![]() |
|
قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها ..... |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() الدين والسياسة يوسف القرضاوي مقدمة الدِّين والسياسة (تأصيل ورد شبهات) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتم النبيين المجتبى، محمد وآله وصحبه أئمة الهُدى، ومن بهم اقتدى فاهتدى. (أما بعد) فهذا بحث كتبته عن (الدِّين والسياسة) استجابة لما طلبته مني الأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، لأفتتح به الندوة التي سيعقدها المجلس في دورته السادسة عشرة في أوائل الشهر السابع تموز أو يوليو 2006م حول (الفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوربا). وما كنت أحسب أن البحث سيطول معي إلى الحد الذي وصل إليه. ولكن هكذا كان، والخير فيما وقع. هذا وقد عرضته على إخواني في الندوة، ليصوِّبوني إذا أخطأت، ويردوني إلى الجادة إذا شردت، فليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم. ولقد نظرت في البحث بعد ذلك مستفيدا من الملاحظات التي أبديت، ومن غيرها، ومن تأملاتي الخاصة، في تطوير البحث، وإعادة ترتيبه وتقسيمه، وقد قسمت البحث- أو قل: الكتاب بعد المقدمة؛ إلى خمسة أبواب، وكل باب منها يشتمل على أكثر من فصل، إلا الباب الأخير، وهو ما يتعلق بالأقليات والسياسة، فهو فصل واحد. الباب الأول: ويتكون من فصلين. يتعلق بتحديد المفاهيم، عن الدين والسياسة لغة واصطلاحا، ومفهموم السياسة عند الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وعند المتكلمين والفلاسفة، ثم عند الغربيين. والباب الثاني: عن العلاقة بين الدين والسياسة بين الإسلامييين والعلمانيين، فالإسلاميون يرون ضرورة الارتباط بين الدين والسياسة، لأدلة شرعية وتاريخية لديهم، منها فكرة شمول الإسلام. والعلمانيون يرون ضرورة الفصل بينهما، ويرتبون على ذلك نتائج وأثارا مهمة، تضر في نظرهم بالمجتمع والأمة، وهو أطول الأبواب وأهمها. وفيه أصلنا الأحكام والمبادئ الشرعية، ورددنا على الشبهات التي يثيرها العلمانيون. والباب الثالث: عن العلاقة بين الدين والدولة، عند الإسلاميين والعلمانيين، ويتكون من ستة فصول. والباب الرابع: حول العلمانية: أهي الحل أم المشكلة؟ ناقشنا دعوى العلمانية الإسلامية المزعومة، وفي هذا الباب فصلان. والباب الخامس: الأقليات الإسلامية والسياسة. ويتكون هذا الباب من فصل واحد. هذا وقد أمسى منهجي واضحا لكل قرائي، والحمد لله، فلا ألقي القول على عواهنه، ولا أقلِّد أحدا فيما أرى من رأي، لا من أئمتنا الأقدمين، ولا ممَّن اتخذهم الناس أئمة في عصرنا من الغربيين الذين غزت حضارتهم العالم، ومنه عالمنا الإسلامي. ومنهجي هو الاعتماد على النص الصحيح في ثبوته الصريح في دلالته، وربطه بالواقع المعيش- الواقع الحقيقي لا المتوهم - دون افتعال أو اعتساف، معتمدا أسلوب الموازنة والترجيح بالأدلة، رابطا النصوص الجزئية بالمقاصد الكلية للإسلام وشريعته. ولم أعتمد فيما كتبت إلا على آية محكمة، أو حديث صحيح، أو دليل شرعي معتبر، أو منطق عقلي سليم، مسترشدًا بأقوال من يُعْتَد بهم من العلماء، ليشدوا أزري، حتى لا أقف وحدي، لا على أن أقوالهم في ذاتها حجة، فلا حجة في قول البشر إلا قول محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة، ومنحه العصمة، وهدى به الأمة. فإن كان ما كتبته صوابا، أو خيرا فمن الله وحده، إذ الفضل منه وإليه، وما كان من خطأ، أو شرود، أو قصور، أو تقصير، فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه، وأسأله تعالى أن يهديني إلى تصويب نفسي، ولا يحرمني أجر المجتهد المخطئ؛ إذا حرمت من أجري المجتهد المصيب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. الفقير إلى عفو ربه يوسف القرضاوي الباب الأول الدِّين والسياسة ضوء على المفاهيم تحديد المفاهيم أولا: قبل أن نتعرض لموقف الدِّين من السياسة أو موقف السياسة من الدِّين، والعلاقة بينهما هل هي -من الناحية النظرية- الترادف أو التباين أو التناقض؟ وهل هي -من الناحية العملية- التعارف أو التناكر؟ التقارب أو التباعد؟ التعاون أو التشاحن؟ لا بُد لنا قبل ذلك: أن نحدد مفهوم كل من الدِّين، ومن السياسة، إذ الحُكْم على الشيء -كما يقول علماء المنطق- فرع عن تصوره. فما معنى كلمة (الدِّين) حين ننطق بها، ونستعملها في حياتنا أفرادًا وجماعات وأُمما؟ وأيضا: ما معنى (السياسة) التي أصبحت تتحكم في مصايرنا [1]، وتقودنا طوعًا أو كرهًا إلى ما يريد فلاسفتها النظريون، ومنفذوها التطبيقيون، والقادة السياسيون؟ ________________________________________ [1]- مصايرنا: جمع مصير، وبعض الناس ينطقونها: مصائرنا. وهو غلط شائع لدى الكثيرين. فالمادة أصلها يائي، فر تهمز في الجمع، كما قال تعالى: {وجعلنا لكم فيها معايش} [الأعراف:10]. ومثلها: مكايد ومصايد ومشايخ، ونحوها. الفصل الأول مفهوم كلمة (الدِّين) إذا بحثنا عن مفهوم كلمة (الدِّين) في اللغة: وجدنا لها معاني كثيرة مختلفة، قد لا نخرج منها بطائل، وهو الذي جعل شيخنا العلاَّمة الدكتور محمد عبد الله دراز يعلن ضيقه بالمعاجم العربية التي لا تُعطي مفهوما حاسما في هذا الأمر وأمثاله. ولكن شيخنا وجد: أن المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثـة معان تكاد تكون متلازمة، بل نجد أن التفاوت اليسير بين هذه المعاني الثلاثة مردُّه في الحقيقة إلى أن الكلمة التي يُراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق: أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب. بيانه: أن كلمة (الدِّين) تؤخذ تارة من فعل مُتعدٍ بنفسه: (دانه يدينه)، وتارة من فعل متعدٍ باللام: (دان له)، وتارة من فعل متعدٍ بالباء: (دان به)، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة. 1. فإذا قلنا: (دانه دِينًا) عنينا بذلك أنه مَلَكَه، وحَكَمَه، وساسه، ودبره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه، وكافأه. فالدِّين في هذا الاستعمال يدور على معنى المُلك والتصرف بما هو من شأن الملوك؛ من السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة. ومن ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: "الكَيِّسُ من دان نفسه" [1]، أي حَكَمَها وضَبَطَها. و(الديَّان) الحَكَم القاضي. 2. وإذا قلنا: (دان له) أردنا أنه أطاعه، وخضع له. فالدِّين هنا هو الخضوع والطاعة، والعبادة والورع. وكلمة: (الدِّين لله) يصح أن منها كلا المعنيين: الحُكم لله، أو الخضوع لله. وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له. (دانه فدان له) أي قهره على الطاعة فخضع وأطاع. 3. وإذا قلنا: (دان بالشيء) كان معنـاه أنه اتخذه دينا ومذهبـا، أي اعتـقده أو اعتاده أو تخلَّق به. فالدِّين على هذا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريًا أو عمليًا. فالمذهب العملي لكل امرئ هو عادته وسيرته؛ كما يقال: (هذا دِيني ودَيْدَني). والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه. ومن ذلك قولهم: (ديَّنت الرجل) أي وَكَلْتُه إلى دينه، ولم أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده. ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابع أيضًا للاستعمالين قبله، لأن العادة أو العقيدة التي يدان بها، لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم اتِّباعها. وجملة القول في هذه المعاني: اللغوية أن كلمة (الدِّين) عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظِّم أحدهما الآخر ويخضع له. فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا، وحُكْمًا وإلزامًا، وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة، أو المظهر الذي يعبر عنها. ونستطيع أن نقول: إن المادة كلها تدور على معنى لزوم الانقياد، ففي الاستعمال الأول، الدِّين هو: إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني، هو: التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث، هو المبدأ الذي يُلتزم الانقياد له. وهكذا يظهر لنا جليًا أن هذه المادة بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وأن ما ظنه بعض المستشرقين [2] من أنها دخيلة، مُعرَّبة عن العبرية أو الفارسية في كل استعمالاتها أو في أكثرها: بعيد كل البعد. ولعلها نزعة شعوبية تريد تجريد العرب من كل فضيلة، حتى فضيلة البيان التي هي أعز مفاخرهم! ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن الذي يعنينا من كل هذه الاستعمالات هو الاستعمالان الأخيران، وعلى الأخص الاستعمال الثالث. فكلمة الدِّين التي تستعمل في تاريخ الأديان لها معنيان لا غير. (أحدهما) هذه الحالة النفسيةetat subjectif التي نسميها التدين religiosite. (والآخر) تلك الحقيقة الخارجية fait odjectif التي يمكن الرجوع إليها في العادات الخارجية، أو الآثار الخارجية، أو الروايات المأثورة، ومعناها: جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقادا أو عملا. doctrine religieuse وهذا المعنى أكثر وأغلب [3] اهـ. الدِّين اصطلاحا: على أن المعنى اللغوي لا يعطينا تمامًا: المفهوم الذي يعرفه الناس ويستخدمونه في أعرافهم ومصطلحاتهم، وقد عرّفه بعض العلماء الإسلاميين بتعريفات متقاربة. فقال ابن الكمال: الدِّين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عن الرسول. وقال غيره: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات [4]. وقال أبو البقاء في (كلياته): الدِّين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات، قلبيا كان أو قالبيا (أي معنويا أو مادِّيا) كالاعتقاد والعلم والصلاة. وقد يُتجوَّز فيه، فيطلق على الأصول خاصة، فيكون بمعنى المِلَّة، وعليه قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام:161]. وقد يُتجوَّز فيه أيضًا، فيطلق على الفروع خاصة، وعليه قوله تعالى: {الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] [5]. وأشهر تعريف تناقله الإسلاميون عن الدِّين ما ذكره صاحب (كشاف اصطلاحات العلوم والفنون): أنه وضع إلهيٌ سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم، إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل [6]. وقد لخصه شيخنا د. دراز بقوله: الدِّين وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات [7]. وأحسب أن تلخيص شيخنا د. دراز ينقصه أن يتضمن (العبادات) مع (الاعتقادات) إلا أن تدخل في عموم السلوك، سواء كان مع الله، أم مع خَلقه. وقد نقل شيخنا دراز عن الغربيين تعريفات عن الدِّين، يلتقي معظمها في الأصل مع المفهوم الاصطلاحي للدين عند علماء المسلمين. ولا بأس أن نذكر هنا بعض هذه التعريفات. يقول سيسرون، في كتابه (عن القوانين): (الدِّين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله). ويقول في كتابه (الدِّين في حدود العقل): (الدِّين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية). ويقول شلاير ماخر، في (مقالات عن الديانة): (قوام حقيقة الدِّين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة). ويقول الأب شاتل، في كتاب (قانون الإنسانية): (الدِّين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق: واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه). ويقول روبرت سبنسر، في خاتمة كتاب (المبادئ الأولية): (الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية، هو العنصر الرئيسي في الدِّين) [8]. مفهوم كلمة (الدِّين) في القرآن: ومن تتبع كلمة (الدِّين) في القرآن الكريم، مُعَرَّفـة أو منكـرة، مجـردة أو مضافة: يجد لها معاني كثيرة يحددها السياق. فأحيانا يُراد بها الجزاء، مثل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]. وأحيانا يُراد بها: الطاعة، كما في قوله تعالى: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:164]. وأحيانا يُراد به: أصول الدِّين وعقائده، كما في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]. فالذي شرع الله لأمة محمد من الدِّين: هو ما وصَّى به أولي العزم من الرسل: نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وهو: أن يقيموا الدِّين ولا يتفرقوا فيه. والدِّين هنا الذي جاءت به الرسل كلهم -كما قال الحافظ بن كثير- هو: عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وفي الحديث: "نحن -معشر الأنبياء- أولاد علات، ديننا واحد" [9]. أي القدر المشترك بينهم، هو: عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جل جلاله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]. لهذا قال تعالى ههنا: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، أي وصَّى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف [10] اهـ. وقد يُراد بالدِّين إذا ذكر في القرآن: الإسلام خاصة، كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33، الفتح:28، الصف:9]. كما قد يُراد به العقيدة التي يدين بها قوم من الأقوام، وإن كانت باطلة، كما في أمره تعالى لرسوله أن يقول للمشركين الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. كلمة الدِّين لا تقتصر على الدِّين الحق: ومن هنا نتبين: أن إطلاق كلمة (الدِّين) لا تعني (الدِّين الحق) وحده، بل تعني: ما يدين به الناس ويعتقدونه، حقا كان أم باطلا. ولقد أنكرتُ ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من المدعويين، كان الحديث فيه عن حوار الأديان، والتقريب بين أهلها ... إلخ، وكان المؤتمر يدور حول هذه المعاني التي تحدث فيها المتحدثون والمشاركون. ولكن هذا العالم قام وقال بصراحة: لا يوجد هناك دين إلا دين واحد، وهو الإسلام، وهو الذي قال القرآن فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، حتى ما يُسَمَّى (الأديان الكتابية) لا يُعْتَد بها، ولا تُعْتبر دينا، بعد أن حرفها أهلها، وجاء الإسلام فنسخها. وقد ألزمني الواجب أن أرد على هذا الكلام الذي ينسف كل ما قيل في المؤتمر، بل جهود الحوار والتقارب بين الأديان والحضارات. وقلتُ فيما قلتُ: أن هذا الكلام يخالف صراحة ما جاء به القرآن، فالقرآن يعتبر أن هناك أديانا أخرى غير الإسلام، وإن كنا نعتبرها أديانا باطلة، ولكنها أديان يدين بها أصحابها. والآية التي استشهد بها المتحدث ترد عليه، وهي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً ...} الآية، فقد سماه الله دينا. وقال تعالى في شأن أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ...} [النساء:171]، بل أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في شأن الوثنيين من المشركين أن يقول لهم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]. وقال عز وجل في شأن الكافرين: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:51]. فالدِّين يشمل ما هو حق، مثل ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وما هو باطل، كالأديان التي جاء بنسخها والظهور عليها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33، الفتح:28، الصف:9]، فما أرسل الله به محمدا هو (دين الحق) الذي وعد الله أن يظهره على (الدِّين كله) أي الأديان كلها، فهي أديان لم يعد لها أحقية بعد ظهور الإسلام. أي أنه أبطلها. الدِّين والإسلام: ومن الضروري هنا أن نقرِّر: أن مفهوم كلمة (الدِّين) ليس هو مفهوم كلمة (الإسلام) كما يتصور ذلك كثير من الكتاب المعاصرين. نعم يمكن أن يكونا شيئا واحدا، إذا أضفنا الدِّين إلى الإسلام أو إلى الله، فنقول (دين الإسلام) أو (دين الله) جاء بكذا أو كذا، أو هو الدِّين الذي بعث الله به خاتم رسله: محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل به آخر كتبه: القرآن الكريم. ولكن إذا ذكرت كلمة (دين) مجردة من الإضافة أو الوصف، فهي أضيق مفهوما من كلمة الإسلام، لأن (الدِّين) في الحقيقة إنما هو جزء من الإسلام. ومن هنا رأينا الأصوليين والفقهاء وعلماء المسلمين يُقَسِّمون المصالح التي جاءت شريعة الإسلام لتحقيقها في الحياة إلى: ضروريات وحاجيات وتحسينات. ويَحْصُرون الضروريات التي لا تقوم حياة الناس إلا بها في خمسة أشياء، وهي: الدِّين والنفس والنسل والعقل والمال. وأضاف بعضهم سادسة، وهي: العرض. فالشريعة الإسلامية من مقاصدها الأساسية: أن تُقِيم (الدِّين) وتحافظ عليه، لأنه سر الوجود، وجوهر الحياة، ومن أجله خَلق الله الناس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56]. بل أعلن القرآن أن الله لم يخلق هذا العالم عُلْويَّه وسُفْليَّه، بسمواته وأرضه، إلا ليعرفه خَلقه، فيؤدوا إليه حقه، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12]. فالدِّين إذن هو ما يحدد العلاقة بين الله سبحانه وخَلقه من المكلَّفين، من حيث معرفته وتوحيده، والإيمان به إيمانا صحيحا بعيدا عن ضلالات الشرك، وأباطيل السحرة، وأوهام العوام. ومن حيث إفراده جل شأنه بالعبادة والاستعانة، فلا يُتوجه بالعبادة إلا إليه، ولا يستعان -خارج الأسباب المعتادة- إلا به سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. ومن هنا نرى كلمة (الإسلام) أوسع دائرة من كلمة (الدِّين). ولهذا نقول: الإسلام دين ودنيا، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، خُلُق وقوة. ورأينا من أدعية نبينا صلى الله عليه وسلم: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي" [11]. وهكذا رأينا: (الدِّين) يقابل بـ(الدنيا)، ورأينا الفقهاء يقولون عن بعض أعمال المكلَّفين: تجوز دينًا أو ديانة، ولا تجوز قضاء أو العكس. ورأينا الكلام عن (الدِّين والسياسة)، أو (الدِّين والدولة) في كلام كثير من العلماء على تنوع اختصاصهم. ________________________________________ [1]- رواه أحمد في المسند (17123) عن شداد بن أوس، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف أبي بكر ابن أبي مريم، وباقي رجال الإسناد ثقات، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2459)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه في الزهد (4260)، والحاكم في المستدرك كتاب التوبة (4/280)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. [2]- انظر: دائرة معارف الإسلام المترجمة جـ9 صـ368، 369. [3]- انظر: الدين لشيخنا د. محمد عبد الله دراز صـ29- 32. [4]- انظر: الزبيدي في (تاج العروس) جـ9 صـ208 مادة (دين) طبعة دار صادر. بيروت. [5]- انظر: الكليات لأبي البقاء صـ433 طبعة مؤسسة الرسالة. بيروت. [6]- كشاف اصطلاحات العلوم والفنون للتهانوي صـ403. [7]- انظر: الدين للدكتور دراز صـ33 طبعة دار القلم. الكويت. [8]- انظر: الدين للدكتور دراز صـ34 وما بعدها. [9]- رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3442) عن أبي هريرة، ومسلم في الفضائل (2365)، وأحمد في المسند (9270)، وأبو داود في السنة (4675) بألفاظ مختلفة قريبة من هذا اللفظ. [10]- تفسير ابن كثير (4/109) طبعة عيسى الحلبي. [11]- رواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2720) عن أبي هريرة. الفصل الثاني مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا السياسة في اللغة: مصدر ساس يسوس سياسة. فيقال: ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والتنظيف وغير ذلك. وأحسب أن هذا المعنى هو الأصل الذي أُخِذ منه سياسة البشر. فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم. ولذا قال شارح القاموس: ومن المجاز: سُسْتُ الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم. وساس الأمر سياسة: قام به. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه [1]. وتعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت -نقلا عن معجم (روبير)- بأنها: (فن إدارة المجتمعات الإنسانية). وحسب معجم (كامل): (تتعلَّق السياسة بالحكم والإدارة في المجتمع المدني). وتبعا لمعجم العلوم الاجتماعية: تشير السياسة إلى: (أفعال البشر التي تتَّصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما: استخدام القوة، أو النضال في سبيلها). ويذهب المعجم القانوني إلى تعريف السياسة أنها: (أصول أو فن إدارة الشؤون العامة) [2]. كلمة (السياسة) في تراثنا الإسلامي إذا عرفنا مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا، فينبغي أن نبحث عنها في تراثنا الإسلامي، وفي فقهنا وفكرنا الإسلامي، وفي مصادرنا الإسلامية. هل نجدها في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي فقه المذاهب المتبوعة، أو غيره من الفقه الحر؟ وهل نجدها عند غير الفقهاء من المتكلمين والمتصوفة والحكماء والفلاسفة؟ وكيف تحدث هؤلاء وأولئك عن السياسة؟ وما الموقف الشرعي المستمد من الكتاب والسنة من هذا كله؟ كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن: كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. ومن قرأ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) يتبين له هذا. ولهذا لم يذكرها الراغب في (مفرداته). ولا (معجم ألفاظ القرآن) الذي أصدره مجمع اللغة العربية. وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها. ولا ريب أن هذا القول ضَرْب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مبثوث في القرآن. أضرب مثلا لذلك بكلمة (العقيدة) فهي لا توجد في القرآن، ومع هذا مضمون العقيدة موجود في القرآن كله، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل العقيدة هي المحور الأول الذي تدور عليه آيات القرآن الكريم. ومثل ذلك كلمة (الفضيلة) فهي لا توجد في القرآن، ولكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالحثِّ على الفضيلة، واجتناب الرذيلة. فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ (السياسة) جاء بما يدل عليها، وينبئ عنها، مثل كلمة (المُلك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم. جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شتَّى، بعضها مدح، وبعضها ذم. فهناك المُلك العادل، وهناك المُلك الظالم، المُلك الشُورِي، والمُلك المستبد. ذكر القرآن في المُلك الممدوح: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54]. وذكر من آل إبراهيم: يوسف الذي ناجى ربه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101]، وإنما قال من المُلك، لأنه لم يكن مستقلا بالحكم، بل كان فوقه مَلِك، هو الذي قال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]. وممَّن آتاهم الله المُلك: طالوت، الذي بعثه الله مَلِكا لبني إسرائيل، ليقاتلوا تحت لوائه، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247]. وذكر القرآن من قصته مع جالوت التي أنهاها القرآن بقوله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251]. يتبع > __________________
|
||||
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() وكذلك سليمان الذي آتاه الله مُلْكا لا ينبغي لأحد من بعده.
