة لكن ليس بتهمة تبييض الأموال غيـر المجرمة في ذلك الوقت وإنما بتهمة التهرب الضريبي .
و فـي الوقت ذاته تم استخدام لفظ " المـال القذر " "DIRTY MONEY " للدلالـة على تلك الأموال التـي يستوجب إخفـاء مصدرها غسـلا تفاديـا لانكشاف الجرائم و الأفعال المولدة لتلك الأموال .
و قد يكون من الصعب الجـزم بأن تبييض الأموال ، بوصفه جريمة بـدأ فـي الولايات الأمـريكية ، لكـن اليقين أن تبييض الأمـوال باعتباره ظـاهرة إجرامـية
– ارتبطت بالجريمـة المنظمة – بدأت فـي الولايـات المتحدة الأمريكية بعـد الحرب العالمية الأولى ، و تزايدت في النمو و التوسع منذ الكساد الاقتصادي العظيم في عهد الرئيس الأمريكي " فرانكلين روزفلت " حتى نهاية القرن العشرين .
و لكـن هـذه الظاهرة لـم تقتصر على الو.م.أ فقط ، إذ تشير أقدم المصـادر أن غسل الأموال خارج الو.م.أ بدأ خلال الحرب العالمية الثانية " 1939 – 1945 " فقد قامت الحكومة الأمريكية و من خلال وزارة الخزانة الأمريكية بعملية سميت"الموطـن الآمن " للبحث و حصر الأموال التي قامت المصارف السويسرية بغسلها لصالح النظام النازي الألماني ، و حينما وقعت الأدلة في أيـدي اللجنة المشكلة لذلك دعت الحكومـة الأمريكية العالم إلى عدم الاعتراف بالأموال المنهوبة و المسروقات التي استولى عليها الجيش الألماني في أوربا ، و طالبت بإعادتها لأصحابها الشرعيين .
وأشارت تقارير لاحقة أن جزءا من تلك الأموال المنهوبة كانت بأسماء أشخاص بارزين في النظامين النازي والفاشي ، وقد ظهر أن تلك الأمـوال تم تحويل جـزء منـها إلى حسابات شخصية في أمريكا اللاتينية ودول النظام الشيوعي سابقا ، حيث انقطعت الصلة تماما بين تلك الأموال ومصادرها غير المشروعة .
وقد بقت ظاهرة تبييض الأمـوال وإلى غاية سنة 1988 محـل اهتمام دولـي وإقليمي ووطني وهذا ضمن إطار البحث العلمي ورسم الخطط وبناء الإستراتيجيات من دون أن يصل إلى إطار دولي أو وطني واضح يجرم هذه الظاهرة ويوحد الجهود لمكافحتها.
ويمكن القول أن عام 1988 يمثل سنة الارتكاز بالنسبة للجهود الدولية في حـقل محاربة ظاهرة تبييض الأموال ، فخلال هذا العام وتحديدا في 19/12/1988 صـدرت اتفاقيـة الأمم المتحدة لمكافحة أنشطـة ترويج المخدرات ( اتفاقية فيينا) والتـي فتحت الأنظار على مخاطر أنشطـة تبييض الأموال المتحصلة من المخدرات وأثرها المدمـر على النظم الاقتصادية والاجتماعية للدول ، فهذه الاتفاقية وإن كانت لا تعـد مـن حيث محتواها خاصة بتبييض الأموال ، إذ هي في الأساس اتفاقية في حقل مكافحة المخدرات بيد أنها تناولت أنشطة غسيل الأموال المتحصلة من تجارة المخدرات ، باعتبار تجـارة المخدرات تمثل أكثر المصادر أهمية للأموال المبيضة .
وإلى جانب جهد الأمم المتحدة ، وبعد عام واحد تقريبا تأسس إطار دولي لمكافحة جرائم تبييض الأموال ( Financial action task force on money laundering - FATF )
والذي نشأ عن اجتماع الدول الصناعية السبعة الكبرى .
وقبل ذلك كانت اللجنة الدولية للنظام البنكي والممارسات الإشرافية وفي إطـار الجهـد المالي وعلى صعيد الهيئات المتخصصة قد أصدرت مبادئ إرشادية للحماية من جرائـم تبييض الأموال في ديسمبر 1988 عرفت باسم ( Basle Statement of Principles )
وقد سارع الاتحاد الأوروبي إلى إصدار الاتفاقية الأوروبية المتعلقة بإجـراءات التفتيش و الضبط الجرمي لتبييض الأموال وهذا خلال سنة 1990 ، وذلك لكون ظاهرة تبييض الأموال قد أصبحت مشكلة خطيرة في أوربا ،فقد اكتشفت أوربا أنها مرتع وبؤرة مالية عالمية لتبيض الأموال و إن عواصمها الكبـرى مثـل لندن و باريس و بروكسل و مدريد تتم فيها عمليات تبييض الأموال علنا و كأنها عمليات بيـع و شـراء عاديـة الأمر الذي فرض بالضرورة سن مجموعة من التشريعات الجديدة لوقف جميع أشكـال غسل الأموال ، و هو ما تم فعلا بحيث صارت العديد من التشريعات الداخلية تتضمـن نصوصا خاصة تجـرم و تعاقب نشـاط تبييض الأمـوال المتأتية مـن مصادر غيـر مشروعة.
و إذا كانت جهود الدول الأوربية و الصناعية لمكافحة تبييض الأموال جاءت في المقام الأول ضمن جهود مكافحة المخدرات بالأساس ، فإن الأمر يختلف بالنسبة للدول النامية بحيث أن عوائد أنشطة الفساد المالي و الوظيفي و التي أدت إلى خلق ثـروات باهضة غير مشروعة هي السبب الرئيسي لتجريم نشاط تبييض الأمـوال و محـاربته و هو ما يفسر لجوء العديد من هذه الدول إلى تجريم هذا النشاط .
و إذا كانت هذه الجريمة قد تفشت في الغـرب فإن طابعها الإجرامي التعاونـي جعلها جريمة منظمة تـقارفها منظمات إجرامية متخصصة ، و جريمة عابرة للحـدود بحيث أن مقترفيها أصبحوا يتربصون بالأسواق الناشئة في الدول النامـية و التي تسعى لفتح أسواقها أمام رأس المال الأجنبي مما بات يهدد اقتصاديات هذه الدول و هو ما يحتم عليها القيام بإجراءات للحيلولة دون تفشي هذه الظاهرة ، و هذا هو الهدف من اختيارنا لهذا الموضوع باعتبار أن بلادنا عرفت و ما زالت تعرف عدة نشـاطات إجرامية تدر أموالا باهضة و يحاول المتحصلون عليها إضفاء صفة الشرعية عليـها ، كما أن فتـح باب الاستثمار قد يكون مدخلا لنشاط مجموعات تسعى لنفس الغرض ، فهذه الظـاهرة تطرح إشكاليات عديدة أهمها :
تحديد مفهوم نشاط تبييض الأموال و الإطار القانوني لـه بوصفه جريمة بالإضافة إلى الأخطار التي يشكلها و سبل مكافحته ، و للإجابة على هـذه الإشكاليات اعتمدنـا في عرضنا منهجية نقدية مقارنة و هذا لاعتبارين أساسين :
الأول منطقي بالنظر إلى كون هذه الظاهرة ذات طـابع إجرامي منظم عابر للحدود و هو ما يحتم علينا دراستها ضمن مختلف التشريعات الداخلية و الاتفاقيات الدولية .
الثاني عملي يتمثل في كوننا قد باشرنا العمـل في هـذا البحث و نـص القانـون الجزائري المجرم لهذا النشاط لم يصدر بعد و هو ما أدى بنا للعمل في ضـوء باقـي التشريعات الداخلية لبعض الـدول بالإضافة إلى الاعتماد على نص المشروع الذي كان قيد الدراسة، و خـلال المراحل الأخيرة لإكمال بحثنا صدر القانون المجرم لهذا النشاط ممـا حدى بنا إلى إجراء تعديل جزئي عل البحث ليكون مواكبا و موافقا لما نص عليه القانون الجزائري .
كمـا أننا و للإجابة على الإشكاليـات السابقة قـد اعتمدنا ترتيبا منطقيا لعرضنا لجوانب جريمة تبييض الأموال بحيث بدأنا البحث بفصـل تمهيدي خصصناه لدراسـة تبييض الأموال كظاهرة و عنوناه بماهية جريمة تبييض الأموال و قد قسمنا هذا الفصل إلى مبحثين ، أثرنا في الأول مفهـوم الجريمة و مصدر الأمـوال التي تكون محلا لها و درسنا في الثاني آلية التبييض من حيث أساليبه و مراحله .
أما الفصل الأول فقد خصصناه لدراسة الإطار القانوني لهذه الجريمة ، و بدوره قسمناه إلى مبحثين ، تناولنا في المبحث الأول التكييف القانوني لهذه الجريمة و الإشكاليات التي يطرحها ، بينما تعرضنا في المبحث الثاني إلى أركان الجريمة .
و أخيرا تطرقنا في الفصل الثاني إلى مخاطر هذه الجريمة و إلى سبل مكافحتها و ذلك من خلال مبحثين ، تحدثنا في الأول عـن مخاطر جريمة التبييض و تناولنا في الثانـي أساليب مكافحتها و العقبات التي تحول دون ذلك، و على هذا تترتب فصول البحث على النحو الآتي :
الفصل التمهيدي : ماهية جريمة تبييض الأموال
تشكل الأموال عصب الاقتصاد الـذي يعتبر عماد الحياة المعاصرة و أحـد مقومات الأنظمة السياسية و الاجتماعية السائدة في العـالم ، و يقاس رقـي و تقـدم الشعوب برقي و تقـدم اقتصادها ، و قـد أصبح الاقتصاد نظاما عالميا ارتبطت بـه الأسرة الدولية بصورة عضوية ، فاصبح يشكل كيانا مترابطا تتفاعـل أجزاءه فتتأثر و تؤثر في المتغيرات التي تتجاذب العالم المعاصر .
و لاشك في أن سلامة الاقتصاد الوطني عامـل أساسي فـي استقرار الحيـاة السياسية و الاجتماعية ، إذ يوفر التوازن بين الإمكانات و الرغبات مما يعطي للسياسة مفهومـها الأصيل ، و هـو حسـب تعريف الفارابي فـي كتابه " السياسة المدنية " ، السياسة فـن إدارة المدينة و هـذا يؤكد ارتباط الأمن السياسي بالأمـن الاقتصـادي و ارتباط الاثنين بالأمن الاجتماعي .
و قد تأثرت حيـاة الفرد إلى درجة بعيدة بالتطور الاقتصـادي و الصناعي ، فتطور نهج حياته ، كما تطورت علاقاته الإنسانية ، فارضة أنماطا جديدة من السلوك و المواقف ، و قد اتصف بعضها بالأنانية و المادية المطلقة بحيث أصبح هاجس الربح سائدا بغض النظر عن المساوئ الناتجة عن العمليات المؤدية إليه أو الأصناف المنتجة و أصبح الإنسان اليوم يسيطر على قوى الطبيعة و تحويلها إلى خدمة مصالحه اليومية بصورة لم يعهدها من قبل .
