وأما سماع القصائد لصلاح القلوب والاجتماع على ذلك إما نشيدا مجردا أو مقرونا بالتغبير ونحوه,مثل الضرب بالقضيب على الجلود ,حتى يطير الغبار ,ومثل التصفيق ونحوه-فهذا السماع محدث في الإسلام بعد ذهاب القرون المفضلة ,وقد كرهه أعيان الأئمة ,ولم يحضره أكابر المشايخ ,قال الشافعي –رحمه الله-"خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة , يسمونه التغبير ,يصدون به الناس عن القرآن ."
وسئل الإمام أحمد عنه؟ فقال :هو محدث أكرهه.قيل له :إنه يرقق القلب قال :لاتجلس معهم .قيل :أيهجرون ؟فقال : لايبلغ بهم هذا كله ".
فتبين أنه بدعة ,ولوكان للناس فيه منفعة لفعله القرون الثلاثة ولم يحظروه مثل ابن أدهم والفضيل ومعروف والسرى وأبي سليمان الداراني والشيخ عبد القادر وغيرهم .وكذلك أعيان المشايخ(1).وقد حضره جماعة من المشايخ ,وشرطوا له المكان والإمكانوالخلاّن.وأكثر الذين حضروه من المشايخ المعروف بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم ,كالجُنيد(2)فكان يقول:"من تكلف السماع فُتن,ومن صادفه استراح .فقد ذم من يجمع له ,ورخص لمن لايقصده بل صادفه(3)" .
وسبب ذلك :أنه في شعر يحرك حبّ الرحمن والمردان والنسوان والصلبان والإخوان والأوطان, فقد يكون فيه منفعة إذا حرّك الساكن ,وكان مما يحبه الله ورسوله ,لكن فيه مضرة راجحة على منفعته ,كالخمر والميسر فإن {فيهما إثم كبير ومنافع للناس.وإثمهما أكبر من نفعهما}فلهذا لم تأت به الشريعة إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة ,أما ماغلبت مفسدته فلاتأتي به شريعة من الله ,وكذلك فإنه يهيج الوجد المشترك ,فيثير من النفس كوامن تضره آثارها ,وتعدى النفس وتتعبها به ,فيتعاض به عن سماع القرآن ,حتى لايبقى فيها محبّة لسماع القرآن ,ولا التلذذ به ,بل يبقى في النفس بُغضٌ لذلك ,كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل وعلوم الكنائس ,واستفادة العلم والحكمة منهم ,وأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- إلى أشياء أُخر يطول شرحها ,فلما كان السماع لايعطي بنفسه مايحب الله ورسوله من الأحوال والمعارف ,بل يصدُ عن ذلك, ويعطي مالا يحبه الله ورسوله أو مايبغضه ,لم يأمر الله به ولا رسوله ولاسلف الأمة ولا أعيان مشايخها.
ونكتة ذلك :أن الصوت يؤثر في النفس بحسبه ,فتارة يفرح ,وتارة يحزن ,وتارة يغضب ,وتارة يرضى ,وإذا قريّ أسكر الروح ,فيصير في لذة مطربة من غير تمييز ,كما يحصل إذا سكرت بالصور ,وللجسد إذا سكر بالطعام أو الشراب. فإن السكر ّهو الطرب الذي يورث لذة بلاعقل ,فلا تقوم منفعة تلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل الذي صدته عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ,وأورثته العداوة والبغضاء.