وممَّن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكَّنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع مُلكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه. وممَّن ذكره القرآن: مَلِكة سبأ التي قام مُلْكها على الشورى لا على الاستبداد {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32]. وفي مقابل هذا ذم القرآن المُلك الظالم والمتجبر، المسلط على خَلق الله، مثل: مُلك النمروذ، الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك. ومثل: مُلك فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شِيَعًا، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين. وبعض الملوك لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم، مثل مَلِك مصر في عهد يوسف، وهو الذي ولَّى يوسف على خزائن الأرض. وإن كان في حديث القرآن عن بعض تصرفاته ما ينبني عن حسن سياسته في مُلكه. فهذا كله حديث عن السياسة والسياسيين تحت كلمة غير (السياسة). ومثل ذلك: كلمة (التمكين) كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}(يوسف: 56)، وقوله عن بني إسرائيل{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(القصص:5)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }(الحج:41). ومثل ذلك: كلمة (الاستخلاف)، وما يشتق منها، مثل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). وقوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (لأعراف:129). ومثل كلمة (الحُكْم) ومايشتق منها، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء:58) وهي الآية التي أدار عليها ابن تيمية نصف كتابه السياسة الشرعية. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (المائدة:49)، وقوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:50) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي آية:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. ما ورد عن السياسة في السنة: على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضمَّن ما اشتقَّ من السياسة، وهو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" [3]. أول استخدام لكلمة سياسة في معنى الولاية والحكم في تراثنا: وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في مادة (سياسة) [4] قولها: لعل أقدم نص وردت فيه كلمة (السياسة) بالمعنى المتعلِّق بالحكم هو: قول عمرو ابن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمانَ الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير [5]. وهذا مقبول إن كان المقصود كلمة (السياسة) مصدرا. أما المادة نفسها باعتبارها فعلا، فقد وردت كما ذكرناه في الحديث السابق المتفق عليه عن أبي هريرة، وكما وردت بعد ذلك منذ عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، بوصفها فعلا مضارعا. روى ابن أبي شيبة في مصنفه، والحاكم في مستدركه، عن المستظل ابن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمتُ -ورب الكعبة- متى تهلك العرب! فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول [6]. وكذلك رويت نفس الصيغة (صيغة الفعل المضارع) عن سيدنا علي رضي الله عنه. روى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الجعد في مسنده: قال علي: يا أهل الكوفة! والله لَتَجِدُّنَّ في أمر الله، ولتُقاتِلُنَّ على طاعة الله، أو ليَسُوسَنَّكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم، فليعذبنكم ثم ليعذبنهم [7]. ________________________________________ 1]- انظر: مادة (سوس) في تاج العروس (4/169) طبعة دار صادر. بيروت. [2]- انظر: موسوعة العلوم السياسية. إصدار جامعة الكويت صـ102 فقرة (78). [3]- رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3455) عن أبي هريرة، ومسلم في الإمارة (1842)، وأحمد في المسند (7960)، وابن ماجه في الجهاد (2871). [4]- الموسوعة الفقهية الكويتية (25/295، 296). [5]- تاريخ الطبري (5/68) طبعة دار المعارف. القاهرة. [6]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفضائل (6/410) عن المستظل بن حصين، والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم (4/475)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب (6/69). [7]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفتن (7/504) عن المستظل بن حصين، ووقع في المصنف (ليسوا منكم) وهو تصحيف، وابن الجعد في مسنده (1/327) بتحقيق عامر أحمد حيدر. وابن الجعد هو علي ابن الجعد بن عبيد، أبو الحسن الجوهري البغدادي. السياسة عند الفقهاء وتحدث فقهاء المذاهب المختلفة في كتبهم عن السياسة، بمناسبات شتَّى، وخصوصا عند حديثهم عن التعزير: وهو العقوبة غير المقدرة بالنص. السياسة عند المالكية والشافعية: وكان منهم المُوَسِّع في السياسة، والمُضَيِّق فيها، ويبدو أن الشافعية كانوا هم المضيقين في هذا الجانب، أكثر من غيرهم، لأنهم لا يقولون بالمصالح المرسلة. وإن كان الإمام شهاب الدِّين القرافي المالكي (ت684هـ) يذكر في كتابه (تنقيح الفصول): أن كل فقهاء المذاهب قالوا بالمصالح. يقول رحمه الله: (وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرَّقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب) [1]. وهذا هو التحقيق، فالذي يطالع كتب المذاهب الأخرى يجد فيها عشرات ومئات من المسائل إنما يعللونها بتعليلات مصلحية، وإن كان الحنفية والحنابلة أكثر من الشافعية في ذلك. ويذكر القرافي: أن إمام الحرمين -عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت478هـ)- قرَّر في كتابه المسمى بـ(الغياثي) أمورا وجوَّزها وأفتى بها -والمالكية بعيدون عنها- وجسر عليها، وقالها للمصلحة المطلقة [2]، وكذلك الغزالي في (شفاء الغليل) مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا -يعني المالكية- في المصلحة المرسلة [3]. وإمام الحرمين والغزالي شافعيان. ولكن المعروف أن الغزالي في (المستصفى) يعتبر المصلحة من (الأصول الموهومة)، وأن شيخه إمام الحرمين يضيق في السياسة الشرعية، ولا يجيز أي زيادة على المنصوص عليه في العقوبات. تضييق إمام الحرمين في السياسة: وقد نقل الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب -في تحقيقه لكتاب (الغياثي) لإمام الحرمين والتقديم له، وكتابة دراسة قَيِّمة عنه- ما يوضح موقف الإمام رحمه الله، من قضية التوسع في التعزيرات، كما أجازه آخرون باسم السياسة للردع والزجر. وكان مما نقله عنه قوله: (ومما يتعين الاعتناء به الآن، وهو مقصود الفصل: أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تَسْتَدُّ (من السداد) إلا على رأي مالك رضي الله عنه، وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير. ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها [4]! وذهب بعض الجهلة عن غِرة وغباوة: أن ما جرى في صدر الإسلام من التخفيفات، كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد بصفوة الإسلام، وكان يكفي في ردعهم التنبيه اليسير، والمقدار القريب من التعزير، وأما الآن، فقد قست القلوب، وبعدت العهود، ووهنت العقود، وصار متشبث عامة الخَلق الرغبات والرهبات، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات، لما استمرت السياسات) [5]. ويرد ذلك الرأي بعنف، ويدفعه بقوة، قائلا: (وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء، وهو على الحقيقة تسببٌ إلى مضادة ما ابتُعِث به سيد الأنبياء) [6]. ويستمر في تسفيه هذا الرأي قائلا: (وعلى الجملة من ظنَّ أن الشريعة تُتلقى من استصلاح العقلاء، ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة) [7]. ويعود لتأكيد نفس المعنى، فيقول: (وهذه الفنون في رجم الظنون، ولو تسلطت على قواعد الدِّين، لاتخذ كل مَن يرجع إلى مُسكة من عقل فكره شرعا، ولانتحاه ردعًا ومنعًا، فتنتهض هواجس النفوس حالَّة محل الوحي إلى الرسل، ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ فلا يبقى للشرع مستقر وثبات) [8]. ثم يبين السر في هذا الداء، فيقول: (هيهات هيهات. ثقل الاتِّباع على بعض بني الدهر؛ فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد في دين الله أساسا، ولاستصوابه راسا، حتى ينفض مِذرَويه، ويلتفت في عطفيه اختيالاً وشماسًا. فإذا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير) [9]. ثم يصرح بتفشي هذا الداء -مجاوزة الحد في العقوبات- في زمانه، ويجأر بالشكوى، وكأنه يعتذر عن إطالته في هذا الموضوع، فيقول: (وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زمامي، وجاوزت حد الاقتصاد في كلامي، لأني تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور الرجال) [10]. ويرى أن أصحاب السياسات لم يحيطوا فَهما بمحاسن الشريعة، ولذا يزعمون أن التعزير المحطوط عن الحدود لا يزع ولا يدفع، وأن هذا منهم جهل وسوء قصد. قال: (والذي يبديه أصحاب السياسات أن التعزير المحطوط عن الحد لا يزع ولا يدفع، وغايتهم أن يزيدوا على مواقف الشريعة، ويتعدّوها ليتوصلوا بزعمهم إلى أغراض رأوها في الإيالة ... وإنما ينسل عن ضبط الشرع، من لم يحط بمحاسنه، ولم يطلع على خفاياه ومكامنه، فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة، لألفاها أو خيرًا منها في وضع الشرع ... فهذا مسلك السداد، ومنهج الرشاد والاقتصاد، وما عداه سرف ومجاوزة حد، وغلوٌّ وعتوٌّ) [11]. ولا يفوته في هذا المقام أن يقف في وجه رجال الأمن الذين (يرون ردع أصحاب التهم، قبل إلمامهم بالهنات والسيئات)، ويقول: (إن الشرع لا يرخص في ذلك) [12]. هذا هو رأي إمام الحرمين، في تشديده وتضييقه، وإن كان يخالف ما ذكره القرافي! وهو هنا يمثل فقه الشافعية، وكيف لا، وهو الذي تشير إليه كتب المذهب بـ(الإمام) فإذا قالوا: قال الإمام، فليس غير إمام الحرمين. وأما مذهب مالك، فقد نقل ابن فرحون في (تبصرة الحكام) عن القرافي قوله: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة، وتشهد له القواعد. ومن أهمها كثرة الفساد وانتشاره، والمصلحة المرسلة التي قال بها مالك وجمع من العلماء [13]. ولا ريب أنَّ أخذ الإمام مالك بالمصلحة المرسلة، واشتهاره بها، وتوسُّعه فيها أكثر من غيره، يجعل له رخصة في مساحة أرحب في التفكير السياسي، والتصرف السياسي، للأئمة والأمراء. ولهذا نجد الإمام القرافي في كتابه (تنقيح الفصول) حين استدل على شرعية المصلحة المرسلة، اتخذ أمثلته وشواهده، من تصرفات الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدين، وأنهم عملوا أمورا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة أبي بكر للمصحف، ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى (بين ستة)، وتدوين الداواوين، وعمل السِّكة (النقود)، واتخاذ السجن، فعل ذلك عمر رضي الله عنه، وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، فعله عثمان رضي الله عنه [14]. وأيضا ما فعله عمر من اتخاذ تاريخ خاص للمسلمين، إلى سائر (أَوَّلياته) التي عُرف بها. ومثله جمع عثمان الناس على مصحف واحد، وإحراق ما عداه، وتضمين علي للصناع المحترفين، ما بأيديهم من أموال الناس، حتى يثبتوا أنها هلكت بغير إهمال ولا تعدٍّ منهم ... إلخ. فهذه كلها من أعمال السياسة الشرعية للإمام أو الحاكم قام بها لمقتضى المصلحة للجماعة أو للأمة. كل ما هو مطلوب هنا: ألا نصادم نصا مُحْكما من نصوص الشرع، ولا قاعدة مقطوعا بها من قواعده. وربما كان أوسع المذاهب في ذلك مذهب الحنابلة، كما سنرى فيما ذكره الإمام ابن عقيل، وعلَّق عليه الإمام ابن القيم. السياسة في الفقه الحنفي: وقد تكلم علماء المذهب الحنفي عن السياسة -أكثر ما تكلموا- عند حديثهم عن حد الزنى، وما ورد فيه من حديث نفي الزاني غير المحصن وتغريبه سنة عن بلده الذي حدثت فيه جريمة الزنى، فقد فسروا هذا التغريب: بأنه نوع من (السياسة) أو التعزير. فلا مانع أن يفعله الإمام أو القاضي النائب عنه للردع والتأديب إذا رأى في ذلك مصلحة، ولم يخشَ من ورائه فتنة. فهو من (السياسة الشرعية) المبرَّرة والمبنية على قواعد الشرع. وهنا تعرض علماء المذهب بهذه المناسبة للكلام عن السياسة. وقد استوفى ذلك علاّمة المتأخرين ابن عابدين في حاشيته الشهيرة، (رد المحتار على الدر المختار) ونقل فيها عن القُهستانيّ قوله: (السياسة لا تختص بالزنى، بل تجوز في كل جناية، والرأي فيها إلى الإمام -على ما في (الكافي)- كقَتْل مبتدع يُتَوَهَم منه انتشار بدعته وإن لم يُحكم بكفره، كما في (التمهيد)، وهي مصدر: ساس الوالي الرعية: أَمرَهم ونهاهم، كما في (القاموس) وغيره، فالسياسة استصلاح الخَلق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة، فهي من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم، ومن السلاطين والملوك على كل منهم في ظاهره لا غير، ومن العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير، كما في (المفردات) [15] وغيرها) اهـ، ومثله في (الدر المنتقى) [16]. قلتُ: (ابن عابدين) وهذا تعريف للسياسة العامة الصادقة على جميع ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام الشرعية، وتستعمل أخص من ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل، كما قالوا في اللوطي والسارق والخنَّاق: إذا تكرر منهم ذلك حلَّ قتلهم سياسة، وكما مر في المبتدع، ولذا عرَّفها بعضهم: بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسما لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه: أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم يُنَصَّ عليها بخصوصها، فإن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم. ولذا قال في (البحر) [17]: (وظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرِد بذلك الفعل دليل جزئي) اهـ وفي (حاشية مسكين) عن (الحموي): (السياسة شرع مُغَلَّظ، وهي نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تُخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم. وتردع أهل الفساد، وتُوصِل إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع، فمن أراد تفصيلها فعليه بمراجعة كتاب (مُعين الحكام) للقاضي (علاء الدِّين الأسود الطرابلسي الحنفي)) اهـ. قلتُ: (ابن عابدين) (والظاهر أن السياسة والتَّعزير مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير، كما وقع في (الهداية) و(الزيلعي) وغيرهما، بل اقتصر في (الجوهرة) على تسميته تعزيرا، وسيأتي أن التعزير تأديب دون الحد، من العَزْر بمعنى الرَّد والردع، وأنه يكون بالضرب وغيره، ولا يلزم أن يكون بمقابلة معصية، ولذا يضرب ابن عشر سنين على الصلاة، وكذلك السياسة كما مر في نفي (عمر) لـ (نصر بن حجاج)، فإنه ورد أنه قال لـ (عمر): ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا ذنب لك، وإنما الذنب لي؛ حيث لا أطهر دار الهجرة منك [18]. فقد نفاه؛ لافتتان النساء به، وإن لم يكن بصنعه، فهو فِعلٌ لمصلحة، وهي قطع الافتتان بسببه في دار الهجرة التي هي من أشرف البقاع، ففيه رَد وردع عن منكر واجب الإزالة! وقالوا: إن التعزير موكول إلى رأي الإمام. فقد ظهر لك بهذا أن باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة، وسيأتي بيانه، وبه عُلِم أن فعل السياسة يكون من القاضي أيضا، والتعبير بالإمام ليس للاحتراز عن القاضي، بل لكونه هو الأصل والقاضي نائب عنه في تنفيذ الأحكام) [19]. ويبدو من كلام فقهاء الحنفية: أن السياسة تتعلَّق بجانب العقوبات والتأديب لا تتعداه. ولذا قالوا: إن السياسة والتعزير مترادفان. والذي أرجحه: أن السياسة أعم من التعزير، فهي تدخل في أكثر من مجال في شؤون العادات والمعاملات: من الإدارة والاقتصاد والسلم والحرب والعلاقات الاجتماعية والدستورية والدولية وغيرها. وسنرى أن تعريف الإمام ابن عقيل للسياسة أوسع وأوفى مما ذكره من ذكره من علماء الحنفية وغيرهم. فقد عرف السياسة بأنها: كل تصرف من ولي الأمر يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يأت به الشرع، بشرط ألا يخالف ما جاء به الشرع. وهو ما سنبحث عنه في ما يلي. دور ابن القيم في توضيح السياسة الشرعية: والحق أني لم أجد من الفقهاء في تاريخنا، من تكلم عن السياسة الشرعية وشرحها فأحسن شرحها، وكَشَف اللثام عن مفهومها، وبين الفرق بين السياسة العادلة، والسياسة الظالمة، وأن الأولى إنما هي جزء من الشريعة، وليست خارجة عنها، ولا قسيما لها، مثل الإمام ابن القيم (ت751هـ) رحمه الله، في كتابين من كتبه: (إعلام الموقعين) و(الطُّرق الحُكمية). ويحسن بنا أن ننقل كلامه هنا لما فيه من قوة الحجة، ونصاعة البيان، المؤيد بالبرهان. يقول رحمه الله في (الطُّرق الحُكمية) مُعلِّقا على ما قاله الإمام الحنبلي أبو الوفا ابن عقيل (ت513هـ)، الذي قال عنه ابن تيمية: كان من أذكياء العالم. وكل الذين درسوا ابن عقيل يعلمون أنه رجل بالغ الذكاء، موسوعي المعرفة، حُرُّ التفكير. قال: (قال ابن عقيل في (الفنون): جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم. ولا يخلو من القول به إمام. فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح. وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع: فغلط، وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن. ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف [20]، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق علي رضي الله عنه، الزنادقة في الأخاديد، فقال: لما رأيت الأمر أمرا منكرا ..... أججت ناري ودعوت قُنْبرا [21] ونفي عمر رضي الله عنه لنصر بن حجاج اهـ. قال ابن القيم مُعلِّقا: (وهذا موضع مَزَلَّة أقدام، ومَضَلَّة أفهام. وهو مقام ضنك، ومعترك صعب. فرط فيه طائفة: فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها. وسدوا على نفوسهم طُرُقا صحيحة من طُرُق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا: أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولَعَمْرُ الله! إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نَفَتْ ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم. والذي أوجب ذلك: 1. نوع تقصير في معرفة الشريعة. 2. وتقصير في معرفة الواقع. 3. وتنزيل أحدهما على الآخر. فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمر، إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة: أحدثوا من أوضاع سياستهم شرّا طويلا، وفسادا عريضا. فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه، وعزَّ على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك. وأفرطت طائفة أخرى، قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله وحكم رسوله. وكلا [22] الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه. فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإن ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان: فثَمَّ شرع الله ودينه. والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طُرُق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيَّن سبحانه بما شرعه من الطُّرُق: أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط: فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدِّين، ليست مخالفة له) اهـ. وصدق ابن القيم حين بيَّن أن العيب ليس في الشريعة، وإنما في الذين يسدون كل باب لرعاية المصالح، والنظر في المقاصد، والتدبر في المآلات والموازنات والأولويات، ويضيقون على الناس ما وسع الله عليهم، ويضيعون على الأمة مصالح كثيرة بسوء فَهمهم وتزمتهم وجمودهم. وفي مقابلهم: المفَرّطون المتسيبون الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يتقيدون بنصوص القرآن والسنة، وقد رأينا في عصرنا منهم الكثير، فهم يزينون للأمراء والحكام ما يريدون، ويجعلون الشريعة عجينة لينة في أيديهم، يشكلونها بأهوائهم وأهواء سادتهم، كما يحلو لهم. والحق بين تضييع هؤلاء، وغلو أولئك. ونعود لنستكمل مقولة ابن القيم، فهو يقول: (فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه. ونحن نسميها (سياسة) تبعا لمصطلحكم. وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات. فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة [23]. وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم. فمن أطلق كل متهم وحلَّفه وخلَّى سبيله -مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل- فقوله مخالف للسياسة الشرعية. وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الغالَّ من الغنيمة سهمه، وحرَّق متاعه هو وخلفاؤه من بعده [24]. ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع [25]. وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة [26]. وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها [27]. وقال في تاركي الزكاة: "إنا آخذوها منه وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا" [28]. وأمر بكسر دنان الخمر [29]، وأمر بكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام. ثم نسخ عنهم الكسر، وأمرهم بالغسل [30]. وأمر المرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها) [31] اهـ. إلى غير ذلك مما ثبت بصحاح الأحاديث. من سياسته صلى الله عليه وسلم. وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه، فمن ذلك: أن أبا بكر رضي الله عنه، حرق اللوطية، وأذاقهم حَرَّ النار في الدنيا قبل الآخرة. يتبع > |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() وحرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حانوت الخمار بما فيه. وحرق قرية يباع فيها الخمر.
وحرق قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب في قصره عن الرعية. وحلق عمر رأس نصر بن حجاج، ونفاه من المدينة لتشبيب النساء به [32]. وضرب صَبِيغ بن عِسْل على رأسه، لما سأل عما لا يعنيه. وصادر عماله. فأخذ شطر أموالهم لما اكتسبوا بجاه العمل، واختلط ما يختصون به بذلك. فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين. وألزم الصحابة أن يُقِلُّوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتغلوا به عن القرآن، سياسة منه، إلى غير ذلك من سياساته التي ساس بها الأمة رضي الله عنه. ومن ذلك: جمع عثمان رضي الله عنه، الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة بها، لما كان في ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة رضي الله عنهم، على الأمة أن يختلفوا في القرآن، ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم، وأبعد من وقوع الاختلاف: فعلوا ذلك، ومنعوا الناس من القراءة بغيره. ومن ذلك: تحريق علي رضي الله عنه، الزنادقة الرافضة، وهو يعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكافر، ولكن لما رأى أمرا عظيما جعل عقوبته من أعظم العقوبات، ليزجر الناس عن مثله. ولذلك قال: لما رأيت الأمر أمرا منكرا ...... أججت ناري ودعوت قُنْبرا مرونة السياسة الشرعية وقابليتها للتطور: ثم قال ابن القيم: (والمقصود: أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، تختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة. ولكل عذر وأجر. ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين. وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وأضعافُها هي من تأويل القرآن والسنة. ولكن هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح، فتتقيد بها زمانا ومكانا؟) [33] اهـ. ولا ريب أنها سياسات جزئية اقتضتها المصالح في زمانها ومكانها وحالها، فإذا تغيَّر الزمان أو تبدَّل المكان أو تطوَّر الحال: وجب النظر في الأحكام القديمة في ضوء الظروف الجديدة. وهنا يمكن أن تعدَّل أو تغير، وفق الظروف والمصالح المستحدثة. ولا يجوز الجمود على القديم، وإن كان من وراء ذلك من الضرر على المجتمع والأمة ما فيه، بدعوى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. فالواقع أن في إمكان الإنسان أن يفعل الكثير، إذا توافر له العلم والإرادة، ولا سيما في عصرنا الذي منح الإنسان طاقات وقدرات هائلة، لم تدر بخلده من قبل. ومن المعلوم أن ما أقرَّه ابن القيم في كلامه عن سياسة التعزير بالعقوبات المالية -وهو مذهب الحنابلة- خالفته مذاهب أخرى، وإن كان ما ذكره ابن القيم هو الراجح للأدلة التي استند إليها. وفي هذا الاختلاف بين المذاهب والفقهاء سَعَة ورحمة للأمة، بصفة عامة، وفي مجال السياسة بصفة خاصة. لا لننظر في الأقوال ونأخذ منها ما نشتهي وما يحلو لنا، دون ترجيح بأي معيار، فهذا ليس إلا اتِّباعا للهوى. ولكن هذه الثروة الكبيرة تتيح فرصة أوسع للانتقاء، والترجيح بين الآراء، واختيار ما هو أليق بتحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، التي لأجلها نزلت الشريعة. تعقيب عام على السياسة عند الفقهاء: ما ذكرناه في الصحائف السابقة يتعلَّق بموقف الفقهاء من مصطلح (السياسة) وتحديد مفهومها، ونظرتهم إليها بين موسِّع ومضيِّق. ولكن إذا نظرنا إلى (السياسة) من حيث (المضمون) وهو: ما يتعلَّق بتدبير أمور الرعية، وأداء الحقوق والأمانات إليهم، ونحو ذلك، فقد تحدث الفقهاء عن ذلك حديثا أطول، بعضه في داخل كتب الفقه في أبواب معروفة مثل: باب الأمانة، والقضاء، والحدود، والجهاد، وغيرها. وبعضه في كتب خاصة عنيت بموضوعات الحكم والسياسة والإدارة والمال وغيرها، كما رأينا في كتب معروفة، مثل: (الأحكام السلطانية) لأبي الحسن الماوردي الشافعي (ت450هـ)، ومثله بنفس العنوان لأبي يعلى الفراء الحنبلي (ت456هـ)، و(غياث الأمم في التياث الظلم) أو (الغِياثي) لإمام الحرمين الجويني الشافعي (ت476هـ)، و(السياسة الشرعية) لابن تيمية الحنبلي (ت728هـ)، و(الطُّرق الحُكمية) لابن القيم (ت751هـ)، وتبصرة الحكام لابن فرحون المالكي (ت799هـ)، وتحرير الأحكام لابن جماعة (ت819هـ)، ومُعِين الحكام للطرابلسي الحنفي (ت844هـ) وغير ذلك مما أُلِّف ليكون مرجعا للقضاة والحكام. وهناك الكتب التي تتعلَّق بسياسة المال خاصة، مثل: (الخراج) لأبي يوسف أكبر أصحاب أبي حنيفة (ت182هـ) صنفه لهارون الرشيد ليسير عليه في سياسته المالية. وكذلك (الخراج) ليحيى بن آدم (ت203هـ)، و(الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ)، وهو أعظم ما أُلِّف في الفقه المالي في الإسلام. و(الأموال) لابن زنجويه (ت248هـ)، و(الاستخراج في أحكام الخراج) لابن رجب الحنبلي (ت795هـ). هذا بالإضافة إلى ما كتبه العلماء عن السياسة في كتب العقائد أو كتب (علم الكلام) كما كان يسمى، فقد اضطر أهل السنة أن يكتبوا عن الإمامة وشروطها ووظائفها وغير ذلك في كتب العقيدة، لأن الشيعة يعتبرون (الإمامة) في مذهبهم من أصول العقيدة، فيتحدثون عنها في كتبها. فلهذا خاض علماء أهل السنة في هذا الموضوع ليثبتوا موقفهم المخالف في هذه القضية، من حيث إن الإمام لا يشترط أن يكون من أهل البيت، وإن اشترط أكثرهم أن يكون من قريش، وإن الإمام يختار من الأمة، وأنه ليس بمعصوم من الخطأ ولا الخطيئة، وإنه يؤخذ منه ويرد عليه. كما أن من علماء أهل السنة من تعرض لأمر السياسة في كتب (التصوف)، كما رأينا الإمام أبا حامد الغزالي (ت505هـ) يتعرض لذلك في موسوعته الشهيرة (إحياء علوم الدِّين)، إضافة إلى تعرضه لها في كتب علم الكلام مثل (الاقتصاد في الاعتقاد). من ذلك ما كتبه في (كتاب العلم) من الإحياء عن الفقه والسياسة، أو العلاقة بين الفقيه والسياسي، فهو يجعل الفقه من علوم الحياة أو علوم الدنيا، وهنا يذكر أن الناس لو تناولوا أمور الدنيا بالعدل لانقطعت الخصومات، وتعطل الفقهاء! ولكنهم تناولوها بالشهوات، فتولدت منها الخصومات، فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به. (فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخَلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طُرُق