و كانت قد برزت في القرنين السابقين مجموعات من أصحاب النفوذ المـالي بدت كعنصر فعـال على الصعيدين المحلي و الدولي بإمكانها شـراء ضمائـر بعض ممثلي الدول و بيعها في مصـالح اقتصادية محضة و يتجلى ذلك في بعض الفضائـح التي تحدثت عنها الصحف و تداولتها وسائل الإعلام حـول الصفقات التجارية غيـر المشروعة بيـن بعض الشركات و بعض الأفـراد الذيـن يمثلون الإطارات السـامية و النافذة في تلك الدول . و تشكل هذه الممارسات دليلا واضحا على مـا وصل إليـه التنافس الاقتصادي و المادي و الأساليب الملتوية التي تستعمل للوصول على غايـات معينة بغـض النظر عـن أخلاقيات التعامل و مصلحة الأفراد و الدول و الأنظمـة الاقتصادية التي تتبعها، فعندما تبلغ قيمـة صفقة واحدة مـن الأسلحة و الطائرات أو المخذرات عـدة مليارات مـن الدولارات و عندما تقرع نسبة معينة من هذا المبلـغ أبواب أصحاب القرار فكـم مـن الضمانة الأخلاقية الصلبة يجـب أن تتوافـر فـي هـؤلاء حتى لا تمتد أيديـهم لاستلام تلك النسب الـواردة غالبا مـن الأموال غيـر المشروعة؟
و تعتبر تبييض الأموال أو غسيل الأموال أو الجريمة البيضاء مـن التعبيرات التي تداولت مؤخرا في كافة المحافل المحلية و الإقليمية و الدولية لذلك و حتى تتضح معالم هذا الموضوع رأينا أن نتناول في هـذا الفصل التمهيدي تعريف جريمة تبييض الأموال و تبيان مصدر الأموال المبيضة في مبحث أول ، ثـم التطرق إلى آلية تبييض الأموال في مبحث ثان .
المبحث الأول : مفهوم جريمة تبييض الأموال .
سنتطرق في هذا المبحث بداية إلى تعريف جريمة تبييض الأموال و هـذا في المطلب الأول ، ثم ننتقل لتبيان أهم مصادر الأموال المبيضة لما لها من ارتباط وثيق بالتعاريف المختلفة لهذه الجريمة و ذلك في المطلب الثاني .
المطلب الأول : تعريف جريمة تبييض الأموال:
تنوعت التعاريف التي قيلت في جريمة تبييض الأموال منهـا التعاريف الفقهية و التشريعية و الدولية و سنتطرق لهذه التعاريف و موقف المشرع الجزائري منهـا تبعا للنقاط التالية :
1 - التعريف الفقهي لجريمة تبييض الأموال
2- التعاريف الدولية لجريمة تبييض الأموال
3- التعاريف التشريعية لجريمة تبييض الأموال ( موقف المشرع الجزائري )
1 /التعريف الفقهي لجريمة تبييض الأموال :
لم يتوصل فقهاء الفانون الجنائي إلى تعريف جامع مانع لهذه الجريمة نظـرا لحداثتها و سرعة تطورها الـذي يساير تطـور التكنولوجيا الحديثة حيث أن كـل المحـاولات الرامية إلى إيجاد تعريف خاص لهـا فضفاضة في محتواهـا ، ذلـك لكثـرة الأسـاليب المستعملة في ارتكابها فقد يتمايز تعريف جريمة تبييض الأموال من حيث موضعـها و غايتها و طبيعة هذه الظاهرة الجريمة .
*من حيث موضعها : تبييض الأموال هو فن توظيف الوسائل المشروعة في ذاتها من مصرفية خصوصا و اقتصادية على وجـه العمـوم لتأمين حصـاد و إخفـاء المحصلات غير المشرعة لإحدى الجرائم .
*من حيث غايتها : تستهدف ضـخ الأمـوال غيـر النظيفة ( كأمـوال التجـارة بالمخذرات و السرقات الكبرى و سرقة الأعمال الفنية و الإيجار غـير المشروع في الأسلحة و التجارة في الرقيق عبر مختلف شبكاته ...إلخ ) (1).
و ذلك داخل حيز الأنشطة الاقتصادية و الاستثمارية المشـروعة سواء على المستوى الوطني أو العالمي على نحو يكسها صفة المشروعية في نهاية المطاف و هكذا تتخلص الأموال من مصدرها الأصلي غيـر النظيف و تنحدر بذلك من جديد وسط اقتصـاد طبيعي مشروع .
*أما من حيث طبيعتها : لعل أهم ما يميز هذه الجريمة أنها جريمة تبعية من ناحية و قابلة للتداول من ناحية أخرى .
1- فمن ناحية أنها جريمة تبعية : تفترض وقوع جريمة أصلية سابقة و ينصب نشـاط تبييض الأموال بالتالي على الأموال أو المحصلات الناتجة عن هذه الجريمة الأصلـية
2- أما من ناحية قابليتها للتدويل : هو وقوع الجريمة الأم على إقليم دولة ما ، بينـما يتوزع نشاط تبييض الأموال على إقليم دولة أخرى و هكذا تتبعثـر الأركان المكـونة للجريمة عبر الحدود(2) و هو الأمر الذي يصعب من الملاحقة الجنائية لا سيما مـع ما يثيره ذلك من مشاكل جمة في مجالي الاختصاص و مدى الاعتراف بحجية الأحكـام الجنائية الصادرة في موطن الجريمة الأم .
*و تعرف أيضا جريمة تبييض الأموال على أنها عبـارة عن عملية يلجأ إليـها مـن يتعاطى الاتجار غير المشروع بالمخدرات لإخفاء وجود دخل أو لإخفاء مصدره غير المشروع أو استخدام الدخل في وجه غير مشروع ، ثم يقوم بتمويه ذلك الدخل ليجعله
يبدو و كأنه دخـل مشروع(3) أي بعبـارة أبسط التصرف فـي النقود بطريقة تخفـي
مصدرها و أصلها الحقيقين .
* و في الواقع أن كلمة تبييض الأموال و غسيل الأموال حسب فقهاء القانـون يلتقيان في دلالة مفهومها و يختلفان في المصطلح فقط إذ كلاهما يعني استخدام حيل و وسائل و أساليب للتصرف في أموال مكتسبة بطريقة غير مشروعة و غير قانونية لإضفـاء الشرعية و القانونية عليها و هـذا يشمل الأموال المكتسبة مـن الرشوة و الاختلاسات و الغش التجاري و تزوير النقود و مكافآت أنشطة الجوسسة .
* هذه الظاهرة الخبيثة هي و لا شك إحدى ثمـار العولمة الاقتصادية التي يروج لـها الغرب ، فاصطلاح غسيل الأموال و تبييض الأموال اصطلاح عصري و هـو بديـل للاقتصاد الخفي أو الاقتصاديات السوداء أو اقتصاديات الظل و هو كسب الأموال مـن مصادر غيـر شرعية و أحيانا يتـم خلط هـذه الأموال الحرام بأموال أخـرى حلال و استثمارها في أنشطة مباحة شرعا و قانونا لإخفاء مصدرها الحرام و الخروج مـن المساءلة القانونية بعد تضليل الجهات الأمنية و الرقابية .
* فمن الأساليب التي يجري على أساسها غسيل هذه الأموال غير المشروعة التي يتم تحصيلها مـن عمليـات السرقة و تسهيل الدعـارة و الرشـوة و تهريب المخذرات و تهريب البشر و المتاجرة بالأطفال و نوادي القمار أن يكـون أصحاب الأموال غير المشروعة هذه بإيداعها في بنـوك أو تحويلها بيـن البنوك لدمجـها مـع الأمـوال المشروعة و إخفاء مصادرها الأصلية ، و قد يتم تحويل هـذه الأمـوال من البنـوك الداخلية إلى البنوك العالمية لها فروع كبيرة في العالم ثم تقوم البنوك الخارجية نفسهـا بعملية تحويل أخرى للأموال عبر فروعها المختلفة و بعد ذلك يقـوم أصحابها بسحب أموالهم من البنوك لشراء الأراضي ، أو المساهمة في شركات عابرة للقارات .
* ويعرفها الأستاذ : جيفري روبنسون بأنها ّّ: " يعـد تبييض الأموال بالدرجة الأولى مسألة فنية ، أي أنها عملية تحايل يتم من خلالها تحصيل ثروات طائلة كما أنها تعـد
القـوة الحيوية لمهربي المخدرات والنصابين ومحتجزي الرهائن ومهربي الأسلـحة وسالبي الأموال بالقوة وباقي المجرمين من هذا القبيل(1) .
خلاصة :
من خلال ما تقدم نستنج أن هناك تعريفان بحسب وجهة نظر الفقهاء لجريمـة تبييض الأموال تعريف واسع وتعريف ضيق .
أولا: التعريف الضيق : يقتصر التعريف الضيق للتبييض على الأموال غير المشروعة الناتجة عن تجارة المخدرات ومن بيـن المنظمات والدول التي أخذت بهـذا التعريف اتفاقية فيينا عام 1988 – قانـون المخدرات والمؤثرات العقلـية اللبناني – التوصـية الصادرة عن مجلس المجموعة الأوروبية عام 1991 .
ثانيا : التعريف الواسع : فيشمـل جميع الأموال القذرة الناتجة عن جمـيع الجرائـم والأعمال غير المشروعة ليس فقط تلك الناتجة عن تجارة المخدرات .
ومن التشريعات التي اعتمدت هذا التعريف القانون الأمريكي لعـام 1986 وإعـلان المبادئ الخاص لمنع استعمال القطاع المصرفي لتبييض الأموال ولجنة بازل (Pasle) في كانون الأول عام 1988 .
* وهذا التعريف الأخير هو التعريف الأرجح والذي يجب أن يكون لتبيض الأموال إذ أنه يعني بتبييض الأموال "(2) كل فعل يقصد به تمويه أو إخفاء مصدر الأموال الناتجة بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن ارتكاب إحدى الجرائم المذكورة سلفا" .
2/ التعاريف على ضوء الاتفاقيات الدولية :
إن اصطلاح غسيل الأموال يرجع من حيث مصدره إلى عصابات المافيا حيث كان يتوفر بيد هذه العصابات أموال نقدية طائلة ناجمة عن الأنشطة غير المشـروعة وفي مقدمتها المخدرات والقمار والأنشطة الإباحية والابتزاز وغيرها ، وقـد احتاجت هذه العصابات أن تضفي المشروعية على مصادر أموالها عوضا عـن الحاجـة إلى حـل مشكلة توفر النقد بين يديها ومشكلة عدم القدرة على حفظها داخل البنوك ، وكان أبرز الطرق لتحقيق هذا الهدف شراء الموجودات وإنشاء المشاريع وهو ما قام به أحد أشهر قادة المافيا ( آل كابون) وقد أحيل ( آل كابون ) عام 1931 إلى المحاكمة لكـن لـيس بتهمـة غـسيل الأموال غيـر المعروفة في ذلك الوقت وإنمـا بتهمة التهرب الضريبي ، وقد أخذ الحديث مداه عن المصادر غير المشروعة لهـذه الأموال في تلك المحاكمة خاصـة عنـد إدانة ( ميرلانسكي ) لقيامـه بالبحث عـن وسائل لإخفـاء الأمـوال باعتباره المحاسب والمصرفي العامل مـع آل كابون ولعـل مـا قـام بـه ( ميرلانسكي ) في ذلك الوقـت وفي بدايات تطور الصناعة المصرفية يمثل أحد أبرز وسائل غسيل الأموال فيما بعد وهـي الاعتماد على تحويل نقـود إلى مصارف أجنبية وإعادة الحصول عليها عـن طـريق القروض .
