حدثنا عباس النموشي قال : لما حلـّت بالوطن الفتنة ، و طالت به المحنة ، اختلط فيه الحابل بالنابل ، و غلب صوت الرصاص و القنابل ، و كثرت المآتم ، و حلـّت الخوذات مكان العمائم ، ولحق الضّر الورى و البهائم ، وصار الفرد يخاف أهله و لا يأمن حتى جاره ، و يغلق على نفسه باب داره ، قبل حلول الظلام ، و يسكت عن البوح و الكلام ، فكانت و الله سنينا من جمر ، و عشرية دم سود و حمر ، و في أحد أيام الخريف ، كنت خارجا من بيت أختي في صباح مخيف ، حيث كنت أقيم عندها ، مع عيّالها و زوجها ، فقد جاوز مكوثي عندها ست سنوات ، أيام دراستي بالثانوية في وقت فات ، و قد وجدت بعدها عملا في الإدارة ، بعد فشلي في نيلي البكالوريا بلا جدارة ، و كنت إذا اتجهت إلى عملي ، يتحتم عليّ المرور على وادي يجري ، لقربه من محطة المسافرين ، التي يلزمني ركوب الحافلة منها بلا تخمين ، أو سيارة أجرة مع الراكبين ، و خلال مروري بقرب بستان للتين الشوكي ، لمحت طفلا يرمقني بنظرات حيرتني ، و كان واقفا فوق تلة صغيرة ، يراقب حركاتي في حيرة ، فلما قربت منه ، و صرت على خطوات بجنبه ، صار يصيح و ينادي ، يا أبتي ها قد جاء الإرهابي المعادي ، و ما هي إلا لحظات قليلة لا تزال ، حتى أحاط بي جمع من الرجال ، منهم من يحمل عصا ، و منهم من يتوشح سكينا و سيفا ، و قادومة و خنجرا ، و انهالوا عليّ بالضرب من كل جهة ، و ما هي إلا برهة ، حتى صرت أسيرهم ، و قد أوثقوني بحبل كان معهم ، و الغلام يحدق في عينيّ ، ويقول إنه و الله هو يا أبي ، هو من هاجمنا البارحة ، و كان علينا كوقع الطيور الجارحة ، قد اعتدى علينا مع عصبته الباغية ، و أشبعونا ضربا و شتما و أذية ، أنظر إلى عينيه ، قد عرفته ، رغم أنه كان يرتدي لثاما ، و إن له لآثاما ، فقلت و الألم يكاد يعصف بي ، لما رميتني بهذا يا بني ، إني والله لرجل معروف ، و في الحي مألوف ، يا جماعة الخير ، إسألوا عني إن كنت من أصحاب الضير ، لكنهم لم يأبهوا لـِما أقول ، و ساقوني إلى بيتهم مغلولا ، و هناك وجدت مجموعة من الدرك ، ينتظرون من يوقعون به في الشرك ، فشرع قائدهم يستجوبني ، و يطلبني و يسألني ، و قال لي : يا عدو الله ألا تدري ما صنعتَ بهذه الأشباه ، قد هجمت عليهم ليلة البارحة ، رفقة مجموعة مسلحة ، غاصبة جامحة ، و أردتم ذبح أباه ، لولا أن الله نجّاه ، و أخذتم الطفل إلى الجبل ، وبقى عندكم حتى طلوع الفجر ، و أرجعتموه على وجل ، و ضربتم جاره ، و بقرتم بطون شياهه ، فازدادت حيرتي مع خوفي ، و خلت نفسي في حلم خرفي ، و رحت أبرّأ نفسي من هذا الكرب الذي لحقني ، و بقيت على هذه الحال ، حتى جاء رجال الجيش في رحال ، و غدى الحي كله عساكرا ، و فـُتشت البيوت باكرا ، لكن الله رفق بحالتي ، بأن بعث دليل براءتي و نجاتي ، فقد لمحتني عجوز تسمى وريدة ، مقيدا و الجنود حولي كالطريدة ، فاستفسرتْ الأمر ، فقيل لها لقد وقع في شرار الدهر ، فهو من قام بالأمر ، فصارت تصيح ، و تنادي بأعلى صوتها : هذا غير صحيح ، إنه شاب طيب و مسالم ، و بعيد عن كل المظالم ، أنا أعرفه جيدا ، و ليس له من هذا و الله كيدا ، هو صهر جارنا عثمان ، و يقطن معه منذ أزمان ، و ما عرفنا عنه إلا الخير ، و ما كان من أصحاب الشر ، و أعرف أخته عز المعرفة ، و هم لا يأتون الأعمال المقرفة ، بل هم نعم الناس ، و يشهد لهم بالورع من تبسة حتى فاس ، أرجوكم أطلقوا سراحه ، و فكوا وثاقه ، و سآتيكم ببيان براءته ، فذهبت مسرعة عادية إلى حينا ، و قد جاءت بكل من يسكن قربنا ، من كبير و صغير ، و مبصر و حتى ضرير ، و أدلى كل منهم بشهادته ، التي وثـّقها الدركي في محضره ، و أخذوني بعدها إلى المخفر ، و استجوبوني أكثر ، و لمّا لم يجدوا ما يدينني ، أبقوني عنده سبع ساعات و بعدها أطلقوني ، بعد أن أخذوا مني الميثاق ، بأن أحضر عندهم يوميا لأمضي بعض الوثائق ، و أن أبقى تحت المراقبة ، طيلة ثلاثة أشهر و إلا ستنالني المعاقبة ، و رجعت بعدها إلى الدار ، و قد وجدت عندهم كثير الأهل و الجار ، ليطمئنوا علي ّ ، و يقدم لي التهاني ، لكني خرجت مسرعا قاصدا دار العجوز منقذتي ، و التي لولاها لكانت نهايتي ، لكي أشكرها على صنيعها ، فما وجدت منهم أحدا ، لا جمعا و لا فردا ، و قد أخبرني جار لهم ، أنهم هربوا من الحي كلهم ، وقصدوا المدينة المجاورة كثيرة السكان ، و التي بها بعض الأمن و الإطمئنان ، و تركوا بيوتهم مهجورة ، و أماكنهم غير معمورة ، فرجعت أدراجي ، حامدا ربي على نجاتي و لسان حالي يقول :
يا قـــوم قـــد هالنــي ****** ما حدث و جرى لــي
أيعقــل أنـــا إرهابــي ****** أرعـب النـاس حولــي
مــا هـــــذه صنيعتــي ****** فــأنــا أخشـــى ظلــي
فلــولا ربــي سترنــي ****** لكنت بغياهب سجنــي
و دعــاء والدتـي لــي ****** خير أنيس هو معـــي
فـــالحمـــد لك بارئــي ****** يــا خيــر عــون لــي