سياسة الخَلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا. ولعَمْرِي إنه متعلِّق أيضا بالدِّين، لكن لا بنفسه، بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدِّين إلا بالدنيا. والمُلك والدِّين توأمان، فالدِّين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم المُلك والضبط إلا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه) [34]. ________________________________________ [1]- شرح تنقيح الفصول: صـ181. [2]- أعتقد أنه يريد ما جوزه من فرض ضرائب على القادرين، إذا خلا بيت المال، وأصبحت حاجة الجهاد والدفاع تحتم إيجاد موارد للجند المدافعين، حتى لا تتعرض بلاد المسلمين كلها للخطر. وهو ما ذكره في (الغياثي) فقرة رقم (370) وما بعدها. [3]- شرح تنقيح الفصول: صـ199. [4]- لم يذكر لنا إمام الحرمين هنا ولا في كتابه الأصولي الشهير (البرهان): أين نقل هذا عن مالك، فلم يذكره في (الموطأ) ولم يرد في (المدونة)، ولا في غيرها من كتب مذهبه، ولم ينقل هذا أحد من العلماء المعروفين، الذين عنوا بنقل أقوال الأئمة وفقهاء السلف، مثل: عبد الرزاق، وابن أبي شيبة في مصنفيهما، والطحاوي والبيهقي في كتبهما. وقد أنكر هذا القول علماء المالكية بشدة، كما في منح الجليل شرح مختصر خليل، حيث قال: (في التوضيح (أي من كتب المالكية): أبو المعالي (وهو إمام الحرمين قال): الإمام مالك رضي الله تعالى عنه، كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح، وقد نقل عنه قتل ثلث العامة لإصلاح الثلثين. المازري: ما حكاه أبو المعالي عن مالك صحيح. زاد الحطاب بعده عن شرح (المحصول): ما ذكره إمام الحرمين عن مالك لم يوجد في كتب المالكية. البُناني: شيخ شيوخنا المحقق محمد بن عبد القادر: هذا الكلام لا يجوز أن يسطر في الكتب؛ لئلا يغتر به بعض ضعفة الطلباء، وهذا لا يوافق شيئا من القواعد الشرعية. الشهاب القرافي: ما نقله إمام الحرمين عن مالك: أنكره المالكية إنكارا شديدا، ولم يوجد في كتبهم. ابن الشماع: ما نقله إمام الحرمين لم ينقله أحد من علماء المذهب، ولم يخبر أنه رواه نقلته، إنما ألزمه ذلك، وقد اضطرب إمام الحرمين في ذكره ذلك عنه، كما اتضح ذلك من كتاب (البرهان). وقول المازري: ما حكاه أبو المعالي صحيح: راجع لأول الكلام. وهو: أنه كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح، لا إلى قوله: نقل عنه قتل الثلث إلخ، أو أنه حمله على تترس الكفار ببعض المسلمين، وقوله: مالك يبني مذهبه على المصالح كثيرا: فيه نظر؛ لإنكار المالكية ذلك إلا على وجه مخصوص حسبما تقرر في الأصول، ولا يصح حمله على الإطلاق والعموم حتى يجري في الفتن التي تقع بين المسلمين وما يشبهها. وقد أشبع الكلام في هذا شيخ شيوخنا العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي العربي الفاسي في جواب له طويل، وقد نقلت منه ما قيدته أعلاه، وهو تنبيه مهم تنبغي المحافظة عليه لئلا يغتر بما في التوضيح اهـ. وأما تأويل "ز" بأن المراد قتل ثلث المفسدين إذا تعين طريقا لإصلاح بقيتهم فغير صحيح، ولا يحل القول به، فإن الشارع إنما وضع لإصلاح المفسدين الحدود عند ثبوت موجباتها، ومن لم تصلحه السنة فلا أصلحه الله تعالى، ومثل هذا التأويل الفاسد هو الذي يوقع كثيرا من الظلمة المفسدين في سفك دماء المسلمين نعوذ بالله من شرور الفساد). انظر: منح الجليل شرح مختصر خليل باب في بيان أحكام الإجارة وكراء الدواب وغيرها صـ514، 515. وانظر: كلام إمام الحرمين في البرهان (2/733، 783، 785). [5]- فقرة: 321، 322. من (غياث الأمم). [6]- فقرة: 323. [7]- فقرة: 323. [8]- فقرة: 324. [9]- فقرة: 324. [10]- فقرة: 326. [11]- فقرة: 333، 332. [12]- فقرة:334. [13]- انظر: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/150 - 152) طبعة الحلبي. مصر. [14]- انظر: تنقيح الفصول للقرافي صـ199. [15]- إن كان يعني (مفردات القرآن) للراغب الأصفهاني، فلا توجد فيه مادة (سياسة) ومشتقاتها، لأنها ليست كلمة قرآنية، كما ذكرنا. فلا أدري ماذا يعني بـ (المفردات)! [16]- الدر المنتقى: كتاب الحدود (1/590). هامش مجمع الأنهر. [17]- البحر لابن نجيم: كتاب الحدود (5/11). [18]- كان في نفسي شيء من فعل سيدنا عمر رضي الله عنه، الذي اشتهر بإقامة العدل، وإنصاف المظلوم من ظالمه، ولو كان واليا من ولاته. فكيف يعاقب رجلا لا ذنب له، إلا أن الله خلقه جميلا، يخرجه من داره، لمجرد أن امرأة ذكرته في شعرها! وإذا كان يخاف منه على نساء المدينة، أفلا يخاف منه على نساء البصرة؟ ثم ترجَّح عندي أن أبحث عن سند القصة، فلعلها -رغم شهرتها- لم تثبت بطريق صحيح على منهج المحدثين. وبعد الرجوع إلى أسانيد القصة: وُجد أن أصح طرقها لم يروها أحد شاهدها أو عاصرها من الصحابة أو التابعين، كما أنها لم ترو بسند صحيح متصل. وقد روى القصة اثنان من التابعين: الأول: الشعبي، (رواها أبو نعيم في الحلية: 4/322)، وقد مات عمر وعمره أربع سنوات، ولذا قال الذهبي وغيره: لم يسمع من عمر، على أن السند إلى الشعبي فيه عدد من الضعفاء، حتى إن منهم من اتهم بالكذب! والثاني: عبد الله بن بريدة، (رواها ابن سعد في الطبقات: 3/285)، وهو لم يشهد القصة أيضا، فقد مات عمر وهو في السابعة من عمره، ولذا قالوا: لم يسمع من عمر. على أن ابن بريدة ذاته كان في نفس الإمام أحمد منه شيء، وبعض من روى عنه فيه كلام كثير. وهناك طرق أخرى كلها أضعف من هاتين الطريقين، رواها ابن عساكر، ولهذا لم نذكرها. وبهذا لم تثبت هذه القصة بسند تقوم به الحجة، وتصبح من المسلمات التاريخية، وتحسب على الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [19]- انظر: حاشية ابن عابدين جـ12 صـ49 – 52 طبعة دار الثقافة والتراث. دمشق سورية. بتحقيق د. حسام الدين فرفور. [20]- وذلك لما أدخل بعض الصحابة في مصاحفهم تفسير بعض الكلمات، ثم أخذ القراء ينقلون هذه المصاحف، وبعضهم لا يفرق المُفَسَّر من المُفَسِّر، جمع عثمان المصاحف كلها وأحرقها بموافقة الصحابة، وكتب المصحف الإمام. وألزم الناس ألا يأخذوا إلا عنه. [21]- هو غلام علي رضي الله عنه، وانظر: التمهيد لابن عبد البر: 5/318، وتاريخ دمشق: 42/476. [22]- المعروف في ذلك أن يقال: كلتا الطائفتين. كما قال الله تعالى: { كلتا الجنتين آتت أكلها} [الكهف:33]. [23]- إشارة إلى حديث: "أن النبي حبس رجلا في تهمة"، وقد رواه أحمد في المسند (20019) عن معاوية ابن حيدة، وقال محققوه: إسناده حسن، وأبو داود في الأقضية (3630)، والترمذي في الديات (1417)، وقال: حديث حسن، والنسائي في قطع السارق (4875)، والحاكم في المستدرك كتاب الأحكام (4/114)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعند أحمد والنسائي: "حبس ناسا". [24]- إشارة إلى حديث: "إذا وجدتم الرجل قد غلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه"، وقد رواه أبو داود في الجهاد (2713) عن عمر، والترمذي في الحدود (1461)، وقال: حديث غريب، والحاكم في المستدرك كتاب الجهاد (2/138) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/102) وضعفه، وأبو يعلى في المسند (1/180). [25]- إشارة إلى حديث: قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله عوف بن مالك فأخبره، فقال لخالد: "ما منعك أن تعطيه سلبه؟" قال: استكثرته يا رسول الله. قال: "ادفعه إليه". فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول الله فاستغضب، فقال: "لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما أنا مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلا أو غنما فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره، فصفوه لكم وكدره عليهم"، وقد رواه مسلم في الجهاد والسير (1753) عن عوف بن مالك، وأحمد في المسند (23987). [26]- إشارة إلى حديث: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم"، وقد رواه البخاري في الخصومات (2420) عن أبي هريرة، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (651)، وأبو داود في الصلاة (549)، والترمذي في الصلاة (217)، والنسائي في الإمامة (848). [27]- إشارة إلى حديث: "ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها"، وقد رواه أبو داود في اللقطة (1718) عن أبي هريرة، وعبد الرزاق في المصنف كتاب اللقطة (10/129)، والبيهقي في الكبرى كتاب اللقطة (6/191)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1511). [28]- رواه أحمد في المسند (20053) عن معاوية بن حيدة، وقال محققوه: إسناده حسن، وأبو داود في الزكاة (1575) والنسائي في الزكاة (2444) والحاكم في المستدرك كتاب الزكاة (1/554) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. [29]- إشارة إلى حديث: "أهرق الخمر واكسر الدنان"، وقد رواه الترمذي في البيوع (1293) عن أبي طلحة، والطبراني في الكبير (5/99)، والدارقطني في السنن كتاب الأشربة وغيرها (4/265)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1039). [30]- إشارة إلى حديث: أن النبي رأى نيرانا توقد يوم خيبر قال: "على ما توقد هذه النيران؟" قالوا: على الحمر الإنسية. قال: "اكسروها وأهرقوها" قالوا: ألا نهريقها ونغسلها؟ قال: "اغسلوا"، وقد رواه البخاري في المظالم (2477) عن سلمة بن الأكوع، ومسلم في الجهاد والسير (1802). [31]- إشارة إلى حديث: بينما رسول الله في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله فقال: "خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة"، وقد رواه مسلم في البر والصلة والآداب (2595) عن عمران بن حصين، وأحمد في المسند (19870)، وأبو داود في الجهاد (2561). [32]- سبق الكلام عن سند هذه القصة وما في النفس منها. [33]- انظر: الطرق الحكمية صـ41 – 50 طبعة المكتب الإسلامي ببيروت، وانظر: إعلام الموقعين (4/372 - 375) طبعة مطبعة السعادة بمصر. بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. [34]- انظر: الإحياء (1/17) طبعة دار المعرفة. بيروت. السياسة عند الحكماء(الفلاسفة) وكما عني علماء الإسلام -من فقهاء وأصوليين ومتكلمين- بأمر السياسة، وتحدثوا عنها: عني بها الفلاسفة والحكماء [1]، من أمثال أبي نصر الفارابي الفيلسوف المشَّائي (نسبة إلى المدرسة المشَّائية المنسوبة لأرسطو)، الذي لقَّبه أهل الفلسفة بالمعلم الثاني (ت339هـ)، حيث لقَّبوا (أرسطو) بـ(المعلم الأول) ... وله في الفلسفة كتابه المعروف (آراء أهل المدينة الفاضلة). وهو شبيه بكتاب (أفلاطون) الشهير (جمهورية أفلاطون)، ورسالتا (تحصيل السعادة) و(رسالة السياسة) وكتاب (الفصول المدنية)، وقد أطلق عليه بعض الباحثين (أبو الفلسفة السياسية الإسلامية)، لأنه أول فيلسوف إسلامي توسَّع في تناول هذا الموضوع [2].وبعده الفيلسوف الكبير أبو علي ابن سينا (ت428هـ)، الذي تأثر بالفارابي وفكره، ولكنه لم يفرد لـ(السياسة) بحثا كافيا، شأنه في القضايا الأخرى، لكنه قدَّم مجموعة آراء موزَّعة في كتابه (الشفاء) تعكس صورا من العصر الذي عاش فيه. والسياسة عند ابن سينا تعني: حسن التدبير وإصلاح الفساد. ويرى أن الملوك هم أحق الناس بإتقانها ... لكنه يرى أن السياسة ليست محصورة في الملك وأصحاب السلطان، فكل إنسان بطبيعته في حاجة إلى السياسة مهما كان مركزه الاجتماعي. ولهذا تحدث عن سياسة الرجل نفسه ... سياسة الرجل دخله وخَرجه ... سياسة الرجل أهله ... سياسة الرجل ولده ... سياسة الرجل خدمه. وعلى كل حال، فإن فلاسفة المدرسة المشَّائية الإسلامية، ينطلقون من نظرة فلسفية عقلية، متأثرة بالفلسفة اليونانية، وخصوصا: المدرسة الأرسطية. ولم نجد عندهم ثقافة إسلامية تربطهم بالشريعة ومصادرها، أصولها ومقاصدها. إلا ما كان عند الفيلسوف العملاق: أبي الوليد ابن رشد الحفيد (ت595هـ)، فهو حين تحدث في السياسة اعتمد على الشريعة منطلقا له، باعتباره رجلا جمع بين الفقه والفلسفة، أو بين الشريعة والحكمة، على حد تعبيره [3]. السياسة عند الفلاسفة الأخلاقيين: وهناك نوع من الحكماء - وإن شئنا قلنا: الفلاسفة - يتميزون بالنظر الفلسفي العميق، الموصول بالشريعة، وبالكتاب والسنة، والأوامر والنواهي، وإن لم يخل من تأثر بالمصدر اليوناني. وأذكر من هؤلاء اثنين: أولهما: الفيلسوف الأخلاقي الشهير: مسكويه، أو ابن مسكويه كما يقال أحيانا، الذي رأينا في كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) -وهو كتاب في فلسفة الأخلاق- استمدادا من الدِّين، واتصالا به في بعض الأحيان، كقوله عن المُلك: (والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هو الإمام، وصناعته هي صناعة المُلك، والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدِّين وقام بحفظ مراتبه وأوامره وزواجره. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبًا، ولا يؤهلونه لاسم الملك. وذلك أن الدِّين هو وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى، والمُلك هو حارس هذا الوضع الإلهي حافظ على الناس ما أخذوا به. وقد قال حكيم الفرس ومَلِكهم أزدشير: إن الدِّين والمُلْك أخوان توأمان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر، فالدِّين أسّ والمُلك حارس، وكل ما لا أسّ له فمهدوم، وكل ما لا حارس له فضائع) [4]. وأما الحكيم الآخر: فهو أقرب إلى الدِّين منه إلى الفلسفة، وإن كان في نظراته عمق الفيلسوف الأصيل، ولكنه فيلسوف ديني، تصدر أفكاره معبِّرة عن الثقافة الإسلامية. ذلك هو الإمام الحسن بن محمد بن المفضَّل المعروف بـ(الراغب الأصفهاني) صاحب كتاب (مفردات القرآن) -المعترف بفضله وقدره في (علوم القرآن)- وكتاب (تفصيل النشأتين) وغيرهما. وقد تحدَّث عن (السياسة) في كتابه الفريد (الذريعة إلى مكارم الشريعة)، وهو أيضا كتاب في فلسفة الأخلاق، التي سماها (مكارم الشريعة). قال رحمه الله: (والسياسة ضربان: أحدهما: سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به. والثاني: سياسة غيره من ذويه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره مَن لا يصلح لسياسة نفسه، ولهذا ذمَّ الله تعالى من ترشَّح لسياسة غيره، فأمر بالمعروف ونهى عن المكر، وهو غير مهذب في نفسه، فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3،2]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]، أي هذِّبوها قبل التَّرشح لتهذيب غيركم. وبهذا النظر قيل: تفقهوا قبل أن تسودوا [5]، تنبيها أنكم لا تصلحون للسيادة قبل معرفة الفقه والسياسة العامة، ولأن السائس يجري من المسوس مجرى ذي الظل من الظل، ومن المحال أن يستوي الظل وذو الظل أعوج، ولاستحالة أن يهتدي المسوس مع كون السائس ضالا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:26]، فحكم أنه محال أن يكون مع اتباع الشيطان يأمر إلا بالفحشاء والمنكر...) [6]. يتبع > |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 4 | |||
|
![]() السياسة عند فيلسوف الاجتماع ابن خلدون: السياسة عند الغربيين ولا بد لنا هنا لنستكمل الحديث عن السياسة: أن نتحدث -لو بإيجاز- عن السياسة عند الغربيين، فقد أمسى الغرب هو المُهيمن على عالمنا المعاصر، وخصوصًا في عصر التفرُّد الأمريكي، وأضحت ثقافة الغرب هي الثقافة التي تريد أن تفرض نفسها على العالم، وأن تكون هي وحدها (الثقافة الكونية).ونحن لا نستطيع أن نتجاهل هذا أو نُغفله، وإن كنا نرفض سياسة الهيمنة، وثقافة الهيمنة، ونؤمن بالتنوع والتعدُّدية في كل الأمور: التعدُّدية العِرقية، والتعدُّدية الُلغوية، والتعدُّدية الدِّينية، والتعدُّدية السياسية. وعلى أية حال، شئنا أم أبينا، لا زالت جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية والفكرية متأثرة بالغرب، ولا زالت مصادر أساتذتنا ومثقفينا غربية في معظمها. وفي جميع دراساتنا الإنسانية والاجتماعية -ولا سيما السياسية- نأخذ عن الغرب، وقلَّ منا مَن يقف موقف النقد والتحليل، بحيث يأخذ ويَدَع، وينتقي ويترك، تبعًا لمعاييره هو، ومعايير أمته وحضارته، لا معايير الغرب وحضارته. المُهم هنا، أن نُعرِّف: ما هو مفهوم السياسة عند الغربيين؟ هنا نجد تعريفات كثيرة لكلمة (السياسة) تختلف باختلاف الاتجاهات وزوايا الرؤى: فالسياسة عند الليبراليين، غيرها عند التَدَخُلِيين، والسياسة عند دعاة المذهب الفردي، غيرها عند دعاة المذهب الجماعي، والسياسة عند دعاة الاقتصاد الحر، أو اقتصاد السوق، غيرها عند الماركسيين أو دعاة التخطيط المركزي وسيطرة الدولة على الإنتاج والتوزيع. السياسة عند رجال الدِّين الجامدين الذين يرون مقاومة الأمراض والأوبئة: مقاومة لإرادة الله، غير السياسة عند الأطباء ورجال الصحة الذين يرون توفير الصحة العامة، والأدوية وما يتصل بها لكل مريض. السياسة عند دعاة الدِّين والقِيَم الأخلاقية الذين لا يبيحون الإجهاض بإطلاق، ولا يرون إشاعة الفاحشة في المجتمع من الزنى واللواط والسِّحاق، غير السياسة عند الذين يطلقون العنان للشهوات والغرائز الدنيا، لتقود الإنسان، وتَحكُم الحياة، حتى إنهم يباركون الزواج المثلي، ويؤيدون العُري والشذوذ، ممَّا ترفضه كل الأديان الكتابية. ولهذا تفاوتت التعريفات للسياسة عند كل فريق. نذكر هنا نماذج من هذه التعريفات: قول هانس مورغنتاو: (السياسة: صراع من أجل القوة والسيطرة [1]!). قول هارولد لاسويل: (السياسة هي: السلطة أو النفوذ، الذي يحدِّد: مَن يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟) [2]. وقول وليم روبسون: (إن علم السياسة يقوم على دراسة السُلطة في المجتمع، وعلى دراسة أُسسها، وعملية ممارستها وأهدافها ونتائجها) [3]. صحيح أنه يتكلم عن (علم السياسة) لا عن السياسة، ولكن نفهم من موضوع العلم مفهوم السياسة التي يعالجها. فكل هذه التعريفات تدور حول (السلطة) والقوة والسيطرة. ويسأل جان باري دانكان في الفصل الثاني من كتابه (علم السياسة) سؤالا أساسيا: ما هي السياسة؟ ويجيب الكاتب عن السؤال بتفصيل وتحليل وتعميق، استغرق (32) صفحة، وكان مما قاله: (إن هناك استعمالات نوعية لكلمة السياسة، واستعمالات غير نوعية). ويعني بغير النوعية: تلك التي من السهل أن تستبدل فيه كلمة سياسة بمرادفاتها، ويذكر هنا ثلاثة استعمالات: (الأول: أن كلمة (سياسة) تعادل تقريبا كلمة (الإدارة)، وخصوصا الأمور الجزئية، مثل سياسة النقل، وسياسة الطاقة، وسياسة صناعة السيارات، ونحوها. الاستعمال الثاني: كلمة السياسة تُعادل كلمة (الاستراتيجية) مثل: سياسة الحزب، أو سياسة النقابة، أو سياسة الحكومة ... إلخ. والاستعمال الثالث: تتضمَّن كلمة السياسة قِيمة تحقيرية بشكل واضح، حيث تفكر بفكرة العمل المكيافللي، المراوغ والضال. فهنا ينظر إلى (السياسة) باعتبارها عالما مثيرا للاشمئزاز. والكلمة تستعمل بشكل شائع من أجل الحط من قيمة من تطلق عليه. فعبارة: (هذا من فعل السياسة) هي عبارة تحقيريَّة، وليست تعريفًا) [4]. أقول: وهذا المعنى معروف أيضا في العرف الغربي؛ أن ينسب العمل إلى دهاليز السياسة وألاعيبها. وهو ما يُحكى عند الإمام محمد عبده أنه قال: أعوذ بالله من السياسة، ومن ساس ويسوس، وساس ومسوس. ولا أدري مدى صحة هذا عنه. وفي الاستعمال النوعي لكلمة السياسة يذكر دانكان: أنه يجب التفريق جيدًا بين السياسة وبين أمور أخرى تتداخل معها وتختلط بها، ولكنها متميزة عنها، مثل التكنوقراط، ومثل السياسة والاقتصاد، أو السياسي والاقتصادي، ومثل السياسة والأخلاق. وقد تحدث المؤلف بتفصيل مميزًا بين هذه المفاهيم بعضها وبعض، فليرجع إليه [5]. وعلى كل حال، تدور السياسة في الغرب حول محورين أو هدفين أساسيين: أحدهما: القوة والسيطرة. وثانيهما: المصلحة والمنفعة. ولا مانع في نظر الشرع الإسلامي من طلب القوة والحصول عليها، ولكن لتكون أداة في خدمة الحق، لا غاية تُنشد لذاتها، والأمة المسلمة يجب أن تكون أبدًا مع قوة الحق لا مع حق القوة. والقوة إذا انفصلت عن الحق أصبحت خطرًا يُهدِّد الضعفاء، ويبطش بكل مَن لا ظفر له ولا ناب، كما حدثنا القرآن عن عاد قوم هود فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]. وكان الغرور بالقوة هو الذي صدَّهم عن اتباع نبيهم الذي بعثه الله إليهم، ليُخرجهم من الوثنية إلى التوحيد، ومن طغيان القوة إلى الالتزام بالحق، ولما لم يُجد فيهم النصح، ولم يصغوا إلى إنذار رسولهم: أخذهم الله بعذابه، فأرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. وأما المصلحة، فهي مُعتبرة في الشريعة الإسلامية، بل ما شرع الله الأحكام إلا لمصلحة العباد في المعاش والمعاد، وكل مسألة خرجت من المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة في شيء وإن أدخلت فيها بالتأويل، كما قال المحققون. والمصلحة المرسلة، أي التي لم يَرِد في الشرع دليل باعتبارها ولا بإلغائها: تُعدُّ دليلاً من أدلة الشرع، كما صرح بذلك الإمام مالك، وكما هو الحال في المذاهب الأخرى، كما بيَّن ذلك الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه (تنقيح الفصول). ولكن المصلحة التي ترتبط بها السياسة في نظر الإسلام، والتي يتحدث عنها الغربيون وغيرهم، ليست هي كل ما يُحقِّق اللذة للإنسان، أو يجمع بها لنفسه أكبر قدر من حظوظ الدنيا، ولو كان ذلك على حساب غيره، أو على حساب القِيَم والأخلاق. بل إن الشارع بيَّن المصالح المنشودة، وربطها بمقاصد تحققها في الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وسنذكر ذلك في حديثنا عن (النص والمصلحة). _______________________________________ [1]- انظر: السياسة بين الأمم صـ13 لهانس مورغنتاو. نيويورك 1948م. [2]- انظر: المنهجية والسياسة صـ44 لملحم قربان. بيروت. الطبعة الأولى 1986م. [3]- انظر: مدخل إلى علم السياسة صـ86 لجان مينو ترجمة جورج يونس. منشورات عوبدات. بيروت 1983م. [4]- انظر: كتاب (علم السياسة) تأليف جان ماري دانكان، ترجمة د. محمد عرب صاصيلا. طبعة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. صـ 23-30. [5]- المصدر السابق صـ 30 وما بعدها. يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 5 | |||
|
![]() الباب الثاني العلاقة بين الدِّين والسياسة عند الإسلاميين والعلمانيين إذا عرفنا مفهوم كل من الدِّين والسياسة: أمكننا أن نفهم علاقة كل منهما بالآخر. هل هي علاقة تضاد وتصادم، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر؟ أو هي علاقة تواصل وتلاحم، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا ينفصل عن الآخر. أو هي علاقة تعايش وتفاهم، كما يتفاهم الشخصان المختلفان-دينا أو مذهبا أو عرقا أو وطنا- على عمل مشترك بينهما، أو كما تتفاهم الدول المختلفة أيديولجيا على التعايش السلمي المشترك؟ موقف العلمانيين: أما الحداثيون والماركسيون والعلمانيون، فلا يرون العلاقة بين الدِّين والسياسة إلا علاقة التضاد والتصادم، وأن الدِّين شيء، والسياسة خصم له، وأنهما لا يلتقيان. فمصدرهما مختلف، وطبيعتهما مختلفة، وغايتهما مختلفة. فالدِّين من الله، والسياسة من الإنسان. والدِّين نقاء واستقامة وطهر، والسياسة خبث والتواء وغدر. والدين غايته الآخرة، والسياسة غايتها الدنيا. فينبغي أن يترك الدِّين لأهله، وتترك السياسة لأهلها. وهم ينكرون فكرة الشمول والتكامل في الإسلام، الذي تبناه كل الدعاة والمُصلحين الإسلاميين في عصرنا؛ فهم يريدونه عقيدة بلا شريعة، وعبادة بلا معاملة، ودينا بلا دنيا، ودعوة بلا دولة، وحقا بلا قوة. وقد رتبوا على هذا آثارا فكرية وعملية تبنوها، وجعلوها مرتكزات لهم، منها: 1. إنكار فكرة (شمول الإسلام) التي يتمسك بها الإسلاميون. 2. فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين، وإشاعة مقولة: (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين). 3. التشنيع على دعاة تحكيم الشريعة الإسلامية بتهمة الإسلام السياسي. 4. ادعاء أن الدِّين يقيد السياسة بحرفية النصوص، ولا يعول على المصلحة، وبذلك يفوت على الأمة مصالح كثيرة بسبب هذه النظرة الضيقة. 5. السياسة بين الجمود والتطور. وسوف نتحدث عن هذه القضايا في الفصول التالية. الفصل الأول إنكار فكرة (شمول الإسلام) لماذا مزج المُصلحون الإسلاميون السياسة بالدِّين؟: أما مسألة (شمول الإسلام) التي ينكرها ويرفضها الحداثيون والعلمانيون والماركسيون بصفة عامة، فهي فكرة متفق عليها بين علماء الإسلام ومصلحيه كما يحدثنا بذلك واقع عصرنا. وقد رأينا المُصلحين الإسلاميين في العصر الحديث، ابتداء بابن عبد الوهاب، والمهدي، وخير الدين التونسي، والسنوسي، والأمير عبد القادر، وجمال الدِّين الأفغاني، ومرورا بالكواكبي، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، وحسن البنا في مصر، وابن باديس وإخوانه في الجزائر، وعلال الفاسي في المغرب، والمودودي في باكستان، وغيرهم، كلهم يتبَنَّوْن شمول الإسلام للعقيدة والشريعة، والدعوة والدولة، والدِّين والسياسة. ولم يكتفوا بتقرير ذلك نظريًا، بل خاضوا غمار السياسة عمليًا، وواجهوا مخاطرها ومتاعبها، وعانوا محنها وشدائدها. وإنما فعلوا ذلك لأسباب ثلاثة: 1. شمول تعاليم الإسلام: الأول: أن الإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه، فهو -بطبيعته- شامل لكل نواحي الحياة، مادية وروحية، فردية واجتماعية. وقد خاطب الله تعالى رسوله بقوله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]. والقرآن الذي يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... [البقرة:183]، هو نفسه الذي يقول في نفس السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ... [البقرة:178]، وهو الذي يقول فيها: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ... [البقرة:180]، ويقول في ذات السورة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... [البقرة:216]، عبَّر القرآن عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ . فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمنين أي فرضه عليهم: الصيام من الأمور التعبدية، والقصاص في القوانين الجنائية، والوصية فيما يسمى (الأحوال الشخصية)، والقتال في العلاقات الدولية. وكلها تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون، ويتقربون بها إلى الله، فلا يتصور من مسلم قبول فرضية الصيام، ورفض فرضية القصاص أو الوصية أو القتال. وجميعها تقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ . إن الشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال المكلَّفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا ولها فيها حكم من الأحكام الشرعية الخمسة (الوجوب، أو الاستحباب، أو الحرمة، أو الكراهية، أو الإجازة). كما قرَّر ذلك الأصوليون والفقهاء من كل الطوائف والمذاهب المنتسبة إلى المِلَّة. وقد دل على هذا الشمول القرآن والسنة، فقد قال تعالى مخاطبا رسوله : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]. ويقول عن القرآن: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]. وقد ثبت أن رسول الله ما ترك أمرا يقربنا من الله إلا وأمرنا به، ولا ترك أمرا يبعدنا عن الله إلا نهانا عنه، حتى تركنا على المحجة البيضاء: "ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" [1]. فالإسلام هو رسالة الحياة كلها، ورسالة الإنسان كله، كما أنه رسالة العالم كله، ورسالة الزمان كله [2]. ومن قرأ كتب الشريعة الإسلامية، أعني كتب الفقه الإسلامي، في مختلف مذاهبه: وجدها تشتمل على شؤون الحياة كلها، من فقه الطهارة، إلى فقه الأسرة، إلى فقه المجتمع، إلى فقه الدولة، وهذا في غاية الوضوح لكل طالب مبتدئ، ناهيك بالعالم المتمكِّن. 2. الإسلام يرفض تجزئة أحكامه: الثاني: أن الإسلام نفسه يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه، وأخذ بعضها دون بعض. وقد اشتد القرآن في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل، فقال تعالى في خطابهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]. ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في الإسلام بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية، مثل تحريم يوم السبت، أَبَى الرسول عليهم ذلك إلا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة [3]. وفي ذلك نزل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208] [4]. وخاطب الله سبحانه رسوله فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49]. فهنا يحذر الله رسوله من غير المسلمين: أن يصرفوه عن بعض أحكام الإسلام، وهو خطاب لكل مَن يقوم بأمر الأمة من بعده. والحقيقة أن تعاليم الإسلام وأحكامه في العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات والمعاملات: لا تؤتي أكلها إلا إذا أخذت متكاملة، فإن بعضها لازم لبعض، وهي أشبه (بوصفة طبية) كاملة مكوَّنة من غذاء متكامل، ودواء متنوع، وحِمْية وامتناع من بعض الأشياء، وممارسة لبعض التمرينات ... فلكي تحقق هذه الوصفة هدفها، لا بد من تنفيذها جميعا. فإنَّ تَرْك جزء منها قد يؤثر في النتيجة كلها. 3 . الحياة وحدة لا تتجزأ ولا تنقسم وكذلك الإنسان: الثالث: أن الحياة وحدة لا تنقسم، وكل لا يتجزأ. ولا يمكن أن تصلح الحياة إذا تولى الإسلام جزءا منها كالمساجد والزوايا يحكمها ويوجهها، وتُركت جوانب الحياة الأخرى لمذاهب وضعية، وأفكار بشرية، وفلسفات أرضية، توجهها وتقودها. لا يمكن أن يكون للإسلام المسجد، ويكون للعلمانية المدرسة والجامعة والمحكمة والإذاعة والتلفاز والصحافة والمسرح والسينما والسوق والشارع، وبعبارة أخرى: الحياة كلها! كما لا يمكن أن يصلح الإنسان إذا كان توجيه الجانب الروحي له من اختصاص جهة كالدِّين، والجانب المادي والعقلي والعاطفي من اختصاص جهة أخرى كالدولة اللادينية. فالواقع أن لا مثنوية في الإنسان ولا في الحياة، فليس فيه ولا فيها انقسام ولا انفصال. إنه هو الإنسان بروحه ومادته، بعقله وعاطفته، بغريزته وضميره، فلا فصل ولا تفريق، كما يؤيد ذلك العلم الحديث نفسه. وكذلك الحياة. إن الإنسان لا ينقسم، والحياة لا تنقسم. وكل الفلسفات والمذاهب الثورية أو (الأيديولوجيات) الانقلابية في التاريخ وفي عصرنا ذات طابع كلي شمولي، ولهذا ترفض تجزئة الحياة، وتأبى أن تسيطر على جزء منها دون جزء، بل لا بد أن تقودها كلها، وتوجهها جميعا وفقا لفلسفتها، ونظرتها الكلية للوجود وللمعرفة وللقيم، ولله والكون والإنسان والتاريخ. يقول أحد الاشتراكيين العرب المعروفين [5] في تبرير هذا الاتجاه: (إن فَهم الاشتراكية على أنها نظام اقتصادي فحسب، هو فَهم خاطئ؛ فالاشتراكية تقدِّم حلولا اقتصادية لمسائل كثيرة، ولكن هذه الحلول جميعا ليست إلا ناحية واحدة من نواحي الاشتراكية، وفَهمها على أساس هذه الناحية الواحدة فَهم خاطئ لا ينفذ إلى الأعماق، ولا يتعرف إلى الأسس التي تقوم عليها الاشتراكية، ولا يتطلع إلى الآمال البعيدة التي تذهب إليها الاشتراكية. فالاشتراكية مذهب للحياة، لا مذهب للاقتصاد، مذهب يمتد إلى الاقتصاد والسياسة والتربية والتعليم والاجتماع والصحة والأخلاق والأدب والعلم والتاريخ، وإلى كل أوجه الحياة كبيرها وصغيرها. وأن تكون اشتراكيا يعني أن يكون لك فَهم اشتراكي لكل هذا الذي ذكرت، وأن يكون لك كفاح اشتراكي يضم كل هذا الذي ذكرت). ثم يؤكد الكاتب أن هذه النظرة الشاملة ليست مقصورة على الاشتراكية، وإنما هي الأساس في المذاهب الاجتماعية الأخرى. ولقد برَّر الكاتب شمول المذاهب الاجتماعية، واتساع نطاقها بحيث تتسع إلى كل المجالات، وأن تضع الحلول لكل المشكلات بأن: (سبب هذه النظرة الشاملة؛ أن الحياة نفسها شيء واحد ... تيار واحد لا يعرف هذا التقسيم الذي يخترعه عقلنا، لكي يسهِّل على نفسه إدراك حقائق الحياة، ثم ينسى أنه هو نفسه الذي قام بهذا التقسيم، ويظن أن الحياة كانت مقسَّمة هكذا منذ الأزل. فالحياة لا تعرف شيئا اسمه الاقتصاد، منفصلا عن شيء اسمه الاجتماع، وشيء آخر اسمه السياسة. الحياة شيء متكامل متصل، ولكن عقلنا العاجز المغرم بالتحليل والدرس، لن يتمكن من القيام بهذا التحليل والدرس، إذا واجه الحياة ككل قائم بذاته، فهو مضطر إلى أن يقسم الحياة إلى أوجه، وإلى ألوان، وإلى أنواع من العلاقات، فيُسمِّي بعضها اقتصادا، ويسمي بعضها الآخر سياسة، وبعضها اجتماعا، وأخلاقا، ودينا، وأدبا، وعلما ... إلى آخر هذه السلسلة إن كان لها آخر ... الحياة ... كالنهر، شيء واحد متصل مستمر ... وكذلك حياة أي مجتمع، كبير أو صغير، أمة أو أسرة، حكومة أو حزب. فموقف أي مجتمع إزاء الحريات السياسية يقرِّر موقفه من الاقتصاد، وموقفه من النظم الاقتصادية يقرِّر موقفه من الحريات السياسية، وكذلك من الاستعمار ومن الأخلاق ومن التعليم ومن الأدب ومن التاريخ ... إلى آخر تلك السلسلة التي لا تنتهي). ويخلص الكاتب من ذلك إلى تأكيد الصفة الشاملة للاشتراكية فيقول: (بهذا المعنى، تصبح كلمة الاشتراكية إذن كلمة لا تقتصر على التعبير عن حالة اقتصادية معينة فحسب، بل هي تعبير عن نوع من الحياة بأكملها، بجميع وجوهها) اهـ. هذه هي طبيعة الأيديولوجيات الانقلابية كلها، فلماذا يُراد للإسلام وحده -وهو بطبيعته رسالة شاملة: عقيدة وشريعة وأخلاقا وحضارة- أن يقصر رسالته على المساجد والمحاكم الشرعية؟! ولعله لو رضي بذلك، ما تركوه يستقل بهذه المساجد يوجهها كما يريد، ولا تلك المحاكم يقضي فيها بما يشاء [6]. إن المسيحية التي يقول إنجيلها: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) [7] حين وجدت الفرصة والقوة، لم يسعها أن تدع شيئا لقيصر، ولم تستطع إلا أن تسود، وتوجه الحياة كلها الوجهة التي تؤمن بها، مثل كل الأيديولوجيات الدِّينية والعلمانية قديما وحديثا. فإذا كان هذا شأن المسيحية، فكيف بالإسلام الذي يأبى أن يقسم الإنسان بين مادة وروح منفصلتين، أو يقسم الحياة بين الله وقيصر، وإنما يجعل قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد؟! أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114]. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] [8]. و يقول أستاذنا الدكتور محمد البهي مُعقبا على قول علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم): (ولاية الرسول على قومه: ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعا صادقا تاما يتبعه خضوع الجسم. وولاية الحاكم: ولاية مادية، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلب اتصال. تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض، تلك للدين وهذه للدنيا، تلك لله وهذه للناس، تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية ... وما أبعد ما بين السياسة والدِّين) [9]!! وهذا المعنى الذي يجيب به الكتاب على سؤاله السابق، يقوم على أساس من (مثنوية) تفكير القرون الوسطى فيما يتصل بالإنسان ... وهو التفكير الذي ساد الغربيين عند فصلهم بين (الكنيسة) و(الدولة). و(مثنوية) الإنسان معناها: أن هناك (انفصالا) بين جسمه وروحه، وأنه ليس أحدهما تابعا للآخر، فضلا عن أن يكونا (وحدة) واحدة!! وتفكير القرون الوسطى في المشاكل الفلسفية: الإلهية والإنسانية، يستوي في التعبير عنه ما يوجد عند فلاسفة المسلمين أو فلاسفة المسيحيين من الآباء والمدرسين ... لأن قوامه هنا وهناك ما خلفه الإغريق، وورَّثوه للمسلمين والمسيحيين على السواء! و (مثنوية) الإنسان يعدها العلم الحديث، وهو البحث النفسي التجريبي، تصورا نظريا لا يركن إليه الرأي السليم في قيادة الإنسان وتوجيهه. والإنسان الآن -في نظر البحث العلمي- وحدة واحدة: لا انفصال بين جسمه ونفسه، ولذا يستحيل أن يوزع بين اختصاصين متقابلين وسلطتين مختلفتين ... والأضمن إذن في سلامة توجيهه أن تكون قيادته واحدة. وتجربة توزيع السلطة في الغرب بين (الكنيسة) و(الدولة) -وهو ما يعرف بالفصل بين (الدِّين) و(الدولة)- لم تثمر الاحتكاك بين السلطتين فقط، بل كان من ثمراتها إخضاع إحدى السلطتين للأخرى في النهاية، وفي واقع الأمر كان هو إخضاع (الدولة) للكنيسة! فـ (الدولة) الغربية الحديثة في أوربا وأمريكا تعتمد على النظام الديمقراطي، وهو نظام التصويت الشعبي ... وفي معركة التصويت الشعبي يتفوق الحزب السياسي الذي يبذل -لتنفيذ اتجاه الكنيسة- من الوعود والعهود أكثرها، إذا ما وصل إلى كرسي الحكم!! ومع أن (مثنوية) الإنسان التي قام عليها الفصل بين الدِّين والدولة تعتبر فكرة غير سليمة من الوجهة العلمية، وغير عملية من الوجهة التطبيقية، فإن دعاة -أو أدعياء- (التجديد) في الفكر الإسلامي الحديث: لم يزالوا يرون (الوحدة) في الإنسان وفي القيادة تخلفا، لأنها من أصول الإسلام [10]!! 4. أهمية الدولة في تحقيق الأهداف: الرابع: وهو سبب عملي لا ينبغي أن يُنازَع فيه، وهو: أن الناس من قديم أدركوا أهمية الدولة أو السلطة السياسية في تحقيق الأهداف، وتنفيذ الأحكام، وتعليم الأمة، ووقايتها المنكر والفساد، ولذا قال الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" [11]. ولا سيما أن الدولة في عصرنا أمست تملك أَزِمَّة الحياة كلها في أيديها، من التعليم إلى القضاء، إلى الثقافة، إلى الإعلام، إلى المساجد، إلى الاقتصاد والاجتماع، فلا يمكن لمُصلح أن يتجاوزها، ويدعها للقوى العلمانية، تفعل ما تشاء، وهي قادرة على أن تهدم كل ما يبنيه أهل الإصلاح بسهولة ويسر. ولا سيما أن الهدم عادة أسهل من البناء. فكيف بمن يهدم بالألغام الناسفة، التي تستطيع أن تجعل العمارة الشاهقة كومة من تراب في دقائق معدودات؟! ولم تكن الدولة قديما تملك كل هذا السلطان والتأثير في يدها. بل هو من خصائص عصرنا، كما قال برتراند راسل في أحد كتبه. ولقد ذكرت في كتابي (تاريخنا المفترى عليه): أن الدولة ومعها الخليفة الأعظم، خلال تاريخنا الإسلامي الطويل، ما كانت تملك من شؤون الأمة والمجتمع الشيء الكثير. بل كانت الدولة محصورة في إطار معين في العاصمة وربما المدن الكبرى. أما الأمة بشعوبها وجماهيرها المختلفة، فكانت في واد غير وادي السلطة، تمارس حياتها في ظل الإسلام، وبقيادة العلماء في غالب الأحوال. كان التعليم بيد العلماء، يعلمون الناس الإسلام واللغة والآداب والتاريخ والمعارف المختلفة، كما يشاؤون. وكان القضاء بيد العلماء، يقضون بأحكام الشريعة على الخاصة والعامة، كما يحبون. وكانت الفتوى كذلك بأيدي العلماء، يلجأ إليهم الناس مختارين، ليجيبوهم عما يسألون في أمور الدِّين والحياة. وكانت الأوقاف الخيرية بأيدي العلماء، ينفقون من ريعها على أبواب الخير المتنوعة، ومنها: المساجد والمدارس، أي الدعوة والتعليم كما شرط الواقفون. فقد ظلت الأمة مستمسكة بدينها، حين انحرف الأمراء والسلاطين، وظلت متماسكة حين انفرط عقد الخلافة والسلطنة، وظلت الأمة قوية حصينة بمؤسساتها المدنية والأهلية والاجتماعية، حين ضعفت وتفككت السلطة التنفيذية، وظل المجتمع (المدني) -كما يقال اليوم- مشدودا إلى أصله الدِّيني، متمسكا بعروته الوثقى، وإن وهت حبال الدولة أو السلطة من حوله. وفي عصرنا انتقلت القوة من الأمة إلى الدولة، وأضحت هي المتحكمة في معظم الأمور، كما أشرنا إلى ذلك، من تعليم وإعلام وثقافة وصحة وقضاء وشؤون دينية وأمنية وعسكرية واقتصادية. فكيف يمكن للمصلح أن يباشر الإصلاح إذا كانت الدولة مضادة لاتجاهه، فهو يحيي وهي تميت، وهو يجمع وهي تفرق، وهو يُشرّق وهي تُغرّب؟ سارت مُغرِّبة وسرت مشرِّقا شتان بين مشرِّق ومغرِّب! أو كما قال الشاعر الآخر: متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟ فكيف إذا كان الذي يهدم هو الدولة ذاتها، بما تملك من إمكانات فائقة، وآليات كبيرة؟! وهذا ما جعل المصلحين ومؤسسي الحركات الإسلامية يدخلون معترك السياسة، ويلتمسون الإصلاح عن طريق (إقامة دولة إسلامية) التي تحقق ما قاله الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41] ليس من الضروري أن يكونوا هم حكام هذه الدولة، إذا وجدوا من يقيم هذه الدولة المنشودة بأركانها وشروطها. فلو قام الحكام الحاليون بذلك فما أسعدهم بذلك. وإن رفضوا ذلك أو عجزوا عنه -كما هو الواقع الماثل- فقد وجب على أهل الدعوة والإصلاح والتغيير: أن يقوموا هم بالمهمة المطلوبة. وعليهم أن يعدوا مقدما: الإطارات البشرية، والآليات المادية، والمعينات الاجتماعية؛ التي تساعد في تحقيق الهدف، فليس يتم مثل هذا الانجاز بالأماني، ولا بالكلام. ________________________________________ [1]- رواه أحمد في المسند (17142) عن العرباض بن سارية، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد حسن، وابن ماجه في الإيمان (43)، والحاكم في المستدرك كتاب العلم (1/175)، والطبراني في الكبير (18/247)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4369). [2]- انظر في ذلك: خصيصة (الشمول) من كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) صـ95، وكذلك: (الفَهم الشمولي للإسلام والتحذير من تجزئةالإسلام) من كتابنا(الصحوة الإسلامية وهمومالوطن العربي والإسلامي) صـ68- 98. [3]- تفسير الطبري (2/335). [4]- يقول ابن كثير في تفسير الآية: (يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عُرا الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك). تفسير ابن كثير جـ1 صـ247 طبعة دار إحياء التراث العربي. بيروت. [5]- هو د. منيف الرزار، الذي انتخب زمنا ما أمينا عاما لحزب البعث الاشتراكي العربي في كتاب (دراسات في الاشتراكية) الذي صدر عام 1960م، ويحمل مقالات لعدد من قادة (البعث). [6]- في عدد من بلاد المسلمين اعتدت الحكومات العلمانية على الجزء الباقي لهم من التشريع، وهو المتعلق بالأسرة أو ما سمي (الأحوال الشخصية)، كما أن المسجد لم يعد حرا في أن يقول كلمة الإسلام كما يشاء، بل كما تشاء السلطة. [7]- إنجيل متى: (22/21). [8]- انظر: كتابنا (شمول الإسلام) صـ43 - 50. [9]- الإسلام وأصول الحكم صـ141 بتعليق د. ممدوح حقي عليه، طبعة دار مكتبة الحياة. بيروت. [10]- انظر: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي للدكتور محمد البهي صـ266 - 268. [11]- البداية والنهاية لابن كثير (2/10)، وروى الخطيب في تاريخه، عن عمر بن الخطاب قوله: لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن (4/107 الفصل الثاني فصل الدِّين عن السياسة أول ما رتبه العلمانيون على نظريتهم في العلاقة بين السياسة والدِّين: أنهم فصلوا السياسة عن الدِّين، والدِّين عن السياسة فصلا تاما، وأشاعوا المقولة الشهيرة: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين! وهي مقولة لا تثبت على محكِّ النقد والمناقشة. بل هناك من ينادي بفصل الدين عن الحياة كلها، ولا ينبغي له أن يكون له دور إلا في ضمير الفرد، فإن سمح له بشيء أكثر ففي داخل المعبد (الكنيسة أو المسجد) وهو ما سماه د. عبد الوهاب المسيري: ( العلمانية الشاملة). يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 6 | |||
|
![]() مناقشة مقولة: لا دين في السياسة: يتبع > __________________ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 7 | |||
|
![]() كما ذكرنا الرئيس الأمريكي بوش الابن، وتبنيه لليمين المسيحي المتطرف المتصهين في توجيه سياسة أمريكا اليوم. الفصل الثالث ومن التعبيرات التي يُشنِّع بها العلمانيون والحداثيون: تعبير (الإسلام السياسي)، وهي عبارة دخيلة على مجتمعنا الإسلامي بلا ريب، ويعنون به الإسلام الذي يُعنى بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكَّم في رقابها، ويُوجِّه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله تعالى في مختلف جوانب حياتها ...تهمة الإسلام السياسي! وهم يطلقون هذه الكلمة (الإسلام السياسي) للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، ودعوة ودولة. وقد كنت رددت على هذه الدعوة، وفنَّدت هذه التسمية، في فتوى مطوَّلة، ظهرت في الجزء الثاني من كتابي: (فتاوى معاصرة)، يحسن بي أن أقتبس فقرات منها فيما يلي: هذه التسمية مردودة وخاطئة: وذلك لأنها تطبيق لخُطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلامًا واحدًا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين. بل هو (إسلامات) متعدِّدة مختلفة كما يحب هؤلاء. فهو ينقسم أحيانًا بحسب الأقاليم: فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي. وأحيانًا بحسب العصور: فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأُموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث. وأحيانًا بحسب الأجناس: فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي ... إلخ. وأحيانًا بحسب المذهب: هناك الإسلام السُّني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السُّني إلى أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضًا. وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة : فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي أو الراديكالي، والكلاسيكي، والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المُتزمِّت، والإسلام المُنفتح. وأخيرًا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي! ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يُخبِّئها ضمير الغد؟! تقسيمات مرفوضة للإسلام: والحق أن هذه التقسيمات كلَّها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو (الإسلام الأول) إسلام القرآن والسنة. الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممَّن أثنى الله عليهم ورسوله. فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشُوبه الشوائب، وتلوِّث صفاءه تُرَّهَات المِلَل وتطرفات النِحَل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفِرَق، وأهواء المُجادلين، وانتحالات المُبطلين، وتعقيدات المُتنطِّعين، وتعسُّفات المُتأوِّلين الجاهلين. ثانيًا: الإسلام لا يكون إلا سياسيًا: وهنا يجب أن أُعلنها صريحة: إن الإسلام الحق -كما شرعه الله- لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا، وإذا جرَّدت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينًا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا. وذلك لسببين رئيسين : السبب الأول: الإسلام يوجِّه الحياة كلها: إن للإسلام موقفًا واضحًا، وحكمًا صريحًا في كثير من الأمور التي تُعتبر من صُلب السياسة. فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبُّدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة. كلا ... إنه عقيدة، وعبادة، وخلق، وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصَّل من قواعد، وما سنَّ من تشريعات، وما بيَّن من توجيهات، تتَّصل بحياة الفرد، وشؤون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأُسس الدولة، وعلاقات العالم. ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، وجد هذا واضحًا كل الوضوح. حتى إن قسم العبادات من الفقه ليس بعيدًا عن السياسة، فالمسلمون مُجْمِعُون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة، والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة. إن فكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربًا، ولا يتَّخذ غير الله وليًا، ولا يبتغي غير الله حَكَمًا، كما بيَّنت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعرفة باسم (سورة الأنعام). وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوَّة للبشر، حتى لا يتخذَّ بعض الناس بعضًا أربابًا من دون الله، وتُبطل عبودية الإنسان للإنسان، ولذا كان الرسول الكريم صلوات الله عليه يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]. وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية (لا إله إلا الله) فقد كانوا يُدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب. السبب الثاني: شخصية المسلم شخصية سياسية: إن شخصية المسلم -كما كوَّنها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته- لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فَهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له. فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يُعبِّر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صحَّ في الحديث اعتبارها الدِّين كله [1]، وقد يُعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خُسر الدنيا والآخرة، كما وضَّحت ذلك (سورة العصر). ويُحرِّض الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم على مقاومة الفساد في الداخل، ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" [2]، وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهِّد السبيل لعدوان الخارج. ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله: "سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" [3]. ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرُّد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود، وهو المعمول به في المذهب الحنفي وغيره:"نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يَفجرُك"[4]. ويُرغِّب في القتال لإنقاذ المُضطهدين، والمُستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحثِّ والتحريض، فيقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75]. ويصبُّ جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضَّيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99]. حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: {عََسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}، فجعل ذلك في مَظِنَة الرجاء من الله تعالى، زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلاً. وحديث القرآن المُتكرِّر عن المُتجبرين في الأرض من أمثال فرعون، وهامان، وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار -فكريًا وشعوريًا- لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين. وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه -حكامًا أو محكومين- حديث يُزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. يقول القرآن : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة :78،79]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[5]. ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى، وشرب الخمر، وما في معناهما. إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر، لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملُّق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر. وهكذا نجد دائرة المنكرات تتَّسع وتتَّسع لتشمل كثيرًا مما يعدُّه الناس في صُلب السياسة. فهل يَسَع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتًا؟ أو ينسحب من الميدان هاربًا، أمام هذه المنكرات وغيرها ... خوفًا أو طمعًا، أو إيثارًا للسلامة؟ إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحُكِم عليها بالفناء، لأنها غَدَت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف إذ يقول: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تُودِّع منهم" [6]. أي فقدوا أهلية الحياة. إن المسلم مطالب -بمقتضى إيمانه- ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيًا كان نوعه : سياسيًا كان أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد، إن استطاع، وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث : "أضعف الإيمان". وإنما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم تغييرًا بالقلب، لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًا محضًا، كما يتوهم، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث (تغييرًا). وهذا التعبئة المستمرة للأنفس، والمشاعر، والضمائر لا بد لها أن تتنفَّس يومًا ما، في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عارمة أو انفجارًا لا يُبقى ولا يُذر، فإن توالى الضغط لا بد أن يُولِّد الانفجار، سنة الله في خلقه. وإذا كان هذا الحديث سمي هذا الموقف (تغييرًا بالقلب)، فإن حديثًا نبويًا آخر سماه (جهاد القلب)، وهي آخر درجات الجهاد، كما أنها آخر درجات الإيمان وأضعفها، فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس ذلك من الإيمان حبة خردل" [7]. وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر، وخصوصًا إذا انتشر شراره واشتد أواره، وقَوِي فاعلوه، أو كان المنكر من قِبَل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحرَّاسه، وهنا يكون الأمر كما قال المثل : حاميها حراميها، أو كما قال الشاعر : وراعي الشاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟! وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجبًا لا ريب فيه، لأنه تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي عن طريق الجمعيات أو الأحزاب، وغيرها من القنوات المتاحة، فريضة يوجبها الدِّين، كما أنه ضرورة يُحتِّمها الواقع. بين الحق والواجب: إن ما يُعتبر في الفلسفات والأنظمة المعاصرة (حقًا) للإنسان في التعبير والنقد والمعارضة، يَرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم، ويستحق عقاب الله إذا فرَّط فيها. وفرق كبير بين (الحق) الذي يدخل في دائرة (الإباحة)، أو (التخيير) الذي يكون الإنسان في حِلٍ من تركه إن شاء، وبين (الواجب) أو (الفرض) الذي لا خيار للمكلف في تركه أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع. وممَّا يجعل المسلم سياسيًا دائمًا: أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصًا المؤمنين منهم، بحكم أُخوة الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. وفي الحديث : "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم" [8]، "وأيما أهل عَرْصَة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله"[9]. والقرآن كما يفرض على المسلم أن يُطعم المسكين، يفرض على أن يحضَّ الآخرين على إطعامه ... ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمَّهم القرآن بقوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:17،18]، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدِّين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3]. وهذا في المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية المضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة، وحضٌّ على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء. وكما أن المسلم مطالَب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالَب أيضًا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيًا كان اسمه ونوعه ... والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجب العذاب على الأمة كلها: الظالم والساكت عنه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. وقد ذمَّ القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً} [نوح:21]. بل جعل القرآن مُجرَّد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113]. ويُحمِّل الإسلام كل مسلم مسئولية سياسية: أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح : "من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية" [10]. الصلاة والسياسة: وكما ذكرنا من قب أن المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صُلب ما يسميه الناس (سياسة). فمن يقرأ في سورة المائدة: الآيات التي تأمر بالحُكم بما أنزل الله، وتدمغ من لم يحكم بما أنزل الله سبحانه بالكفر والظلم والفسوق : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، يكون قد دخل في السياسة، وربما اعتُبر من المعارضة المُتطرفة، لأنه بتلاوة هذه الآيات يُوجه الاتِّهام إلى النظام الحاكم، ويُحرض عليه، لأنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها. ومثل ذلك من يقرأ الآيات التي تُحذر من موالاة غير المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144]. ومن قَنَتَ (قنوت النوازل) المُقرَّر في الفقه، وهو الدعاء الذي يُدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصًا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة، كغزو عدو، أو وقوع زلزال، أو فيضان أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك ... كما نفعل كثيرا عندما يقع عدوان صهيوني كبير على فلسطين، أو على لبنان، وكما حدث كثيرا في حرب السوفيت لأفغانستان، وحرب الصرب للبوسنة والهرسك وغيرها. وهكذا كنا ندخل في مُعترك السياسة، ونخوض غِماره، ونحن في محراب الصلاة متبتلون خاشعون ... فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا تنفصل فيه دنيا عن دين، ولا يعرف قرآنه ولا سنته ولا تاريخه دينًا بلا دولة، ولا دولة بلا دين ... الساسة يدخلون الدِّين في السياسة متى أرادوا! الذين زعموا أن الدِّين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدِّين) من بعد، أول من كذَّبوها بأقوالهم وأفعالهم. فطالما لجأ هؤلاء إلى الدِّين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم، والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدِّين، ليستصدروا منهم فتاوى ضدَّ من يُعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا. يتبع > __________________ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 8 | |||