- وقد عاد مصطلح ( تبييض الأموال ) للظهور مجـددا على صفحات الجرائد إبـان فضيحة ( ووترجيت ) عـام 1973 . فـي أمريكا، ومـنذ ذلك الوقت جرى شيـوع الاصطلاح للدلالة على أنشطة إسباغ المشروعية على الأموال القذرة المتحصلة مـن مصادر غير مشروعة عن طريق إدخالها ضمن دائرة الأموال المشروعة في عمليـة تتخذ مراحل متعددة وأشكال مختلفة تؤدي بالنتيجة إلى إظهار المال وكأنه له مصدرا مشروعا .
* وقد عرفتها المادة 03 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية التي اعتمدها المؤتمر السادس في جلسته العامـة المنعقدة في فيينا بتاريخ 19 ديسمبر 1988 ، حيث جرمت الأعمال التي من شأنها تحويل الأمـوال أو نقلها مع العلم بأنها مستمدة من أية جريمة من جرائم المخدرات أو من فعل من أفعال الاشتراك في مثل هـذه الجريمة أو الجرائم بهـدف إخفاء أو تمويه المصـدر غـير المشروع للأموال قـصد مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب هـذه الجريمة على الإفلات من العواقب القانونية .
* كما عرفتها التوصية الصادرة عن مجلس اتحاد المجموعة الأوروبية في
10 حزيران 1991 بأنها كل العمليات المتعلقة بالمخدرات والمأخوذة عـن اتفاقية فيينا 1988 .
* وعرف إعلان المبادئ الخاص لمنع استعمال القطاع المصرفي تبييض الأموال والموضوع في بازل (Pasle) في كانـون الأول 1988 عـرف فـي مقدمته تبييض الأموال بأنه جميع العمليات المصرفية التي تهدف إلى إخفاء المصدر الجرمي للأموال
* أما فريق العمل المالي (CAFI ) وهـو جـهاز تابع لمنظمة التعـاون والتنمـية الاقتصادية في الأمم المتحدة مكلف بالتنسيق الدولي في شأن مكافحة تبييض الأمـوال
اعتمد تعريفا واسعا فشمل أنواعا أخرى من المال المبيض المتأتي عن الاتجار بالسلاح والتهرب من الضرائب والجمارك ...إلخ .
* ويعد تعريف دليل اللجنة الأوروبية لتبييض الأموال الصادر لعام 1990 الأكثر شمولا(1) وتحديدا العناصر تبييض الأموال من بين التعريفات التي تضمنتها عدد مـن الوثائق الدولية والتشريعات الـوطنية ، ووفقا للدليـل المذكور فإن تبييض الأمـوال
" عملية تحويل الأموال المتحصلة من أنشطة جرمية تهدف إخفاء أو انكسار المصدر غير الشرعي و المحضور لهذه الأموال أو مساعدة أي شخص ارتكب جرما ليتجنب المسؤولية القانونية عن الاحتفاظ بمتحصلات هذا الجرم"(2)
و عملية الإخفاء أو الإنكـار تمتد لحقيقة أو مصدر أو موقع أو حـركة أو ترتيبات أو طبيعة الحقوق المتحصلة من هذه الأموال أو ملكيتها مع توافر العلم أن هـذه الأمـوال متحصلة من جريمة جنائية ووفقا لهذا التعريف فإن تبييض الأموال بالمعنى البسيط هو إظهار المال الناتج عن جرائم جنائية كترويج المخدرات والإرهاب أو الفساد أو غيرها بصورة أموال لها مصدر قانوني ومشروع .
3/ التعاريف التشريعية ( موقف المشرع الجزائري ) :
يمكن القول أن نشاط تبييض الأموال واستخدام عائدات الجرائم أضحى شـكل جريمة مستقلة لا تختلط بغيرها من الأوصاف الجنائية الأخرى أو على الأقل لا تلتبس معها ، وقد استجابت معظم الدول إلى تجريم هذا الفعل في تشريعاتها الداخليـة وفقـا لمـا تنص عليه اتفاقية الأمم المتحدة فينا عام 1988 ، وكذا اتفاقيـة مجلس أوربا في ستراسبورغ عام 1990 ، لأنهما حجر الزاوية في هـذا الخصوص ، وصارت العديد من التشريعات تتضمن نصوصا خـاصة تعرف هـذه الجريمة وتعاقب فاعليها وكانت من بين الدول السباقة إلى تعريف هـذه الجريمة في قوانينها الداخلية فرنسا ، الولايات المتحدة الأمريكية و ألمانيا.
وسنحاول في مـا يلي التطرق إلى كل تعريف مـن هـذه التعاريف على حدى وفي النهاية سنعرج على موقف المشرع الجزائري من هذه الظاهرة .
المشرع الفرنسي :
نص المشرع الفرنسي على جريمة تبييض الأموال في المادة 324 فقرة 1 و2 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد المضافة إلى قانون 96/392 الصادر في 13 ماي 1996 بقوله : " تبييض الأموال هو تسهيل التبرير الكاذب بـأي طريقة كانت لمصدر أموال أو دخول لفاعل جناية أو جنحة تحصل منها فائدة مباشرة أو غير مباشرة .
- ويعتبر أيضا من قبيل تبييض الأمـوال وفقا للفقرة 02 من المادة 324 ق ع ف .
" تقديم المساعدة في عمليات إيداع أو إخفاء أو تحويل العائد المباشر أو غير المباشر لجناية أو جنحة " .
- ويستخلص مـن نص المادة 324 / 1 و 2 من ق ع ف الجـديد مظهران للسلوك المكون لتبيض الأموال واستخدام عائدات الجرائم هما :
1- تمويه المصدر ( مصدر الأموال )
2- المساعدة في عمليات إيداع أو إخفاء أو تحويل متحصلات جناية أو جنحة.
* وبذلك يكون المشرع الفرنسي قد وسع مكافحة تبييض الأموال ليشمل كافة الجرائم دون حصرها بأموال المخدرات ( أخذا بالتعريف الفقهي الواسع ) .
* المشرع السويسري
أدخل المشرع السويسري لأول مرة في قانـون العقوبات المعـدل فـي سـنة 1990 مفهوما لجريمة تبييض الأموال في نص المادة 305 التي اعتبرت " كل عمـل إرادي من شأنه أن يعرقل تحديد مصدر أو اكتشاف أو مصادرة أمـوال مبيضة يعاقب علـيه بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات وبغرامة مالية تصل إلى أربعين ألف حتى مليون فرنك سويسري ، كما اعتبر قانون العقوبات السويسري بأن الموظف الذي يعلن السلطات المختصة لا يمكن ملاحقته ، ثم أصدرت سويسرا قانونا يمنع تبييض الأموال الملوثة بتاريخ 01/08/1990 .
* المشرع الألماني :
أعتـبر قانـون العقوبات الألماني المعدل في 1993 عمليات تبييض الأمـوال جريمة يعاقب عليها القانون وقد عرفها في المادة 261 من قانون العقوبات : " هي كل من يخفي أو يطمس أثرا أو يمنع أو يعيق الكشف عن أصل أو موقع يتسبب في إيجاد الموقع أو المصادرة أو وضع اليد أو القبض على ممتلكات ناتجة عـن جريمة خطيرة اقترفها شخص عضـو في منظمة إجرامية وتطبق نفس القواعد عـلى الشركاء فـي الجريمة وإذا قام المخالف بعملية تجارية مـع عضو في هـذه العصابة بهدف تحصيل عمولة مستثمرة من عمليات تبييض الأموال يعاقب وفقا للقانون وأوجب كذلك مصادرة الأموال أو الممتلكات الناتجة عن عمل إجرامي يتعلق بتبييض الأموال سواء كانت هذه الممتلكات داخل أو خارج البلاد .
- وبذلك يكون أيضا المشرع الألماني قد أخذ بالتعريف الفقهي الواسع متأثرا بما ذهب إليه المشرع الفرنسي .
* المشرع الأمريكي :
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من أكثر الدول في العالم تضررا من ظاهرة تبييض الأموال ، بحيث أن هناك اتفاق عالمي بأن التقدير الحالي للمبالغ الملوثة يقـدر في الولايات المتحدة وحدها 300 بليون دولار أي 35% من الأمـوال القذرة بفعـل جريمة تبييض الأموال في الـعالم ،لذلك لجأ المشرع الأمريكي إلى تجريمها مبكرا في سـنة 1986 أي حتى قبـل ظهـور اتفاقية فيينا ، وقـد عرفـها القانـون الأمريكي
لسنة 1986 في إحدى مواده بأنهـا " كل عمل يهدف إلى إخفـاء طبيعة أو مصـدر الأمـوال الناتجة عن النشاطات الجرمية (1) أخذا بذلك بالتعريف الفقهي الواسع لهـذه الجريمة .
* المشرع الأسترالي :
تعتبر أستراليا من بين أبـرز الدول وأكثرها فعالية فـي تبني نظاما لمكافحة تبييض الأموال ،وقد جاء أول نص قانوني في أستراليا يعرف تبييض الأموال في جزر سيشل ، حيث عرفت هذه الجزر تبييض الأموال بأنه " كل من يخفي الأصـل الحقيقي لأمواله التي حصل عليها بطريقة غير شرعية " .
*مشرع الإمارات العربية المتحدة:
بدأت وزارة الداخلية الإماراتية منذ عام 1995 بالتنبه إلى خطـورة عمليـات تبييض الأموال فشكلت لجنة وزارية لدراسة وتجريم هذه الظاهرة ، وقد عرف مشروع قانون العقوبات الإماراتي الجديد تبييض الأموال بأنها : "عمليات تغيير الصفة الأصلية لهذه الأموال وصعوبة معرفة مصادرها وتعقبها مـن الجهات الأمنية ثم إعادة الأموال إلى مصدرها الأصلي مرة أخـرى لتبدو و كأنها مشروعة ".
* المشرع الكويتي :
ربما لا يوجد في دولة الكويت تشريع عام يجرم تبييض الأموال ولكـن هناك نموذج لتشريع رقابي على نشاط العمولات التي تتـم في إطار العمليات العقدية مـع الدولة ، وقد أبرز القانون رقم 52 لعام 1996 بأن الكشف عن العمولات التي تقدم في العقود التي تبرمها الدولة ، حيث تكون قيمة العـقد 100 ألف دينار أو أكثر و نـص القانون على تضمين العقد نصا يبين ما إذا كان المتعاقد قد دفع عمولة نقدية أو عينيـة أي منفعة أخرى لوسيط ظاهر أو مستتر ، ففي هذه الحالة يجب أن يكون المتعاقد مع الدولة وكيلا معتمد بالكويت .
