أحلام مجنون
هذا الصباح ليس ككل صباح ..أحسست بالنشاط يسري في كامل جسمي ..والحيوية تدفعني إلى الأمام دفعا ..
أدخل دهليز المعهد المظلم وحيدا ..الطلاب يغدون ويروحون جماعات ووحدانا ..صعدت السلم المؤدي إلى القاعات رقم ستة وثلاثين ، سبعة وثلاثين ، ثمانية وثلاثين ، وخرجت إلى بالكون الطابق العلوي الذي يطل على الهواء الطلق ، حيث ألتقي زملائي في الصف ...لا واحد أعرف من هذه الوجوه ..
أحس بأن شيئا يحركني بقوة نحو فتاة ، وحيدة في ركن من أركان (البالكون) المتسع ..أقترب منها ..أتعرض لها قائلا :
ــ صباح الخير ..
ــ صباح الخير !!
قلت لها بلباقة غير معهودة :
ــ أظن أنك لا تعرفينني ؟؟
الدهشة تملأ كيانها ..
ــ ألم تريني قط ؟؟ تذكري جيدا لعلك نسيت ..تأملي وجهي ..
انظري عيني الغائرتين الحزينتين ..ألا يذكرك هذا بشيء..هلا تذكرت؟؟؟؟؟؟
بقيت المسكينة مشدوهة ..تحاول عبثا أن تتذكر..وبعد قليل حركت رأسها بشيء من التساؤل والدهشة ..ووجهها يخفي بسمة خفيفة ..
ــ لا ..لا ..لم أتذكر ..عفوا لم أعرفك .
ــ نسيت ..؟؟؟
أنا لم ولن أنساك ..أنا أعرفك منذ زمن بعيد ..وبعيد جدا ..ألا تتذكرين ذلك اليوم حين كنت تلبسين فستانا أبيض ..وتجرين بين المروج الخضراء والزهور اليانعة في الهواء الطلق..وشعرك يحركه نسيمه ..وأنا المجنون أحاول اللحاق بك جريا ..وأنت تضحكين ..أصوات ضحكاتك الملائكية تتردد عبر الأفق ..
وعندما لحقت بك يا صبية ...رأيت عينيك الزرقاوتين بحرا ..فغطست بين أمواجه ..بكامل لباسي ..وأنا لا أعرف السباحة ..ثم بعدها اكفهر الجو ..وتحركت العاصفة وهاج البحر ..وكدت أغرق في لججه لولا أن أمسك بيدي أحد النساك ..ذو لحية بيضاء ..ورداء أبيض ..لا يظهر أثر الماء عليه ، وأنقذني من الهلاك ..وحملني إلى زورقه العتيق ..
تذكري ..تذكري ..ألا تذكرين عندما ظننته الخضر عليه السلام فلما سألته من يكون ..وضع يده على فمي ..وقال : إذا أردت أن تحيا فلا تسأل من أكون ؟؟؟؟
ألا تذكرين ..عندما خفت على نفسي ..وسكت خشية أن يكون مصيري كمصير موسى عندما تركه الخضر ..فيتركني هذا لحالي وأغرق بين لج هذا البحر ..بحر عينيك الزرقاوتين يا صبية ؟؟
أنا أيتها الصبية مجنون منذ زمن بعيد ..انظري هذا الشيب الذي على رأسي ..إن كل شعرة بيضاء هي رحلة أسطورية سافرتها وأنت إلى ممالك السندباد ..وتطهرنا فيها من ذنوبنا بترابها ..والتقينا أممها ..وكائناتها ..هل تذكرين ؟؟
هل تذكرين يا صبية؟؟؟؟؟؟
بدأت الفتاة تضطرب ..ويحمر وجهها خجلا وقلقا ..وما أحسست إلا ويدها تنزل على وجهي بصفعة ..( أي ..) وقالت باضطراب ظاهر :
ــ وهذه الصفعة ...هل تذكرتها ؟؟ هل تذكرتها يا صبي ؟؟
وأرادت الانصراف ..
الألم ما زال على خدي ..لكنني أمسكتها من ذراعها برفق وقلت :
ــ تذكرتها والله !! ولكن الأولى كانت بشيء من الرفق ..عندما أحسست بيد تضرب على خدي وإذا بأختي الصغرى تناديني باسمي وأنا في فراشي أحلم ..رحمها الله ..وتنهدت قليلا ..وأحسست بأن الفتاة يرتخي جسمها شيئا فشيئا ..ويزول اضطرابها ،
ــ المرض اللعين ، يقتل حتى الصغار , ولا يرحم !! كانت هي بهجة البيت وحيويته ، كانت جميلة ..عيناها زرقاوتان كعينيك هاتين ..كلامها رقيق لطيف مثل كلامك تماما ..لكنني متأكد أنك التي كنت معي في الحلم ..أنت يا صبية ..
وناولتها بطاقة صغيرة بها رقم الهاتف ..ومعلومات عن شخصي بعد أن أرخيت قبضتي عن ذراعها ..وإذا باللعينة تمسك البطاقة دون تردد وتضعها داخل محفظتها الصغيرة ..وتنصرف .
وما لبثت أن عادت بعد يومين تاليتين من التردد ..باسمة معتذرة عما صدر منها منذ أول أمس ..وقالت بخجل خاف ..وبعد إطراق وتردد ..
ــ لقد كنت غبية حينما لم أستطع أن أتذكر كل ذلك ..فهلا أردت أن تغطس في البحر ثانية ..؟؟
ــ هيهات ..فإنني لا أعرف السباحة كما قلت ..
ــ سأعلمك ..
ــ لا ...لا ..هذا مستحيل ..
فلتعبره في زورق ..
ــ ولكنني لا أملك زورقا ..
ــ عندي زرق أعيره لك ..
ــ وهل تملكين المجاديف ؟؟؟
ــ هذا شيء تدبره لوحدك ..
ــ أنا لا أملك المجاديف ..أنا لا أملك المجاديف يا صبية ..
لكم صرحت لك مرارا بأنني مجنون ..فلم تصدقي ..إذن فصدقي الآن ..وتركتها واجلة وانصرفت ..
وهبطت السلم جريا ..عبرت أفواج الطلاب ..وإذا بقلبي يزداد خفقانا ..ونفسي يزداد اختناقا ..أحاول الصراخ فلا أقدر ..واسقط ..على وجهي ..
.........
.....
:
:
:
:
:
وإذا بأختي الكبرى تحركني في الفراش أن باسم الله ..باسم الله ..والعرق يبلل وسادتي وقميصي ...ونهضت أقرأ التعاويذ وألعن هذا الكابووووووووووووووووس..
انتهى
الطالب سليمان حشاني ..جامعة باتنة في 17/06/1992 .