|
![]() لا زلت أذكر كيف صدرت الفتاوى ونحن في معتقل الطور سنة 1948م، 1949 م بأننا -نحن الدعاة إلى تحكيم القرآن وتطبيق الإسلام- نحارب الله ورسوله ونسعى في الأرض فسادًا فحقنا أن نُقتل أو نُصلب، أو تُقطَّع أيدينا وأرجلنا من خِلاف، أو ننفى من الأرض! الفصل الرابع ومن النقاط المهمة التي يتحدث عنها كثيرون من الحداثيين والعلمانيين: أن السياسة إذا ارتبطت بالدِّين، فإن الدِّين يقيدها، ويعوقها عن الانطلاق، وخصوصا إذا فُهم الدِّين على أنه التزام بالنصوص الجزئية والتفصيلية من الكتاب والسنة.السياسة بين النص والمصلحة فالسياسة تحتاج إلى أن تتحرك في فضاء واسع من النظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينهما إذا تعارضتا. وكثيرا ما تحتاج السياسة إلى الكر والفر، وإلى نوع من الدهاء والمكر مع الأعداء. وقد لا يبيح الدِّين لأصحابه كل هذا القدر من التوسع والترخص. وبذلك تكون الغلبة لأعداء الدِّين، حيث يكونون هم في حِل من الالتزام بأية قيود، ونكون -نحن المسلمين- المكبلين بالأوامر والنواهي. وهذا ما لم نتخذ طريقا آخر في فَهم الدِّين، وهو النظر إلى المقاصد الكلية للدين، لا إلى النصوص الجزئية له. على وفق ما فعل عمر الخليفة الثاني، الذي عطل بعض النصوص لتحقيق مصالح المسلمين، فيما زعموا. وبدون هذا يظل الدِّين -في إطاره القديم وفَهمه التقليدي- عقبة أو حجر عثرة في طريق السياسة، أو طريق الدولة الحديثة، في عالمنا المتشابك. وهذا الكلام فيه خلط ولبس كثير، إن أحسنا الظن بقائله، وفيه تلبيس شديد، إن لم نحسن الظن. الشريعة إذا أحسن فهمها ليست قيدا بل منارة تهدي: لقد بينا -بمنطق الشرع والعقل- أن الدِّين منارة تهدي، وليس قيدا يعوق. وأن الشريعة -كما قال ابن القيم- عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل [1]! ومن ثَمَّ تكون الآفة في أفهام المسلمين للإسلام وشريعته، وليست في الإسلام نفسه. ولهذا كان من الواجب الدعوة إلى حسن فَهم الإسلام وأحكامه، لا إلى تنحيته من الطريق، لتمضي السياسة حرة، لا تتقيد إلا بالمصلحة، كما يراها من يراها من الناس. إن بعض الناس ينظر إلى الإسلام نظرة مثالية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فهو يتخيل إسلاما يحلق بأصحابه في أجواء مجنحة، ولا ينزل إلى أرض الواقع. وهذا غير صحيح، فالإسلام -مع مثاليته الرفيعة- يعالج الواقع كما هو، بخيره وشره، وحلوه ومره، ويجيز استعمال المكر والدهاء مع أهل المكر والدهاء، ويقول: " الحرب خدعة" [2]، ويرى أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه يجوز في وقت الضيق والاضطرار، ما لا يجوز في وقت السَّعَة والاختيار. ومن قواعده: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. وكلها من النظرة الواقعية التي هي من خصائص الإسلام وشريعته [3]. أما (النظرة المقاصدية) للدين وللشريعة، فنحن في مقدمة الداعين إليها، والأحفياء بها، ولكن الذي نحذر منه أبدا: أن تتخذ النظرة المقاصدية واعتبار المصالح ذريعة لتعطيل النصوص من الكتاب والسنة، وخصوصا إذا كانت النصوص مُحكمة قاطعة؛ فهذه لا يملك المؤمن أمامها إلا أن يقول: (سمعنا وأطعنا). والقرآن صريح كل الصراحة في ذلك، وأن هذا الإذعان هو مقتضى الإيمان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. الموازنة بين النصوص والمقاصد: والذي ندعو إليه دائما هو: الموازنة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، أو بعبارة أخرى: النظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية [4]، ولا يجوز أن نضرب إحداهما بالأخرى، فهي تتكامل ولا تتناقض. وقد ذكرنا في كتابنا عن مقاصد الشريعة: أن هناك مدارس ثلاثا في هذه القضية: الأولى: المدرسة الحرفية: أو من سميتهم (الظاهرية الجدد) الذين يركزون على النص الجزئي، ويفهمونه فَهما حرفيا، ولا يكادون يفهمون أي وزن للمقصد الكلي. وبهذا يصطدمون بالواقع، ويضيقون على الناس فيما وسع الله فيه، ويعسرون ما يسر الله. والثانية: المدرسة المقابلة لتلك، وهي التي تُغفل النصوص تماما، ولا تعيرها أي التفات، بدعوى أنها تنظر إلى المقاصد، وتهتم بالفحوى. وهم الذين سميتهم (المدرسة المعطلة). فقد كان هناك قديما من سماهم علماؤنا (المعطلة) ولكن كان تعطيلهم في مجال العقيدة، وهؤلاء الجدد تعطيلهم في مجال الشريعة. وهؤلاء الذين يريدون أن يلغوا تحريم الربا في مجال الاقتصاد، ويلغوا الحدود في مجال العقوبات، ويلغوا الطلاق وتعدد الزوجات في مجال الأسرة، ويلغوا الاحتشام (الحجاب) في مجال المرأة، ويلغوا الجهاد في مجال الدفاع عن الدعوة والأمة ... إلخ. والثالثة: هي التي تنظر إلى النص الجزئي والمقصد الكلي نظرة متوازنة، وهي المدرسة الوسطية، التي ينبغي أن نعتمد نظرتها إلى الشريعة وإلى الواقع. وهي التي يمكن أن يرتضيها جمهور المسلمين، والمدرستان الأخريان لا تحظيان عمليا بالقَبول. ناهيك بأنهما -من الناحية العلمية المحض- غير مُسلَّمتين. الادعاء على عمر رضي الله عنه أنه عطل النصوص باسم المصالح: والعلمانيون يتبنون المدرسة الثانية -مدرسة التعطيل للنصوص- ويتكئون على مقولات تزعم أن عمر بن الخطاب عطل النصوص القرآنية باسم المصالح. وإننا نعيذ عمر أن يفعل ذلك. وقد كان وقافا عبد كتاب الله. وقد ردت عليه امرأة في مسألة مهور النساء، فانصاع لقولها، وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر! وقد كانت رعية عمر من الصحابة الكرام، من المهاجرين والأنصار، الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لا يقبلون بحال: أن يُعطَّل كتاب الله، وأن يبدَّل شرع الله، وهم ساكنون. لو افترضنا أن عمر فعل ذلك -وما هو بفاعل- ما قَبِل هؤلاء أبدًا، وفيهم عرق ينبِض. ومما نأسف له: أن مفكرا معتدلا مثل د. عابد الجابري، سار في هذا الدرب، وقال ما قاله دعاة (العلمانية) التي ينكرها ولا يقرها. فقد ذكر في كتابه (الدِّين والدولة وتطبيق الشريعة): أن الصحابة كثيرا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص، ولو كان صريحا قطعيا! إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص [5]. ولقد ذكر د. الجابري بعد ذلك: أن الممارسة الاجتهادية للصحابة كانت تتخذ المصلحة مبدءا ومنطلقا، فإذا تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالات، وجدناهم يعتبرون المصلحة، ويحكمون بما تقتضيه، ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها [6]. وهذه دعوى خطيرة على الصحابة الذين كانوا يحتكمون إلى النصوص إذا اختلفوا، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وإذا ووجه أحدهم بالنص، لم يسعه إلا أن ينقاد له بلا تلكُّؤ ولا تردد. ولقد ذكر الدكتور الجابري من أدلة ذلك: ما جرى من أبي بكر وعمر، حول أداء الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل تؤدى للدولة أو تترك للأفراد يؤديها كل منهم كما يشاء؟ كان رأي سيدنا أبي بكر أن تؤدى الزكاة إليه، وإلى ولاته وعماله، كما كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يفعلوا قاتلهم الخليفة من أجل هذا الحق المعلوم، الذي هو الركن الثالث من أركان الإسلام. وهنا توقف عمر في قتالهم، وقال لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قالوا: لا إله إلا الله؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) فإذا قالوها فقد عصموا من دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه [7]! وهنا نجد المناقشة بين الصحابيين الكبيرين تقوم كلها على الاحتجاج بالنصوص، لا الاستدلال بالمصالح كما يقول الدكتور. رأينا عمر يعتمد على نص الحديث، وينسى القيد الذي فيه (إلا بحقها)، فذكَّره أبو بكر: أن الزكاة حق المال، ثم أكد ذلك بأن الزكاة كالصلاة يقاتل عليها، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [لتوبة:5]. وزاد ذلك تأكيدا بأنه متبع وليس بمبتدع، فما كان في عهد رسول الله، يجب أن يستمر. وما قاله الجابري من أن عمر كان ينظر إلى المسألة من جهة الدِّين وأن أبا بكر كان ينظر إليها من جهة الدولة [8]: قول لا دليل عليه من حياة الرجلين. والزعم بأن الزكاة رمز للولاء السياسي ليس هو الدافع لأبي بكر إلى قتال مانعي الزكاة، كما قاتل المرتدين. بل نظر أبو بكر إلى الزكاة من خلال نصوص القرآن، وسنة الرسول القولية والعملية، فوجد أنها من مسؤولية الدولة أو الخلافة. لهذا قال القرآن: {خُذْ مِن أموَالِهِم صَدقَةً تُطهِّرهُم وتُزَكِّيهِم بهَا} [التوبة:103]، وفي الحديث المتفق عليـه: "تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم" [9]، وجعل القرآن من مصارف الزكاة: مصرف (العاملين عليها). فهي فريضة دينية اجتماعية تشرف عليها الدولة، وتأخذها من أصحابها طوعا، وإلا أخذتها كرها، فإن تمردوا وكانوا ذوي شوكة، قاتلهم الإمام حتى يؤدوها. وبهذا كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين. وكل ما كان يؤدى في عهد رسول الله يجب أن يظل يؤدى، ولو كان عقال بعير. وكل ما ذكره د. الجابري عن عمر، وزعم مع من زعم أنه عطل فيه النص لأجل المصلحة، من مثل: إلغاء سهم (المؤلفة قلوبهم)، وإيقاف تنفيذ (حد السرقة) في عام المجاعة، ومنع -أو كراهية- الزواج من الكتابيات ... إلى آخر الدعاوى المعروفة في هذا الجانب ... كلها لا تثبت على محكِّ النقد العلمي، وهي مبنية على سوء الفَهم لموقف عمر رضي الله عنه. وقد رددنا عليها بالتفصيل، وبالأدلة المحكمة الناصعة في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها) [10]. أكتفي هنا بإيراد مثل واحد من الأمثلة التي ذكروها عن عمر، وادَّعو فيها أنه عطَّل النص من أجل المصلحة. ولعل أشهر الأمثلة التي يردِّدونها باستمرار، هو ما عبَّروا عنه بقولهم: (إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم) وهو منصوص عليه في القرآن. ونود أن نذكر هنا: أن المصلحة الحقيقية لا يمكن أن تتعارض مع نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة. وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين كافة في جميع الأعصار. دعوى أن الطوفي يعطل النصوص بالمصلحة دعوى كاذبة: والذين ادَّعوا أن نجم الدِّين الطوفي قدَّم المصلحة على النص القطعي: قوَّلوا الرجل ما لم يقل، بل قال عكسه تماما، فكل كلامه على النصوص الظنية ثبوتا أو دلالة، وإنما قال من قال ذلك، لأنهم لم يستوعبوا كلامه كله، وإنما اختطفوا جزءا منه ولم يستكملوه، وقد وضحنا ذلك ونقلنا من نصوصه ما يدفع هذا الوهم بيقين، في كتابنا (السياسة الشرعية) [11]. ومما قاله في هذا السياق عن النص: (وأما النص، فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إما صريح في الحكم، أو محتمل، فهي أربعة أقسام، فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا. فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فيه القطعية من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه. منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا، أو آحادا صريحا لا احتمالا في دلالته بوجه، لفوات قطعيته من أحد طرفيه إما متنه أو سنده) [12] اهـ. فهو هنا يمنع صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي دلالته: المصلحة. لا تناقض بين مصلحة يقينية ونص قطعي: ومما لا نزاع فيه بين أهل العلم عامة: أن المصلحة اليقينية (القطعية) لا يمكن أن تناقض النص القطعي أو يناقضها بحال من الأحوال. وهو ما أكده علماء الأمة قديما وحديثا. وإذا تُوهم هذا التناقض، فلا بد من أحد أمرين: إما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة، مثل مصلحة إباحة الربا لطمأنة الأجانب، أو الخمر لاجتذاب السياحة، أو الزنى للترفيه عن العزاب، أو إيقاف الحدود، مراعاة لأفكار العصر، أو غير ذلك مما يموِّه به مموهون من عبيد الفكر الغربي. وإما أن يكون النص الذي يتحدثون عنه غير قطعي، وهو ما وقع فيه كثير من الباحثين، ولا سيما من غير المتخصصين والمتضلعين في علوم الشريعة وأسرارها، من أساتذة الحقوق والاقتصاد والآداب، فحسبوا بعض النصوص قطعية، وليست كذلك [13]. المصلحة في نظر الشريعة أوسع وأعمق من المصلحة عند الغربيين: ومن الضروري هنا: أن نبيِّن أن المصلحة التي يتحدث عنها علماء الشريعة الإسلامية، ليست هي المصلحة التي يتحدث عنها الغربيون ... إن المصلحة عند الغربيين تدور حول (اللذة) كما يذهب كثير من الفلاسفة، أو حول (القوة) كما يذهب إلى ذلك منظرو السياسة. وليس هناك ضوابط لتحصيل القوة عند هؤلاء أو اللذة عند أولئك. والأفراد يتنافسون في ذلك، وكذلك الأقوام والأمم تتنافس في ذلك، بدون ضابط من وازع ديني أو أخلاقي. المصلحة هنا مصلحة مادية لا روحية، دنيوية لا أخروية، فردية لا اجتماعية، آنية لا مستقبلية، قومية لا إنسانية. أمَّا المصلحة التي قصدت الشريعة إلى إقامتها وحفظها، فهي أشمل من ذلك وأوسع. فهي ليست المصلحة الدنيوية فحسب، كما يدعو خصوم الدِّين، ولا المصلحة المادية فقط، كما يريد أعداء الروحية، ولا المصلحة الفردية وحدها، كما ينادي عشَّاق الوجودية وأنصار الرأسمالية، ولا مصلحة الجماعة أو البرولتاريا، كما يدعو إلى ذلك أتباع الماركسية والمذاهب الجماعية، ولا الملصلحة الإقليمية العنصرية كما ينادي بذلك دعاة العصبية، ولا المصلحة الآنية للجيل الحاضر وحده، كما تتصور بعض النظرات السطحية. إنما المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها وجزئياتها، وراعتها في عامة أحكامها، هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة، وتشمل المادة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الطبقة والأمة، وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال المستقبلة، والموازنة بالقسط بين هذه المصالح المتقابلة المتضاربة في كثير من الأحيان لا ينهض بها علم بشر، وحكمة بشر، وقدرة بشر. فالبشر أعجز من أن يحيط بكُنْه هذه المصالح ويوفِّق بينها، ويعطي كل ذي حق منها حقه بالقسطاس المستقيم. وعجزه يأتي من ناحيتين: 1. ناحية محدودية عقله وعلمه، وذلك تابع لطبيعته البشرية المخلوقة الفانية المتأثرة -حتما- بالزمان والمكان والمحيط والوراثة. 2. وناحية تأثير الميول والأهواء والنزعات عليه، سواء أكانت ميولا شخصية أم أُسْرية أم إقليمية أم طبقية أم حزبية أم قومية. وكل واحدة من هذه لا تخلو من تأثير عليه من حيث يشعر أو لا يشعر. والمعصوم من عصمه الله. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي: (أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد: لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا فى مصلحة نفسه من وجه لا يوصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصِّله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُربي -فى الموازنة- على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها. وكم من مدبر أمرًا لا يتمُّ له على كماله أصلا، ولا يجنى منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع، رجوع إلى وجه حصول المصلحة ... بخلاف الرجوع إلى ما خالفه ...) [14]. ولهذا كانت رعاية المصالح كلها (فردية واجتماعية) للإنسان كله (جسمه وروحه وعقله)، وللطبقات كلها (أغنياء وفقراء، وحكاما ومحكومين، وعمالا وأرباب عمل)، وللإنسانية كلها (بيضا وسودا، ووطنين وأجانب)، وللأجيال كلها (حاضرة ومستقبلة)، لا يقدر عليها إلا رب الناس، ملك الناس، إله الناس. وهذا المعنى هو ما جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتوقف في توزيع الأرض المفتوحة على الفاتحين، لأنه رأى إغداقا على الجيل الحاضر في زمنه -جيل الفتح- على حساب الأجيال اللاحقة من أبناء الأمة، ولهذا كان يقول: إنني إن قسمتها بينكم جاء آخر الناس وليس لهم شيء. وقد وجد عمر بعد طول تأمُّل في كتاب الله ما يؤيد وجهة نظره في سورة الحشر، حيث أشارت الآيات في مصرف الفيء -بعد المهاجرين والأنصار- وهم الجيل الحاضر آنذاك، إلى الذين يجيئون بعدهم من الأجيال، ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10]. وبهذه الآيات وجد عمر الحجة على مخالفيه من الصحابة رضي الله عنهم جميعا. قال عمر: ما أرى هذه الآية إلا عمت الخلق كلهم [15]. وقال للذين عارضوه: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء؟ فما لمن بعدكم [16]؟ ويقول: لولا آخر الناس ما فتحت قرية [17] ... إلخ، فقد فهم عمر من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومقاصد شريعته: أن مصالح الأجيال كلها يجب أن تراعى ولا يستأثر جيل واحد أو جيلان بالخير والرفاهية على حساب من بعدهم، ولهذا كان ينظر إلى آخر الناس (الأجيال اللاحقة التي يخبئها الغيب) ويعمل لصالحها كالأجيال الحاضرة. ولقد كان معاذ -الفقيه الأنصاري الجليل وأعلم الصحابة بالحلال والحرام كما في الحديث [18]- من أنصار عمر في رأيه، وقد قال محذرا من الاستجابة إلى رغبة المطالبين بالقسمة: إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي هؤلاء القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة (أي أنه ينبِّه في هذا الوقت المبكر إلى خطر الملكية العقارية الواسعة) ثم يأتي من بعدهم قوم يسدُّون من الإسلام مسدًا (أي يبلون في الدفاع عنه بلاء حسنا) وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم [19]. والمقصود هنا: أن الشريعة ترعى مصالح المكلفين بهذا الشمول المتوازن، أو بهذا التوازن الشامل، فمن أراد أن يفهم المصلحة في الشريعة فليفهمها في ضوء هذا التصور [20]. ________________________________________ [1]- إعلام الموقعين: 3/3 ط. دار الجيل – بيروت. 1973م. [2] - رواه البخاري في الجهاد (3029) ومسلم في الجهاد (1740). [3]- انظر: خصيصة (الواقعية) من كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) صـ144، والواقعية من كتابنا (مدخل لدراسة الشريعة) صـ119. [4]- انظر: كتابنا (مقاصد الشريعة) طبعة دار الشروق. [5]- انظر: الدين والدولة صـ12 طبعة مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت. طبعة أولى. [6]- انظر: الدين والدولة صـ32. [7]- سبق تخريجه. [8]- انظر: الدين والدولة صـ44 وما بعدها. [9]- رواه البخاري في الزكاة (1395) عن ابن عباس، ومسلم في الإيمان (19)، وأحمد في المسند (2071)، وأبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي (2435)، وابن ماجه (1783) أربعتهم في الزكاة. [10]- انظر: كتابنا (السياسة الشرعية) صـ181 - 222 طبعة مكتبة وهبة. [11]- انظر: السياسة الشرعية صـ160 – 165. [12]- انظر: كتاب المعين في شرح الأربعين للطوفي. في شرح حديث: "لا ضرر ولا ضرار". [13]- انظر: كتابنا (السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها) صـ267، 268. [14]- الموافقات جـ1 صـ243 طبعة منير الدمشقي. [15]- ذكره ابن رشد في بداية المجتهد (1/529). [16]- رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/197) عن عمر. [17]- رواه البخاري في المغازي (4235) عن عمر، وأحمد في المسند (284)، وأبو داود في الخراج والإمارة والفيء (3020)، ونص الحديث: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بَبَّانًا ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها. [18]- رواه أحمد في المسند (13990) عن أنس، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والترمذي في المناقب (3791)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة (154). [19]- انظر: الخراج لأبي يوسف صـ24، 27، والخراج ليحيى بن آدم صـ18، 43، والأموال لأبي عبيد صـ56 وما بعدها. [20]- انظر: كتابنا (مدخل إلى دراسة الشريعة) صـ61 – 65 طبعة مؤسسة الرسالة ببيروت، ومكتبة وهبة بالقاهرة. يتبع > __________________ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 9 | |||
|
![]() السياسة بين الجمود والتطور الباب الثالث الدِّين والدولة في الإسلام تناولنا في فصول الباب السابق: علاقة الدين بالسياسة بين الإسلاميين والعلمانيين ومن دار في فلكهم. ونكمل الحديث في هذا الباب عن العلاقة بين الدين والدولة، ولا ريب أن الدولة من تجليات السياسة، ومن أبرز مظاهرها: 1. أنكر العلمانيون على الإسلام أن يكون له دولة، تطبق شريعته، وترفع رايته، وتبلغ دعوته، وتحمي أمته، وتذود عن داره وأرضه. ولذا جعلنا الفصل الأول من هذا الباب بعنوان: من حق الإسلام أن تكون له دولة. 2. كما أنكر هؤلاء على الإسلاميين أن يكون لهم حزب سياسي يعبر عن رؤيتهم، وعن مواقفهم وبرامجمهم في الإصلاح والتغيير، ولا يسوغ أن يعطى الشيوعيون والليبراليون والعلمانيون من شتى الاتجاهات اليمينية واليسارية: حق تكوين الأحزاب، والانخراط فيها، ويحرم الإسلاميون وحدهم هذا الحق. ولهذا جعلنا الفصل الثاني من هذا الباب بعنوان: من حق الإسلاميين أن يعبر عنهم حزب سياسي. 3. كما أن هؤلاء يدعون على دولة الإسلام: أنها دولة دينية، بالمعنى الغربي لها، أي ثيوقراطية كهنوتية يتحكم فيها رجال الدين، ويتسلطون على أهل الأرض باسم السماء، وقد بينا في هذا الفصل (الثالث) أن الدولة في الإسلام دولة (مدنية) مرجعيتها الإسلام. 4. وكذلك أوضحنا أن الدولة الإسلامية كما أنها دولة مدنية، هي كذلك هي دولة شورية، تقوم على الشورى والبيعة والرضا العام، كما تقوم على النصيحة في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي دولة مدنية، ودولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية. وهذا هو مضمون الفصل الرابع. 5. وقد اتهم العلمانيون: الدولة الإسلامية بأنها دولة متعصبة، تجور على حقوق الأقليات، ولا مكان فيها للتعدد والتنوع في الأديان والثقافات، وقد فنّدنا هذه الشبهة بالأدلة الدامغة، وهذا هو الفصل الخامس. 6. أما الفصل السادس فيرد على الزعم القائل بأن الدولة الإسلامية لا تراعي حقوق الإنسان، وهو زعم ترفضه الأدلة، ويرفضه التاريخ. وهذه فصولنا تتحدث عن نفسها. يتبع > __________________ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 10 | |||
|
![]() الفصل الأول من حق الإسلام أن تكون له دولة مما يُصِرُّ العلمانيون عليه -على اختلاف ألوانهم وانتماءاتهم- أن لا تكون للإسلام دولة، تتحدث باسمه، وترفع رايته في الأرض، وتطبق أحكام شريعته على المؤمنين به، وتبلغ رسالته إلى العالمين، وتدافع عن أرضه وأمته في مواجهة الغزاة والمعتدين. فالإسلام – في نظرهم – مجرد رسالة روحية؛ لا تتعدى العلاقة بين المرء وربه، ساحتها: ضمير الفرد، أو نفسه التي بين جنبيه، ولا صلة لها بإصلاح المجتمع، أو بتوجيه الدولة، أو بمعاقبة الجريمة، أو بتنظيم المال، أو بغير ذلك من شؤون الحياة. على حين يعتبر الإسلاميون – على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم – أن الإسلام: عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دين وسياسة، دعوة ودولة. والإسلاميون يرون: أن الدولة في الإسلام: فريضة وضرورة. فريضة دينية، وضرورة حيوية. وإذا كنا قد بيّنا في الباب السابق: أن الدين لا ينفصل عن السياسة، وأن السياسة لا تنفصل عن الدين، وفندنا مقولة ( لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) فإن أبرز وأهم تجليات السياسة: هو قيام الدولة التي تمكن للدين، وتحققتعاليمه في الأرض. ولم يعرف المسلمون طوال تاريخهم الطويل هذا الانفصال -أو الفصام- بين الدِّين والدنيا، أو بين الدِّين والسياسة، أو بين الدِّين والدولة. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم جامعا للسلطتين: الدِّينيـة والدنيويـة، ولهذا قسم الفقهاء تصرفاته بوصفه نبيا مبلغا عن الله، وبوصفه قاضيا يفصل بين الناس، وبوصفه إماما يتصرف في قضايا الأمة [1]. وكذلك كان الخلفاء الراشدون والأُمويون والعباسيون والعثمانيون وغيرهم، إلى أن ألغيت الخلافة في سنة 1924م. ورأينا العلماء يعرفون الخلافة بأنها: النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به. ورأينا كل خليفة أو أمير أو سلطان طوال التاريخ الإسلامي: يرى نفسه مسؤولا عن التمكين للدين في الأرض، والدفاع عنه. وهذا ما قرَّره القرآن بجلاء، حين قال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر [الحج:41]، ولهذا كان هؤلاء الخلفاء والسلاطين يُبايَعون من الأمة على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله. وكان هؤلاء الخلفاء والأمراء لا يفرقون بين الدِّين والدنيا، أو بين الدِّين والسياسة، كما يقولون اليوم. مدح الشاعر عبد الله بن أبي السمط: الخليفة المأمون بقصيدة كان فيها بيت يقول: أضحى إمام الهُدى المأمون مشتغلا .. بالدِّين والناس بالدنيا مشاغيل! فأعرض عنه المأمون، ونظر إليه نظرا شزرا، وكان الشاعر معتزا ببيته هذا، فشكا إلى شاعر آخر (عُمارة حفيد جَرير): أن أمير المؤمنين لا يعرف الشعر! وأنشد له البيت، فقال له عُمارة: والله، لقد حلم عليك إذ لم يؤدبك عليه، ويلك! وإذا لم يشتغل بالدنيا، فمن يدبر أمرها؟ ألا قلتَ كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان: فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدِّين شاغله! قال: الآن علمت أني أخطأت [2]. فهكذا كانوا ينظرون إلى امتزاج الدِّين بالدنيا، ومنها السياسة. أولى محاولات العلمانية لاقتحام الأزهر: ومن بدهيات التاريخ الإسلامي: أنه لم يعرف يوما دولة بلا دين، ولا دينا بلا دولة. ولم يدر هذا الخاطر في فكر أحد من أبنائه، حتى ظهر علي عبد الرازق بكتابه أو كُتيّبه العجيب في آخر الربع الأول للقرن العشرين الميلادي (1925م) الذي ادَّعى فيه دعاوى شاذة عن مسار الأمة وعن عقيدتها وشريعتها ووجهتها العامة، وزعم أن الرسول لم يؤسس دولة، وأن الإسلام لا شأن له بالدولة والحكم والسياسة، وأنه مجرد رسالة روحية، وهو ما رد عليه الراسخون من علماء الأمة بالأدلة الشرعية القاطعة، وسقط الكتاب من الناحية العلمية. وإن كان الخصوم الدِّينيون والفكريون والسياسيون قد رحبوا بالكتاب أبلغ ترحيب، وفتحوا له صدورهم وأذرعتهم. وجعلوه سلاحا في أيديهم في معركتهم ضد الإسلام وأمته. وكانت هذه أول مرة تحاول العلمانية فيها: أن تقتحم على الأزهر داره، وتغزو فكر أحد علمائه، ولكن الأزهر رفض ذلك بقوة، وفند دعوى الرجل علميا، وجرده من نسبه الأزهري، وأخرجه من زمرة العلماء. وإن كان الشيخ علي بعد ذلك لم يحاول نشر الكتاب، أو ترويجه أو الحديث عنه طوال حياته، بل حتى ورثته من بعده. دعوى علي عبد الرازق منقوضة: زعم الشيخ علي عبد الرازق: أنه لا يجد دليلا على أن الإسلام يدعو إلى تأسيس دولة أو إقامة حكومة. وأنه ليس إلا دعوة دينية خالصة، لا صلة لها بالمُلك الذي هو من أمور الدنيا، المضادة للدين. ونحن هنا سنبين الأدلة على أن (إقامة الدولة) من صميم الإسلام، وأن القول بخلاف ذلك، إنما هو قول مُحْدث، لم يعرفه المسلمون خلال تاريخهم الطويل. الأدلة على أن الدولة من صميم الإسلام: وسنختار أدلة ثلاثة أساسية: من نصوص الإسلام، ومن تاريخه، ومن طبيعته. 