و منه فإن المشرع الكويتي لا زال لا يفرق بين جريمة تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج و جريمة تبييض الأموال كجريمة مستقلة .
*المشرع اللبناني :
إن موقع لبنان كمركز مصرفي و مالي ذا بعد إقليمي بالإضافة إلى قطاعـه المـالي الناشط و انفتاحه الدولي هـو مـن الأسباب التي دفعته إلى الاهتمام بمكافحة تبييض الأموال على نطاق واسع ، و قد تناول قانـون المخذرات و المؤثرات العقلية و السلائف القانون رقم 273 /98 و لأول مرة عبارة تبييض الأموال في المادة 2 من نفس القانون معتبرا أن تبييض الأموال هـو :" إخفاء و تمويه المصدر غير المشروع للأمـوال المنقولة أو المـوارد الناتجة عـن جرائم المخذرات و المؤثرات العقليـة و السلائف ".
و منه فإن المشرع اللبناني و على خلاف باقي التشريعات قـد أخـذ بالتعريف الضيق لجريمة تبييض الأموال ، إلا أنه ما لبث أن تراجع مؤخرا و غير موقفه و ذلك بإصداره قانون مستقل لمكافحة تبييض الأمـوال(1) في 20 نيسان 2001 ، إلا أنـه و بالرجوع إلى هذا القانون نجد المشرع اللبناني و على خلاف باقي التشريعات الأخرى حـدد في المادة الأولى مـن التعديل المذكور مفهوما للأموال القذرة : " بأنها الأموال الناتجة عن ستة جرائم فقط و هي : المخذرات ، الإرهاب ، جمعيات الأشرار ، السرقة و تزوير العملة .
* المشرع المصري :
تعتبر مصر من الدول المتحمسة لمكافحة تبييض الأموال ، و قـد وقـعت على اتفاقيتين دوليتين لمكافحة تبييض الأمـوال : اتفاق الأمـم المتحـدة ( فيينا ) 1988 م و الاتفاق العربي ( تونس 1994 ) .
و قد انتهت الحكومة المصرية من إعداد مشروع قانون مكافحة غسيل الأموال و يتألف من 30 مادة و تمت مناقشته في شعبة القطاع المـالي و السياسات النقدية كـما ناقشه المجلس الشوري .
و فيما يلي أهم ما تضمنه مشروع قانون مكافحة غسيل الأمـوال : حيث عرف المشروع في مادته الأولى الأموال : بأنها جميع الأشياء ذات القيمة سواءا كانت منقولة أو عقارية أو كـانت مـن العملات الوطنية أو الأجنبية أو الأوراق المـالية بجميع
أنواعها ، و كذلك الحقـوق المتعلقة بهــذه الأمـوال شخصية كـانت أو عينيــة و الصكوك و السندات المثبتة لكل ذلك .
و حسب منظور هـذا المشروع : تبييض الأموال : " بأنـه كـل سلوك ينطوي على اكتساب مال أو حيازته أو التصرف فيه أو تحويله إذا كان متحصلا على الجريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة رقم 2 متى كان القصد مـن هـذا السلوك إخفاء أو تمويه مصدر الأمـوال أو تغيير حقيقته أو الحيـلولة دون اكتشاف ذلك أو عرقلة التوصل إلى شخص من ارتكب الجريمة المتحصل منها المال .
أما المتحصلات : فهي جميع الأموال العائدة و الناتجة بطريق مباشر أو غير مباشر من ارتكاب أي جريمة من الجرائم المشار إليها سلفا(1) .
*المشرع العربي السعودي :
جاءت موافقة مجلس الوزراء على مشروع نظام مكافحة غسيل الأموال فـي جلسته التي عقدها في 2004 هذا العام برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز الذي رفـعه معالي الدكتور إبراهيم العساف وزير المـالية لنظر في قرار المجلس الشوري حول المشروع ، ليضع المملكة في مقدمة الدول التي اتخذت خطوات مهمة في مكافحة غسيل الأموال .
و قد جاء في أبرز مواد هذا النظام الـذي سيصدر سمو وزير الداخلية بالاتفاق مـع وزير المالية اللائحة التنفيذية لهذا النظام خلال تسعين يومـا من يـوم المصادقة عليه
و قد جـاء في المادة الأولى مـنه " غسيل الأموال هـو إجراء أي عملية لأمـوال أو متحصلات مع علم الفاعل بأنها ناتجة عن نشاط إجرامي أو مصدر غـير مشروع أو غير نظامي و كذلك تمويل الإرهاب و الأعمال الإرهابية و المنظمات الإرهابية "
*المشرع الجزائري :
تماشيا مع المخطط الإستعجالي الذي بادرت به وزارة العدل سنة 2001 و تجسيدا للتوصيات المنبثقة عن اللجنة الوطنية لإصلاح العدالة المتعلقة بضرورة إعادة النظر في مجمل النصوص القانونية لهذا القطاع ، و قصد جعل قانون العقوبات يساير التحولات الاقتصادية و السياسيـة و الاجتماعية التي تعرفهـا بلادنا و قصد التكفـل بالأشكال الجديدة للإجرام التي تهدد الأمن الفردي و الجماعي ، و كذا من أجل جعـل القانون الوطني يتجانس مع المعايير الدولية و الإلتزامات الاتفاقية لبلادنا ، و تبعا لذلك تم ظهور أول نص قانوني(1) يتكلم عن تبييض الأموال في الجزائر ، و عند تفحصنـا لهذا النص القانوني نجد أن المشرع الجزائري قد نهج منهج التشريعات الدولية السابقة في الأخذ بالتعريف الفقهي الواسع لجريمة تبييض الأموال ، حيث عرفتها المادة 389 مكرر و الذي جاء بها القانون رقم 04 –15 المؤرخ في 27 رمضان 1425 هـ الموافق 10 نوفمبر 2004 المعدل و المتمم للأمر 66/156 المتضمن قانون العقوبات بما يلي:
- يعتبر تبييضا للأموال :
أ- تحويل الممتلكات أو نقلها مع عـلم الفاعل بأنـها عائدات إجرامية بغرض إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع لتلك الممتلكات أو مساعدة أي شخص متورط فـي ارتكاب الجريمة الأصلية التي تأتت منها هـذه الممتلكات على الإفلات مـن الآثـار القانونية لفعلته.
ب- إخـفاء أو تمويه الطبيعة الحقيقية للممتلكات أو مصدرها أو مكـانها أو كيفيـة التصرف فيها أو حركتها أو الحقوق المتعلقة بها مع العلم بأنها من عائدات إجراميـة
ج- اكتساب الممتلكات أو حيازتها أو استخدامها مع عـلم الشخص القائم بذلك وقت تلقيها بأنها تشكل عائدات إجرامية .
د- المشاركة في ارتكاب أي من الجرائم المقررة وفقا لهذه المادة أو التواطؤ أو التآمر على ارتكابها و محاولة ارتكابها و المساعدة و التحريض على ذلك و تسهيله و إسداء المشورة بشأنه .
و سنتطرق إلى مناقشة هذا القانون بطريقة مفصلة في حينه(1) .
المطلب الثاني :مصادر الأموال المبيضة :
للأموال المبيضة عدة مصادر يصعب حصرها في إطار أو عدد معين ، وقـد جاء في تقرير غافي GAFI الثامن أن أهم مصادر المداخيل غير المشروعة هي :
- تهريب المخدرات – الجرائم المالية ( الغش المصرفي الاستعمال الإحتيالي لبطاقات الائتمان أو الدفع ، الإفلاس الإحتيالي ، الاختلاس ، تهريب الكحول والتبغ المرابـاة الميسر ، الدعارة .
- تهريب السلاح – الخطف – سرقة السيارات
و ذهب المشرع اللبناني إلى تحديد مصادر الأموال المبيضة و اعتبر أن القصـد بالأموال غير المشروعة – المعنية بجريمة تبييض الأموال – الأموال كافة الناتجة عن ارتكاب إحدى الجرائم الآتية :
- زراعة المخدرات أو تصنيعها أو الاتجار بها .
- الأفعال التي تقدم عليها جمعيات الأشرار و المعتبرة دوليا جرائم منظمة .
- الجرائم الإرهابية .
- الاتجار غير المشروع بالأسلحة .
- جرائم السرقة أو اختلاس الأموال العامة أو الخاصة أو الإستلاء عليها بوسائل احتيالية و المعاقب عليها بعقوبة جنائية .
- تزوير العملة .
و إذا كانت اتفاقية فيينا قد حصرت مصدر الأموال المبيضة في عائـدات المخدرات
فقط ، فإن المشرع الجزائري و على غرار معظم التشريعات الداخلية للدول لم يحصر مصادر الأموال المبيضة ، و اكتفى باعتبار كل العائدات الناتجة عن نشاط إجرامـي مصدرا لهذه الجريمة .
ويمكن بدورنا و على سبيل الشرح أن نعدد أهم النشاطات الإجرامية التي تعتبر عائداتها مصدرا من مصادر الأموال المبيضة في ما يلي :
1- تجارة المخدرات والمؤثرات العقلية :
نظرا للمردود الضخم للأموال التي تدرها تجارة المخدرات(1) فإنها تعتبر أهم مصدر من مصادر الأموال المبيضة ، وتعد أشهر عملية من عمليات تبييض الأموال والتي تتعلق بتجارة المخدرات تلك التي قام بها رئيس بانما PANAMA المخلوع نورييغا ، حين سمح لعصابات المخدرات الدولية في مدينة مادلين الكولومبية باستخدام بانما كمحطة عبور لتجارة المخدرات ، مقابل الحصول على مبالغ مالية طائلة ، يتـم إيداعها في البنوك العالمية لإجراء عمليات الغسيل لـها، وقـد سـاهم بنك الاعتـماد والتجارة الدولية قي مدينة فلوريدا الأمريكية في تسهيل إيداع أموال المخدرات المنقولة من كولومبيا إلى أمريكا، وبواسطة فروعه المتعددة يقوم بتحويل الأموال إلى كولومبيا فتدخل مجددا إلى البلاد بصورة قانونية .
أما بالنسبة لحجم الأمـوال المتداولة في سـوق المتاجرة غـير المشروعـة بالمخدرات، فقد اختلفت التقديرات الرسمـية وتفاوتت في تحديدها ، رغـم أن كـل المؤشرات تدل وبكل وضوح أن حجم هـذه الأموال في تصاعد مستمر ، فقـد أشار تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الأمريكي سنة 1992 أن حجم عملية تبييض الأموال بلغ مائة مليار دولار سنويا يتم تحويله إلى أموال مشروعة ، وقد ورد في نشرة الأمم المتحدة سنة 1998 في مقال بعنوان " غسل الأموال "(1) أن الخبراء يرون أن الاتجار غير المشروع في المخدرات يدر سنويا ما يبلغ 400 مليار دولار، أي ما يقارب نحـو عشرة أضعاف القيمة الإجمالية لمبالغ المساعدات التنموية الرسمية كافة.