1. الدليل من نصوص الإسلام: أما نصوص الإسلام، فحسبنا منها آيتان من سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59،58]. فالخطاب في الآية الأولى للولاة والحكام: أن يراعوا الأمانات ويحكموا بالعدل، فإن إضاعة الأمانة والعدل نذير بهلاك الأمة وخراب الديار. ففي الصحيح: "إذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة" [3]. والخطاب في الآية الثانية للرعية المؤمنين: أن يطيعوا وَأُولِي الْأَمْرِ بشرط أن يكونوا (منهم) وجعل هذه الطاعة بعد طاعة الله وطاعة الرسول، وأمر عند التنازع برد الخلاف إلى الله ورسوله، أي الكتاب والسنة. وهذا يفترض أن يكون للمسلمين دولة تُهَيْمِن وتُطاع، وإلا لكان هذا الأمر عبثا. وفي ضوء هاتين الآيتين المذكورتين ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المعروف (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) والكتاب مبني على الآيتين الكريمتين. وفي القرآن آيات كثيرة تتعلَّق بشؤون الاجتماع والاقتصاد والجهاد والسياسة، معروفة مدروسة فيما عرف باسم (آيات الأحكام) وعنى بها العلماء الذين ألفوا في (أحكام القرآن) مثل الرازي الجصاص الحنفي (ت370هـ) وابن العربي المالكي (ت453هـ). وإذا ذهبنا إلى السنة، رأينا الرسول يقول: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" [4]. ولا ريب أن من المحرَّم على المسلم أن يبايع أي حاكم لا يلتزم بالإسلام. فالبيعة التي تنجيه من الإثم أن يبايع مَن يحكم بما أنزل الله ... فإذا لم يوجد فالمسلمون آثمون حتى يتحقق الحكم الإسلامي، وتتحقق البيعة المطلوبة. ولا ينجي المسلم من هذا الإثم إلا أمران: الإنكار - ولو بالقلب- على هذا الوضع المنحرف المخالف لشريعة الإسلام. والسعي الدائب لاستئناف حياة إسلامية قويمة، يوجهها حكم إسلامي رشيد. وجاءت عشرات الأحاديث الصحيحة -إن لم تكن مئاتها- في دواوين السنة المختلفة، عن الخلافة والإمارة والقضاء والأئمة وصفاتهم وحقوقهم من الموالاة والمعاونة على البر، والنصيحة لهم وطاعتهم في المنشط والمكره، والصبر عليهم، وحدود هذه الطاعة وهذا الصبر، وتحديد واجباتهم من إقامة حدود الله ورعاية حقوق الناس، ومشاورة أهل الرأي، وتولية الأقوياء الأمناء، واتخاذ البطانة الصالحة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... إلى غير ذلك من أمور الدولة وشؤون الحكم والإدارة والسياسة. ولهذا رأينا شؤون الإمامة والخلافة تُذكر في كتب تفسير القرآن الكريم، وفي شروح الحديث الشريف، وكذلك تذكر في كتب العقائد وأصول الدِّين، كما رأيناها تُذكر في كتب الفقه، كما رأينا كُتُبا خاصة بشؤون الدولة الدستورية والإدارية والمالية والسياسية، كالأحكام السلطانية للماوردي، ومثله لأبي يعلى، والغياثي لإمام الحرمين، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وغيرها، مما سبق الإشارة إليها [5]. 2. الدليل من تاريخ الإسلام: أما تاريخ الإسلام، فينبئنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بكل ما استطاع من قوة وفكر -مؤيدا بهداية الوحي- إلى إقامة دولة الإسلام، ووطن لدعوته، خالص لأهله، ليس لأحد عليهم فيه سلطان، إلا سلطان الشريعة. ولهذا كان يعرض نفسه على القبائل ليؤمنوا به ويمنعوه ويحموا دعوته، حتى وفق الله قبيلتي الأوس والخزرج إلى الإيمان برسالته، فبعث إليهم مصعب بن عمير يتلو عليهم القرآن ويعلمهم الإسلام، فلما انتشر فيهم الإسلام جاء وفد منهم إلى موسم الحج مكون من (73) ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فبايعوه صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وعلى السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... إلخ، فبايعوه على ذلك ... وكانت الهجرة إلى المدينة ليست إلا سعيا لإقامة المجتمع المسلم المتميِّز، تشرف عليه دولة متميزة. كانت (المدينة) هي (دار الإسلام) وقاعدة الدولة الإسلامية الجديدة، التي كان يرأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو قائد المسلمين وإمامهم، كما أنه نبيهم ورسول الله إليهم. ولهذا جعل الفقهاء من أنواع تصرفات الرسول: تصرفه بمقتضى الإمامة أو الرئاسة للدولة، وذكروا ما يترتب على ذلك من أحكام [6]. وكان الانضمام إلى هذه الدولة، لشد أزرها، والعيش في ظلالها، والجهاد تحت لوائها: فريضة على كل داخل في دين الله حينذاك. فلا يتم إيمانه إلا بالهجرة إلى دار الإسلام، والخروج من دار الكفر والعداوة للإسلام، والانتظام في سلك الجماعة المؤمنة المجاهدة التي رماها العالَم عن قوس واحدة. يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا [الأنفال:72]. ويقول في شأن قوم: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه [النساء:79] [7]. كما نزل القرآن الكريم يندد أبلغ التنديد بأولئك الذين يعيشون مختارين في دار الكفر والحرب، دون أن يتمكنوا من إقامة دينهم وأداء واجباتهم وشعائرهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً [النساء:97-99]. وعند وفاة النبي كان أول ما شغل أصحابه رضي الله عنهم: أن يختاروا (إماما) لهم، حتى إنهم قدَّموا ذلك على دفنه صلى الله عليه وسلم فبادروا إلى بيعة أبي بكر، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك. وبهذا الإجماع التاريخي ابتداءً من الصحابة والتابعين - مع ما ذكرنا من نصوص- استدل علماء الإسلام على وجوب نصب الإمام الذي هو رمز الدولة وعنوانها. ولم يعرف المسلمون في تاريخهم انفصالا بين الدِّين والدولة، إلا عندما نجم قرن العلمانية في هذا العصر، وهو ما حذَّر حديث الرسول منه، وأمر بمقاومته كما في حديث معاذ: "ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان (أي الدِّين والدولة) سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: وماذا نصنع يا رسول الله؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم: نشروا بالمناشير، وحُمِلوا على الخُشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله" [8]. لم يعرف تاريخنا دينا بلا دولة ولا دولة بلا دين: هنا أنقل كلمة المفكر المغربي المتزن (محمد عابد الجابري) عن علاقة الدِّين بالدولة من خلال مرجعيتنا التراثية، فيقول عن ثنائية الدِّين والدولة: (إنها إذا طرحت بمضمونها الأصلي، الأوربي الذي يفيد المطالبة بفصل الدِّين عن الدولة، إنها إذا طرحت بهذا المضمون في مرجعيتنا التراثية تلك، فإن هذا الطرح سيفهم حتمًا على أنه (اعتداء على الإسلام) ومحاولة مكشوفة لـ(القضاء) عليه. لماذ؟ للجواب عن هذا السؤال، جوابا مثمرا، يجب تجنب الاتهامات المجانية من قبيل الرمي بالتعصب وضيق الأفق ... إلخ، فضررها أكثر من نفعها، فضلا عن كونها تنمُّ عن عدم فَهم، أو على الأقل عن عدم تفهُّم لمحددات تفكير من يصدر عن المرجعية التراثية. لننظر إذن إلى الكيفية التي تفهم بها عبارة (فصل الدِّين عن الدولة) داخل مرجعيتنا التراثية، المرجعية التي لا تحتمل هذه الثنائية (ثنائية دين / دولة) لأنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله (دين) متميز -أو يقبل التمييز والفصل- عن الدولة، كما لم يكن هناك قط (دولة) تقبل أن يفصل الدِّين عنها. فعلا كان هناك حكام اتهموا بالتساهل في أمر من أمور الدِّين كالجهاد أو مقاومة البدع ... إلخ، ولكن لا أحد من الحكام في التاريخ الإسلامي استغنى- أو كان في إمكانه أن يستغني- عن إعلان التمسك بالدِّين، لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية الإعلان عن خدمة الدِّين، والرفع من شأنه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي، في أي فترة من فتراته، مؤسسة خاصة بالدِّين متميزة من الدولة، فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة، بل كانوا أفرادا يجتهدون في الدِّين ويفتون فيما يعرض عليهم من النوازل، أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل. وإذن فعبارة (فصل الدِّين عن الدولة) أو (فصل الدولة عن الدِّين) ستعني بالضرورة -داخل المرجعية التراثية- أحد أمرين أو كليهما معا: إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، وإما حرمان الإسلام من (السلطة) التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام. نعم يمكن أن تنجح في إقناع من يفكر من داخل المرجعية التراثية وحدها بأن الأمر لا يتعلَّق قط بإنشاء دولة ملحدة، ولا بنزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، يمكن أن تحلف له بأغلظ الأيمان بأن المقصود ليس هو هذا ولا ذاك، وسيكتفي بالقول: (الله أعلم) ويسكت. ولكنك لا تستطيع أبدا أن تقنعه بأن (فصل الدِّين عن الدولة) ليس معناه حرمان الإسلام من (السلطة) التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام. وإذن فيجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية وبين الهيئة الاجتماعية المسماة: الدولة. لماذا؟ لأن الدِّين في نظره يشتمل على أحكام يجب أن تنفذ، وأن الدولة هي (السلطة) التي يجب أن تتولى التنفيذ) [9]. 3. الدليل من طبيعة الإسلام: أما طبيعة الإسلام ورسالته، فذلك أنه دين عام، ومنهج حياة، وشريعة شاملة، فتستوعب شؤون الدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع، وشريعة هذه طبيعتها لا بد أن تتغلغل في كل نواحي الحياة، لتصلحها وترقى بها، بالتوجيه والتشريع لها، والدولة إحدى الوسائل الهامة في ذلك، ولا يتصور أن تهمل شأن المجتمع والدولة، وتدع أمرها لمن لا يؤمن برسالة الدين في البناء والإصلاح. وربما كان من الذين يسعون إلى تنحية الدين من التشريع والتوجيه أصلا. كما أن هذا الدِّين يدعو إلى التنظيم وتحديد المسئولية، ويكره الاضطراب والفوضى في كل شيء، حتى رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا في الصلاة أن نسوِّي الصفوف [10]، وأن يؤمنا أعلمنا [11]، وفي السفر يقول: "أَمِّرُوا أحدكم" [12]. يقول الإمام ابن تيمية في (السياسة الشرعية): (يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس أمر من أعظم واجبات الدِّين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها فإنَّ بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس. حتى قال النبي : "إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمِّروا أحدهم" [13]. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو، أن النبي قال: "لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم" [14]، فأوجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه الله من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمَع والأعياد، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا رُوي: "إن السلطان ظل الله في الأرض" [15]. ولهذا كان السلف: كالفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وغيرهما يقولون: لو كانت لنا دعوة مجابة، لدعونا بها للسلطان) [16] اهـ. وذلك أن الله يُصلح بصلاحه خَلقا كثيرا. ثم إن طبيعة الإسلام باعتباره منهجا يريد أن يُوجه الحياة، ويحكم المجتمع، ويضبط سير البشر وفق أوامر الله: لا يُظن به أن يكتفي بالخطابة والتذكير والموعظة الحسنة، ولا أن يدع أحكامه ووصاياه وتعليماته في شتَّى المجالات إلى ضمائر الأفراد وحدها، فإذا سقمت هذه الضمائر أو ماتت، سقمت معها وماتت تلك الأحكام والتعاليم. وقد نقلنا عن الخليفة الثالث قوله: "إن الله ليَزع بالسلطان ما لا يَزع بالقرآن" [17]. فمن الناس مَن يهديه الكتاب والميزان، ومنهم مَن لا يردعه إلا الحديد والسنان. ولذا قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25]. قال ابن تيمية: (فمن عَدَل عن الكتاب عُدِّل بالحديد، ولهذا كان قوام الدِّين بالمصحف والسيف) [18]. وقال الإمام الغزالي في (إحيائه): الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدِّين إلا بالدنيا، والمُلك والدِّين توأمان، فالدِّين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم المُلك والضبط إلا بالسلطان [19]. إن نصوص الإسلام لو لم تجئ صريحة بوجوب إقامة دولة للإسلام، ولم يجئ تاريخ الرسول وأصحابه تطبيقا عمليا لما دعت إليه هذه النصوص، لكانت طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها تحتم أن تقوم للإسلام دولة أو دار، يتميَّز فيها بعقائده وشعائره وتعاليمه ومفاهيمه، وأخلاقه وفضائله، وتقاليده وتشريعاته. فلا غنى للإسلام عن هذه الدولة المسئولة في أي عصر، ولكنه أحوج ما يكون إليها في هذا العصر خاصة. هذا العصر الذي برزت في (الدولة الأيديولوجية) وهي الدولة التي تتبنى فكرة، يقوم بناؤها كله على أساسها، من تعليم وثقافة وتشريع وقضاء واقتصاد، إلى غير ذلك من الشؤون الداخلية والسياسية الخارجية. كما نرى ذلك واضحا في الدولة الشيوعية والاشتراكية. وأصبح العلم الحديث بما وفره للدولة من تقدم تكنولوجي في خدمة الدولة، وأصبحت الدولة بذلك قادرة على التأثير في عقائد المجتمع وأفكاره وعواطفه وأذواقه وسلوكه بصورة فعَّالة، لم يُعرف لها مثيل من قبل. بل تستطيع الدولة بأجهزتها الحديثة الموجهة أن تغيِّر قِيَم المجتمع ومُثُله وأخلاقه رأسا على عقب، إذا لم تقم في سبيلها مقاومة أشد. إن دولة الإسلام دولة تقوم على عقيدة وفكرة ورسالة ومنهج، فليست مجرد (جهاز أمن) أو (دفاع) يحفظ الأمة من الاعتداء الداخلي أو الغزو الخارجي، بل إن وظيفتها لأعمق من ذلك وأكبر. وظيفتها تعليم الأمة وتربيتها على تعاليم ومبادئ الإسلام، وتهيئة الجو الإيجابي، والمناخ الملائم، لتحويل عقائد الإسلام وأفكاره وتعاليمه إلى واقع ملموس، يكون قدوة لكل مَن يلتمس الهُدى، وحجة على كل سالك سبيل الرَّدَى. ولهذا يُعرِّف ابن خلدون (الخلافة) بأنها: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به [20]. ولهذا وصف الله المؤمنين حين يمكَّن لهم في الأرض، وبتعبير آخر حين تقوم لهم دولة، فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]. ثم إن هذه الدولة العقائدية ليست ذات صفة محلية، ولكنها دولة ذات رسالة عالمية، لأن الله حمَّل أمة الإسلام دعوة البشرية إلى ما لديها من هُدى ونور، وكلَّفها الشهادة على الناس، والهداية للأمم، فهي أمة لم تنشأ بنفسها ولا لنفسها فحسب، بل أخرجت للناس، أخرجها الله الذي جعلها خير أمة وخاطبها بقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]. ومن هنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيحت له أول فرصة -بعد صلح الحديبية- كتب إلى ملوك وأمراء الأقطار في أركان الأرض يدعوهم إلى الله، والانضواء تحت راية التوحيد، وحمَّلهم إثم أنفسهم وإثم رعيتهم إذا تخلفوا عن ركب الإيمان، وكان يختم رسائله بهذه الآية: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]. إن شعار دولة الإسلام ما قاله ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس [21]: إنَّ الله ابتعثنا لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام [22]. وإذا كانت هذه الأهمية كلها للدولة وقدراتها المعاصرة، فكيف يدعها الإسلام في يد العلمانين والشيوعيين وغيرهم، يوجهونها إلى ما يضاد عقيدة الأمة وشريعتها وقِيَمها، ويفرغها - بطول الزمن - من رسالتها التي هي أساس وجودها؟ العلمانية تحاول اقتحام الأزهر مرة أخرى: ومن الوقائع الهامة التي ينبغي أن تسجل هنا: أن الأزهر -قلعة العلم والاسلام الكبرى- قد غزي في عقر داره مرتين، لا غزوا ماديا، كما فعل الفرنسيون حين ضربوه بالمدافع والقذائف، حتى تصدعت جدرانه، ثم دخلوا بخيلهم الأزهر، ودنَّسوا أرضه الطاهرة، وانتهكوا حرمة الإسلام وأهله. بل هو غزو معنوي أشد خطرا من اقتحام الخيل صحن الأزهر. وهو دخول الدعوى العلمانية المستوردة، التي خلاصتها فصل الدِّين عن الدولة، بل عن الحياة والمجتمع بصفة عامة. وبعبارة أخرى: عزل الله تعالى عن التشريع لخَلقه، والخضوع لأحكام وضعية من صنع البشر. وهو سبحانه القائل: أَفَغيرَ اللهِ أَبتَغِي حَكَمًا وهُو الَّذي أَنْزلَ إِلَيكُم الكِتابَ مُفصَّلاً [الأنعام:114] المرة الأولى: كانت على يد الشيخ علي عبد الرزاق وقد تحدثنا عن كتابه الصغير الحجم، الكبير الخطر سنة 1925م والذي هاجمه عليه علماء الأزهر، وسحبوا منه شهادة (العالمية) وأخرجوه من زمرة العلماء. ورد عليه كبارهم بردود علمية حاسمة. مثل رد علامة الفقه الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر في ذلك الزمان [23]، ورد العلامة الكبير الشيخ محمد خضر حسين [24]، الذي أصبح بعد ذلك شيخا للأزهر. كما رد عليه كثيرون بعد ذلك منهم، الدكتور محمد ضياء الدِّين الريس [25]، والدكتور محمد البهي [26]، والدكتور محمد عمارة [27]. والمرة الأخرى: كانت على يد الشيخ خالد محمد خالد، الذي ألف كتابه (من هنا نبدأ) في سنة 1950م، والذي رحبت به وروجت له دوائر شتى: صليبية وشيوعية وليبرالية وعلمانية، وقاومته كل الاتجاهات الإسلامية. وقد تصدى له كثيرون بالرد، أشهرهم شيخنا الشيخ محمد الغزالي - الذي كان صديقا للشيخ خالد- في كتابه (من هنا نعلم) الذي فند فيه مقولات الشيخ خالد بأسلوب علمي هادئ، لم يبق لباطله شبهة إلا دفعها بالحق، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18] ومما يذكر هنا للشيخ خالد رحمه الله: أنه بعد مدة من الزمن تبين له خطأ ما ذهب إليه من قبل، وأنه تجاوز فيه الحقيقة، فما كان منه إلا أن أعلن في شجاعة رائعة ونادرة: رجوعه عن رأيه القديم، وتبنّيه للرأي المخالف، وأصدر في ذلك كتابا سماه (الدولة في الإسلام) قال في مقدمته: يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 11 | |||
|
![]() في عام 1950م ظهر أول كتاب لي، وكان عنوانه: (من هنا نبدأ). وكان ينتظم أربعة فصول، كان ثالثها بعنوان: (قومية الحكم). الفصل الثاني من حق الإسلاميين أن يكون لهم حزب سياسي ومما يتصل بقضية الدِّين والسياسة: ما انتهجته بعض الأنظمة الحاكمة وحرض عليه العلمانيون، أو رحبوا به، من حرمان الاتجاهات الإسلامية من تأسيس حزب سياسي، وتحريم ذلك عليهم تحريما مطلقا، متذرعين بحجج ليست في الواقع إلا شبهات واهية أوهن من بيت العنكبوت. 1. قالوا -أولا- إن الدِّين أطهر وأنقى وأعلى من أن يتدنس بالسياسة، لهذا لا يجوز إنشاء حزب سياسي على أساس الدِّين. 2. وقالوا -ثانيا- إن هذا الحزب لو سمح له أن ينشأ، سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، وباسم السماء، فلا يجوز لأحد أن ينقده أو يعارضه، وإلا كان كافرا أو فاسقا. 3. وقالوا -ثالثا- إننا لو سمحنا للإسلاميين بتكوين حزب إسلامي، لا بد في بلد كمصر: أن تسمح للأقباط بتكوين حزب مسيحي. وهذا سيكون مدعاة لإثارة الفتن الطائفية، التي لا تؤمن عواقبها. 4. وقالو -رابعا- إن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية، في حين لا يستخدمها غيره. وهذه كلها مردود عليها، ولا تثبت على محكِّ النقد. 1. فاعتقاد أن السياسة دنس ورجس من عمل الشيطان: اعتقاد لا أساس له من الدِّين ولا من العلم. وإذا كانت السياسة عمل العقل في تدبير شؤون الخَلق بما يصلحهم ويرقى بهم في ضوء الشريعة، أو كما عرفها بعضهم: كل عمل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، فليست في ذاتها دنسا ولا رذيلة ولا حراما ولا رجسا، إنما الدنس في نفوس الذين يستغلون السياسة للإثراء الحرام، والإفساد في الأرض، والطغيان على عباد الله. وكم رأينا من الساسة والقادة من أقام العدل، وأيد الحق، ودعا إلى الخير، وأحيا الله به البلاد، وأصلح به العباد. 2. ودعوى أن الحزب الإسلامي سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، ويتكلم باسم السماء: دعوى غير صحيحة ولا صادقة. والحزب الإسلامي لا يرخص له بتكوين حزبه إلا بعد أن يقدم برنامجه، ويحدد فيه رؤيته ورسالته، ويبين أهدافه ووسائله، ومناهجه في إصلاح المجتمع من نواحيه المختلفة (اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية وأخلاقية ... إلخ) فإذا كان في هذا البرنامج دعوى الحكم بالحق الإلهي: رفض طلبه. وإن كان شأنه شأن غيره من الأحزاب يعمل في ظل الدستور، ويستمد مرجعيته من الشريعة الإسلامية السمحة، مقرونة بالاجتهاد والتجديد، المرتبط بفقه المقاصد والموازنات والأولويات، فليس من حقنا أن نُقوِّله ما لم يقل، ونرميه بتهمة ليس عليها دليل ولا برهان. إن علي بن أبي طالب سمح لجماعة الخوارج المعارضين لحكمه: أن يكون لهم وجودهم الحزبي والسياسي، مع أفكارهم المعارضة، بشرط أن لا يبدأوا المسلمين بقتال. 3. ودعوى أن إعطاء الإسلاميين حق تكوين حزب: يفتح الباب لمطالبة الأقباط بحزب لهم: دعوى مرفوضة أيضا، فما المانع أن يكون للأقباط حزب سياسي يعمل في وضح النهار، بدل أن يتهمهم من يتهمهم بأنهم يعملون بالسياسة من خلال الكنيسة، بدون حزب مرخص. 4. وادعاء أن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية: ليس مُسلما، فالمسجد ليس للإسلاميين وحدهم، إنما هو مسجد المسلمين جميعا. ويجب أن يتجنب المسجد الدعاية للأشخاص، والمهاترات الحزبية والشخصية. لكن لا نستطيع أن نمنع المساجد وخطباءه أن يؤيد من يتبنى الشريعة الإسلامية، وأن يرفضوا من رفضها، دون تحديد ولا تعيين. فهذا من باب النصيحة في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة. وأخشى أن يزيد العلمانيون في دعاواهم لحرمان الإسلاميين من حزب سياسي: أنهم يستدلون بآيات القرآن وأحاديث الرسول، التي تؤثر في جماهير الشعب، على حين لا يستطيع خصومهم أن يفعلوا ذلك. هذا، مع أن القرآن قرآن الجميع، والرسول رسول الجميع، ولا يقدر أحد أن يمنع أي مسلم من استعمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في تأييد وجهته، ما دام يضعها في موضعها الصحيح. على أن هذه الدعاوى قد سقطت من الناحية العملية، فهناك عدد من البلاد فيها أحزاب إسلامية: في الأردن، وفي المغرب، وفي اليمن، وفي فلسطين، وفي تركيا، وفي ماليزيا، وفي إندونسيا، وفي غيرها، وقد خاضت معارك الانتخابات، وحصلت على نسبة كبيرة من المقاعد، ولم يشتك الشاكون من وقوع هذه الاتهامات التي ألصقوها جزافا بالحزب السياسي الإسلامي. إضاءات ضرورية: وأود أن أذكر بعض الإضاءات في هذه القضية: الأولى: أنه لا يجوز أن يحرم بعض المواطنين من حقهم في المشاركة السياسية في بناء وطنهم وإصلاحه وتطويره، لمجرد أنهم متدينون، أو لأن لهم رؤية في الإصلاح والتغيير منبثقة عن دينهم وتراثهم. وقد أعطينا الحق للتيارات المختلفة لإنشاء أحزاب سياسية: العلمانيين والليبراليين والقوميين والشيوعيين وغيرهم، فلماذا يحرم الإسلاميون من هذا الحق دون غيرهم؟ إن هذا يخالف الدستور الذي قرَّر المساواة بين جميع المواطنين، وهذه تفرقة لا مبرِّر لها. وهو أيضا مخالف للمواثيق الدولية، وميثاق حقوق الإنسان، وغيرها. الثانية: أنهم يقولون: لا يجوز تكوين أحزاب دينية، والإسلاميون لا يريدون إنشاء حزب ديني، بل حزب إسلامي. وفرق بين الدِّيني والإسلامي. فالدِّين في عرف الناس يعني الجانب العقدي والتعبدي والروحي، أما الإسلامي فهو أشمل وأجمع، وهو يضم الاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والإدارة ... إلخ. ولا مانع لدى الإسلاميين أن يدخل في هذا الحزب أشخاص من غير المسلمين، لأن برنامجهم للجميع لا للمسلمين وحدهم. الثالثة: أن الأحزاب السياسية تمثل قوى شعبية سياسية موجودة على أرض الواقع، من حقها أن يكون لها رأي في سياسة بلدها. والإسلاميون قوة سياسية موجودة وبارزة، وظاهرة التأثير، ومسموعة الكلمة. وقد أثبتت الانتخابات في أكثر من بلد: أنها القوة الأولى المؤيَّدة من جماهير الشعوب في منطقتنا. فكيف يمكن تجاهلها، وإهالة التراب عليها حية، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8،9]، في حين يعطى حق الشرعية لأحزاب لا يكاد يسمع لها صوت، أو يحس لها بأثر؟! الفصل الثالث دولة الإسلام دولة مدنية مرجعيتها الإسلام ومما يلزم مما اتفق عليه العلمانيون من حرمان الإسلام من حق إقامة دولة: ما نفَّقوه من مزاعم حول طبيعة هذه الدولة المرجوة، فقد تقولوا عليها الأقاويل، وصوروها تصويرا مليئا بالأخيلة والتهاويل. قالوا إنها دولة (دينية) ويعنون بالدِّينية: أنها دولة كهنوتية، تتحكم في أهل الأرض باسم السماء، وتتحكم في دنيا الناس باسم الله، ويدعون أن (حاكمية الله) التي قال بها داعيان كبيران من دعاة العصر: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر: توجب أن تكون هذه الدولة دينية. كدولة الكنيسة الأوربية فيما سمي: (العصور الوسطى). وهذه الدولة في رأيهم، إنما يملك زمامها (رجال الدِّين) الذين ليس لأحد غيرهم أن يفسر الدِّين أو يصدر الأحكام، وهم يفسرون الدِّين من منطلق الجمود والأفق الضيق، ويرجعون إلى الأوراق القديمة، ولا ينظرون إلى الآفاق الجديدة. وهذه كلها دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها برهان. فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية. ومعنى (مدنية الدولة): أنها تقوم على أساس اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكل حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمة، وعلى وجوب الشورى بعد ذلك، ونزول الأمير أو الإمام على رأي الأمة، أو مجلس شوراها، كما تقوم كذلك على مسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح له، ويشير عليه، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. بل يعتبر الإسلام ذلك فرض كفاية على الأمة، وقد يصبح فرض عين على المسلم، إذا قدر عليه، وعجز غيره عنه، أو تقاعس عن أدائه. إن الإمام أو الحاكم في الإسلام مجرد فرد عادي من الناس، ليس له عصمة ولا قداسة. وكما قال الخليفة الأول: إني وليت عليكم ولست بخيركم [1]. وكما قال عمر بن عبد العزيز: إنما أنا واحد منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملا [2]. هذا الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، هناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره من المكلَّفين: رب الناس، مَلِك الناس، إله الناس. ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام، ولا أن يُجمِّدوها. ولا أن يأخذوا منها ويدعوا بأهوائهم. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36]. وهناك أمة هي التي اختارت هذا الحاكم، وهي التي تحاسبه، وتقومه إذا اعوج، وتعزله إذا أصر على عوجه، ومن حق أي فرد فيها أن يرفض طاعته إذا أمر بأمر فيه معصية بيّنة لله تعالى. بل من واجبه أن يفعل ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" [3]، والقرآن الكريم حين ذكر بيعة النساء للنبي، وفيها طاعة النبي وعدم معصيته: قيد ذلك بقوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12]. هذا وهو المعصوم المؤيد بالوحي، فغيره أولى أن تكون طاعته مقيدة. ولم نر أحدا من الخلفاء في تاريخ الإسلام، أضفى على نفسه، أو أضفى عليه المسلمون: نوعا من القداسة، بحيث لا ينقد ولا يُقَوَّم، ولا يؤمر ولا ينهى. بل تراهم جرَّأوا الناس على أن ينصحوهم ويقوّموهم، كما قال أبو بكر في أول خطبة له: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم [4]. وكان عمر يقول: مرحبا بالناصح أبد الدهر. مرحبا بالناصح غدوا وعشيا [5]. وقال قولته المعروفة: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني [6]. أتمثل هذه الدولة -وهذا منهاجها، وهؤلاء أفرادها- دولة دينية تحكم بالحق الإلهي؟ أم هي دولة يحكمها بشر غير معصومين، تقيدهم شريعة الله، وتراقبهم الأمة، وتحاسبهم، وتعتبرهم أجراء عندها كما قال أبو مسلم الخولاني لمعاوية [7]. وقد نظم ذلك أبو العلاء بقوله: مُلَّ المقامُ فكم أعاشرُ أمـــةً.. أمرَتْ بغير صلاحِها أمراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدَها.. وعدَوْا مصالحها وهمُ أُجَراؤها وقولنا: إن الدولة الإسلامية دولة مدنية، قاله من قبلنا الإمام محمد عبده في رده الشهير على فرح أنطون في كتابه الأصيل المعروف: (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية). قال الأستاذ الإمام: (إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدِّينية ... التي عرفتها أوربا ... فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر ... وهي سلطة خوَّلها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم ... والأمة هي التي تولي الحاكم ... وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الأفرنج (ثيوكرتيك)، أي سلطان إلهي ... فليس للخليفة -بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام- أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي ... فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه ... بل إن قلب السلطة الدِّينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجَلِّ أصول الإسلام؟!) [8]. لكن نفي (الوصف الدِّيني) -أعني الكهنوتي والثيوقراطي والحكم بالحق الإلهي بواسطة طبقة بعينها- لا يعني نفي (الوصف الإسلامي) عنها. فهي دولة (مدنية) مرجعيتها الشريعة الإسلامية. وذلك (لأن الإسلام -كما يقول الأستاذ الإمام: دين وشرع، فهو قد وضع حدودا، ورسم حقوقا ... ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة ... والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان شأنه أن يحاسب قيصر على ما له، ويأخذ على يده في عمله ... فكان الإسلام: كمالا للشخص ... وألفة في البيت ... ونظاما للمُلك) [9]. يتبع > __________________