وقد ورد في النشرة نفسها تقديرات صندوق النقد الدوليFMI والتـي أحصت حجم الأموال التي يتم غسلها بما يتراوح بيـن 2 % إلى 5% مـن إجمـالي النـاتج المحلي العالمي ، وعـدت جريمة تبييض الأموال مـن أخطر المشكلات التي تواجـه الاقتصاد العالمي .
وتقدر قيـمة المخدرات المتداولة في السـوق المصـري بحوالي( 03) ثلاثـة مليارات جنيه سنويا ، تحاول مصر من خلال اٌٌُلإدارة العامة لمكافحة المخدرات بوزارة الداخلية مصادرة أموال وممتلكات كبار مهربي المخدرات ،وذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بحيث يتم اقتسام الأموال بين الدول الثلاث وتقـدر قيمة هذه الأموال بنحو 7.5 مليون دولار ، وذلك في إطار الاتفاقيات الدولية لتعزيز التعاون في تجريد تجار المخدرات من أموالهم ومصادرتها خاصة وأن 70% مـن الأمـوال المستخدمة في تجارة المخدرات تتعرض لتبييض الأموال (2) .
وقـد أعلن رالف لانيدر Ralf Lainder وهـو خبير عالمي فـي مكافحـة الممارسات المصرفيـة غـير المشروعـة ، أن تهريب المخدرات يساهم في حـدوث عمليات تبييض أموال قيمتها 125 مليار دولار على مستوى العالم ، تمثل 25% مـن قيمة إجمالي عمليات تبييض الأموال المرتبطة بالمخدرات فقـط البـالغة 500 ملـيار دولار سنويا .
وبذلك فإن الانتشار العالمي لتعاطي المخدرات المحظورة تعد ظاهرة خطـيرة ذلك من منطلق إحصائيات مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة التي تشير إلى ازدياد في عدد المدمنين على تعاطي المخدرات ( الكوكايين ، الأمفيتامينات وان غالبيتهم العظمى مـن الشباب ، ونشير بهذا الخصوص أن مـا لاحظناه أثـناء تربصنا بمجلس قضاء وهران كثرة جنح حيازة واستهلاك المخدرات وكذا المتاجرة بها ويعكس الجدول التالي تطور هذه الجريمة على المستوى الوطني :
السنة عدد القضايا عدد المتهمين
1994 1918 3448
1995 2415 4065
1996 2284 5301
وهذا ما يدل على أن هاته الظاهرة قد عرفت تفشيا كبيرا في مجتمعنا.
وعلى صعيد آخر فإن اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1988 والتي صادقت عليهـا الجزائر بموجب المرسوم رقم 95/41 المنشور في الجريدة الرسمية رقم 07 ، ومـا تلاها من اتفاقيات قد ركزت على موضـوع الأموال الناشئـة عـن تجارة المخدرات بوصفها رأس الرمح في الأموال القذرة التي تكون في حاجة إلى التبييض، وهـذا وان كانت جرائم المخدرات من أكثر الجرائم المعتبرة مصدرا للأموال المبيضة أو المـراد تبييضها إلا أن هناك العديد من الجرائم التي تدر أمـوالا طائلة وتشكل هـدفا لتبييض الأموال نتناولها في ما سيأتي
2- المتاجرة في الأسلحة :
تعتبر المتاجرة غـير المشروعة في الأسلحة(1) مصدر مـن مصادر الأمـوال المبيضة، ونعني بالمتاجرة هنا تلك التي تتم في سرية تامة وبعيدا عـن إشراف ورقابة السلطات المعنية ، على اعتبار أن لكل دولة قانونها الخاص بها،والذي ينظم بيع وشراء وامتلاك وحيازة الأسلحة والذخيرة داخل حدودها الإقليمية، وحفاظا على الأمن والنظام عادة ما يحدد القانون العام الداخلي الشروط الواجب استيفاؤها للترخيص للأفراد بحمل الأسلحة النارية .
ويتـعامل في هـاته التجارة عصابات وسماسرة دوليون يسعون وراء الكسـب المادي بصورة تتنافى مع القوانين والتشريعات الداخلية والدولية المنظمة لتجارة السلاح وتوابعها ، فأصبح السلاح سلعة يتم مقايضتها أحيانا مـع المخدرات خاصة فـي دول العـالم الثالث في آسيا وأفريقيا والتي تعرف بعض دولـها الحـروب الأهلية والقبلية المدمرة .
وجميع متحصلات هاته الأنشطة غير المشروعة يتم في ما بعد السعي من أجل تبييضها وإدخالها في دائرة الأموال المشروعة .
3- الاتجار في الإنسان ( بيع الأطفال والأعضاء البشرية والدعارة )
تعتبر ظاهرة الاتجار بالنساء ، والأطفال مـن الظواهر التي تدر أموالا طائلة على مرتكبيها ، وقد انتشرت في أوربا بمعرفة مافيا الدعارة لتهريب النساء مـن دول أوربا الشرقية بعد انهيار النظام الشيوعي ، وقد أشارت إحدى التقارير الصادرة عـن المنظمة الدولية للهجرة ومـقرها جنيف ، إلى أن العديد مـن الفتيات يتركن أوروبـا الشرقية هروبا من الفقر والبطالة للبحث عن الثراء في الغرب ، وأن أعمـار هؤلاء الفتيات يتراوح بين 15 و 20 سنة ، يذهبن إلى أوربا للعمل في بعض المهن الحـرة مثل مضيفات في الملاهي والفنادق وكراقصات ... ثم ينتهي بهن الأمر إلى ممـارسة الدعارة بواسطة سماسرة الرقيق الأبيض، وقد أوضح التقرير أن العصابات المتورطة في هاته التجارة المحرمة ، على درجـة عالـية مـن التنظيم ، وتستخدم وسائل تتسم بالعنف والإرهاب والوحشية والتهديد بالقتل وحرق المنازل لمن ترفض ممارسة الرذيلة
وتجدر الإشـارة إلى أن اتفاقية فيينا لـعام 1988 تطرقت في مقدمـتها إلى استغلال الأطفال في كثير مـن أرجاء العـالم ، باعتبارهم سـوقا غـير مشـروع للاستهلاك ولأغراض إنتـاج المخدرات والمؤثـرات العقلية وتوزيعها والاتجار فيـها بصورة غير مشروعة ، مما يشكل خطرا فادحا إلى حد يفوق التصور ، خاصة عندما يهدف ذلك إلى التغرير بالقصر أو استغلالهم(1) ، وكان مؤتمر مانيلا (الفليبين) عن الجريمة المنظمة عام 1998، قد تطرق إلى مكافحة الاتجار بالنسـاء والأطفال بشكل واسع وفعال ، في حين أنه أصبح يتم الإعلان عن بيع الأطفال وتبنيهم في الصحف ، واستغلت العصابات هذه الظاهرة لتنفذ إلى هذا المجال من باب الرأفة والتبني وما شابه ذلك ، فأصبحت تقوم بشراء هؤلاء الأطفال بمبالغ زهيدة ليكونوا نواة لأفراد عصابات الجريمة المنظمة، ويتم تدريبهم على أساليبها ووسائلها ليحلوا محل كوادرها .
وتقترن هاته الظاهرة أيضا بظاهرة الاتجار في الأعضاء البشرية التي لا تقدر بثمن بالنسـبة لمن يكونون في حاجة إليها مـن أثرياء الدول المتقدمة ،وقـد أصبحت على سبيل المثال تجارة الكلى تـدر دخلا كبيرا على عصابـات الإجـرام في أوروبا وأمريكا، وبالتالي فإن أنشطة الجريمة المنظمة على نطاق العالم قد أصبحت متداخلـة ومتشابكة بحيث لم تعد قاصرة على أسلوب معين ، بـل أصبحت جماعات الجريمـة المنظمة يسعون إلى إخفاء أنشطتهم ومصادر أموالهم ، فصاروا يتبعون العـديد مـن الأساليب المتطورة والمـعقدة تفاديا لانكشاف أمرهم ومن ثمة تتجه هاته العصابات إلى ايداع المداخيل المحققة مـن التجارة غـير المشروعة في حسابات سرية فـي البنوك الأجنبية وفروعها ، التي تنتشر في مناطق جغرافية متعددة حول العالم وفي الغالب يتم إجراء العديد من عمليات التحويل للنقود عبر البنوك والمراسلين فـي دول مختلفة ، بحيث يحدث نـوع مـن التعتيم على المصدر غير المشروع للأمـوال ومـن ثمـة يصعب تتبع هـذه الأموال ومكافحتها بشكل فعال .
ومن الممكن أن تخضع هـذه المداخيل لعمليات التبييض مـن خـلال شراء العقارات و السلع و الحلي و المجوهرات و غيرها .... كما أن هناك بعض العصابات صـارت تقوم بشراء أندية القمار و إدارة بيوت الدعارة و أماكن اللهو و المراقص و غيرها من الأوكار التي لا تحضرها القوانين في كثير من الدول .
4- الاتجار بالوظيفة العامة : الفساد السياسي والمالي ( الرشوة )
تعد جرائم الفساد الإداري و السياسي و المالي – جريمة الرشوة – من الجرائم المولدة للأموال القذرة ، و نقصد بالفساد هنا الاستغلال غير المشروع للوظيفة العامـة لتحقيق المكسب الشخصي ، و على كل فإن جـل القـوانين و عـلى اختلافها جرمت الرشوة و فرضت عقوبات عند ارتكابها تتراوح بين الحبس و الغرامة ، كما أن بعض الجهات ذات الصبغة العالمية مثـل منظمة التجارة العالمية و صندوق النقـد الدولي و البنـك الدولي بالتعـاون في هـذا المجال مع منظمات غير حكومية مثل منظمة "ترانسبيرنسي انتر ناشيونال " للعمل ضـد جرائم الفساد و الرشوة على نطاق العالم و كما صار صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و غيرهما من الجهات المانحة للقروض لدول العالم – و خاصة الثالث منـها – تشتـرط سلامة و خلو سجل الدولة الطالـبة للقرض من جرائم الفساد السياسي و الإداري و المالي، حتى تضمن ذهاب هذه الأموال إلى المشاريع التنموية المخصصة لها ، علما بأنها كانت في فترات سابقة لا يذهب منها إلى هذه المشاريع إلا القليل، في الوقت الـذي تودع فـيه الملايين منـها في حسابات المسؤولين بتلك الدول(1) ، لأن عملية تبييض الأمـوال مرتبطة بالفساد السياسي الذي يقترن باستغلال النفـوذ ، لجمع الثروات الطائلة ، ثم تهريب الأمـوال إلى الخـارج و القيام بغسلها و عودتها مرة أخرى في صورة مشروعة .
وتعـد اتفاقية ميريدا بالمكسيك المبرمة في 01/12/2000 المـتعلقة بمحاربـة الرشوة إطارا عالميا فعالا للقضاء على هذه الآفة ، وقد صادقت 289 دولة من بينهـا الجزائر و التي وقعت عليها بتاريخ 09/12/2003 باسمها ثم نيابة عن مجموع الدول العربية .
و نشير أن هناك العديد من الجرائم السياسية التي ارتكبت في العالم و كانت مصـدرا لتبييض الأموال ، أشهرها :
* في فرنسا : و نقصد بذلك رئيس وزراء فرنسا السابق الان جوبيه عندما وجه إليه الاتهام بالحصول على شقة لـه و لأسرته بإيجار منخفض ، مملوكة لبلديـة باريـس عندما كان مديرا للمالية ، و أجرى فيها إصلاحات وفق تكاليفها مـن أموال البلدية ، أي من الضرائب المحصلة من المواطنين ، و كذلك بيبر يغوفو رئيس وزراء فرنسا الأسبق عندما حصل على قرض دون فوائد من رجل أعمال حكم عليه بالسجن بعد ذلك لإدانته بتهمة الفساد ، وقد انتهت هذه المشكلة بانتحار بيبر يغوفو(2) .
* في الأرجنتين : تورط بعض أقارب الرئيس كارلوس منعم في عمليات تبييض أموال المخذرات ، و بعد اكتشاف الأمر اضطر الأقارب ،و هم من كبار رجـال الدولة إلى
التخلي عن مناصبهم .
* في ماليزيا : إلقاء القبض على وزير المالية السابق أنور إبراهيم بتهمة الفساد التي أدين بها و حكم عليه بالسجن و الغرامة .
* في الباكستان : قضـت محكمة روالبندي بتاريخ 15/04/1999 بسجـن رئيسـة الوزراء الباكستانية السابقة بنازير بوتو و زوجها و هو رجل أعمال ، بالسجن خمس سنوات و غرامة قيمتها 8.6 مليون دولار بعد اتهامها بالفساد .
* في إيران : استطاع شاه إيران محمد رضا بهلوي ، تهريب العشرات المليارات من الدولارات إلى بنوك أوربية و أمريكية و ذلك من حصيلة الفوائض البترولية المتراكمة لدى إيران ، و كان الشاه يحصل من شركة البترول الوطنية ، على رشوة بقيـمة ألف مليون دولار سنويا ، و لا يزال جانب كبير من هذه الأموال مجمدا في البنوك الأجنبية منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 حتى الآن ، و قد بلغت قيمة الأمـوال المهربة في عهد الشاه عشرين مليار دولار ، و لم تقتصر عملية التهريب على الشـاه وحده ، بل شاركته في هذه العملية الحاشية المحيطة بـه من المسؤولين و الساسـة ، لدرجة أن سكرتيره اختلس 70 مليون دولار في يوم واحد ، و لم تظهر هاته الأمـوال حتى الآن(1) .
5- اختلاس الأموال :
تعتبر جرائم اختلاس المال العام من أهم الجرائم المرتبطة بالفساد ، فضلا عن ارتباطها بعملية تبييض الأموال ، حيث يقـوم الحاصلون عـلى الأمـوال المختلسـة بإيداعها في بنوك أجنبية خارج البلاد ، لعودتها إلى البلاد بصورة مشروعة ، سـواء من خلال التصرفات العينية أو من خلال تكرار و تعـدد قنوات المصـارف المحليـة و العالمية .
و كذلك فقد دأبت كل التشريعات إلى تجريم هذا الفعل و التشـدد في العقوبـة و رغم كل الجهود المبـذولة في تعقب هاته الجريمة ، إلا أن الدراسات و الإحصائيات تشير إلى أن قيمة الأموال التي يجري اختلاسها في تصاعد مستمر و ما لاحظناه أثناء قيامنا بالتربص بمجلس قضاء وهران أنه تم تخصيص غرفة تحـقيق لجرائم الأموال تلقى القاضي - قاضي التحقيق – المكلف بها تكوينا خاصا ، و بالنسبة لنا يعتبر ذلك نقطة إيجابية تسجل في رصيد تسيير مجلس قضاء وهران ، و كل ذلك من أجل ردع و محاربـة هاته الجريمة التـي تلعب دور فـعال كمصدر من مصـادر الأموال المبيضة .
6- التهرب غير المشروع من الدفع الضرائب :
يقصد بالتهريب غير المشروع من الضريبة أو الغش الضريبي تمكـن المكلف كليا أو جزئيا من التخلص من تأدية الضرائب المستحقة عليه ، و ذلك عبر مـمارسة الغش و التزوير في القيـود و مخـالفة القوانين و الأنظمة الضـريبية المعتمدة(1).
و يعتبر التهرب من دفع الضرائب من أكثر المصادر التي يمكن أن تؤدي إلـى جني أموال طائلة تكون هدفا لعمليات تبييض الأموال ، فهناك علاقة وثيقة بين الهروب من دفع الضرائب و عمليات تبييض الأموال حيث يتجه المهربون إلى إيداع أرباحهم في المصارف ، لتكون بعيدة على عيـون مصلحة الضرائب و بمنأى عـن إمكانيـة ملاحقتها و تجريمها و مصادرتها .
7- تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج :
و تشكل أيضا هاته الجريمة مصدرا مـن مصادر الأموال المبيضة ، و قـد حاربت كل التشريعات هاته الظاهرة لما لهـا من آثار سلبية على اقتصاديات الدول ، و قد جرم المشرع الجزائري هذا الفعل بموجب الأمر رقم 96/22 المـؤرخ في 23 صفر عـام 1417 الموافق لـ 09 يوليو سـنة 1996 المتعلق بقمع مخالفة التشريـع و التنظيم الخاصين بالصرف و حركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج ، و قد عـدل و تمم بموجب الأمر رقم 03/01 المـؤرخ في 18 ذي الحجة عام 1423 الموافق لـ
19 فبراير سنة 2003 ، و كل ذلك بـغية إخضاع معاملات الأفراد و الهيـئات مـع الخارج للسياسة التي تراها الدولة أنها تكفل الصالح العام، و يستوي في ذلك التدخل في الناحية المالية عن طريق تنظيم عمليات الصرف الأجنبي التي تقوم بها البنوك أو رسم سياسة تهدف إلى توفير نقد أجنبي عن طريق إعاقة الاستيراد أو دفع الصادرات بتأثير وسائل مصطنعة ترسمها السلطات(1) .
8- المخالفات الجمركية :
تعد المخالفات الجمركية جرائم تشكل مصدرا من مصادر الأمـوال المبيضة باعتبار أن أي تهريب من تسديد الحقوق و الرسوم الجمركية مهما اختلفت صـوره، يشكل نزيفا للموارد المالية للدولة ، يحتم عليها التصدي لـه و محاربتـه بالوسائـل القانونية المتاحة(2) ، وتأتي السجائر والخمور في مقدمة المواد المهربة .
ووفقا لإحصائيات أجريت سنة 1997 فإن مبالـغ تهريب السجائر في فرنسـا وحدها تقدر ب 25 مليار فرنك فرنسي ، وفي العـالم تم تقديرها ب600 مليار فرنك فرنسي، وفي تقرير للمنظمة العالمية للصحة فإنه من بين 929 مليار سيجارة تصدر عبر العالم تختفي منها 305 مليار سيجارة في التهريب ، وحسب المدير العام لشركة فليب موريس فإن الخسائر التي تلحق شركته سنويا مـن جراء التهريب تقدر ب 700 مليون دولار .
بينما يلقى نشاط تهريب السجائر في بلادنا رواجا كبيـرا بحيث أنـه وحسب تقريـر لصحيفة France soir فـإن 25 % من السجائر المبـاعة في الجـزائر مصدرهـا التهريب مما يسبب خسارة سنوية للخزينة العمومية بقيمة 4 ملايير فرنك فرنسـي.
في حين تقدر إحصائيات الشركة الوطنية للتبغ والكبريت في تصـريح لعضو الهيئة المسيرة ونائب مديرها أن 300 ملـيون علبة تسـوق في الجزائر مصدرها التهريب
وقد أشارت إحصائية لمصالح الدرك الوطني أنه تـم ضبط 643453 خرطوشـة
خلال شهري جانفي وفيفري 2003 ، فيما تم حجز 942920 خرطوشة خلال الفترة
الممتدة بين أكتوبر ونوفمبر 2004 وأغلبها من نوع أجنبي تتولى عصابات الجنوب تهريبها نحو الشمال .
9- الإرهاب :
يواجه اليوم المجتمع الدولي ظاهرة الإرهاب التي غالبا ما تكتسي طابعا دوليا و لمواجهة هذه الظاهرة لجأت مختلف الدول التي عرفتها إلى سن تشريع خاص كما حدث ذلك في كل من إسبانيا ، ايرلندا ، ألمانيا ، إيطاليا ، فرنسا ( قانون 09/09/1986 ) .
و في الحقيقة أن الإرهاب عبارة مطاطة ليس لها تفسير قانوني محدد متفـق عليه عالميا ، و إنما درجت الأوضاع بأن تطلق الكلمة في كل بـلد طبقا للظـروف الأمنية أو السياسية التي تعاني منها ، فالجزائر مثلا و إلى غاية سـنة 1991 عاشت بعيدة عن هاته الظاهرة و بحلول سنة 1992 ظهر الإرهاب و بأبشع صوره ، ممـا جعـل السلطة الجزائرية تسن المرسـوم التشريعي رقـم 92/03 المـؤرخ فـي
30/12/1992 المتعلق بمكافحة الإرهاب، و هو المرسوم الذي ألغي بموجب الأمر
رقم 95/10 المؤرخ في 25/02/1995 ، بعدما أدمجت مجمل أحكامه في قانـون العقوبات (المواد 87 مكرر إلى 87 مكرر 9 قانون العقوبات ) .
و حيث أن تناولنا لظاهرة الإرهاب يتم في إطار موضوعنا الرئيسي ، تبييض الأموال ، فلا بد من توضيح الصلة التي تربط بين الاثنين ، فتبييض الأموال ظـاهرة تبحث لها عن مجال في شتى مناحي الحياة التي تمكن من تبييض الأموال القـذرة ، فمبييضوا الأموال ينطلقون مـن النظرية الميكيافيلية " الغاية تبرر الوسيلة " ، فمـن منطلق المصلحة الشخصية يمكنهم التعامل مع الإرهاب أو مرتكبي الجرائم المنظمـة سـواء اقتضى الأمـر إمدادهم بالأسلحة أو المقايضة ببعض السلع و الخدمات ، بـل و من زاوية أخرى فإن مرتكبي هاتـه الجرائم يسعون من ورائها إلى تكوين ثروة ، تعتبر مصـدرا مـن مصادر الأموال المبيضة ، حيث يتـم تشغيل تلك الأمـوال ذات المصدر غيـر المشروع و من ثم خلطها برؤوس أموال و أرباح من أموال مشروعة و كل ذلك من أجل إخفاء المصدر غير المشروع الذي اكتسبت منـه الأموال المـراد تبييضها .
ومنه يمكن القول أن الجريمة الإرهابية تعتبر مصدر لا يجب الاستهانة به ، بل يجب أخذه بعين الاعتبار كمصدر من مصادر الأموال المبيضة .
المبحث الثاني : آلية تبييض الأموال .
سنتطرق في هـذا المبحث بداية إلى التقنيات المتعددة المستعملة في تبييـض الأموال و هذا في المطلب الأول ، ثم ننتقل لدراسة المراحل المتخلفة التي تمر بهـا الأموال المبيضة في مطلب ثان .