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 12 | |||
|
![]() الدولة الإسلامية ورجال الدِّين: الفصل الرابع الدولة الإسلامية دولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية بيّنا في الفصل السابق: أن الدولة في الإسلام دولة مدنية كغيرها من دول العالم المتحضر، وإنما تتميز بأن مرجعيتها الشريعة الإسلامية. وفي هذا الفصل نبين أن هذه الدولة المدنية تقوم على الشورى والبيعة واختيار الأمة لحاكمها بإرادتها الحرة، ونصحه ومحاسبته، وإعانته على الطاعة، ورفض طاعته إذا أمر بمعصية. وحقها في عزله إذا أصر على عوجه وانحرافه. وهذا التوجه يجعل الدولة الإسلامية أقرب ما تكون إلى إلى جوهر الديمقراطية. الديمقراطية المنشودة: ونعني بالديقراطية في هذا المقام: الديمقراطية السياسية. أما الديمقراطية الاقتصادية، فتعني (الرأسمالية) بما لها من أنياب ومخالب، فإننا نتحفظ عليها. وكذلك الديمقراطية الاجتماعية التي تعني (الليبرالية) بما يُحمّلونها من حرية مطلقة، فإننا كذلك نتحفظ عليها. إن الرأسمالية (القارونية) مرفوضة عندنا، لأنها تقوم على فكرة الرأسمالي الذي يقول عن ماله: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص:78]، أو كما قال قوم شعيب له: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87]، والفكرة الإسلامية أن الإنسان مستخلف في مال الله، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، وأن المالك الحقيقي للمال هو الله، والغني أمين على هذا المال، وكيل عن مالكه الحقيقي، فملكيته مقيدة، عليها تكاليف وواجبات، وتقيدها قيود في الاستهلاك والتنمية والتوزيع والتبادل. وتفرض عليها الزكاة التي عدت من أركان الإسلام، كما يُمنع المالك من الربا والاحتكار والغش والغبن والسرف والترف والكنز وغيرها [1]. وبهذه الوصايا والقوانين وأمثالها، نقلّم أظفار أخطار الرأسمالية، حتى نحقق العدالة الاجتماعية، ونرعى الفئات الضعيفة في المجتمع من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ونعمل على حسن توزيع المال كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7]. والليبرالية التي تعني (الحرية المطلقة) مرفوضة أيضا عندنا، فليس في الوجود كله حرية مطلقة، كل حرية في الدنيا لها قيود تحدها، من هذه القيود: حقوق الآخرين، ومنها: حق الفرد نفسه، ومنها: قيود دينية تتعلَّق بحق الله سبحانه، ومنها: قيود أخلاقية. إن البواخر في المحيطات الواسعة مقيدة في سيرها بخطوط معروفة، تحددها الخارطة و(البوصلة). ومثل ذلك الطائرات في جو السماء، لا تذهب يمنة ويسرة، كما يشاء قائدها، بل له خط سير يجب أن يتبعه ولا يحيد عنه. الذي يعنينا من الديمقراطية هو الجانب السياسي منها، وجوهره أن تختار الشعوب من يحكمها ويقود مسيرتها، ولا يفرض عليها حاكم يقودها رغم أنفها. وهو ما قرَّره الإسلام عن طريق الأمر بالشورى والبيعة، وذم الفراعنة والجبابرة، واختيار القوي الأمين، الحفيظ العليم، والأمر باتِّباع السواد الأعظم، وأن يد الله مع الجماعة، وقول الرسول لأبي بكر وعمر: "لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما" [2]، إذ سيكون صوتان أمام واحد. ومن حق كل امرئ في الشعب أن ينصح للحاكم، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، مراعيا الأدب الواجب في ذلك. وأن يطيعه في المعروف، ويرفض الطاعة في المعصية المجمع عليها، أي المعصية الصريحة البينة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والذي يهمنا اقتباسه من الديمقراطية هو ضماناتها وآلياتها التي تمنع أن تزيف وتروج على الناس بالباطل. فكم من بلاد تحسب على الديمقراطية، والاستبداد يغمرها من قرنها إلى قدمها، وكم من رئيس يحصل على (99%) تسعة وتسعين في المائة، وهو مكروه كل الكراهية من شعبه. إن أسلوب الانتخابات والترجيح بأغلبية الأصوات، الذي انتهت إليه الديمقراطية هو آلية صحيحة في الجملة، وإن لم تَخْل من عيوب، لكنها أسلم وأمثل من غيرها [3]. ويجب الحرص عليها وحراستها من الكذابين والمنافقين والمُدلِّسين. أما دعوى بعض المتدينين: أن الديمقراطية تعارض حكم الله، لأنها حكم الشعب، فنقول لهم: إن المراد بحكم الشعب هنا: أنه ضد حكم الفرد المطلق، أي حكم الديكتاتور، وليس معناها أنها ضد حكم الله، لأن حديثنا عن الديمقراطية في المجتمع المسلم، وهو الذي يحتكم إلى شريعة الله [4]. يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 13 | |||
|
![]() الديمقراطية وصلتها بالإسلام: الفصل الخامس الدولة الإسلامية وحقوق الأقليات ومما يذكره هنا الحداثيون والعلمانيون: أن الدولة الإسلامية حين تقوم، يترتب على قيامها الجَور على حقوق الأقليات الدِّينية (المسيحية خاصة) بسبب طبيعتها الإسلامية. وذلك يتجلى في عدة صور: 1. اعتبار هؤلاء الأقليات من (أهل الذمة) وهذا يعني تهميشهم في المجتمع، والنظر إليهم نظرة دونية. 2. فرض الجزية عليهم كما أمر القرآن: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]. 3. فرض أحكام وقوانين دينية عليهم، مما توجبه الشريعة الإسلامية التي لا يؤمنون بها. 4. حرمانهم من وظائف معينة، مباحة للمسلمين، محرمة عليهم. ومن الضروري هنا: أن نناقش هذه الدعاوى، ونرد عليها واحدة واحدة، بالأدلة الشرعية المستقاة من المنابع الصافية، المؤيدة بالمنطق العلمي السليم. 1. مسألة أهل الذمة: أما مسألة (أهل الذمة) فالذمة معناها: الضمان والعهد، أي أنهم في ضمان الله ورسوله وجماعة المسلمين وعهدهم، لا يجوز دينا إخفار ذمتهم، أو نقض عهدهم المؤبد، الذي يصون حرماتهم، ويحفظ دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. والأصل في ذلك هو القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصتهم وعامتهم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. ومع هذا، إن كان هذا المصطلح (أهل الذمة) يعطي انطباعا غير حسن عند إخواننا المسيحيين ويستاؤون منه، فإن الله لم يتعبدنا به، ويمكننا أن نستبدل به مصطلح (المواطنة) و(المواطنين). ومما يؤيد ذلك: أن فقهاء الشريعة في جميع المذاهب، اعتبروا أهل الذمة من (أهل دار الإسلام) ومعنى (أهل الدار): أي أهل الوطن، بمعنى أنهم مواطنون مشتركون مع المسلمين في المواطنة. 2. مسألة الجزية: وأما مسألة (الجزية) فقد كانت غاية للقتال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، ومعنى الصغار هنا: خضوعهم لدولة الإسلام، ودلالة ذلك: دفع هذا المبلغ الزهيد الذي يعبر عن إذعانهم لسلطان الدولة. وفي مقابله تقوم الدولة بحمايتهم والدفاع عنهم، والكفالة المعيشية للعاجزين منهم، كما فعل سيدنا عمر حين فرض ليهودي محتاج، ما يكفيه وعياله من بيت مال المسلمين [1]. وقد كانت هذه الجزية بدلا من فريضة الجهاد، وهي فريضة دينية تعبدية، فلم يُرِد الإسلام -لفرط حساسيته- أن يفرض على غير المسلمين ما يعتبره المسلمون عبادة وقربة دينية، بل أعظم القربات عند الله. ولقد طلبت قبيلة (تغلب) العربية الكبيرة من أمير المؤمنين عمر: أن يسقط عنهم (الجزية) لأنهم قوم عرب يأنفون من قبول كلمة (جزية) وليأخذ منهم ما يشاء باسم الزكاة أو الصدقة، وقد تردد في أول الأمر، ثم قَبِل ذلك؛ لأن المقصود أن يدفعوا للدولة ما يثبت ولاءهم ومشاركتهم لها في الأعباء. ومن هنا رأى أن العبرة بالمسميات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين. وهو اجتهاد عُمَري يجب اعتماده في هذه القضية وفي أمثالها. وهو ما جعله رضي الله عنه، يغض الطرف عن هذا المصطلح الذي جاء في القرآن، ما دام قد حقق المقصود منه، فكيف بمصطلحات لم تجئ في قرآن ولا سنة؟! وقد قرَّر الفقهاء أن الذمي إذا شارك في الدفاع ومحاربة الأعداء سقطت عنه الجزية. واليوم بعد أن أصبح التجنيد الإجباري مفروضا على كل المواطنين -مسلمين وغير مسلمين- لم يعد هناك مجال لدفع أي مال، لا باسم جزية، ولا غيرها. 3. فرض القوانين الدِّينية: وأما ما يقال عن فرض الأحكام والقوانين الدِّينية على غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، فهذا يحتاج إلى بيان. أولا: أن الأحكام والقوانين الدِّينية لا تفرض أبدا على غير المسلمين، فلا تفرض عليهم الأحكام المتعلِّقة بالعبادات والفرائض الدِّينية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها. حتى الزكاة لم يفرضها عليهم، لأن فيها معنى العبادة، ومعنى الحق المالي، فراعى جانب العبادة فيها، ولم يفرضها عليهم، احتياطا في رعاية شعورهم. وإن كان لي رأي في الموضوع: أنه لا مانع من أن تفرض عليهم ضريبة مساوية للزكاة، تسمى (ضريبة التكافل) توحيدا للمعاملة المالية بين أبناء الوطن الواحد. وقد وضحت ذلك بأدلته في كتابي فقه الزكاة [2]. ومما يلحق بالقوانين الدِّينية: القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية من الزواج والطلاق والمواريث وغيرها، فهذه تعامل معاملة الأمور الدِّينية الخالصة، ونترك لهم حرية تنظيمها وتقنينها بما يتناسب وعقائدهم. وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون. ومما سجله التاريخ الإسلامي: أن المسيحين كانت لهم محاكمهم الخاصة، وفيها قضاة منهم، تفصل بينهم وفقا لأحكام ملتهم. أما القوانين المدنية والجنائية وغيرها، فيجري عليهم فيها ما يجري على المسلمين، تسوية بين أهل البلد الواحد. والحكم هنا يدور مع الأكثرية، كما تقضي بذلك مبادئ الديمقراطية، بشرط أن لا تجور الأكثرية على حقوق الأقلية. وأعتقد أن رجوع المسيحيين إلى قوانين الأكثرية المسلمة: لا يتعارض مع أي معتقد عندهم، وخصوصا أن المسيحية لا تحتوي على تشريعات ملزمة لهم، ويستوي عندهم أن يكون القانون الذي يحكمهم: قانون نابليون أو قانون محمد. بل أرى أن قانون محمد في الواقع: أقرب إليهم من قانون نابليون لأمرين: الأول: أن قانون محمد قانون يراعي القيم الأخلاقية، والمثل العليا، التي جاء بها رسل الله جميعا، وحرصت عليها كل رسالات السماء، ومنها رسالة المسيح. بخلاف قانون نابليون الذي تغلب عليه النزعة النفعية والمادية والدنيوية. والثاني: أن قانون محمد أو قانون المسلمين قانون نابع من المنطقة نفسها، معبر عنها وعن حاجاتها ومطالبها، معالج لمشكلاتها، فهو منها وإليها. بخلاف قانون نابليون المستورد من خارج المنطقة، ولا صلة له بثقافتها ولا بحضارتها، ولا بمفاهيمها ولا بتقاليدها. وأخيرا أقول: إن مصلحة غير المسلمين: أن يحتكم المسلمون إلى شريعتهم التي تتجلى فيها طاعتهم لربهم، وإذعانهم لحكمه. فهذا أدعى أن يرعوا فيها حقوق الناس وحدود الله تعالى. وبهذا يأخذ غير المسلمين أحكام الشريعة على أنها قانون عادي، ويأخذها المسلمون على أنها تنفيذ لشرع الله، وامتثال لأمر الله، وفي هذا من الخير ما فيه. هذا مع ملاحظة: أن بعض القوانين الجنائية المفروضة على المسلمين، لا تفرض على غيرهم، مثل عقوبة شرب الخمر، لأنها غير محرمة في دينهم. وهناك خلاف في تطبيق بعض الحدود على غير المسلمين. وأنا أرى هنا: الأخذ بالأيسر والأوسع في هذا المجال. 4. الحرمان من الوظائف: وأما حرمان الأقلية الدِّينية من وظائف الدولة، فنود أن نبين هنا: أن وظائف الدولة أنواع ومستويات. فمنها: وظائف لها طابع ديني لا يفكر المسيحي ولا اليهودي أن يكون له حظ فيها، مثل وظائف الإمامة والخطابة والأذان وخدمة المسجد، ونحو ذلك. ومثل ذلك: الوظائف المتعلِّقة بأركان الإسلام الأخرى، مثل: الزكاة والحج وغيرها. وإن كان هناك من الفقهاء من أجاز للذمي أن يكون من (العاملين) على الزكاة، ويأخذ أجرته منها، وهذا قمة في التسامح. وهناك وظائف تحتاج إلى تخصص في الشريعة وفقهها، مثل (القضاء) فلهذا اشترط الفقهاء فيما مضى: أن يكون القاضي مسلما، إذْ لا بد له أن يكون عالما بالقرآن والسنة، عالما بالفقه وأصوله. وهذا مما يتعسر -إن لم يتعذر- على غير المسلم. وقد يتغير الاجتهاد في عصرنا الذي أصبح فيه القضاء جماعيا، وغدت فيه المحكمة تتكون من عدة قضاة، وهنا يمكن أن يقال: لا مانع من أن يكون بعض القضاة من غير المسلمين، إذا مَلَك من المؤهلات ما يمكِّنه من هذا. على أن يترك القضاء في الأحوال الشخصية للقضاة المسلمين، لما ذكرنا: أن هذه الأحوال لصيقة بالجانب الدِّيني، ولهذا قلنا: يجب أن تكون لغير المسلمين فيها محاكمهم الخاصة. وقد تثار هنا قضية رئاسة الدولة، وهل تحرم منها الأقلية؟ والواقع أن الدولة في الإسلام: دولة عقائدية، دولة فكرة ورسالة، وهي موصولة بالدِّين، غير منفصلة عنه. ومن أول مسؤولياتها: التمكين لدين الله، والذود عنه، ورئاسة الدولة في الإسلام لها اختصاصات ذات علاقة بالشأن الدِّيني، وبعضها لا يجوز أن يقوم به إلا مسلم، مثل إمامة الناس في الصلاة، فالإمام أو الحاكم المسلم هو إمام الناس في الصلاة، وقائدهم في المواجهة، وقاضيهم في الخصومات، والنائب عن رسول الله في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به، كما قال العلماء. فهو المسؤول الأول عن حمل الإسلام: عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، قرآنا وسلطانا، دينا ودنيا. كما قال الله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِِ [الحج:41]، فجعل أول أعمال الممكنين في الأرض: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذا شأن المسلمين. يتبع > __________________ |
|||
![]() |
رقم المشاركة : 14 | |||
|
![]() ولا مانع من أن يكون أحد نائبي الرئيس أو نوابه من غير المسلمين، وخصوصا إذا كانت الأقلية غير المسلمة كبيرة، كما هو حاصل في السودان اليوم. الفصل السادس الدولة الإسلامية وحقوق الإنسان ومما أثاره الحداثيون والعلمانيون من يمينيين ويساريين: ادِّعاؤهم أن قيام الدولة الإسلامية التي تحكم بالشريعة الإسلامية يتعارض مع ميثاق حقوق الإنسان، الذي صدر عن الأمم المتحدة، وتلقَّاه العالم بالقَبول. فهم يرون حكم الشريعة الإسلامية يتعارض مع حقوق الإنسان في عدة مجالات: 1. منها: مجال الحرية الدِّينية، التي تفرض على من دخل في الإسلام: ألا يخرج منه، وإلا كانت عقوبته القتل على جريمة الرِّدَّة عن الإسلام. 2. ومنها: مجال حقوق المرأة، التي يجعلها الإسلام -فيما زعموا- في مرتبة دون مرتبة الرجال، ومن ذلك: أنها لا تتزوج إلا بإذن وليها، وأنها إذا تزوجت كان الرجل قواما عليها، وكان الطلاق بيده، وإذا ورثت كان نصيبها كما قال القرآن: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]، ولهذا توقف عدد من الدول الإسلامية في قبول اتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة. 3. ومنها: مجال حقوق الشواذ والعراة والإباحيين، التي تتعارض مع أحكام الشريعة في تحريم الزواج المثلي، وتحريم اللواط والسحاق، وتحريم الزنى، والتبرج والخلاعة. 4. ومنها: مجال حقوق الأقليات الدِّينية، وقد أفردناها بالحديث. عناية الإسلام بحقوق الإنسان: ويهمنا أن نبين في هذا المقام أنه لا يوجد دين كالإسلام عُني بالإنسان، وقرَّر أن الله كرمه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، وأنه جعله في الأرض خليفة، وأنه سخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وأنه خلقه في أحسن تقويم، وعلمه البيان، ومنحه العقل والإرادة، وأنزل له الكتب، وبعث له الرسل. كل هذا من كرامته على الله سبحانه. كما عُني الإسلام بحقوق الإنسان التي جعلها في معظم الأحيان فرائض وواجبات، إذ الحق يجوز للإنسان أن يتنازل عنه، أما الفرض والواجب اللازم، فلا يجوز فيه ذلك. وبخاصة حقوق الضعفاء لدى الأقوياء: حقوق الفرد لدى المجتمع ... حقوق الشعوب لدى الحُكَّام ... حقوق الفقراء لدى الأغنياء ... حقوق الأُجَرَاء لدى المُلاَّك ... حقوق العمال لدى أرباب العمل ... حقوق النساء لدى الرجال ... حقوق الأطفال لدى الآباء والأمهات ... حتى حقوق الحيوان لدى الإنسان! ونوَّع هذه الحقوق بين مادي وعقلي، وفردي وجماعي، وآني ومستقبلي، وجعل من ضمير كل إنسان حارسا على حقوقه، يطالب بها، ويدافع عنها، ويتعاون مع غيره في الذود عنها. ويهاجر من الأرض التي تضيع فيها، ولا يجد له وليا ولا نصيرا. ولقد كتب الكثيرون في موضوع حقوق الإنسان، وأُلِّفت فيه كتب [1]، وقُدمت فيه أو في بعضه رسائل جامعية للماجستير والدكتوراه، وأُشبع بحثا ودراسة. ولكني أكتفي هنا بخلاصة ذكرتها في كتابي (الثقافة العربية والإسلامية بين الأصالة والمعاصرة) [2]. وهذه الخلاصة مقتبسة من كتاب الأستاذ الدكتور محمد فتحي عثمان بعنوان (حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي). وهي خلاصة علمية موثَّقة بالأدلة الشرعية والتاريخية المستقاة من مصادرها الأصيلة. (وفيها بيَّن أن تقرير حقوق الإنسان في الإسلام، استوعب الاتجاهات الوضعية كلها قديما وحديثا وتفوَّق عليها، مؤكدا ما يلي: 1. أن تقرير حقوق الإنسان في الإسلام قد شمل الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، وأكَّد الحريات العامة المتنوعة والمساواة. 2. وقد شمل تقرير حقوق الإنسان في الإسلام: الرجال والنساء اللائي هن "شقائق الرجال" [3]، كما ورد في الحديث، والأطفال وهم (الذرية الضعاف) الذين تمتعوا بالرعاية الشرعية من جانب كل المؤسسات القائمة في المجتمع الإسلامي: الأسرة والجماعة والدولة. 3. كما شمل تقرير حقوق الإنسان في الإسلام: المسلمين وغير المسلمين في داخل دولة الإسلام وخارجها، لأن (البر) في الإسلام إنساني وعالمي: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. 4. وحقوق الإنسان الشاملة في الإسلام هي في ضمان الفرد والجماعة والدولة على السواء، لأن (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هو واجب هؤلاء جميعا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]. 5. ومما يتجلى فيه تفوُّق حكم الله على وضع البشر بالنسبة لتقرير حقوق الإنسان وحرياته العامة: أن تقرير الحقوق في الإسلام يستند إلى (عقيدة الإيمان)، وهي في عمقها وشمولها ودوامها لا تقارن بفكرة (القانون الطبيعي) أو (العدالة) أو (العقد الاجتماعي) أو (المذهب الفردي) ... إلخ. فـ(الله) مصدر تقرير الحقوق في دين الإسلام، حقيقة ثابتة، لا مجرد افتراض غامض، والعقيدة في الله ترتكز إلى أصولها في الفكر والنفس، ولها آثارها الواسعة الشاملة المستمرة في سلوك الفرد والجماعة والدولة. 6. إن استناد تقرير الحق إلى الله عز وجل وشريعته يؤدي إلى اقتران الحق بالواجب، واقتران حق الفرد بحق الجماعة، واقتران الحقوق الفكرية والسياسية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية. فكل ما هو حق للفرد هو واجب على غيره: سواء أكان الغير فردا آخر أم الجماعة أم الدولة، وهكذا لا مجال في المجتمع الإسلامي للأنانية والفردية، ففي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [4]، "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" [5]، والقرآن يعبِّر في جلاء أن الأخوة ثمرة الإيمان الصحيح: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]. 7. بل إن تقرير حقوق الإنسان من قِبَل خالق الإنسان عز وجل قد جعل إحقاق الحق واجبًا على صاحب الحق نفسه، كما هو واجب على الذي عليه الحق، فعلى صاحب الحق أن يطالب به ويحرص عليه، ويناضل لأجله إن كان المانع مماطلاً أو باغيًا أو غاصبًا. ففي الحديث: "مَن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتل دون عرضه فهو شهيد، ومَن قُتل دون ماله فهو شهيد" [6]، والمؤمنون أفرادا وجماعة ودولة في أي مكان مأمورون بمظاهرة صاحب الحق في طلبه والنضال لأجله: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]. والمؤمن مأمور ألاَّ يفرط في حقوقه، وبخاصة ما يمسُّ إنسانيته وفكره واعتقاده، حتى ولو اضطر إلى ترك الأرض التي عاش فيها وارتبط بها وأَلِفها. وهكذا تكون الهجرة أو (الالتجاء) بالاصطلاح القانوني المعاصر واجبا على المضطهد وليست حقًا فحسب. كما أن من واجبه النضال والجهاد حيثما كان. 8. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شريعة الإسلام يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي، وهو التزام فذٌّ يفرضه الإسلام على الفرد والجماعة والدولة، وهو واجب ديني شرعي يرتكز إلى العقيدة، ويتغلغل إلى أعماق ضمير المؤمن، وهو مقرون بالإيمان نفسه في عدد من آيات القرآن. 9. وإن الإسلام ليرتضي في مجال الاجتهاد والسياسة الشرعية كل ما يتوصَّل إليه التفكير والتجربة من إجراءات محكمة مخلصة ناجعة، لضمان حقوق الإنسان ومنع المساس بها والاعتداء عليها. وفي حدود ما ورد من نصوص القرآن والسنة وما وقع في تاريخ الإسلام، يمكن القول بوجود الضمانات التالية: أ. واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المُلقَى على عاتق الفرد والجماعة والدولة في الإسلام، والذي يعني حراسة هؤلاء جميعا للحق في مختلف صوره ومدافعتهم للبغي في مختلف صوره. ومن الوسائل التي عرفها تاريخ الإسلام في هذا الصدد وظيفة المُحتَسب بالنسبة للحكومة، ودعوى الحسبة بالنسبة للأفراد، ويمكن إدخال مراقبة رعاية حقوق الإنسان في نطاق كليهما. ب. كذلك من اختصاص والي المظالم -وهو اختصاص القاضي قبل ذلك وعندما لا يوجد مثل هذا المنصب- النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة. فهذا من لوازم النظر في المظالم التي لا تقف على ظلامة متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحًا، وعن أحوالهم مستكشفًا، ليقويهم إن أنصفوا، ويكفُّهم إن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا. ج. ولا مانع أن يقوم قضاء داخل الدولة الإسلامية على أعلى مستوى لحماية حقوق الإنسان: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]. د. ومن الإجراءات المعروفة في شريعة الإسلام وتاريخه (التحكيم) لمحاولة الإصلاح بين طرفي النزاع، سواء أكان ذلك على المستوى الداخلي أو العالمي. والنص صريح في مجال الأسرة، ولا مانع من تعديته إلى الجماعة داخل الدولة والجماعة الإنسانية الدولية، يقول تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]. ه. والإسلام يشرع الجهاد لحماية حقوق الإنسان، ومنع استضعافه، والبغي على ذاته وحقوقه: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [النساء:75]. و. وحق الهجرة الالتجاء مكفول للفرد، للفرار بنفسه وعقيدته وفكره من الاضطهاد، وكل ما يمكن أن يستحدث من وسائل لحماية الحق وكفالة العدل ومقاومة البغي، فإن الإسلام يرتضيها ويحتويها [7]. هذه هي حقوق الإنسان في الإسلام، واضحة بيِّنة موثَّقة من أصوله ومصادره. ولكن الذي نؤكده هنا: أن الإسلام يمتاز عن الفكر الغربي بما قرَّره من التوازن بين الحقوق والواجبات. فالإنسان في حضارة الغرب يركض أبدا وراء ما هو له، ولا يهتم كثيرًا بما هو عليه. والإنسان في الإسلام مشدود إلى ما يجب عليه أولاً، الإنسان في نظر الغرب مُطالِب سائل، وفي نظر الإسلام مُطالَب مسؤول. وفرق كبير بين الموقفين، فرق بين مَن يقول: ماذا لي؟ ومَن يقول: ماذا عليَّ؟ فالأول يدور حول حاجته، والآخر يدور حول قيمة أخلاقية. ومن خلال أداء الواجبات تُرعى الحقوق؛ إذ ما من حق لفرد أو جماعة إلا كان واجبا على غيره. فحقوق المحكومين إنما هي واجبات على الحُكَّام، وحقوق المستأجرين إنما هي واجبات على المالكين، وحقوق الأولاد إنما هي واجبات على الوالدين وهكذا اهـ. وأما ما قيل من أن هناك بعض القضايا والأحكام الإسلامية تتعارض مع حقوق الإنسان، فسنرد عليها واحدة واحدة: 1. الحرية الدِّينية: أما مجال الحرية الدِّينية، فالواقع أن من المبادئ الأساسية في الإسلام، التي لا يختلف عليها اثنان: أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]. بل لا يُتصور أن يقبل الإسلام إيمان امرئ مكره، لأن شرط الإيمان أن يكون عن اختيار حر، واقتناع ذاتي، ولهذا رفض القرآن إيمان فرعون عند الغرق، ورفض إيمان الأمم حين ينزل بها بأس الله وعقوبته: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 85]. فحرية الاعتقاد مكفولة للجميع: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس:108]. أما الكلام عن حرية الارتداد عن الدِّين، فهذا الذي يحتاج إلى بيان. فالإسلام لا يريد أن يتخذ الناس الدِّين ملعبة، يدخله اليوم ويخرج منه غدا. أو كما قالت طائفة من اليهود في عهد النبوة: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]. وهو هنا لا يحجر على تفكير الإنسان، إذا اختار غير الإسلام، ولكنه يحجر عليه الدعوة لتكفير غيره، وإشاعة الفتنة في صفوف الأمة. ومن حق كل نظام: أن يضع من التشريعات ما يحميه، ويوفر له الحياة والبقاء والانتشار. والرِّدَّة إذا انتشرت وأمست جماعية: فإنها تهدد المجتمع كله بالخطر، ولا بد أن تقاوم، كما قاومها سيدنا أبو بكر والصحابة معه. ولو تركوا هذه الرِّدَّة وقادتها من المتنبئين الكذابين أمثال: مُسيلِمة وسَجَاح والأسود وغيرهم، لاجتُثَّ الإسلام من أصله. وقد رأينا في عصرنا ماذا فعلت الرِّدَّة بجماعة من العسكريين الأفغان، أرسلوا في بعثة إلى روسيا، فاعتنقوا الشيوعية التي هي ضد الإسلام، وضد الأديان بصفة عامة، ثم جاءوا، فقاموا بانقلاب، واستولوا على الحكم، وأرادوا فرض النظام الشيوعي على المجتمع الأفغاني المسلم، فرفضهم المجتمع، وقاومهم بما في يديه من أسلحة قديمة ضعيفة، فاستعانت الطائفة المرتدة على قومهم بالسوفييت، يضربونهم بالطائرات من فوق، وبالدبابات من تحت، وقتلوا منهم نحو مليونين، ولا تزال المأساة الأفغانية قائمة إلى اليوم، من جراء تلك الرِّدَّة وأهلها!! والرِّدَّة ليست مجرد موقف عقلي، إنها تعني: نقل الولاء والانتماء من أمة إلى أمة أخرى مخالفة، فهي -بمعيار الدِّين- لون من الخيانة ونقض العهد، كما أن نقل الولاء من وطن إلى وطن -بمعيار الوطنية- يعتبر من الخيانة العظمى، ولا يقبل أحد أن يُعطَى الفرد حق تغيير ولائه لوطنه، فيصبح مواليًا للدولة المستعمرة، كأن يصبح الجزائري مواليًا لفرنسا المستعمرة، أو الفلسطيني مواليًا لإسرائيل. على أن عقوبة المرتد بالقتل ليست أمرًا متفقًا عليه، فقد جاء عن عمر من الصحابة، وعن النَّخَعِي من التابعين، وعن الثوري من الأئمة: العقوبة بالسَّجن ونحوه. والحوار وطلب التوبة منه دائما [8]. 