المطلب الأول : تقنيات تبييض الأموال .
تتحدث التقديرات المختلفة عـن المبالغ المهولة التي يتـم تبييضها سنويـا ، إذ يقدرها فريق العمل المالي (GAFI ) التابع للأمم المتحدة بأكثر من 120 مليار دولار من مال المخدرات تخصص سنويا للتبييض(1) ، دون الأخذ بعين الاعتبار الأموال ذات المصادر غير المشروعة الأخرى .
و يعتمد مبيضو الأموال للقيام بعملياتهم الإجرامية على العديد من التقنيات أو الأساليب بعضها تقليدي و الآخر حديث و سنتحدث عنها بالتفصيل عبر الفروع التالية :
1-الشراء بسيولة :
يعمل المبيضون على شراء سيارات فاخرة أو معادن ثمينة أو تحف أو مقتنيات ثمينة بأسعار متفاوتة ، ثم يقومون بإعادة بيعهـا ، الأمـر الذي يسمح بتبرير مـوارد ضخمة بأسباب شرعية ، و ذلك بفضـل فائض القيمة(2) ، و في هـذا المجال يقترب التبييض من صورته الواقعة على عقد البيع بثمن متدن ، إخفاء للثمن الحقيقي و توفير الرسوم ، أو من أجل حرمان الورثة من حقهم في الإرث (3).
2- الاستثمارات السياحية :
يتم إنشاء أو شراء الفنادق أو المطاعم أو الكازينوهات أو المنتجعات السياحـية ليقوم المبيضون بإدارتها بطريقة تجعل و كأن الأموال غير المشروعة هي أربـاح و عوائد محققة من تلك المؤسسات السياحية .
- و قـد كشف أحـد كبار المسؤولين في المصرف المركزي الكولومبي أنـه في
سنة 1991 م ، دخل على كولومبيا 900 مليون دولار عبر القطاع السياحي ، علما أن المداخيل الناتجة عن هذا القطاع لا تتجاوز عادة 300 مليون دولار في السنة .
3- الشيكات القابلة للتظهير :
إن التظهير المتكرر و المتسلسل للشيكات بمروره على أكثر من مظهر يسمـح بإخفاء مصدر الأموال غير الشرعية ، لذا فعملية التظهير تستعمل بكثرة في عمليـات التبييض
4- شراء تذاكر السفر :
يعمل المبيضون على شراء تذاكر سفر غالية الثمن ، ثـم يقومون ببيعها فـي وقت لاحق أو حتى ردها في بلد آخر ، بعد خصم جزء بسيط من ثمنها ، فيشكل المبلغ المرتجع مبررا لوجود المال .
5 - استعمال بطاقات الائتمان :
تسمح بطاقة الائتمان بدفع المال دون الحاجة إلى حيازته نقدا ، فيتم إيداع أموال كبيرة قي حساب البطاقة ، ليستطيع المبيض من سحب للأموال النقدية في أي مكان من العالم .
و قد ظهرت في السنوات الأخيرة مسـألة جـديدة تمثلت في تزوير بطاقـات الائتمان و الاحتيال لسحب الأموال مـن نوافذ الصرف الآلي ( A.T.M ) ، ممـا يـؤدي إلى حدوث أخطار تهدد العمل المصرفي ، تنتهي إلى فقدان الأموال بالكامل ، خاصة فـي حـالة ضياع بطاقة الائتمان ، و تعرف المحتالين على الرقـم الشخصي لصاحب الحساب(1) .
6 - التجارة البحرية :
يقوم المبيضون بالتواطؤ مع السفن البحرية التي ترفع علم دولتها ، حيث تقـوم هذه السفن بإخفاء أموال غير مشروعة ، فتقوم إلى إدخالها إلى إحدى الدول باعتبارها أموال منقولة من دولة أخرى بصفة تجارة مشروعة .
7- تأسيس الشركات :
يعمل المبيضون على تأسيس أو شراء شركات قانونية توحي بصورة طبيعية بعمليات نقدية ضخمة ، ليتمكنوا من مزج أموالهم ذات المصدر غير المشروع مـع أموال الشركات القانونية .
وظاهرة تبييض الأموال عـن طريق الشركات موجودة في أغلب دول العـالم وتسمى هذه الشركات" بشركات الدمى" وهي شركات أجنبية تمارس نشـاط تجاري أو غـير تجاري . ودورها كوسيط بين أصحاب رؤوس الأموال غير المشروعة لأجـل شرعنتها وإدخالها مرة أخرى مقابل الحصول على عمولات كبيرة .
كما تقوم هذه الشركات بصورة أخرى مـن صور التبييض حيث تقوم بإنشـاء فـرع داخل دولة مركزها الرئيسي بها أو خارجها ، ثم تقوم باستيراد سلع من الخارج وتحدد أسعار هذه السلع بأكثر من قيمتها الحقيقية ، ثم تفرض على فروعها على إيداع هـذا الفرع في حسابات سرية لها في دولة أجنبية (1).
وتعتبر فضيحة موج MOGE أشهر الأمثلة على التبييض عبر الشركات، فشـركـة
GAS Entreprise ( MOGE) Myammar Oil هي شركة بترولية وطنيـة في بورمانيا تقـوم منذ سنة 1988 بعمليات تبييض الأمـوال الناتجة عـن الاتجـار بالهرويين ، حيث يصنع ويصدر تحت رعاية عمداء الجيش البورماني ، وكشفت هذه الفضيحة عام 1992 ، وبين حساب هذه الشركة في مصرف بسنغافورة عمليات مالية ضخمة ، مع العلم أن مداخيل الشركة محصورة جدا ببعض المدفوعات الضئيلة مـن قبل شركات البترول العالمية ، وهكذا أصبحت " موج" من أغنى الشركات في العالم(2)
8 - التبييض عبر المصارف :
يقوم المبيضون بإيداع المـال نقدا ، أو سحب القـروض ، أو الاكتتاب نقـدا بأذونات على الصندوق ، أو أوامر التحويل الجارية باسم شركات وهمية ، ثـم يتـم تحويل الأموال إلى حسابات أخـرى باسم شركات وهمية بمصارف مالـية في جنـان ضريبية كسويسرا واللوكسمبورغ . ثم بعد ذلك يتمكن المبيضون من الحصول على قروض مصرفية في بلدان أخرى ليقوموا باستثمار أموالهم المبيضة بعد أن يقدمـوا ودائعهم من الأموال غيـر الشرعية كضمانة ، وعـن طريق هذه القروض يتمكـن المبيضون من شراء مـا يريدون كاستثمارات ومشاريع ، انطلاقا من رساميل قادمة عبر مؤسسات قانونية ونظيفة .
ونشير إلى أنه في العقد الأخير مـن القرن الماضي بدأت تنتشر ظـاهرة المصارف الصورية في بعض الدول "Les banques bidon " ولهذه المصارف دور مشبوه في عملية تبييض الأموال ، إذا يوجـد في بعض الدول 500 مصرف لكل 2500 مـن السكان مما يدل على شبهة إنشاء هذه المصارف(1) .
9 - تقنيات أخرى:
- المضاربة في البورصة : تتم العملية ببيع وهمي بسندات في البورصة من البائـع لنفسه ، عن طريق مشتري مزيف ، ليتمكن من تحقيق أرباح وهمية لإخفاء المصـدر الحقيقي للمال .
- الاعتماد المستندي : تتمثل هذه التقنية في شحن وهمي للبضائع ، تنتج عنها أموال مقابل تلك البضائع ، ليتم التصريح عن الأمـوال المبيضة وكأنها ناتجة عن عملية الشحن الوهمية .
- مكاتب السمسرة والوساطة : يقوم المبيضون على تحويل الأموال النقدية المـراد تبييضها إلى سندات واسهم ، ثم تتنقل بعد ذلك إلى عدة أشخاص غبر سلسلة محكمة
فيصعب بعد ذلك معرفة مصدر تلك الأموال .
- شركات التأمين : تتم العملية بأن يقوم المبيضون بشراء وثائق تأمين على الحيـاة بمبالغ ضخمة من شركات التأمين المتواطئة ، وبعد ذلك يقومون بإعـادة تلك الوثائق
واسترداد قيمتها عن طريق شيكات .(2)
- التحويل البرقي للنقود : يستعين المبيضون لهذا الأسلوب لما يعتري هذا النظام من ثغرات ، كون أن الكثير من البنوك ليست أعضاء في نظام fedwire ولا في نظـام شيبس Chips وهو عبـارة عن عملية غرفة مقاصة تسويـة في نهاية اليـوم ، ويترتب على ذلك أنـه على معظم البنوك استخدام ما يعرف بنظام swift للتصريـح بإجراء المعاملات المـالية برقيا ، فحسب هذا النظام فإن البنك لا يعلم غرض تحويل المال ، فالبنك المصرح وحده هو الذي يقع عليه واجب التحري عن غرض العميل من هذا الإستخدام ، وعليه فـإن التحويلات الصادرة من بنوك أجنبية غالبا ما تكون خالية مـن اسم العميل المنشئ(1) وهو ماحدا بمبيضوا الأموال إلى استخـدام نظام التحويل البرقي لإيداع النقود لـدى البنوك في الخارج.
المطلب الثاني : مراحل تبييض الأموال
يمكن إجمال المراحل التي تتم بها عملية تبييض الأموال في ثلاث مراحل كبرى وهي : التوظيف ، التجميع ، الدمج .
مع الإشارة إلى أنه يمكن أن تتم مراحل تبييض الأموال بشكل منفصل ، كمـا يمكن أن تتم أيضا قي وقت واحد .
1- التوظيف أو الإيداع placement
وهي العملية الأولى حين يبدأ مبيضو الأموال القذرة بالتخلص مـن النقـود المتحصل عليها من النشاط غير المشروع ، ليتم تحويل ذلك المال إلى ودائع مصرفية وإلـى أرباح وهمية ، ومن ثم توظيف الأموال في حسابات تخـص مصرف واحد أو أكثر ، كائنة في البلد نفسه أو في الخارج ، وهكذا تعتبر سلسلة العمليات هـذه عنـد انتهائها بدء عملية التبييض(2) .
فالتوظيف يكون هدفه أن يقوم المبيض في البداية بإيـداع الأموال في أحـد المصارف بطريقة لا تجلب الشكوك لتبدو شرعية ، ليقوم في وقت لاحـق بنقل تلك الأموال خارج البلد أين يوجد المصرف الذي تـم فيه الإيداع وتعتبر مرحلة التوظيف أضعف حلقات مراحل تبييض الأموال لما يحيق بها من مخاطر الانكشاف ، نظرا لما تقوم به الأجهزة المكلفة بمكافحة تبييض الأموال من تركيز محاولة الكشف عن هـذه الأموال وإيقافها قبل أن تدخل في دوران عجلة النظام المصرفي العالمي(1) .
لذا فمرحلة التوظيف أو الإيداع باعتبارها أضعف المراحل فهي أكثر عرضة للكشف
عنها فمتى نجحت بسلام ودخلت للمصرف دون إيقافها فيكون مـن الصعب لاحقا أن يكشف أمرها .
وتجـدر الملاحظة إلى أن مبيضو الأمـوال لا يقومون بإيداع مبالـغ كبيرة فـي المصارف دفعة واحدة فيعمدون لتجنيد العديد من الأشخاص بتجزئة المال إلى مبالغ لا يزيد عن حد معين بقدر ما يسمح به المصرف دون أن يتحرى عـن مصدر المال ، ليتم الإيداع في مصارف مختلفة وبحسابات متعددة من عدة أشخاص محترفين وليست لديهم أية سوابق أو شبهات .
2 - التجميع ( التغطية) :empilage , layering
تهدف هذه المرحلة إلى إخفاء الأموال المراد تبييضها عـن مصدرها غـير المشروع بإتبـاع سلسلة مـن العمليات المصرفية المتشابكة المشابهة لحد مـا إلى التعاملات المالية المشروعة .
فالمبيض يقوم بإعادة المال غير المشروع إلى حسابات مصرفية مفتوحة باسم شركات مشروعة ، وهو ما يسمى بشركات الواجهة التي قام بتأسيسها مبيضو الأموال التي ليست لها أية أغراض تجارية بـل القصد منها إخفاء وتمويـه الملكية الفعلـية والحقيقية للحسابات والأموال التي تملكتها التنظيمات الإجرامية (2) ، لذا فالهدف مـن وراء هـذه الشركات هو التغطية أو التمويه عن مصدر الأموال الغير شرعية ، لتعدو هـذه شبيهة بالشركات الوهمية . فعن طريق هذه الأخيرة يقوم المبيض بخلق صفقات مـالية معقدة ومتشابكة بغية التغطية أو التمويه عن مصدر المال غير المشروع .
3 - الدمج : Intégration
تعتبر مرحلة الدمج أو الإدماج آخر مرحلة من مراحل التبييض ، ففيهـا يقوم المبيض بدمج الأموال غير المشروعة في الاقتصاد وجعلها تظهر بمظهر مشروع وهذا لتغطية مصدرها تغطية نهائية .
فهذه المرحلة تؤمن الغطاء النهائي للمظهر الشرعي للثروة ذات المصدر غير المشروع لتوضع الأموال المبيضة مرة أخرى في عجلة الاقتصاد بطريقة يبدو معها أنه تشغيل
عادي وقانوني لما له من مصدر نظيف (1) فمن شـأن هذه المرحلة شرعـنة الأموال
المبيضة أي جعلها شرعية .
ليصبح التمييز بين الأموال المشروعة والأموال غير المشروعة أمرا بعيد المـنال ، لتصل هذه الأموال إلى بر الأمـان ، ليصبح مـن المستطاع والسهل إعادة استثمـار هذه الأموال في أية أنشطة أخـرى بغض النظر إن كانت مشروعة أو ممنوعة ، فكما ذكرنا فمرحلة الدمج تعتمد على إعادة إدخال المبالغ المبيضة في بيئة الاقتصاد الشرعي عـبر القيام بتوظيفات مالية واستثمـارات في الاقتصاد الحقيقي . وعادة مـا يكـون البنك طرفا أصليا مشاركا في عمليات غـسيل الأموال(2) .
إن مرحلة الدمج هي المرحلة الأصعب اكتشافا ، باعتبار أن الأموال تكون قد خضعت مسبقا لعدة مستويات من التدوير ، والواقع أن هذه العمليات بمجملها قد تمتد إلى عـدة سنوات.
ونشير إلى أنه من أكثر الاستثمارات المشروعة سهولة في وقتها الحاضر هـو اللجوء إلى المضاربات في الأسواق المالية التي انتشرت في العديد مـن بلدان العالـم مستفيدة من سهولة وسائل الاتصال الحديثة عـبر شبكات الإنترنات ، وصارت هـذه الأمـوال تتنقل من بلد إلى آخر عبر هذه الأسواق في دقائق .
ولا بأس مـن أن نقـوم برسم بيـان يوضح لمراحـل تبييض الأمـوال :
- التوظيف ، التجميع ، الدمج .
إيداع
إيرادات وهمية
إيرادات وهمية
إيداع
المرحلة الثالثة المرحلة الثانية المرحلة الأولي
الفصل الأول : الإطار القانوني لجريمة تبييض الأموال
نظرا لما تثيره جريمة تبييض الأموال مـن مخاطـر على المستوى الدولي أو الداخلي باعتبارها جريمة من الجرائم الاقتصادية التي تهـدد الموازنات العامة للدولـة و تمس بالأمن الاجتماعي للشعوب ، وجب على كل الدول اتخاذ الاحتياطات اللازمـة للحد من انتشارها خاصة و أنها مرتبطة بأنشطة غير مشروعة ، و غالبا مـا تكـون مرتكبة خارج الحدود الإقليمية للدولة .
و يمتاز مقترفوهـا بمهارات فنية واسعة تمكنهم مـن الحصـول على نتائـج مشروعهم الإجرامي سواءا بالتمويـه أو التحويل أو التوظيف للعـائدات في مشاريـع مدروسة .
و إذا كانت هـذه الظاهرة تنطلق بارتكاب جريمة أولية معاقب عليهـا قانونـا و تنتهي بشرعنة المال الناتج عنها بتوظيفه في مشاريع لا تتعارض و القوانين المنظمة لها ، فإنها تقتضي في أغلب الأحيان مجموعة من الجناة يضطلع كل واحـد منهم بدور معين لتحقيق النتيجة الإجرامية ، و هنا نتساءل عن الوصف الجزائي الـذي يتابع بـه مقترفوها ، خاصة و أنها تتداخل مع عدة جرائم أخرى ، و من ثمة فهـل تكيف هـذه الظاهرة على أنها فعل من أفعال المساهمة الجنائية ؟ أو أنها فعل من أفعال جنحة إخفاء الأشياء الناتجة عن جناية أو جنحة ؟ أو أنها تقتضي تدخل تشريعي لتجريم الظاهـرة بنص خاص مبينا لأركانها و مميزا لها عن باقي الجرائم المشابهة لها .
و إلماما بذلك ارتأينا أن نقسم هذا الفصل إلى مبحثين ، نتطـرق في الأول إلى التكييف القانوني لجريمة تبييض الأموال ثـم نتطرق في المبحث الثـاني إلى تحديـد أركانها .
المبحث الأول : التكييف القانوني لجريمة تبييض الأموال
و سنتناول في هذا المبحث إشكالية التكييف الجزائي لجريمة تبييض الأموال في المطلب الأول ، و تميزها عن بعض الجرائم المشابهة في المطلب الثاني .
المطلب الأول : إشكالية التكييف الجزائي لجريمة تبييض الأموال
تمثل ظاهرة تبييض الأموال صنفا جديدا مـن أصناف الأنشطـة الإجراميـة المنظمة و كأي ظاهرة جديدة استعصى في البداية تكييفها جزائيا و قد اختلف الفقـه بشأنها بين إخضاعها لأوصاف تقليدية و بين ضرورة إفرادها بوصف خاص يحـدد إطارها القانوني و قـد توصل إلـى وصفين لهـذه الظاهرة(1) ، و يقصـد بالتكييف القانـوني تلك العملـية الذهنية التي تهدف إلى إعطاء الفعل الواقع الوصف القانـوني الذي ينطبق علـيه من بيـن الأوصاف التي يتضمنها قانـون العقوبات ، و التكييف فكرة قانونية تنطوي على مضمون ويفصح عنها بوصف ، فأما المضمون هو المطابقة و التي يراد بهـا حكم على فعـل واقعي صدر على الجاني بأنـه يطابق ذلك الفعـل النموذجي التي تصفه القاعدة الجنائية المجرمـة وصفا مجرما(2) .
أما الوصف فهو مجرد شرط لخضوع الفعل لنص معين من نصوص التجريم و بذلك يمكننا القول أن التكييف القانوني للفعـل هـو وسيلة أعمال مبدأ الشرعية الـذي يقتضي البحث عن الوصف الجرمي الذي ينطبق على الفعل الواقع حقيقة .
و إعمالا لمفهوم التكييف الوارد أعلاه توصل الفقهاء إلى وصفين ينطبقان على جريمة تبييض الأموال أما الوصف الأول فهـو وصف تقليدي يكيف الظاهـرة على أساس أنها فعل من أفعال المساهمة الجنائية أو صورة من صور جريمة إخفاء الأشياء ذات المصدر غير الشرعي ، أما المحاولة الثانية فتهدف إلى خلق تكييف قانوني جديد من خلال تدخل تشريعي بنص يجرم الظاهرة في حد ذاتها .
و لتسليط المزيد مـن التفصيل على هذين التكييفين لظاهرة تبييض الأمـوال يجدر بنا تناول تكييف الظاهرة وفقـا للمحاولة التقليدية مبرزين قصورهـا في تحديد و شمولية الجريمة و كذا تكييف الجريمة من خلال نص تشريعي خاص بالظاهرة .
أولا : تكييف ظاهرة تبييض الأموال وفقا للمحاولة التقليدية:
حسب الاتجاه الفقهي التقليدي لتكييف ظاهرة تبييض الأموال فإن هذه الظاهرة لا تخرج في أوصافها الجزائية عن الأفعال المساهمة الجنائية أو جرائم إخفاء الأشياء ذات المصدر غير الشرعي.
I : تبييض الأموال كفعل من أفعال المساهمة الجنائية :
إذا سلمنا اعتباطا بأن جريمة تبييض الأموال تشكل فعلا مـن أفعـال المساهمة الجنائية فإن المساهمة تفترض تعدد الجناة و وحدة الجريمة ، حيث تكون هذه الأخيـرة ثمرة تظافر نشاط و جهود عـدة أشخاص و التقاء إرادتهم لتحقيق النتيجة الإجرامية ، و إذا كان الأصل أن يضطلع شخص واحد أو أكثر بارتكاب كافـة العناصر المكـونة للنشاط الإجرامي فليس ما يمنع الآخرين بالوصول بهذا النشاط إلى غايته المرجوة .
و إذ ذاك تقوم المساهمة الجنائية على ركنين الأول يقتضي وجود فعل أصلي موصوف بوصف الجريمة طبقا لنص في قانون العقوبات و الثاني أن تتجسد المساهمة في فعـل إيجابي فلا تقوم المساهمة على مجرد الامتناع (1) و لا بالإهمال(2) و لا يعتد بالمساهمة على فعل غير منصوص عليه في قانون العقوبات .
و إسقاطا لذلك على جريمة تبييض الأموال بوجه عام فإن إشكالية مساءلة الفاعليـن لا تقوم إذا كانوا أشخاصا طبيعيين فقد يأخذ أحدهم حكم المحرض و الآخر حكم الفاعـل الأصلي و الثالث حكم المساعد مثلا ، إلا أن الإشكالية تقوم في الحالة التي تودع فيهـا الأمـوال المبيضة في البنوك و المصارف فهل أن البنك بقبولـه إيـداع الأمـوال أو تحويلـها أو استثمارها يعد شريكا مساعدا في تنفيذ الجريمة أو تسيير وقوعها