2. مجال حقوق المرأة: وأما مجال حقوق المرأة، فلا ينكر أحد عَرَف الإسلام من مصادره الأصيلة: أن الإسلام أول من حرَّر المرأة وأنصفها وكرمها: إنسانا وأنثى وبنتا وزوجة وأما وعضوا في المجتمع. وهذا ما قرَّرته آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول القولية، وسنته العملية، وما طبقه الصحابة والخلفاء الراشدون. وحسبنا أن القرآن يسويها بالرجل في الوظائف الدِّينية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]. ويسوي بينهما في الوظائف الاجتماعية والسياسية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... [التوبة:71]، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وظيفة اجتماعية وسياسية معا. ويسوي بينهما في أصل الخَلق والتكليف: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، ومعنى بعضكم من بعض: أنّ الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، لا يستغني عنها، ولا تستغني عنه. يؤكد هذا الحديث النبوي: "إنما النساء شقائق الرجال" [9]. وقد كانت المرأة تشارك الرجل في عبادة الصلاة في المسجد، ولها صفوفها خلف الرجال، وفي جلسات العلم مشاركة مع الرجال، ومنفردة بالرسول، وفي الحج والعمرة، وفي الغزوات في خدمة الجيش وإسعاف الجرحى، وفي حمل السيف أحيانا إذا اقتضى الحال. وكانت تشير على ولي الأمر بما يأخذ به ولا يهمله، كما فعلت أم سلمة في الحديبية، وترد على ولي الأمر أحيانا ما تراه خطأ، ولو كان فوق المنبر، كما حدث في عهد عمر. وكانت المرأة تعمل محتسبة على السوق، -كالشفاء بنت عبد الله العدوية في عهد عمر- لإيقاف الناس رجالا ونساء عند حدود الشرع في البيع والشراء والتعامل. ووظيفة المحتسب تجمع بين التنبيه والرقابة والتأديب، ولها سلطة التنفيذ. وقد أجاز أبو حنيفة أن تعمل المرأة قاضية في غير الجنايات، وأجاز الطبري والظاهرية: أن تكون قاضية في كل شيء، وأن تتولى الوظائف ما عدا الإمامة العظمى، أي رئاسة الدولة. بل ربما قيل: إن الإمامة العظمى ليست مجرد رئاسة دولة إقليمية، فهذه أشبه بوالي الولاية. أما الإمامة العظمى -أو الخلافة- فهي رئاسة عامة على الأمة الإسلامية كلها! وقد أصدرت فتوى منذ سنين وضحت فيها مشروعية قيام المرأة بالإدلاء بصوتها في الانتخاب، لأنه لا يعدو أن يكون شهادة، والله تعالى يقول: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2]، وإذا كان مطلوبا منها الشهادة في الحقوق الشخصية حتى لا تضيع كما قال القرآن: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، فكيف لا تشهد فيما يتصل بحقوق المجتمع أو الأمة كلها؟ وكذلك أجزت لها أن ترشح نفسها لمجلس الشورى أو النواب إذا كانت أهلا لذلك، ورددت على دعاوى الغلاة والمتشددين في هذا الأمر [10]. وأما القول بأنه لا يجوز أن تزوج نفسها إلا بإذن وليها، فهذا أمر ليس متفقا عليه، فمذهب أبي حنيفة وأصحابه يجيز لها أن تزوج نفسها بمن هو كفء لها. وظاهر القرآن يؤيد ذلك، حيث نسب النكاح إليها. والأحاديث الواردة في اشتراط الوليّ ليست في الصحيحين، وهي ليست محل اتفاق بين العلماء. وأما جعل الطلاق بيد الرجل، فلحكمة لا تخفى على المنصف، وهو أن الرجل أبصر بالعواقب، وأكثر تحكما من المرأة في عواطفه، ومع هذا وضع الشرع قيودا كثيرة على الطلاق، حتى لا يقع إلا في أضيق نطاق. وبعض الفقهاء أعطى المرأة حق طلب أن تكون العصمة بيدها، إذا أصرت على ذلك، وقَبِل الرجل، فتكون هي صاحبة الحل والعقد في ذلك. وإذا لم يكن فقد أعطاها الشرع مقابل الطلاق: حق التحكيم عند الخلاف فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]، وحق الخلع، ومن الفقهاء من يرى إجبار الرجل على قبوله إذا تمسكت به المرأة، وأنا أرجح ذلك. وهناك حق القاضي في التطليق للضرر إذا وقع بالمرأة. ومن الفقهاء من أجاز للمرأة أن تشترط في العقد ما تشاء من الشروط لحفظ حقوقها، وضمان مستقبلها. وأما قضية القوامة على الأسرة الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، فليس لأن الرجل أفضل من المرأة، فلم يأت في القرآن ولا السنة نص صريح بذلك. وإنما الزواج شركة لا بد لها من مدير، والرجل هو الأولى بالإدارة من المرأة؛ بما فضل به من التبصر والأناة، كما أشرنا، ولأنه الذي ينفق على الأسرة في تأسيسها وفي استمرارها، فإذا انهدَّ هذا البناء، انهدَّ على أم رأسه، وهو الخاسر في كل حال. وليس معنى القوامة على الأسرة: أن يستبد الرجل بكل شيء، ولا يستشير زوجته في أمر، فليس هذا شأن المؤمنين، فالمؤمنون يشاور بعضهم بعضا: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم [الشورى:38]، ولا خاب من استخار، ولا ندم من استشار. وأما الميراث وتفاوته بين الرجل والمرأة، فهو مبنيّ على تفاوت الأعباء والتكاليف المالية بين الرجل والمرأة، كما شرحناه في موضعه. على أن ميثاق حقوق الإنسان ينبغي أن يقبل في الجملة، أما في الجزئيات والتفاصيل، فمن الواجب أن نراعي خصوصيات الأمم والأقوام، إذ لا يجوز أن نجبر أمة كبرى (مليار وثلث المليار) على أن تتخلى عن أحكام دينها وشريعتها من أجل الأمم المتحدة!! ولهذا كان للجهات الإسلامية موقف من اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة، فقد قبلت أكثرَ بنودها، ورفضت أقلَّها، لأنها لا تتفق مع قواطع الأحكام، وثوابت الشريعة. حقوق العراة والشواذ: بقي ما يقال عن موقف الإسلام المتصلب مما يسمى (حقوق العراة والشواذ) الذي وصفه بعضهم بأنه موقف عدواني من هذه الفئات، حيث حرم عليها أن تشبع شهواتها، كما تريد، ما دام ذلك بالتراضي. ولماذا يمنع الإسلام أن يستمتع الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل كما يشتهيان؟ ولماذا لا يتمتع الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة؟ لماذا لا يتزوج كل منهما الآخر؟ ويكوِّنان أسرة مثلية؟!! وأعتقد أن موقف الإسلام هنا ليس موقفا منفردا، فكل الأديان السماوية -على الأقل- تقف موقف الإسلام، تحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كلها تحرم الزنى أي التقاء الرجل بالمرأة لمجرد الشهوة، على غير عقد معلوم مشهود. ومن قرأ أسفار العهد القديم (التوراة) وجد فيها الوصايا العشر المشهورة: (لا تقتل، لا تسرق، لا تزن ...) [11]، فحرم الاعتداء على النفس بالقتل، وعلى الأموال بالسرقة، وعلى الأعراض بالزنى. وكلها تريد أن ترتفع بالإنسان حتى لا يكون عبدا لشهواته، إنما عليه أن يزكي نفسه، حتى ترتقي بالفضائل. وقد جاء في الإنجيل عن المسيح أنه قال لتلاميذه: لقد كان من قبلكم يقولون: لا تزن، وأنا أقول لكم: من نظر إلى امرأة يشتهيها بقلبه فقد زنى [12]! حتى النظرة يعتبرها نوعا من الزنى، وهو يلتقي مع ما جاء به محمد نبي الإسلام: "العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان يزنيان، وزناهما المشي، والفم يزني، وزناه القُبَل، والقلب يهوي ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" [13]. كما حرم (الكتاب المقدس) عند المسيحين عمل قوم لوط، وهو الفاحشة التي ابتكرها هؤلاء، وعبر عنها القرآن بقوله: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء:166،165]. وجاء في القرآن كما جاء في التوراة: أن الله عاقبهم عقوبة شديدة، وأهلكهم ودمر قريتهم عليهم، تطهيرا للأرض من رجسهم. فموقف الإسلام هنا هو موقف اليهودية والمسيحية، وموقف القرآن هو موقف التوراة والإنجيل. يتبع >
|
|||
![]() |
رقم المشاركة : 15 | |||
|
![]() ومن هنا لا يجيز الإسلام ما يسمُّونه الزواج المثلي: الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فهذا في الحقيقة ليس زواجًا، لأن الزواج أو الزوجية لا تكون إلا بين الشيء ومقابله: الذكر والأنثى، الموجب والسالب، لا بين الشيء ومثله، وهو الذي جاء منه قول الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذريات:49]، ولهذا كان هذا التصرف ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولو استسلمت البشرية لهذه النزعة، لهلك العالم الإنساني بعد جيل أو جيلين، إذ النسل لا يتم إلا بالتقاء ذكر وأنثى، كما تقضي بذلك الفطرة البشرية، وسنة الله الكونية، وقوانينه الشرعية. الباب الرابع نخصص هذا الفصل لمناقشة بعض اللبراليين الجدد: الذين يدّعون أن العلمانية هي الحل!الفصل الأول العلمانية: هل هي الحل أو هي المشكلة؟ والعلمانية: فكرة جديدة – أو قُل: دخيلة - على المجتمعات الإسلامية! لم يعرفها المسلمون طوال تاريخهم المديد... ومعنى العلمانية: فصل الدين عن المجتمع والدولة. فهي فكرة غريبة لحما ودما. وقد تحدثنا عن العلمانية في عدد من كتبنا، منها ما سجلته في سلسلة: (حتمية الحل الإسلامي) ولا سيما في الجزء الأول منها: ( الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا)، ومنها الجزء الثالث: ( بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين)، ومنها الجزء الرابع: (أعداء الحل الإسلامي) ومنهم: عبيد الفكر الغربي، والعلمانيون في طليعتهم. كما ألفت في مناظرة العلمانيين كتابي: (الإسلام والعلمانية وجها لوجه)، وكتابي الآخر: (التطرف العلماني ومواجهة الإسلام: نموذج تركيا وتونس). وفي هذه الكتب كلها؛ بينت نشأة هذه العلمانية في أوربا، وأنها كانت ضرورة لا بد منها لإنجاح مسيرة التحرر والتقدم للنهضة الأوربية. دعوى بعض الحداثيين والليبراليين الجدد: أن العلمانية هي الحل أو هي العلاج الكافي، والدواء الشافي، لمعضلات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وليس (الإسلام هو الحل) كما تنادي بذلك تيارات ضخمة في أوطاننا، فهذه دعوى متهافتة، ويكفي أنها مرفوضة من أغلبية الأمة، التي ترى فيها عدوانا على شريعتها، ومناقضة لمسلماتها. كما ترى أنها دعوى دخيلة عليها، ليس بها حاجة إليها، إنما قامت العلمانية في الغرب لأسباب تاريخية معروفة، تتمثل في تحكُّم الكنيسة الغربية ورجالها في الدولة، وفي حياة الناس، وتسلطها عليهم في الأرض باسم السماء، وليس من حق أحد أن يحاسبهم أو ينتقدهم، فلهم من (القداسة) ما يحول دون ذلك. وعندما ضاق الناس ذرعًا بذلك، وبدأ عصر التنوير، ثار الناس على جمود الكنيسة وطغيانها، ومحاكم تفتيشها وما اقترفت من مظالم وجرائم في حق العلم والعلماء. ووقوفها مع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين، ومع الخرافات ضد العلم، ومع الظلام ضد النور، وأسقطوا حكم الكنيسة الذي كان يحكم تحت غطاء الدِّين، وكان هذا أمرا لا بد أن يحدث، لأنه يتماشى مع سنن الله في الكون والمجتمع. نحن في الإسلام ليس لدينا كنيسة، ولا سلطة دينية كهنوتية، ولا كاهن يتحكم في ضمائر الناس، ويحتكر الوساطة بيننا وبين ربنا، بل ليس عندنا طبقة كهنوتية تسمى (رجال الدِّين) يجب أن نذهب إليهم إذا أذنبنا، ونعترف لهم بما اقترفنا، ونلتمس منهم الغفران لخطايانا، وإلا هلكنا! بل المقرَّر عندنا أن كل الناس رجال لدينهم. عندنا فقط علماء يخدمون الدِّين بما تعلموه وفقهوه. كما قال الله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]. لا حاجة لنا إذن إلى العلمانية التي تعني تاريخيا: التحرُّر من سلطان الكنيسة، التي لا وجود لها عندنا. العلمانية كانت (حلاًّ) لمشكلة المجتمع الأوربي، وكانت ضرورة ليصل إلى التحرُّر المنشود. ولكنها عندنا ليست ضرورة، بل ضررا، وليست حلا بل مشكلة. وقد ناقشت قضية (العلمانية) وصلتها بالإسلام في أكثر من كتاب لي، منها: (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) و(التطرف العلماني في مواجهة الإسلام) و(بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين). ولا أريد أن أعيد بحثها هنا اليوم. فمن أراد فليرجع إلى هذه الكتب. ولكني أكتفي هنا ببعض النقول من مفكرَين مدنيَّين ليسا محسوبين على علماء الدِّين، حتى يتهموا بالتعصب والانغلاق، ومعاداة الغرب ... إلخ. الجابري يقول: العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة: يسرني أولا أن أنقل هنا: ما كتبه المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري عن (العلمانية) أو (اللائكية) التي يطرحها بعضهم كمرتكز للتغيير والإصلاح في وطننا العربي، ويرى الجابري: أن العلمانية طرحت في بعض المراحل لأسباب لم تعد قائمة اليوم. فقد طالب بها نصارى الشام حين أرادوا الاستقلال عن الدولة العثمانية. فعبروا بذلك عن إرادتهم الاستقلال عن الترك. وحين تبنى الفكر القومي العربي شعار العلمانية: كانت دلالته ملتبسة بمضمون شعار الاستقلال والوحدة. ذلك باختصار هو الإطار الأصلي الذي طرح فيه شعار العلمانية في بلاد الشام (سورية الكبرى). ولا بد من ملاحظة أن هذا الشعار لم يرفع قط في بلدان المغرب العربي، ولا في بلدان الجزيرة، ولربما لم يرفع بمثل هذه الحدة في مصر نفسها حيث توجد أقلية قبطية مهمة ... وعندما استقلت الأقطار العربية، وبدأ التنظير لفكرة العروبة و(القومية العربية)، طرح شعار (العلمانية) من جديد، وخصوصًا في الأقطار العربية التي توجد فيها أقليات دينية (مسيحية بصفة خاصة). وهذا الطرح كان يبرِّره شعور هذه الأقليات بأن الدولة العربية الواحدة التي تنادي بها القومية العربية ستكون الأغلبية الساحقة فيها من المسلمين، الشيء الذي قد يفرز من جديد وضعا شبيهًا بالوضع الذي كان قائما خلال الحكم العثماني. وإذن فالدلالة الحقيقية لشعار (العلمانية)، في هذا الإطار الجديد، إطار التنظير لدولة الوحدة كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقليات الدِّينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فـ(العلمانية) على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدِّينية. وفي خضم الجدل السياسي الأيديولوجي بين الأحزاب والتيارات الفكرية، عبَّر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة (فصل الدِّين عن الدولة)، وهي عبارة غير مستساغة إطلاقا في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدِّين والدولة. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى أمور الدِّين هيئة منظمة تدَّعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس، في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة. ثم يقول الجابري: مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها، بل مشروعيتها عندما يعبَّر عنها بشعار ملتبس كشعار (العلمانية). وما نريد أن نخلص إليه هو: أن الفكر العربي مطالب بمراجعة مفاهيمه، بتدقيقها وجعل مضامينها مطابقة للحاجات الموضوعية المطروحة. وفي رأيي: أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي: الديمقراطية تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني: الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه لا الديمقراطية، ولا العقلانية، تعنيان بصورة من الصور: استبعاد الإسلام، كلا. إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول: إنه إذا كان العرب هم (مادة الإسلام) حقًا، فإن الإسلام هو روح العرب. ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوِّمًا أساسيًّا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعًا مسلمين وغير مسلمين. إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية، بدل مبدأ العلمانية، وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة، تلك من جملة الأسس التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي، الفكر الذي يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج [1] اهـ. أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى (العلمانية): وما نادي به المفكر المغربي الدكتور الجابري من وجوب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي المعاصر، نادى به كذلك من قِبَل مفكر مصري، هو الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وذلك في ورقته التي قدمها في ندوة (الإسلام والقومية العربية)، التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة، والتي شارك فيها عدد لا بأس به من الباحثين والمفكرين العرب من القوميين والإسلاميين. قال أبو المجد: (والقوميون العرب مطالبون فوق ذلك بإسقاط الدعوة إلى (علمنة القومية) وموضوع (العلمانية) موضوع دقيق ويحتاج إلى دراسة مستقلة. والعلمانية مصطلح نلح بشدة على تغييره والعدول عنه، لشدة غموضه أولًا، ولاشتماله على إيحاءات غير صحيحة تتعلَّق بالتقابل والتناقض بين الدِّين والعلم. إن (العلمانية) تحمل في الواقع سلسلة من المعاني والمبادئ لعل من أهمها: 1. نفي الصفة الدِّينية عن السلطة السياسية في الدولة. 2. الفصل بين الدِّين والدولة. ويجمع البعض هذين العنصرين في عبارة واحدة هي: (حياد الدولة تجاه الدِّين، كل دين، بحيث لا تلزم الدولة نفسها بأي معتقد ديني أو دين، ولا تخص أي دين باعتراف خاص به أو بعطف خاص به) [2]. 3. المساواة بين أتباع الأديان في المعاملة السياسية والإدارية والاجتماعية. 4. تطوير الأوضاع والأنظمة الاجتماعية على أساس عقلاني مستمد من التجربة والنظر العقلي، بعيدا عن النصوص والمبادئ الدِّينية. إن فيما يسمى العلمانية عناصر لا نعتقد أنها تتعارض بالضرورة مع الإسلام، كاعتبار السلطة السياسية ذات أساس مدني مستمد من رضا المحكومين، ونفي الصفة الثيوقراطية عنها. وكالتسليم بحق أتباع الديانات المختلفة في ممارسة شعائرهم الدِّينية بحرية، إلا إذا صادمت ما يعرف بالنظام العام والآداب العامة. وهي فكرة ترتبط (بالدولة) ولا ترتبط (بالإسلام) ... أما قضية فصل الدِّين عن الدولة، بمعنى إقصاء الدِّين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع، فإنها المكوِّن الرئيسي من مكونات (العلمانية) الذي لا يسع مسلما قبوله. ودون توسع في عرض هذه المشكلة: نلاحظ مع كثير من الباحثين: أن الدعوة إلى (العلمانية) في إطار التوجه القومي، تخلق من المشاكل والصعاب أكثر كثيرا مما تحل وتحسم. إنها في الحقيقة تلبي حاجة واحدة، هي حاجة الأقليات المسيحية في الوطن العربي للشعور بالاطمئنان، وبالمساواة داخل المجتمع العربي المسلم، ولكنها: أولاً: لا تنشئ موقفا حياديًا بين الأديان. إذ هي من وجهة نظر المسيحية تتفق تماما مع قاعدة (أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ... ولكنها تضع العربي المسلم في تناقض مع شمول الإسلام وتنظيمه الواضح -إجمالاً وتفصيلا- لأمور المجتمع. وبذلك تكون الدعوة إلى العلمانية -في الواقع- منحازة لرؤية الأقلية الدِّينية على حساب رؤية الأغلبية. ثانيًا: إنها تستعير صيغة مستمدة من تاريخ الصراع بين الكنيسة والدولة في أوربا وتحاول فرضها على مجتمع لا يعرف تاريخه صراعا مشابها. إن الدعوة إلى (علمنة) القومية ... وعلمنة (الدولة) في هذا الوقت بالذات، مسلك بعيد تمامًا عن الحكمة، ما دام مصطلح (العلمنة، والعلمانية) يحمل في ثناياه هذه المكونات التي يتعارض بعضها مع أساسيات التصور الإسلامي العام. إن إيجاد المخرج النفسي والاجتماعي للأقليات المسيحية في المجتمعات العربية لا يجوز أبدًا أن يتم من خلال صيغة تحمل كل هذه المحاذير، وتهدد بوضع التوجه القومي كله في صراع مع التوجه الإسلامي، الذي تتعاظم موجته، ويزداد أنصاره عددًا وقوة. إن ملف (العلمانية) ينبغي أن يفتح، ومكوناتها تحتاج إلى تحديد وإعادة نظر، واستعمالها كمصطلح، والدعوة إليها: يحسن -فيما نرى- أن تتوقف) [3]. وبهذا اتفقت دعوة أبو المجد في المشرق، ودعوة الجابري في المغرب، على استبعاد شعار العلمانية من قاموس دعاة العروبة، لأنه يهدم أكثر مما يبني، ويثير من الإشكالات أكثر مما يقدم من حلول. ثم هو مرفوض أصلا من أغلبية الأمة، التي تراه متعارضا مع دينها وتراثها. العقلانية والديمقراطية تتفقان مع جوهر الإسلام رأينا اتفاق الدكتور أحمد كمال أبو المجد من المشرق العربي، والدكتور محمد عابد الجابري من المغرب العربي، على ضرورة تخلي دعاة القومية عن شعار العلمانية، الذي لم يعد له مبرِّر في حياتنا الحاضرة، ودعا كل منهما إلى ضرورة التنادي بأمرين أساسيين، لا تستطيع الأمة أن تنهض وتتقدم بغيرهما، وهما: العقلانية والديمقراطية. وأنا أؤيدهما في هذه الدعوة المخلصة، بشرط أن نفسر بجلاء المقصود من كل منهما. فما المراد بـ(العقلانية)؟ وما المراد بـ(الديمقراطية)؟ العقلانية المنشودة: أما (العقلانية) فنحن نرحب بها، لكن هذه المصطلحات باتت لها (مفهومات) عند الغربيين، تختلف كثيرًا أو قليلاً عما ندركه نحن منها. فالعقلانية عند الغربيين: اتجاه أو مذهب يعتمد على العقل وحده في فَهم الكون والإنسان والحياة في مقابل (الحسِّ) أو (التَّجرِبة)، فالعقليون لهم وجهتهم وطريقهم، والتجريبيون لهم وجهتهم وطريقهم. وقد يكون هذا الاتجاه أو هذا المذهب في مقابلة الذين يعتمدون على مصادر أخرى، مثل الوحي عند الكتابيين (اليهود والنصارى والمسلمين)، ومثل الذين يعتمدون على الإلهام والذوق من الصوفية، والباطنية وغيرهم. فالعقلانية هنا تعني: المادية والحسية. وقد تستعمل العقلانية في المذهب الذي يرى أنه لا يجوز الوثوق إلا بالعقل، ولا يجوز التسليم إلا بما يعترف به العقل بأنه منطقي وكاف وفقا للنور الطبيعي (الفطري). وهذا ما يقول به الدِّينيون، فلا يرون تعارضا بين العقل والوحي إذا ثبت الوحي بطريق النقل بصفة قطعية. وهنا يعطي فسحة للروح والحدس والشعور، أي للصوفية [4]. وقد تستخدم (العقلانية) في مقابلة الاتجاه إلى تصديق الخرافات والأوهام والشعوذة، وهذا ما يرحب به كل مؤمن وكل عاقل. وإذا نظرنا إلى العقلانية عندنا -نحن العرب والمسلمين- نجد أن هذا اللفظ من الناحية اللغوية يسمى (مصدرًا صناعيًا) منسوبا إلى العقل، زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في نحو الربانية، نسبة إلى الرب، والروحانية نسبة إلى الروح. ولم يستخدم هذا التعبير ( العقلانية) - فيما أعلم- في تراثنا، ولكن الاتجاه العقلي -بصفة عامة- معروف في تراث الأمة، عُرف به الفلاسفة، وعُرف به علماء الكلام عامة، والمعتزلة منهم خاصة. وهناك فرق كبير بين الفلاسفة والمتكلمين -ومنهم المعتزلة- فالفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، والمتكلمون ينطلقون من العقل المؤمن بالدِّين. على أن قولنا: أن الفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، قد يُعترض عليه معترضون كثيرون، فإنهم ينطلقون من العقل المؤمن بالفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس، الذي سمَّوه المعلم الأول، وأضفوا على مقولاته هالة من التقديس، حتى إذا تعارض مع قواطع القرآن؛ أولوا القرآن ليتفق مع ما قرره أرسطو، فكان أرسطو هو الأصل، والقرآن تابع!! على أن مجال العقل في تراثنا مجال واسع، فالمتكلمون -حتى الأشاعرة والماتريدية منهم- يعتبرون العقل أساس النقل، فلولا العقل ما قام النقل ولا ثبت الوحي، ولا تأسَّس الدين. فبالعقل ثبتت أعظم قضيتين في الدِّين: قضية وجود الله تعالى، وقضية إثبات النبوة، فإثبات النبوة لا يتمُّ إلا بالعقل عن طريق الآيات البينات، التي يؤيد الله بها رسله، ومنها: المعجزة. فالعقل هو الأداة الوحيدة لإثبات الوحي، أو نبوة النبي، فإذا أثبت العقل النبوة بطريق قطعي: عزل العقل نفسه – كما يقول الإمام الغزالي – ليتلقى بعد ذلك عن الوحي، ويقول: سمعنا وأطعنا. والله سبحانه قد دلَّنا على نفسه بما بثَّ من آيات دالة في الأنفس والآفاق، ولا زال يُري خلقه من هذه الآيات ما يبهر العقول، ويبيِّن الحق: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]. ولا تجد كتابا دينيا -غير القرآن- كرَّم العقل، وأشاد به، وحضَّ على الرجوع إليه، وذمَّ الذين يعطلونه بالجمود أو التقليد، أو اتباع الظنون والأهواء. كما حفل بكل المفردات من (عائلة العقل) مثل: التفكُّر والنظر والتدبُّر والاعتبار، والبرهان والحجَّة والحكمة والتعلُّم والتفقُّه والتذكُّر. وإن كان مما يؤسف له: أن كثيرا من المسلمين في عالم اليوم غيَّبوا عقولهم، واستسلموا للأوهام أو الجهالات، أو ألقَوا عقولهم وغدَوا يفكرون بعقول الموتى. والعقلانية التي ننشدها لا تحتاج إلى تفلسف ولا معاناة في تعريفها. إنها ببساطة تعني: أن نعتمد على عقولنا في تسخير قوى الكون لصالحنا، والانتفاع بخيراته للنهوض بأمتنا، والخروج بها من سجن التخلف إلى باحة التقدم، واستخدام طاقات العلم ووثباته الهائلة، وثوراته الكبرى في خدمة أمتنا خاصة، والإنسانية عامة. وأن تكون هذه منهجية الأمة في تعليمها وثقافتها وإعلامها. وليس هذا جديدا على أمتنا، فقد شادت حضارة شامخة جمعت بين العلم والإيمان، وبين الإبداع المادي والسمو الروحي والأخلاقي، ولم يعرف في تاريخها صراع بين الدِّين العلم، بل كان الدِّين عندها علما، والعلم عندها دينا. وقد شارك رجال كبار من علماء الدِّين في علوم الكون والطبيعة مثل: ابن رشد الحفيد، والفخر الرازي، وابن النفيس، وغيرهم. وليس هذا بغريب على أمة يجعل دينها التفكير فريضة، والنظر في آيات الله في الآفاق والأنفس عبادة، ويعمل قرآنه على إنشاء العقلية العلمية، ويرفض الظن والهوى والتقليد في تأسيس الحقائق، وينادي بإقامة البرهان في كل دعوى [5]. ويرى علماء الشريعة فيه: أن إتقان علوم الدنيا فرض كفاية على الأمة في مجموعها، مثل علوم الدِّين. فإن وجد بها عدد كاف في كل علم ديني أو دنيوي، يلبي الحاجة، ويغطي مطالب الخَلق، فقد رفع عنها الإثم والحرج، وإلا باءت الأمة كلها بالإثم. سيادة الروح العلمية: لقد كان مما عبته على الصحوة الإسلامية المعاصرة: غلبة العاطفة والغوغائية على كثير من فصائلها، وتغييب العقلانية والعلمية عنها. وقد كان من أبرز ما ناديت به لكي تنتقل الصحوة من المراهقة إلى الرشد: أن تنتقل من العاطفية والارتجالية إلى العقلانية والعلمية. ومما ركَّزت عليه في هذا المقام: تأكيد ما ذكرته من قديم في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) وبعد ذلك في كتابي: (أولويات الحركة الإسلامية) في فصل (فكر علمي) وهو: أن يسود (التفكير العلمي) و(الروح العلمية) مسيرتنا كلها. نريد أن يسود: (التفكير العلمي)، وتسود (الروح العلمية): كل علاقاتنا ومواقفنا وشؤون حياتنا، بحيث ننظر إلى الأشياء والأشخاص والأعمال، والقضايا والمواقف: (نظرة علمية)، ونصدر قراراتنا الاستراتيجية والتكتكية، في الاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها: بعقلية علمية، وبروح علمية، بعيدًا عن الارتجالية، والذاتية، والانفعالية، والعاطفية، والغوغائية، والتحكمية، والتبريرية: التي تسود مناخنا اليوم، وتصبغ تصرفاتنا إلى حد بعيد. فمن سلم من أصحاب القرار من اتِّباع هواه الشخصي، أو هوى فئته وحزبه: كان أكبر همه اتِّباع ما يرضي أهواء الجماهير، لا ما يحقِّق مصالحها، ويؤمِّن مستقبلها، في وطنها الصغير، ووطنها الكبير، والأكبر. و(للروح العلمية) دلائل ومظاهر أو سمات، كنت أشرت إليها، أو إلى أهمها في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة)، في مجال (النقد الذاتي) للحركة الإسلامية، يحسن بي أن أُذكِّر بها هنا، في مجال تأكيد حاجة الأمة إليها، وفي بعض الإعادة إفادة. سمات الروح العلمية المطلوبة: أبرز هذه السمات: 1. النظرة الموضوعية: إلى المواقف والأشياء، والأقوال، بغضِّ النظر عن الأشخاص، كما قال علي بن أبي طالب: لا تعرف الحق بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله [6]. 2. احترام الاختصاصات، كما قال القرآن: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43، الأنبياء:7]، فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان:59]، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]. فللدِّين أهله، وللاقتصاد أهله، وللعسكرية أهلها، ولكل فن رجاله، وخاصة في عصرنا، عصر التخصص الدقيق، أما الذي يعرف في الدِّين، والسياسة، والفنون، والشؤون الاقتصادية والعسكرية، ويفتي في كل شيء: فهو في حقيقته لا يعرف شيئا. 3. القدرة على نقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والاستفادة منه، وتقويم تجارب الماضي تقويما عادلاً، بعيدًا عن النظرة (المَنْقَبِيَّة): التي تنظر إلى الماضي عبى أنه كله مناقب وأمجاد! أو النظرة (التبريرية): التي تحاول أن تبرر كل خطأ أو انحراف، ولو بطريقة غير مقبولة، لا شرعا ولا وضعا. 4. استخدام أحدث الأساليب وأقدرها على تحقيق الغاية، والاستفادة من تجارب الغير حتى الخصوم، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها: فهو أحق الناس بها [7]. وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والآليات، كالتقنيات ونحوها، فنحن في سَعَة من استخدامها: ما دامت تخدم مقاصدنا وغايتنا الشرعية. يتبع > __________________ |
|||
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc