العشق...؟؟؟ - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > القسم الاسلامي العام

القسم الاسلامي العام للمواضيع الإسلامية العامة كالآداب و الأخلاق الاسلامية ...

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

العشق...؟؟؟

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2011-05-02, 05:47   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










New1 العشق...؟؟؟

العشق

عِشْقُ الصُّوَرِ

عِشْقُ اللُّوطِيَّةِ

دَوَاءُ الْعِشْقِ

أَضْرَارُ الْعِشْقِ

مَقَامَاتُ الْعَاشِقِ

الْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ

كَمَالُ اللَّذَّةِ فِي كَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ الْمَحَبَّةِ

الْحُبُّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ

مَحَبَّةُ الزَّوْجَاتِ

أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِشْقِ

حَدِيثُ " مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ "




عِشْقُ الصُّوَرِ


وَنَخْتِمُ الْجَوَابَ بِفَصْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِعِشْقِ الصُّوَرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَضْعَافَ مَا ذَكَرَهُ ذَاكِرٌ ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْقَلْبَ بِالذَّاتِ ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ ؛ فَسَدَتِ الْإِرَادَاتُ وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ ، وَفَسَدَ ثَغْرُ التَّوْحِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَمَا سَنُقَرِّرُهُ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا حَكَى هَذَا الْمَرَضَ عَنْ طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ ، وَهُمُ اللُّوطِيَّةُ وَالنِّسَاءُ ، فَأَخْبَرَ عَنْ عِشْقِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ ، وَمَا رَاوَدَتْهُ وَكَادَتْهُ بِهِ ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْحَالِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا يُوسُفُ بِصَبْرِهِ وَعِفَّتِهِ وَتَقْوَاهُ ، مَعَ أَنَّ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ أَمْرٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ صَبَّرَهُ [ ص: 209 ] اللَّهُ ، فَإِنَّ مُوَاقَعَةَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي وَزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَكَانَ الدَّاعِي هَاهُنَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :

أَحَدُهَا : مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي طَبْعِ الرَّجُلِ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى الْمَرْأَةِ ، كَمَا يَمِيلُ الْعَطْشَانُ إِلَى الْمَاءِ ، وَالْجَائِعُ إِلَى الطَّعَامِ ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَصْبِرُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا يَصْبِرُ عَنِ النِّسَاءِ ، وَهَذَا لَا يُذَمُّ إِذَا صَادَفَ حَلَالًا ، بَلْ يُحْمَدُ كَمَا فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ الصِّفَارِ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، أَصْبِرُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ .

الثَّانِي : أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ شَابًّا ، وَشَهْوَةُ الشَّبَابِ وَحِدَّتُهُ أَقْوَى .

الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ عَزَبَا ، لَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا سُرِّيَّةٌ تَكْسِرُ شِدَّةَ الشَّهْوَةِ .

الرَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ فِي بِلَادِ غُرْبَةٍ ، يَتَأَتَّى لِلْغَرِيبِ فِيهَا مِنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ مَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ وَمَعَارِفِهِ .

الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ ، بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَدْعُو إِلَى مُوَاقَعَتِهَا .

السَّادِسُ : أَنَّهَا غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ وَلَا آبِيَةٍ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُزِيلُ رَغْبَتَهُ فِي الْمَرْأَةِ إِبَاؤُهَا وَامْتِنَاعُهَا ، لِمَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذُلِّ الْخُضُوعِ وَالسُّؤَالِ لَهَا ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَزِيدُهُ الْإِبَاءُ وَالِامْتِنَاعُ إِرَادَةً وَحُبًّا ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :

وَزَادَنِي كَلَفًا فِي الْحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مَنَعَا

فَطِبَاعُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَضَاعَفُ حُبُّهُ عِنْدَ بَذْلِ الْمَرْأَةِ وَرَغْبَتِهَا ، وَيَضْمَحِلُّ عِنْدَ إِبَائِهَا وَامْتِنَاعِهَا ، وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ أَنَّ إِرَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ تَضْمَحِلُّ عِنْدَ امْتِنَاعِ امْرَأَتِهِ أَوْ سُرِّيَّتِهِ وَإِبَائِهَا ، بِحَيْثُ لَا يُعَاوِدُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَضَاعَفُ حُبُّهُ وَإِرَادَتُهُ بِالْمَنْعِ فَيَشْتَدُّ شَوْقُهُ كُلَّمَا مُنِعَ ، وَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ بِالظَّفَرِ بِالضِّدِّ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ وَنِفَارِهِ ، وَاللَّذَّةُ بِإِدْرَاكِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ اسْتِصْعَابِهَا ، وَشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إِدْرَاكِهَا .

السَّابِعُ : أَنَّهَا طَلَبَتْ وَأَرَادَتْ وَبَذَلَتِ الْجُهْدَ ، فَكَفَتْهُ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ وَذُلَّ الرَّغْبَةِ إِلَيْهَا ، بَلْ كَانَتْ هِيَ الرَّاغِبَةَ الذَّلِيلَةَ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْمَرْغُوبُ إِلَيْهِ .

الثَّامِنُ : أَنَّهُ فِي دَارِهَا ، وَتَحْتَ سُلْطَانِهَا وَقَهْرِهَا ، بِحَيْثُ يَخْشَى إِنْ لَمْ يُطَاوِعْهَا مِنْ أَذَاهَا لَهُ ، فَاجْتَمَعَ دَاعِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ .

[ ص: 210 ]

التَّاسِعُ : أَنَّهُ لَا يَخْشَى أَنْ تَنِمَّ عَلَيْهِ هِيَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ جِهَتِهَا ، فَإِنَّهَا هِيَ الطَّالِبَةُ الرَّاغِبَةُ ، وَقَدْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَغَيَّبَتِ الرُّقَبَاءَ .

الْعَاشِرُ : أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكًا لَهَا فِي الدَّارِ ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَحْضُرُ مَعَهَا وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْأُنْسُ سَابِقًا عَلَى الطَّلَبِ وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي ، كَمَا قِيلَ لِامْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ : مَا حَمَلَكِ عَلَى الزِّنَى ؟ قَالَتْ : قُرْبُ الْوِسَادِ ، وَطُولُ السَّوَادِ ، تَعْنِي قُرْبَ وِسَادِ الرَّجُلِ مِنْ وِسَادَتِي ، وَطُولَ السَّوَادِ بَيْنَنَا .

الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهَا اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ بِأَئِمَّةِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ ، فَأَرَتْهُ إِيَّاهُنَّ ، وَشَكَتْ حَالَهَا إِلَيْهِنَّ ؛ لِتَسْتَعِينَ بِهِنَّ عَلَيْهِ ، وَاسْتَعَانَ هُوَ بِاللَّهِ عَلَيْهِنَّ ، فَقَالَ : وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [ سُورَةُ يُوسُفَ : 33 ] .

الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّهَا تَوَعَّدَتْهُ بِالسِّجْنِ وَالصَّغَارِ ، وَهَذَا نَوْعُ إِكْرَاهٍ ، إِذْ هُوَ تَهْدِيدُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُ مَا هَدَّدَ بِهِ ، فَيَجْتَمِعُ دَاعِي الشَّهْوَةِ ، وَدَاعِي السَّلَامَةِ مِنْ ضِيقِ السِّجْنِ وَالصَّغَارِ .

الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْغَيْرَةُ وَالنَّخْوَةُ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَهُمَا ، وَيُبْعِدُ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ، بَلْ كَانَ غَايَةَ مَا قَابَلَهَا بِهِ أَنْ قَالَ لِيُوسُفَ : أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَلِلْمَرْأَةِ : وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ وَشِدَّةُ الْغَيْرَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ أَقْوَى الْمَوَانِعِ ، وَهُنَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ غَيْرَةٌ .

وَمَعَ هَذِهِ الدَّوَاعِي كُلِّهَا فَآثَرَ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَخَوْفَهُ ، وَحَمَلَهُ حُبُّهُ لِلَّهِ عَلَى أَنِ اخْتَارَ السَّجْنَ عَلَى الزِّنَى : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [ سُورَةُ يُوسُفَ : 33 ] .

وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ وَيَصْرِفْ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ؛ صَبَا إِلَيْهِنَّ بِطَبْعِهِ ، وَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَبِنَفْسِهِ .

وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ فَائِدَةٍ ، لَعَلَّنَا إِنْ وَفَّقَ اللَّهُ أَنْ نُفْرِدَهَا فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ .

يتبع ان شاء الله
الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية









 


رد مع اقتباس
قديم 2011-05-02, 06:01   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










New1

[QUOTE=ayoubmeca;5788808]العشق

[size="5"][color="blue"]
عِشْقُ اللُّوطِيَّةِ


وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ ، الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمُ الْعِشْقَ : هُمُ اللُّوطِيَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سُورَةُ الْحِجْرِ : 67 - 72 ] .

فَهَذِهِ الْأُمَّةُ عَشِقَتْ فَحَكَاهُ سُبْحَانَهُ عَنْ طَائِفَتَيْنِ ، عَشِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ ، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا فِي عِشْقِهِ مِنَ الضَّرَرِ .

وَهَذَا دَاءٌ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ دَوَاؤُهُ ، وَعَزَّ عَلَيْهِمْ شِفَاؤُهُ ، وَهُوَ وَاللَّهِ الدَّاءُ الْعُضَالُ ، وَالسُّمُّ الْقَتَّالُ ، الَّذِي مَا عَلِقَبِقَلْبٍ إِلَّا وَعَزَّ عَلَى الْوَرَى خَلَاصُهُ مِنْ إِسَارِهِ ، وَلَا اشْتَعَلَتْ نَارُهُ فِي مُهْجَةٍ إِلَّا وَصَعُبَ عَلَى الْخَلْقِ تَخْلِيصُهَا مِنْ نَارِهِ .

وَهُوَ أَقْسَامٌ :

تَارَةً يَكُونُ كُفْرًا : لِمَنِ اتَّخَذَ مَعْشُوقَهُ نِدًّا يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِفِي قَلْبِهِ ؟ فَهَذَا عِشْقٌ لَا يُغْفَرُ لِصَاحِبِهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَغْفِرُ بِالتَّوْبَةِ الْمَاحِيَةِ مَا دُونُ ذَلِكَ .

وَعَلَامَةُ الْعِشْقِ الشَّرِكِيِّ الْكُفْرِيِّ : أَنْ يُقَدِّمَ الْعَاشِقُ رِضَاءَ مَعْشُوقِهِ عَلَى رَبِّهِ ، وَإِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ حَقُّ مَعْشُوقِهِ وَحَظُّهُ ، وَحَقُّ رَبِّهِ وَطَاعَتُهُ ، قَدَّمَ حَقَّمَعْشُوقِهِ عَلَى حَقِّ رَبِّهِ ، وَآثَرَ رِضَاهُ عَلَى رِضَاهُ ، وَبَذَلَ لَهُ أَنْفَسَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَبَذَلَ لِرَبِّهِ - إِنْ بَذَلَ - أَرْدَأَ مَا عِنْدَهُ ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي مَرْضَاةِ مَعْشُوقِهِ وَطَاعَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ، وَجَعَلَ لِرَبِّهِ - إِنْ أَطَاعَهُ - الْفَضْلَةَ الَّتِي تَفَضَّلَ مَعْشُوقُهُ مِنْ سَاعَاتِهِ .

فَتَأَمَّلْ حَالَ أَكْثَرِ عُشَّاقِ الصُّوَرِ تَجِدْهَا مُطَابِقَةً لِذَلِكَ ، ثُمَّ ضَعْ حَالَهُمْ فِي كِفَّةٍ ، وَتَوْحِيدَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ فِي كِفَّةٍ ، ثُمَّ زِنْ وَزْنًا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيُطَابِقُ الْعَدْلَ ، وَرُبَّمَا صَرَّحَ الْعَاشِقُ مِنْهُمْ بِأَنَّ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِ ، كَمَا قَالَ الْعَاشِقُ الْخَبِيثُ :

يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمِي رَشَفَاتٍ هُنَّ أَحْلَى فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ

وَكَمَا صَرَّحَ الْخَبِيثُ الْآخَرُ أَنَّ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ أَشْهَى إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ ، وَقَدْ مَرَّ .

[ ص: 212 ] بِلَا رَيْبٍ إِنَّ هَذَا الْعِشْقَ مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ مَعْشُوقِهِ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ كُلَّهُ فَصَارَ عَبْدًا مَحْضًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْشُوقِهِ ، فَقَدْ رَضِيَ هَذَا مِنْ عُبُودِيَّةِ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ بِعُبُودِيَّةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ : فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ كَمَالُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ ، وَهَذَا قَدِ اسْتَفْرَغَ قُوَّةَ حُبِّهِ وَخُضُوعِهِ وَذُلِّهِ لِمَعْشُوقِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ .

وَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ مَفْسَدَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَمَفْسَدَةِ الْفَاحِشَةِ ، فَإِنَّ تِلْكَ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِفَاعِلِهِ حُكْمُ أَمْثَالِهِ ، وَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعِشْقِ مَفْسَدَةُ الشِّرْكِ ، وَكَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ مِنَ الْعَارِفِينَ يَقُولُ : لَأَنْ أُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ مَعَ تِلْكَ الصُّورَةِ أَحَبُّإِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فِيهَا بِعِشْقٍ يَتَعَبَّدُ لَهَا قَلْبِي وَيَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ .


دَوَاءُ الْعِشْقِ


وَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءُ الْقَتَّالُ : أَنْ يَعْرِفَ أَنْ مَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْمُضَادِّ لِلتَّوْحِيدِ ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَهْلِهِ وَغَفْلَةِ قَلْبِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ تَوْحِيدَ رَبِّهِ وَسُنَّتَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ يَأْتِي مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِمَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ عَنْ دَوَامِ الْفِكْرَةِ فِيهِ ، وَيُكْثِرُ اللَّجَأَ وَالتَّضَرُّعَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي صَرْفِ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَأَنْ يُرَاجِعَ بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ أَنْفَعُ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ : كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [ سُورَةُ يُوسُفَ : 24 ] .

وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ مِنَ الْعِشْقِ وَالْفَحْشَاءَ مِنَ الْفِعْلِ بِإِخْلَاصِهِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أَخْلَصَ وَأَخْلَصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ عِشْقُ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْبٍ فَارِغٍ ، كَمَا قَالَ :

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا

وَلْيَعْلَمِ الْعَاقِلُ أَنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ يُوجِبَانِ تَحْصِيلَ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلَهَا ، وَإِعْدَامَ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلَهَا ، فَإِذَا عَرَضَ لِلْعَاقِلِ أَمْرٌ يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً وَمَفْسَدَةً ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَمْرٌ عِلْمِيٌّ ، وَأَمْرٌ عَمَلِيٌّ ، فَالْعِلْمِيُّ : مَعْرِفَةُ الرَّاجِحِ مِنْ طَرَفَيِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الرُّجْحَانُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِيثَارُ الْأَصْلَحِ لَهُ .



أَضْرَارُ الْعِشْقِ



وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عِشْقِ الصُّوَرِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ ، بَلْ مَفْسَدَتُهُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :

أَحَدُهَا : الِاشْتِغَالُ بِحُبِّ الْمَخْلُوقِ وَذِكْرِهِ عَنْ حُبِّ الرَّبِّ تَعَالَى وَذِكْرِهِ ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ هَذَا وَهَذَا إِلَّا وَيَقْهَرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَيَكُونُ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ لَهُ .

الثَّانِي : عَذَابُ قَلْبِهِ بِهِ ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ وَلَا بُدَّ ، كَمَا قِيلَ :

فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ *** وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلٍّ حِينٍ *** مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ *** وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ *** وَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي

وَالْعِشْقُ وَإِنِ اسْتَلَذَّ بِهِ صَاحِبُهُ ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْقَلْبِ .

الثَّالِثُ : أَنَّ قَلْبَهُ أَسِيرُ قَبْضَةِ غَيْرِهِ يَسُومُهُ الْهَوَانَ ، وَلَكِنْ لِسَكْرَتِهِ لَا يَشْعُرُ بِمُصَابِهِ ، فَقَلْبُهُ كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى ، وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ :

مَلَكْتَ فُؤَادِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْجَفَا *** وَأَنْتَ خَلِيُّ الْبَالِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ

فَعَيْشُ الْعَاشِقِ عَيْشُ الْأَسِيرِ الْمُوثَقِ ، وَعَيْشُ الْخَلِيِّ عَيْشُ الْمُسَيَّبِ الْمُطْلَقِ .

طَلِيقٌ بِرَأْيِ الْعَيْنِ وَهْوَ أَسِيرُ *** عَلِيلٌ عَلَى قُطْبِ الْهَلَاكِ يَدُورُ
وَمَيِّتٌ يُرَى فِي صُورَةِ الْحَيِّ غَادِيَا *** وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
أَخُو غَمَرَاتٍ ضَاعَ فِيهِنَّ قَلْبُهُ *** فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْمَمَاتِ حُضُورُ

الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَضَيْعُ لِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ ، أَمَّا مَصَالِحُ الدِّينِ فَإِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِلَمِّ شَعَثِ الْقَلْبِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ ، وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَعْظَمُ شَيْءٍ تَشْعِيثًا وَتَشْتِيتًا لَهُ .

وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَهِيَ تَابِعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَصَالِحِ الدِّينِ ، فَمَنِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصَالِحُ دِينِهِ وَضَاعَتْ عَلَيْهِ ، فَمَصَالِحُ دُنْيَاهُ أَضْيَعُ وَأَضْيَعُ .

الْخَامِسُ : أَنَّ آفَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَسْرَعُ إِلَى عُشَّاقِ الصُّوَرِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا قَرُبَ مِنَ الْعِشْقِ وَقَوِيَ اتِّصَالُهُ بِهِ بَعُدَ مِنَ اللَّهِ ، فَأَبْعَدُ [ ص: 214 ] الْقُلُوبِ مِنَ اللَّهِ قُلُوبُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ ، وَإِذَا بَعُدَ الْقَلْبُ مِنَ اللَّهِ طَرَقَتْهُ الْآفَاتُ ، وَتَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَمْ يَدَعْ أَذًى يُمْكِنُهُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ ، فَمَا الظَّنُّ بِقَلْبٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُّوهُ وَأَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى غَيِّهِ وَفَسَادِهِ ، وَبَعُدَ مِنْهُ وَلِيُّهُ ، وَمَنْ لَا سَعَادَةَ لَهُ وَلَا فَرَحَ وَلَا سُرُورَ إِلَّا بِقُرْبِهِ وَوِلَايَتِهِ ؟

السَّادِسُ : أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ وَاسْتَحْكَمَ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ ، أَفْسَدَ الذِّهْنَ ، وَأَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ ، وَرُبَّمَا أَلْحَقَ صَاحِبَهُ بِالْمَجَانِينِ الَّذِينَ فَسَدَتْ عُقُولُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا .

وَأَخْبَارُ الْعُشَّاقِ فِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا ، بَلْ بَعْضُهَا مَشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ ، وَأَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، فَإِذَا عُدِمَ عَقْلَهُ الْتَحَقَ بِالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلَحَ مِنْ حَالِهِ، وَهَلْ أَذْهَبَ عَقْلَ مَجْنُونِ لَيْلَى وَأَضْرَابِهِ إِلَّا ذَلِكَ ؟ وَرُبَّمَا زَادَ جُنُونُهُ عَلَى جُنُونِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ :

قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ *** الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ *** وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ

السَّابِعُ : أَنَّهُ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَوَاسَّ أَوْ بَعْضَهَا ، إِمَّا إِفْسَادًا مَعْنَوِيًّا أَوْ صُورِيًّا ، أَمَّا الْفَسَادُ الْمَعْنَوِيُّ فَهُوَ تَابِعٌ لِفَسَادِ الْقَلْبِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا فَسَدَ فَسَدَتِ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ ، فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا مِنْهُ وَمِنْ مَعْشُوقِهِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا : حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ فَهُوَ يُعْمِي عَيْنَ الْقَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ وَعُيُوبِهِ ، فَلَا تَرَى الْعَيْنُ ذَلِكَ ، وَيُصِمُّ أُذُنَهُ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الْعَدْلِ فِيهِ ، فَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ذَلِكَ ، وَالرَّغَبَاتُ تَسْتُرُ الْعُيُوبَ ، فَالرَّاغِبُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ ، حَتَّى إِذْ زَالَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ أَبْصَرَ عُيُوبَهُ ، فَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ غِشَاوَةٌ عَلَى الْعَيْنِ ، تَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ ، كَمَا قِيلَ :
هَوَيْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ *** فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا

وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ ، وَالْخَارِجُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ ، وَلَا يَرَى عُيُوبَهُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ .

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا تَنْتَقِضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً ، إِذَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ .

وَأَمَّا فَسَادُ الْحَوَاسِّ ظَاهِرًا ، فَإِنَّهُ يُمْرِضُ الْبَدَنَ وَيُنْهِكُهُ ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَلَفِهِ ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي أَخْبَارِ مَنْقَتَلَهُمُ الْعِشْقُ .

[ ص: 215 ] وَقَدْ رُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِعَرَفَةَ شَابٌّ قَدِ انْتَحَلَ حَتَّى عَادَ جِلْدًا عَلَى عَظْمٍ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُ هَذَا ؟ قَالُوا : بِهِ الْعِشْقُ ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعِشْقِ عَامَّةَ يَوْمِهِ .

الثَّامِنُ : أَنَّ الْعِشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ ، بِحَيْثُ يَسْتَوْلِي الْمَعْشُوقُ عَلَى قَلْبِ الْعَاشِقِ ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ تَخَيُّلِهِ وَذِكْرِهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْ خَاطِرِهِ وَذِهْنِهِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَشْتَغِلُ النَّفْسُ عَنِ اسْتِخْدَامِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ فَتَتَعَطَّلُ تِلْكَ الْقُوَّةُ ، فَيَحْدُثُ بِتَعْطِيلِهَا مِنَ الْآفَاتِ عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَا يَعِزُّ دَوَاؤُهُ وَيَتَعَذَّرُ ، فَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ وَمَقَاصِدُهُ ، وَيَخْتَلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ ، فَتَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ صَلَاحِهِ ، كَمَا قِيلَ :

الْحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لَجَاجَةٌ *** يَأْتِي بِهَا وَتَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ
حَتَّى إِذَا خَاضَ الْفَتَى لُجَجَ الْهَوَى *** جَاءَتْ أُمُورٌ لَا تُطَاقُ كِبَارُ

وَالْعِشْقُ مَبَادِيهِ سَهْلَةٌ حُلْوَةٌ ، وَأَوْسَطُهُ هَمٌّ وَشُغْلُ قَلْبٍ وَسَقَمٌ ، وَآخِرُهُ عَطَبٌ وَقَتْلٌ ، إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قِيلَ :

وَعِشْ خَالِيًا فَالْحُبُّ أَوَّلُهُ عَنَا *** وَأَوْسَطُهُ سَقَمٌ وَآخِرُهُ قَتْلُ

وَقَالَ آخَرُ :
تَوَلَّعَ بِالْعِشْقِ حَتَّى عَشِقْ *** فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأَى لُجَّةً ظَنَّهَا مَوْجَةً *** فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا غَرِقْ

وَالذَّنْبُ لَهُ ، فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدْ قَعَدَ تَحْتَ الْمَثَلِ السَّائِرِ : " يَدَاكَ أَوْكَتَا ، وَفُوكَ نَفَخَ " .


مَقَامَاتُ الْعَاشِقِ


وَالْعَاشِقُ لَهُ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ : مَقَامُ ابْتِدَاءٍ ، وَمَقَامُ تَوَسُّطٍ ، وَمَقَامُ انْتِهَاءٍ .

فَأَمَّا مَقَامُ ابْتِدَائِهِ : قَالُوا : يَجِبُ عَلَيْهِ مُدَافَعَتُهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، إِذَا كَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَعْشُوقِهِ مُتَعَذِّرًا قَدَرًا وَشَرْعًا ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَأَبَى قَلْبُهُ إِلَّا السَّفَرَ إِلَى مَحْبُوبِهِ - وَهَذَا مَقَامُ التَّوَسُّطِ وَالِانْتِهَاءِ - فَعَلَيْهِ كِتْمَانُهُ ذَلِكَ ، وَأَنْ لَا يُفْشِيَهُ إِلَى الْخَلْقِ ، وَلَا يَشْمَتَ بِمَحْبُوبِهِ وَيَهْتِكُهُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ [ ص: 216 ] الظُّلْمِ ، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَى الْمَعْشُوقِ وَأَهْلِهِ مِنْ ظُلْمِهِ فِي مَالِهِ ، فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْمَعْشُوقَ بِهَتْكِهِ فِي عِشْقِهِ إِلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ ، وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَصَدَّقُ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ ، وَإِذَا قِيلَفُلَانٌ فَعَلَ بِفُلَانٍ أَوْ بِفُلَانَةَ ، كَذَّبَهُ وَاحِدٌ وَصَدَّقَهُ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ .

وَخَبَرُ الْعَاشِقِ الْمُتَهَتِّكِ عِنْدَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ يُفِيدُ الْقَطْعَ الْيَقِينِيَّ ، بَلْ إِذَا أَخْبَرَهُمُ الْمَفْعُولُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى غَيْرِهِ جَزَمُوا بِصِدْقِهِ جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ ، بَلْ لَوْ جَمَعَهُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا ؛ لَجَزَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ وَعْدٍ وَاتِّفَاقٍ بَيْنَهُمَا ، وَجَزْمُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الظُّنُونِ وَالتَّخَيُّلِ وَالشُّبَهِ وَالْأَوْهَامِ وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ ، كَجَزْمِهِمْ بِالْحِسِّيَّاتِ الْمُشَاهَدَةِ ، وَبِذَلِكَ وَقَعَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الطَّيِّبَةِ الْمُطَيَّبَةِ ، حَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، الْمُبَرَّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، بِشُبْهَةِ مَجِيءِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ بِهَا وَحْدَهُ خَلْفَ الْعَسْكَرِ حَتَّى هَلَكَ مَنْ هَلَكَ ، وَلَوْلَا أَنْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَرَاءَتَهَا ، وَالذَّبَّ عَنْهَا ، وَتَكْذِيبَ قَاذِفِهَا ، لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ .

وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْمُبْتَلَى عِشْقَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاتِّصَالُ بِهِ مِنْ ظُلْمِهِ وَأَذَاهُ مَا هُوَ عُدْوَانٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ ، وَتَعَرُّضٌ لِتَصْدِيقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ظُنُونَهُمْ فِيهِ ، فَإِنِ اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِمَنْ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ ، إِمَّا بِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ ، تَعَدَّى الظُّلْمُ وَانْتَشَرَ ، وَصَارَ ذَلِكَ الْوَاسِطَةُ دَيُّوثًا ظَالِمًا ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ لَعَنَ الرَّائِشَ - وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي إِيصَالِ الرِّشْوَةِ - فَمَا ظَنُّكَ بِالدَّيُّوثِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ فِي الْوَصْلِ ، فَيَتَسَاعَدُ الْعَاشِقُ وَالدَّيُّوثُ عَلَى ظُلْمِ الْمَعْشُوقِ وَظُلْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ غَرَضِهِ عَلَى ظُلْمِهِ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ فِيهِ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ يَكُونُ حَيَاتُهَا مَانِعَةً مِنْ غَرَضِهِ ، وَكَمْ قَتِيلٍ طُلَّ دَمُهُ بِهَذَا السَّبَبِ ، مِنْ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَقَرِيبٍ ، وَكَمْ خُبِّبَتِ امْرَأَةٌ عَلَى بَعْلِهَا ، وَجَارِيَةٍ وَعَبْدٍ عَلَى سَيِّدِهِمَا ، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ .

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ، وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْعَى فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ رَجُلٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِمَا ؟

وَعُشَّاقُ الصُّوَرِ وَمُسَاعِدُوهُمْ مِنَ الدَّيَايِثَةِ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا ، فَإِنْ طَلَبَ الْعَاشِقُ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ وَمُشَارَكَةَ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمِ ظُلْمِ الْغَيْرِ مَا لَعَلَّهُ لَا يَقْصُرُ عَنْ إِثْمِ الْفَاحِشَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُرَبَّ عَلَيْهَا ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْغَيْرِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ أَسْقَطَتْ حَقَّ اللَّهِ فَحَقُّ الْعَبْدِ بَاقٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَإِنَّ مِنْ ظُلْمِ الْوَالِدِ إِفْسَادَ وَلَدِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ ، وَمَنْ هُوَ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ، فَظُلْمُ الزَّوْجِ بِإِفْسَادِ حَبِيبَتِهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى فِرَاشِهِ - أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِهِ بِأَخْذِ مَالِهِ كُلِّهِ ، وَلِهَذَا يُؤْذِيهِ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أَخْذُ مَالِهِ ، وَلَا يَعْدِلُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِلَّا سَفْكُ دَمِهِ ، فَيَا لَهُ مِنْ ظُلْمٍ أَعْظَمَ إِثْمًا مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لِغَازٍ [ ص: 217 ] فِي سَبِيلِ اللَّهِ وُقِفَ لَهُ الْجَانِي الْفَاعِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَقِيلَ لَهُ : خُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَمَا ظَنُّكُمْ ؟ أَيْ : فَمَا تَظُنُّونَ يَبْقَى لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ ؟ فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَأَنْ يَكُونَ الْمَظْلُومُ جَارًا ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ ، تَعَدَّدَ الظُّلْمُ فَصَارَ ظُلْمًا مُؤَكَّدًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَإِيذَاءِ الْجَارِ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ، وَلَا مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ .

فَإِنِ اسْتَعَانَ الْعَاشِقُ عَلَى وِصَالِ مَعْشُوقِهِ بِشَيَاطِينِ الْجِنِّ - إِمَّا بِسِحْرٍ أَوِ اسْتِخْدَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - ضُمَّ إِلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ كُفْرُ السِّحْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ ، كَانَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ غَيْرَ كَارِهٍ لِحُصُولِ مَقْصِدِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنَ الْكُفْرِ .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَاوُنَ فِي هَذَا الْبَابِ ، تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .

وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِحُصُولِ غَرَضِ الْعَاشِقِ مِنَ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ الْمُتَعَدِّي ضَرَرُهُ فَأَمْرٌ لَا يَخْفَى ، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنَ الْمَعْشُوقِ ، فَلِلْمَعْشُوقِ أَغْرَاضٌ أُخَرُ يُرِيدُ مِنَ الْعَاشِقِ إِعَانَتَهُ عَلَيْهَا ، فَلَا يَجِدُ مِنْ إِعَانَتِهِ بُدًّا ، فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ ، فَالْمَعْشُوقُ يُعِينُ الْعَاشِقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَسَيِّدِهِ وَزَوْجِهِ ، وَالْعَاشِقُ يُعِينُ الْمَعْشُوقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَكُونُ غَرَضُ الْمَعْشُوقِ مُتَوَقِّفًا عَلَى ظُلْمِهِ ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى أَغْرَاضِهِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ النَّاسِ ، فَيَحْصُلُ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقُبْحِ لِتَعَاوُنِهِمَا بِذَلِكَ عَلَى الظُّلْمِ ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ الْعُشَّاقِ وَالْمَعْشُوقِينَ ، مِنْ إِعَانَةِ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ عَلَى مَا فِيهِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ وَبَغْيٌ ، حَتَّى رُبَّمَا يَسْعَى لَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِمَثَلِهِ ، وَفِي تَحْصِيلِ مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، وَفِي اسْتِطَالَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا اخْتَصَمَ مَعْشُوقُهُ وَغَيْرُهُ أَوْ تَشَاكَيَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمَعْشُوقِ ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا ، هَذَا إِلَى مَا يَنْضَمُّ إِلَى ذَاكَ مِنْ ظُلْمِ الْعَاشِقِ لِلنَّاسِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ ، وَالتَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى مَعْشُوقِهِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْشُوقِهِ .

فَكُلُّ هَذِهِ الْآفَاتِ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا تَنْشَأُ مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ ، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ ، وَقَدْ تَنَصَّرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ نَشَئُوا فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْعِشْقِ ، كَمَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُؤَذِّنِينَ حِينَ أَبْصَرَ امْرَأَةً جَمِيلَةً عَلَى سَطْحٍ ، فَفُتِنَ بِهَا ، وَنَزَلَ ، وَدَخَلَ عَلَيْهَا ، وَسَأَلَهَا نَفْسَهَا ، فَقَالَتْ : هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ ، فَإِنْ دَخَلْتَ فِي دِينِي تَزَوَّجْتُ بِكَ ، فَفَعَلَ ، فَرَقِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى دَرَجَةٍ عِنْدَهُمْ فَسَقَطَ مِنْهَا فَمَاتَ ، ذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِ الْعَاقِبَةِ لَهُ .

وَإِذَا أَرَادَ النَّصَارَى أَنْ يُنَصِّرُوا الْأَسِيرَ ، أَرَوْهُ امْرَأَةً جَمِيلَةً وَأَمَرُوهَا أَنْ تُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهَا [ ص: 218 ] حَتَّى إِذَا تَمَكَّنَ حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ ، بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا إِنْ دَخَلَ فِي دِينِهَا ، فَهُنَالِكَ : يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 27 ] .

وَفِي الْعِشْقِ مِنْ ظُلْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ لِصَاحِبِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ ، وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَا فِيهِ ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبِهِ ، وَظُلْمُهُمَا مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ظُلْمُهُمَا بِالشِّرْكِ ، فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعِشْقُ أَنْوَاعَ الظُّلْمِ كُلَّهَا .

وَالْمَعْشُوقُ إِذَا لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْعَاشِقَ لِلتَّلَفِ ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُ ، بِأَنْ يُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَتَزَيَّنَ لَهُوَيَسْتَمِيلَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ مَالَهُ وَنَفْعَهُ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ ، لِئَلَّا يَزُولَ غَرَضُهُ بِقَضَاءِ وَطَرِهِ مِنْهُ ، فَهُوَ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ ، وَالْعَاشِقُ رُبَّمَا قَتَلَ مَعْشُوقَهُ لِيَشْفِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَادَ بِالْوِصَالِ لِغَيْرِهِ ، فَكَمْ لِلْعِشْقِ مِنْ قَتِيلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، وَكَمْ أَزَالَ مِنْ نِعْمَةٍ ، وَأَفْقَرَ مِنْ غِنًى ، وَأَسْقَطَ مِنْ مَرْتَبَةٍ ، وَشَتَّتَ مِنْ شَمْلٍ ، وَكَمْ أَفْسَدَ مِنْ أَهْلٍ لِلرَّجُلِ وَوَلَدِهِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ بَعْلَهَا عَاشِقًا لِغَيْرِهَا اتَّخَذَتْ هِيَ مَعْشُوقًا لِنَفْسِهَا ، فَيَصِيرُ الرَّجُلُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ خَرَابِ بَيْتِهِ بِالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْقِيَادَةِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا .

فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُحَكِّمَ عَلَى نَفْسِهِ عِشْقَ الصُّوَرِ ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ بَعْضِهَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ بِنَفَسِهِ الْمُغَرِّرُ بِهَا ، فَإِذَا هَلَكَتْ فَهُوَ الَّذِي أَهْلَكَهَا ، فَلَوْلَا تَكْرَارُهُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ مَعْشُوقِهِ وَطَمَعُهُ فِي وِصَالِهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ عِشْقُهُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ أَسْبَابِ الْعِشْقِ الِاسْتِحْسَانُ سَوَاءٌ تَوَلَّدَ عَنْ نَظَرٍ أَوْ سَمَاعٍ ، فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ طَمَعٌ فِي الْوِصَالِ وَقَارَنَهُ الْإِيَاسُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ الْعِشْقُ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الطَّمَعُ فَصَرَفَهُ عَنْ فِكْرِهِ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِهِ ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَطَالَ مَعَ ذَلِكَ الْفِكْرَ فِي مَحَاسِنِ الْمَعْشُوقِ وَقَارَنَهُ خَوْفُ مَا هُوَ أَكْبَرُ عِنْدَهُ مِنْ لَذَّةِ وِصَالِهِ ، إِمَّا خَوْفٌ دِينِيٌّ كَدُخُولِ النَّارِ ، وَغَضَبِ الْجَبَّارِ ، وَاحْتِقَابِ الْأَوْزَارِ ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى ذَلِكَ الطَّمَعِ وَالْفِكْرِ ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ ، فَإِنْ فَاتَهُ هَذَا الْخَوْفُ فَقَارَنَهُ خَوْفٌ دُنْيَوِيٌّ كَخَوْفِ إِتْلَافِ نَفْسِهِ ، أَوْ مَالِهِ ، أَوْ ذَهَابِ جَاهِهِ وَسُقُوطِ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ لِدَاعِي الْعِشْقِ دَفَعَهُ ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ مِنْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ ، وَقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ ؛ انْدَفَعَ عَنْهُ الْعِشْقُ ، فَإِنِ انْتَفَى ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَغَلَبَتْ مَحَبَّةُ الْمَعْشُوقِ لِذَلِكَ ، انْجَذَبَ إِلَيْهِ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمَالَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ كُلَّ الْمَيْلِ .

فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ذَكَرْتُمْ آفَاتِ الْعِشْقِ وَمَضَارَّهُ وَمَفَاسِدَهُ ، فَهَلَّا ذَكَرْتُمْ مَنَافِعَهُ وَفَوَائِدَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا : رِقَّةُ الطَّبْعِ ، وَتَرْوِيحُ النَّفْسِ وَخِفَّتُهَا ، وَزَوَالُ ثِقَلِهَا وَرِيَاضَتُهَا ، وَحَمْلُهَا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، مِنَ الشَّجَاعَةِ ، وَالْكَرَمِ ، وَالْمُرُوءَةِ ، وَرِقَّةِ الْحَاشِيَةِ ، وَلُطْفِ الْجَانِبِ .

[ ص: 219 ] وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ : إِنَّ ابْنَكَ قَدْ عَشِقَ فُلَانَةً ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَيَّرَهُ إِلَى طَبْعِ الْآدَمِيِّ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْعِشْقُ دَوَاءُ أَفْئِدَةِ الْكِرَامِ .

وَقَالَ غَيْرُهُ : الْعِشْقُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِذِي مُرُوءَةٍ ظَاهِرَةٍ ، وَخَلِيقَةٍ طَاهِرَةٍ ، أَوْ لِذِي لِسَانٍ فَاضِلٍ ، وَإِحْسَانٍ كَامِلٍ ، أَوْ لِذِي أَدَبٍ بَارِعٍ ، وَحَسَبٍ نَاصِعٍ .

وَقَالَ آخَرُ : الْعِشْقُ يُشَجِّعُ جَنَانَ الْجَبَانِ ، وَيُصَفِّي ذِهْنَ الْغَبِيِّ ، وَيُسَخِّي كَفَّ الْبَخِيلِ ، وَيُذِلُّ عِزَّةَ الْمُلُوكِ ، وَيُسَكِّنُ نَوَافِرَ الْأَخْلَاقِ ، وَهُوَ أَنِيسُ مَنْ لَا أَنِيسَ لَهُ ، وَجَلِيسُ مَنْ لَا جَلِيسَ لَهُ .

وَقَالَ آخَرُ : الْعِشْقُ يُزِيلُ الْأَثْقَالَ ، وَيُلَطِّفُ الرُّوحَ ، وَيُصَفِّي كَدَرَ الْقَلْبِ ، وَيُوجِبُ الِارْتِيَاحَ لِأَفْعَالِ الْكِرَامِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :

سَيَهْلِكُ فِي الدُّنْيَا شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ *** إِذَا غَالَهُ مِنْ حَادِثِ الْحُبِّ غَائِلُهُ
كَرِيمٌ يُمِيتُ السِّرَّ حَتَّى كَأَنَّهُ *** إِذَا اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ حَدِيثِكَ جَاهِلُهُ
يَوَدُّ بِأَنْ يُمْسِيَ سَقِيمًا لَعَلَّهَا *** إِذَا سَمِعَتْ عَنْهُ بِشَكْوَى تُرَاسِلُهُ
وَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ فِي طَلَبِ الْعُلَا *** لِتُحْمَدَ يَوْمًا عِنْدَ لَيْلَى شَمَائِلُهُ

فَالْعِشْقُ يَحْمِلُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعِشْقُ يُرَوِّضُ النَّفْسَ ، وَيُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ ، وَإِظْهَارُهُ طَبِيعِيٌّ ، وَإِضْمَارُهُ تَكْلِيفِيٌّ .

وَقَالَ الْآخَرُ : مَنْ لَمْ يُهَيِّجْ نَفْسَهُ بِالصَّوْتِ الشَّجِيِّ ، وَالْوَجْهِ الْبَهِيِّ ، فَهُوَ فَاسِدُ الْمِزَاجِ ، يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ :

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى *** فَمَا لَكَ فِي طِيبِ الْحَيَاةِ نَصِيبُ

وَقَالَ آخَرُ :

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى *** فَأَنْتَ وَعِيرٌ فِي الْفَلَاةِ سَوَاءُ

وَقَالَ آخَرُ :

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى *** فَقُمْ فَاعْتَلِفْ تِبْنًا فَأَنْتَ حِمَارُ

[ ص: 220 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُشَّاقِ أُولُو الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ : عِفُّوا تَشْرُفُوا ، وَاعْشَقُوا تَظْفَرُوا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُشَّاقِ : مَا كُنْتَ تَصْنَعُ لَوْ ظَفِرْتَ بِمَنْ تَهْوَى ؟ فَقَالَ : كُنْتُ أُمَتِّعُ طَرْفِي بِوَجْهِهِ ، وَأُرَوِّحُ قَلْبِي بِذِكْرِهِ وَحَدِيثِهِ ، وَأَسْتُرُ مِنْهُ مَا لَا يُحِبُّ كَشْفَهُ ، وَلَا أَصِيرُ بِقَبِيحِ الْفِعْلِ إِلَى مَا يَنْقُضُ عَهْدَهُ ، ثُمَّ أَنْشَدَ :

أَخْلُو بِهِ فَأَعِفُّ عَنْهُ تَكَرُّمًا *** خَوْفَ الدِّيَانَةِ لَسْتُ مِنْ عُشَّاقِهِ
كَالْمَاءِ فِي يَدِ صَائِمٍ يَلْتَذُّهُ *** ظَمَأً فَيَصْبِرُ عَنْ لَذِيذِ مَذَاقِهِ

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : أَرْوَاحُ الْعُشَّاقِ عَطِرَةٌ لَطِيفَةٌ ، وَأَبْدَانُهُمْ رَقِيقَةٌ خَفِيفَةٌ ، نُزْهَتُهُمُ الْمُؤَانَسَةُ ، وَكَلَامُهُمْ يُحْيِي مَوَاتَ الْقُلُوبِ ، وَيَزِيدُ فِي الْعُقُولِ ، وَلَوْلَا الْعِشْقُ وَالْهَوَى لَبَطَلَ نَعِيمُ الدُّنْيَا .

وَقَالَ آخَرُ : الْعِشْقُ لِلْأَرْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْأَبْدَانِ ، إِنْ تَرَكْتَهُ ضَرَّكَ ، وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهُ قَتَلَكَ ، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ :

خَلِيلَيَّ إِنَّ الْحُبَّ فِيهِ لَذَاذَةٌ *** وَفِيهِ شَقَاءٌ دَائِمٌ وَكُرُوبُ
عَلَى ذَاكَ مَا عَيْشٌ يَطِيبُ بِغَيْرِهِ *** وَلَا عَيْشَ إِلَّا بِالْحَبِيبِ يَطِيبُ
وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَةٍ *** وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيبُ

وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ قَالَ : مَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِجَارِيَةٍ وَهِيَ تَقُولُ
وَهَوَيْتُهُ مِنْ قَبْلِ قَطْعِ تَمَائِمِي *** مُتَمَايِلًا مِثْلَ الْقَضِيبِ النَّاعِمِ

سَأَلَهَا : أَحُرَّةٌ أَنْتِ أَمْ مَمْلُوكَةٌ ؟ قَالَتْ : بَلْ مَمْلُوكَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ هَوَاكِ ؟ فَتَلَكَّأَتْ ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ :

وَأَنَا الَّتِي لَعِبَ الْهَوَى بِفُؤَادِهَا *** قُتِلَتْ بِحُبِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ

فَاشْتَرَاهَا مِنْ مَوْلَاهَا ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ وَاللَّهِ فَتَنَّ الرِّجَالَ ، وَكَمْ وَاللَّهِ مَاتَ بِهِنَّ كَرِيمٌ ، وَعَطِبَ بِهِنَّ سَلِيمٌ .

وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَسْتَعْدِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ لَهَا عُثْمَانُ : مَا قِصَّتُكِ ؟ فَقَالَتْ : كَلِفْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِابْنِ أَخِيهِ ، فَمَا أَنْفَكُّ أُرَاعِيهِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : إِمَّا أَنْ تَهَبَهَا إِلَى ابْنِ أَخِيكَ ، أَوْ أُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِي ، فَقَالَ : أُشْهِدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا لَهُ .

وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ فَسَادَ الْعِشْقِ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ بِالْمَعْشُوقِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي [ ص: 221 ] الْعِشْقِ الْعَفِيفِ مِنَ الرَّجُلِ الظَّرِيفِ ، الَّذِي يَأْبَى لَهُ دِينُهُ وَعِفَّتُهُ وَمُرُوءَتُهُ أَنْ يُفْسِدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْشُوقِهِ بِالْحَرَامِ ، وَهَذَا عِشْقُ السَّلَفِ الْكِرَامِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ ، فَهَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ ، عَشِقَ حَتَّى اشْتُهِرَ أَمْرُهُ ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ ، وَعَدَّ ظَالِمًا مَنْ لَامَهُ ، وَمِنْ شِعْرِهِ :

كَتَمْتَ الْهَوَى حَتَّى أَضَرَّ بِكَ الْكَتْمُ *** وَلَامَكَ أَقْوَامٌ وَلَوْمُهُمْ ظُلْمُ
فَنَمَّ عَلَيْكَ الْكَاشِحُونَ ، وَقَبْلَهُمْ *** عَلَيْكَ الْهَوَى قَدْ نَمَّ لَوْ يَنْفَعُ الْكَتْمُ
فَأَصْبَحْتَ كَالْهِنْدِيِّ إِذْ مَاتَ حَسْرَةً *** عَلَى إِثْرِ هِنْدٍ أَوْ كَمَنْ شَفَّهُ سُقْمُ
تَجَنَّبْتَ إِتْيَانَ الْحَبِيبِ تَأَثُّمًا *** أَلَا إِنَّ هُجْرَانَ الْحَبِيبِ هُوَ الْإِثْمُ
فَذُقْ هَجْرَهَا قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ *** رَشَادٌ أَلَا يَا رُبَّمَا كَذَبَ الزَّعْمُ

وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِشْقُهُ مَشْهُورٌ لِجَارِيَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَكَانَتْ جَارِيَةً بَارِعَةَ الْجَمَالِ ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا ، وَكَانَ يَطْلُبُهَا مِنِ امْرَأَتِهِ ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ تَهَبَهَا لَهُ ، فَتَأْبَى ، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ ، أَمَرَتْ فَاطِمَةُ بِالْجَارِيَةِ فَأُصْلِحَتْ ، وَكَانَتْ مَثَلًا فِي حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا ، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَى عُمَرَ ، وَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّكَ كُنْتَ مُعْجَبًا بِجَارِيَتِي فُلَانَةَ ، وَسَأَلْتَهَا ، فَأَبَيْتُ عَلَيْكَ ، وَالْآنَ قَدْ طَابَتْ نَفْسِي لَكَ بِهَا ، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ ؛ اسْتَبَانَ الْفَرَحُ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ عَجِّلِي عَلَيَّ بِهَا ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهَا عَلَيْهِ ، ازْدَادَ بِهَا عَجَبًا ، وَقَالَ لَهَا : أَلْقِي ثِيَابَكِ ، فَفَعَلَتْ ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : عَلَى رِسْلِكِ ، أَخْبِرِينِي لِمَنْ كُنْتِ ؟ وَمِنْ أَيْنَ صِرْتِ لِفَاطِمَةَ ؟ فَقَالَتْ : أَغْرَمَ الْحَجَّاجُ عَامِلًا لَهُ بِالْكُوفَةِ مَالًا ، وَكُنْتُ فِي رَقِيقِ ذَلِكَ الْعَامِلِ ، قَالَتْ : فَأَخَذَنِي وَبَعَثَ بِي إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ، فَوَهَبَنِي لِفَاطِمَةَ ، قَالَ : وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْعَامِلُ ؟ قَالَتْ : هَلَكَ ، قَالَ : وَهَلْ تَرَكَ وَلَدًا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ : فَمَا حَالُهُمْ ؟ قَالَتْ : سَيِّئَةٌ ، فَقَالَ : شُدِّي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ ، وَاذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْعِرَاقِ : أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ عَلَى الْبَرِيدِ ، فَلَمَّا قَدِمَ ، قَالَ لَهُ : ارْفَعْ إِلَيَّ جَمِيعَ مَا أَغْرَمَهُ الْحَجَّاجُ لِأَبِيكَ ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ شَيْئًا إِلَّا دَفَعَهُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْجَارِيَةِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : إِيَّاكَ وَإِيَّاهَا ، فَلَعَلَّ أَبَاكَ قَدْ أَلَمَّ بِهَا ، فَقَالَ الْغُلَامُ : هِيَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : لَا حَاجَةَ لِي بِهَا ، قَالَ : فَابْتَعْهَا مِنِّي ، قَالَ : لَسْتُ إِذًا مِمَّنْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَلَمَّا عَزَمَ الْفَتَى عَلَى الِانْصِرَافِ بِهَا ، قَالَتْ : أَيْنَ وَجْدُكَ بِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : عَلَى حَالِهِ ، وَلَقَدْ زَادَ ، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ ، حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَهَذَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ : مِنَ الْفِقْهِ ، وَالْحَدِيثِ ، وَالتَّفْسِيرِ ، وَالْأَدَبِ ، وَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْفِقْهِ ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَشِقُهُ مَشْهُورٌ .
قَالَ نِفْطَوَيْهِ : دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، فَقُلْتُ : كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ : حُبُّ مَنْ تَعْلَمُ أَوْرَثَنِي مَا تَرَى ، فَقُلْتُ : وَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ : [ ص: 222 ] الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّظَرُ الْمُبَاحُ ، وَالْآخَرُ : اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ ، فَأَمَّا النَّظَرُ الْمُبَاحُ فَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَنِي مَا تَرَى ، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ فَيَمْنَعُنِي مِنْهَا مَا حَدَّثَنِي أَبِي ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّابِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَرْفَعُهُ : " مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ " .
ثُمَّ أَنْشَدَ :

انْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي مِنْ لَوَاحِظِهِ *** وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي
وَانْظُرْ إِلَى شَعَرَاتٍ فَوْقَ عَارِضِهِ *** كَأَنَّهُنَّ نِمَالٌ دَبَّ فِي عَاجِ

ثُمَّ أَنْشَدَ :

مَا لَهُمْ أَنْكَرُوا سَوَادًا بِخَدَّيْهِ *** وَلَا يُنْكِرُونَ وَرْدَ الْغُصُونِ ؟
إِنْ يَكُنْ عَيْبُ خَدِّهِ بَرْدُ الشَّعْرِ *** فَعَيْبُ الْعُيُونِ شَعْرُ الْجُفُونِ

فَقُلْتُ لَهُ : نَفَيْتَ الْقِيَاسَ فِي الْفِقْهِ ، وَأَثْبَتَّهُ فِي الشَّرِّ ؟ فَقَالَ : غَلَبَةُ الْوَجْدِ وَمَلَكَةُ النَّفْسِ دَعَتْ إِلَيْهِ ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ ، وَبِسَبَبِ مَعْشُوقِهِ صَنَّفَ كِتَابَ الزَّهْرَةِ .

وَمِنْ كَلَامِهِ فِيهِ : " مَنْ يَئِسَ مِمَّنْ يَهْوَاهُ ، وَلَمْ يَمُتْ مِنْ وَقْتِهِ سَلَاهُ ، وَذَلِكَ أَوَّلُ رَوْعَاتِ الْيَأْسِ تَأْتِي الْقَلْبَ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لَهَا ، فَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتَأْتِي الْقَلْبَ وَقَدْ وَطَّأَتْهُ لَهَا الرَّوْعَةُ الْأُولَى " .

وَالْتَقَى هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ ، فَتَنَاظَرَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْإِيلَاءِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ : أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ : مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ ؛ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ ، أَحَذَقُ مِنْكَ بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ ، فَقَالَ : لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ :

أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتَيَّ *** وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقَلِ الْهَوَى مَا لَوْ أَنَّهُ *** يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا
وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجَمِ خَاطِرِي *** فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ *** فَلَسْتُ أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمًا
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ ؟ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ :

وَمَطَاعِمُهُ كَالشَّهْدِ فِي نَغَمَاتِهِ *** قَدْ بِتَّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ
بِصَبَابَةٍ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ *** وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ عَنْ وَجَنَاتِهِ
حَتَّى إِذَا مَا الصُّبْحُ رَاحَ عَمُودُهُ *** وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاءَتِهِ ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُكَ فِي قَوْلِكَ :
[ ص: 223 ]
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي *** وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا

فَضَحِكَ الْوَزِيرُ ، وَقَالَ : لَقَدْ جَمَعْتُمَا لُطْفًا وَظُرْفًا ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ .

وَجَاءَتْهُ يَوْمًا فُتْيَا مَضْمُونُهَا :

يَا ابْنَ دَاوُدَ يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ *** أَفْتِنَا فِي قَوَاتِلِ الْأَحْدَاقِ
هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحِ *** أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ

فَكَتَبَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ :

عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ *** فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ
لَمَّا سَأَلْتَ عَنِ الْهَوَى هَيَّجْتَنِي *** وَأَرَقْتَ دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ
إِنْ كَانَ مَعْشُوقًا يُعَذِّبُ عَاشِقًا *** كَانَ الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ

قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ " ، شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ صَاحِبُ كِتَابِ الْإِنْشَاءِ : وَقُلْتُ فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى قَافِيَتِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ :

قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلًا عَنْ لِحَاظٍ *** هُنَّ يَلْعَبْنَ فِي دَمِ الْعُشَّاقِ
مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الْوَرَى مِنْ جُنَاحٍ *** إِنْ ثَنَى الْحَدَّ عَنْ دَمٍ مُهْرَاقِ
وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ تَصْ *** فَحَ عَمَّا جَنَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ
إِنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ *** وَلِهَذَا يَفْنَى ضَنًى وَهْوَ بَاقٍ

وَنَظِيرُ ذَلِكَ فَتْوَى وَرَدَتْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْخَطَّابِ مَحْفُوظِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَوْذَانِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ فِي وَقْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ :

قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ : مَسْأَلَةٌ *** جَاءَتْ إِلَيْكَ وَمَا خُلِقَ سِوَاكَ لَهَا
مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ *** لَاحَتْ لِخَاطِرِهِ ذَاتُ الْجَمَالِ لَهَا

فَأَجَابَهُ تَحْتَ السُّؤَالِ :

قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ *** سَرَّتْ فُؤَادِي لَمَّا أَنْ أَصَخْتُ لَهَا
إِنَّ الَّتِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ *** خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا
إِنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ *** فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ : حَجَجْتُ سَنَةً ، ثُمَّ دَخَلْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ ، إِذْ سَمِعْتُ أَنِينًا فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ :

أَشْجَاكَ نَوْحُ حَمَائِمِ السِّدْرِ *** فَأَهَجْنَ مِنْكَ بَلَابِلَ الصَّدْرِ [ ص: 224 ]
أَمْ عَزَّ نَوْمَكَ ذِكْرُ غَانِيَةٍ *** أَهَدَتْ إِلَيْكَ وَسَاوِسَ الْفِكْرِ
يَا لَيْلَةً طَالَتْ عَلَى دَنِفٍ *** يَشْكُو السُّهَادَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ
أَسَلَّمْتَ مَنْ تَهْوَى لِحَرِّ جَوًى *** مُتَوَقِّدٍ كَتَوَقُّدِ الْجَمْرِ
فَالْبَدْرُ يَشْهَدُ أَنَّنِي كَلِفٌ *** مُغْرًى بِحُبِّ شَبِيهَةِ الْبَدْرِ
مَا كُنْتُ أَحْسَبُنِي أَهِيمُ بِحُبِّهَا *** حَتَّى بُلِيتُ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي

ثُمَّ انْقَطَعَ الصَّوْتُ ، فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ ، وَإِذَا بِهِ قَدْ عَادَ الْبُكَاءُ وَالْأَنِينُ ، ثُمَّ أَنْشَدَ :

أَشْجَاكَ مِنْ رَيَّا خَيَالٌ زَائِرٌ *** وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ الذَّوَائِبِ عَاكِرُ
وَاغْتَالَ مُهْجَتَكَ الْهَوَى بِرَسِيسَةٍ *** وَاهْتَاجَ مُقْلَتَكَ الْخَيَالُ الزَّائِرُ
نَادَيْتَ رَيًّا وَالظَّلَامُ كَأَنَّهُ *** يَمٌّ تَلَاطَمَ فِيهِ مَوْجٌ زَاخِرُ
وَالْبَدْرُ يَسْرِي فِي السَّمَاءِ كَأَنَّهُ *** مَلِكٌ تَرَجَّلَ وَالنُّجُومُ عَسَاكِرُ
وَتَرَى بِهِ الْجَوْزَاءَ تَرْقُصُ فِي الدُّجَى *** رَقْصَ الْحَبِيبِ عَلَاهُ سُكْرٌ ظَاهِرُ
يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مُحِبٍّ مَا لَهُ *** إِلَّا الصَّبَاحَ مُسَاعِدٌ وَمُؤَازِرُ
فَأَجَابَنِي مُتْ حَتْفَ أَنْفِكَ وَاعْلَمَنْ *** أَنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ الْحَاضِرُ

قَالَ : وَكُنْتُ ذَهَبْتُ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِالْأَبْيَاتِ فَلَمْ يَتَنَبَّهْ إِلَّا وَأَنَا عِنْدُهُ ، فَرَأَيْتُ شَابًّا مُقْتَبِلًا شَبَابُهُ قَدْ خَرَقَ الدَّمْعُ فِي خَدِّهِ خَرْقَيْنِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : اجْلِسْ ، مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ ، قَالَ : أَلَكَ حَاجَةٌ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ كُنْتُ جَالِسًا فِي الرَّوْضَةِ ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا صَوْتُكَ ، فَبِنَفْسِي أَفْدِيكَ فَمَا الَّذِي تَجِدُهُ ؟ فَقَالَ أَنَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ ، غَدَوْتُ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ ، ثُمَّ اعْتَزَلْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ ، فَإِذَا بِنِسْوَةٍ قَدْ أَقْبَلْنَ يَتَهَادَيْنَ مِثْلَ الْقَطَا ، وَإِذَا فِي وَسَطِهِنَّ جَارِيَةٌ بَدِيعَةُ الْجَمَالِ ، كَامِلَةُ الْمَلَاحَةِ ، فَوَقَفَتْ عَلَيَّ ، فَقَالَتْ : يَا عُتْبَةُ ، مَا تَقُولُ فِي وَصْلِ مَنْ يَطْلُبُ وَصْلَكَ ؟ ثُمَّ تَرَكَتْنِي وَذَهَبَتْ ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا خَبَرًا ، وَلَا قَفَوْتُ لَهَا أَثَرًا ، وَأَنَا حَيْرَانُ أَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ ، ثُمَّ صَرَخَ وَأَكَبَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، كَأَنَّمَا صُبِغَتْ وَجَنَتَاهُ بِوَرْسٍ ، ثُمَّ أَنْشَدَ :

أَرَاكُمْ بِقَلْبِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ *** فَيَا هَلْ تَرَوْنِي بِالْفُؤَادِ عَلَى بَعْدِي
فُؤَادِي وَطَرْفِي يَأْسَفَانِ عَلَيْكُمُ *** وَعِنْدَكُمْ رُوحِي وَذِكْرُكُمْ عِنْدِي
وَلَسْتُ أَلَذَّ الْعَيْشَ حَتَّى أَرَاكُمُ *** وَلَوْ كُنْتُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ

فَقُلْتُ : يَا ابْنَ أَخِي ، تُبْ إِلَى رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ مِنْ ذَنْبِكَ ، فَبَيْنَ يَدَيْكَ هَوْلُ الْمَطْلَعِ ، فَقَالَ : مَا أَنَا بِسَالٍ حَتَّى يَئُوبَ الْقَارِظَانِ ، وَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الصُّبْحُ ، فَقُلْتُ : قُمْ بِنَا [ ص: 225 ] إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ كُرْبَتَكَ ، فَقَالَ : أَرْجُو ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ طَاعَتِكَ ، فَذَهَبْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ :

يَا لَلرِّجَالِ لِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَمَا *** يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبًا
مَا إِنْ يَزَالُ غَزَالٌ مِنْهُ يَقْتُلُنِي *** يَأْتِي إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ مُنْتَقِبًا
يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّ الْأَجْرَ هِمَّتُهُ *** وَمَا أَتَى طَالِبًا لِلْأَجْرِ مُحْتَسِبًا
لَوْ كَانَ يَبْغِي ثَوَابًا مَا أَتَى صَلَفًا *** مُضَمِّخًا بِفَتِيتِ الْمِسْكِ مُخْتَضِبًا

ثُمَّ جَلَسْنَا حَتَّى صَلَّيْنَا الظُّهْرَ ، فَإِذَا بِالنِّسْوَةِ قَدْ أَقْبَلْنَ وَلَيْسَتِ الْجَارِيَةُ فِيهِنَّ ، فَوَقَفْنَ عَلَيْهِ ، وَقُلْنَ لَهُ : يَاعُتْبَةُ مَا ظَنُّكَ بِطَالِبَةِ وَصْلِكَ ، وَكَاسِفَةِ بَالِكَ ؟ قَالَ : وَمَا بَالُهَا ، قُلْنَ : أَخَذَهَا أَبُوهَا وَارْتَحَلَ بِهَا إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ ، فَسَأَلْتُهُنَّ عَنِ الْجَارِيَةِ ، فَقُلْنَ : هِيَ رَيَّا بِنْتُ الْغِطْرِيفِ السُّلَمِيِّ ، فَرَفَعَ عُتْبَةُ رَأَسَهُ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ :

خَلِيلِيَّ رَيَّا قَدْ أُجِدَّ بِكُوْرِهَا *** وَسَارَتْ إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ غَيْرُهَا
خَلِيلِيَّ إِنِّي قَدْ عَشِيتُ مِنَ الْبُكَا *** فَهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقْلَةٌ أَسْتَعِيرُهَا

فَقُلْتُ لَهُ : إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ بِمَالٍ جَزِيلٍ أُرِيدُ بِهِ أَهْلَ السَّتْرِ ، وَوَاللَّهِ لَأَبْذُلَنَّهُ أَمَامَكَ حَتَّى تَبْلُغَ رِضَاكَ وَفَوْقَ الرِّضَا ، فَقُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ الْأَنْصَارِ ، فَقُمْنَا وَسِرْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ ، فَسَلَّمْتُ ، فَأَحْسَنُوا الرَّدَّ ، فَقُلْتُ : أَيُّهَا الْمَلَأُ ، مَا تَقُولُونَ فِي عُتْبَةَ وَأَبِيهِ ؟ قَالُوا : مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ ، قُلْتُ : فَإِنَّهُ قَدْ رُمِيَ بِدَاهِيَةٍ مِنَ الْهَوَى وَمَا أُرِيدُ مِنْكُمْ إِلَّا الْمُسَاعَدَةَ إِلَى السَّمَاوَةِ ، فَقَالُوا : سَمْعًا وَطَاعَةً ، فَرَكِبْنَا وَرَكِبَ الْقَوْمُ مَعَنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَنَازِلِ بَنِي سُلَيْمٍ ، فَأُعْلِمَ الْغِطْرِيفُ بِنَا ، فَخَرَجَ مُبَادِرًا فَاسْتَقْبَلَنَا ، وَقَالَ : حُيِّيتُمْ يَا كِرَامُ ، فَقُلْنَا : وَأَنْتَ فَحَيَّاكَ إِنَّا لَكَ أَضْيَافٌ ، فَقَالَ : نَزَلْتُمْ أَكْرَمَ مَنْزِلٍ ، ثُمَّ نَادَى : يَا مَعْشَرَ الْعَبِيدِ ، أَنْزِلُوا الْقَوْمَ ، فَفُرِشَتِ الْأَنْطَاعُ وَالنَّمَارِقُ ، وَذُبِحَتِ الذَّبَائِحُ ، فَقُلْنَا : لَسْنَا بِذَائِقِي طَعَامِكَ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَنَا ، فَقَالَ : وَمَا حَاجَتُكُمْ ؟ قُلْنَا : نَخْطُبُ عَقِيلَتَكَ الْكَرِيمَةَ لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، فَقَالَ : إِنَّ الَّتِي تَخْطِبُونَهَا أَمْرُهَا إِلَى نَفْسِهَا ، وَأَنَا أَدْخُلُ أُخْبِرُهَا ، ثُمَّ دَخَلَ مُغْضَبًا عَلَى ابْنَتِهِ ، فَقَالَتْ : يَا أَبَتِ مَا لِي أَرَى الْغَضَبَ فِي وَجْهِكَ ؟ ، فَقَالَ : قَدْ وَرَدَ الْأَنْصَارُ يَخْطُبُونَكِ مِنِّي ، فَقَالَتْ : سَادَاتٌ كِرَامٌ ، اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَلِمَنِ الْخُطْبَةُ مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ : لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ ، قَالَتْ : وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ عُتْبَةَ هَذَا : إِنَّهُ يَفِي بِمَا وَعَدَ ، وَيُدْرِكُ إِذَا قَصَدَ ، فَقَالَ : أَقْسَمْتُ لَا أُزَوِّجَنَّكِ بِهِ أَبَدًا ، وَلَقَدْ نَمَى إِلَيَّ بَعْضُ حَدِيثِكِ مَعَهُ، فَقَالَتْ : مَا كَانَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ إِذْ أَقْسَمْتَ ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ لَا يُرَدُّونَ رَدًّا قَبِيحًا ، حَسِّنْ لَهُمُ الرَّدَّ ، فَقَالَ : بِأَيِّ شَيْءٍ ؟ قَالَتْ : أَغْلِظْ عَلَيْهِمُ الْمَهْرَ ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا يُجِيبُونَ ، فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتِ ، فَخَرَجَ مُبَادِرًا عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : إِنَّ فَتَاةَ الْحَيِّ قَدْ أَجَابَتْ ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ، فَمَنِ الْقَائِمُ بِهِ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ : أَنَا ، [ ص: 226 ] فَقُلْ مَا شِئْتَ ، فَقَالَ : أَلْفُ مِثْقَالٍ مِنَ الذَّهَبِ ، وَمِائَةُ ثَوْبٍ مِنَ الْأَبْرَادِ ، وَخَمْسَةُ أَكْرِشَةٍ مِنْ عَنْبَرٍ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَكَ ذَلِكَ كُلُّهُ ، فَهَلْ أَجَبْتَ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَأَنْفَذْتُ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَتَوْا بِجَمِيعِ مَا طَلَبَ ، ثُمَّ صُنِعَتِ الْوَلِيمَةُ ، وَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا ، ثُمَّ قَالَ : خُذُوا فَتَاتَكُمْ وَانْصَرِفُوا مُصَاحِبِينَ ، ثُمَّ حَمَلَهَا فِي هَوْدَجٍ ، وَجَهَّزَهَا بِثَلَاثِينَ رَاحِلَةً مِنَ الْمَتَاعِ وَالتُّحَفِ ، فَوَدَّعْنَاهُ وَسِرْنَا ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ ، خَرَجَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ تُرِيدُ الْغَارَةَ

أَحْسَبُهَا مِنْ سُلَيْمٍ ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رِجَالًا ، وَجَرَحَ آخَرِينَ ، ثُمَّ رَجَعَ وَبِهِ طَعْنَةٌ تَفُورُ دَمًا ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ ، وَانْثَنَى بِخَدِّهِ ، فَطُرِدَتْ عَنَّا الْخَيْلُ وَقَدْ قَضَى عُتْبَةُ نَحْبَهُ ، فَقُلْنَا : وَاعُتْبَتَاهُ ، فَسَمِعَتْنَا الْجَارِيَةُ ، فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا مِنَ الْبَعِيرِ ، وَجَعَلَتْ تَصِيحُ بِحُرْقَةٍ ، وَأَنْشَدَتْ :

تَصَبَّرْتُ لَا أَنِّي صَبِرْتُ وَإِنَّمَا *** أُعَلِّلُ نَفْسِي أَنَّهَا بِكَ لَاحِقَهْ
فَلَوْ أَنْصَفَتْ رُوحِي لَكَانَتْ إِلَى الرَّدَى *** أَمَامَكَ مِنْ دُونِ الْبَرِيَّةِ سَابِقَهْ
فَمَا أَحَدٌ بَعْدِي وَبَعْدَكَ مُنْصِفٌ *** خَلِيلًا وَلَا نَفْسٌ لِنَفْسٍ مُوَافِقَهْ

ثُمَّ شَهِقَتْ وَقَضَتْ نَحْبَهَا ، فَاحْتَفَرْنَا لَهُمَا قَبْرًا وَاحِدًا وَدَفَنَّاهُمَا فِيهِ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَقَمْتُ سَبْعَ سِنِينَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الْحِجَازِ وَوَرَدْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ قَبْرَ عُتْبَةَ أَزُورُهُ ، فَأَتَيْتُ الْقَبْرَ ، فَإِذَا عَلَيْهِ شَجَرَةٌ عَلَيْهَا عَصَائِبُ حُمْرُ وَصُفْرُ ، فَقُلْتُ : لِأَرْبَابِ الْمَنْزِلِ مَا يُقَالُ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ ؟ قَالُوا : شَجَرَةُ الْعَرُوسَيْنِ .

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ مِنَ الرُّخْصَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلتَّشْدِيدِ إِلَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْحَسَنِ مِنَ الْأَسَانِيدِ ، وَهُوَ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ : مَنْ عَشِقَ وَعَفَّ ، وَكَتَمَ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ وَرَوَاهُ سُوَيْدٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا ، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُعَافَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ قُطْبَةَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْهُ ، وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

وَهَذَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ : سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ، وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ ، فَلَمَّا هَمَّ بِطَلَاقِهَا ، قَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا ، زَوَّجَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، فَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَعَقَدَ نِكَاحَهَا مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : [ ص: 227 ] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِوَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 37 ] .

وَهَذَا دَاوُدُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَمَّا كَانَ تَحْتَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً ، ثُمَّ أَحَبَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ فَتَزَوَّجَهَا وَكَمَّلَ بِهَا الْمِائَةَ .

قَالَ الزُّهْرِيُّ : أَوَّلُ حُبٍّ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ ، حُبُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ، وَكَانَ مَسْرُوقٌ يُسَمِّيهَا حَبِيبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : أَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ ؛ أَسْأَلُهَا : أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ أَهْلَهُ وَهُوَ صَائِمٌ ؟ فَقَالَتْ : لَا ، فَقَالَ : إِنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا رَأَى عَائِشَةَ لَا يَتَمَالَكُ عَنْهَا .

وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَزُورُ هَاجَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ شَغَفِهِ بِهَا ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا .

وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اشْتَرَى جَارِيَةً رُومِيَّةً ، فَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا ، فَوَقَعَتْ ذَاتَ يَوْمٍ عَنْ بَغْلَةٍ لَهُ ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهَا وَيُقَبِّلُهَا ، وَكَانَتْ تُكْثِرُ مِنْ أَنْ تَقُولَ : يَا بَطْرُونُ أَنْتَ قَالُونُ ، تَعْنِي : يَا مَوْلَايَ أَنْتَ جَيِّدٌ ، ثُمَّ إِنَّهَا هَرَبَتْ مِنْهُ ، فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا شَدِيدًا ، وَقَالَ :

قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي قَالُونَ فَانْصَرَفَتْ *** فَالْيَوْمَ أَعْلَمُ أَنِّي غَيْرُ قَالُونَ

قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ : وَقَدْ أَحَبَّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ كَثِيرٌ ، وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، رَأَيْتُ امْرَأَةً فَعَشِقْتُهَا ، فَقَالَ : ذَلِكَ مَا لَا تَمْلِكُ .

فَالْجَوَابُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْجَائِزِ ، وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ ، وَلَا بِالْمَدْحِ وَالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ، وَإِنَّمَا يَبِينُ حُكْمُهُ ، وَيَنْكَشِفُ أَمْرُهُ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ ، وَإِلَّا فَالْعِشْقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ النَّافِعَ مِنَ الْحُبِّ وَالضَّارِّ ، وَالْجَائِزَ وَالْحَرَامَ .


الْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ


[ ص: 228 ]

اعْلَمْ أَنَّ أَنْفَعَ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْجَبَهَا وَأَعْلَاهَا وَأَجَلَّهَا مَحَبَّةُ مَنْ جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ ، وَفُطِرَتِ الْخَلِيقَةُ عَلَى تَأْلِيهِهِ ، وَبِهَا قَامَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ، وَعَلَيْهَا فُطِرَتِ الْمَخْلُوقَاتُ ، وَهِيَ سِرُّ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي تَأَلَّهَ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ ، وَالتَّعْظِيمِ وَالذُّلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعَبُّدِ ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ ، وَالْعِبَادَةُ هِيَ : كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ ، وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ .

وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ جَمِيعُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ، وَدَعْوَةُ جَمِيعِ رُسُلِهِ ، وَفِطْرَتُهُ الَّتِي فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَيْهَا ، وَمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُوقِ ، وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ الْإِحْسَانُ مِنْهُ ؟ وَمَا بِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 53 ] .

وَمَا تَعَرَّفَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصْنُوعَاتِهِ مِنْ كَمَالِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ .

وَالْمَحَبَّةُ لَهَا دَاعِيَانِ : الْجَمَالُ ، وَالْجَلَالُ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، بَلِ الْجَمَالُ كُلُّهُ لَهُ ، وَالْإِجْلَالُ كُلُّهُ مِنْهُ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سِوَاهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 31 ] .

وَقَالَ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 54 - 56 ] .

[ ص: 229 ] فَالْوِلَايَةُ أَصْلُهَا الْحُبُّ ، فَلَا مُوَالَاةَ إِلَّا بِحُبٍّ ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ ، فَهُمْ يُوَالُونَهُ بِمَحَبَّتِهِمْ لَهُ ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ ، فَاللَّهُ يُوَالِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ .

وَلِهَذَا أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ، بِخِلَافِ مَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْهُمْ مِنْ دُونِهِ ، بَلْ مُوَالَاتُهُ لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ .

وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْمَحَبَّةِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، قَالَ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 165 ] .

وَأَخْبَرَ عَمَّنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ فِي الْحُبِّ ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي النَّارِ لِمَعْبُودِيهِمْ : تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 97 - 98 ] .

وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ فِي الْحُبِّ أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ ، وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ ، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ ، وَلِأَجْلِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَهْلِهِ ، وَالنَّارَ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ فِيهِ .

وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ : لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَكُونَ هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ؟

وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَا ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ أَيْ لَا تُؤْمِنُ حَتَّى تَصِلَ مَحَبَّتُكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ .

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا أَفَلَيْسَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُوَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَوْلَى بِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَكُلُّ مَا مِنْهُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ يَدْعُو إِلَى مَحَبَّتِهِ ، مِمَّا يُحِبُّ الْعَبْدُ وَيَكْرَهُ - فَعَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ ، وَمُعَافَاتُهُ وَابْتِلَاؤُهُ ، وَقَبْضُهُ وَبَسْطُهُ ، وَعَدْلُهُ وَفَضْلُهُ ، وَإِمَاتَتُهُ وَإِحْيَاؤُهُ ، وَلُطْفُهُ وَبِرُّهُ ، وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ ، وَسَتْرُهُ وَعَفْوُهُ ، وَحِلْمُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى عَبْدِهِ ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِ ، وَكَشْفُ كَرْبِهِ ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ ، وَتَفْرِيجُ كُرْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ ، بَلْ مَعَ غِنَاهُ التَّامِّ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، كُلُّ ذَلِكَ دَاعٍ لِلْقُلُوبِ إِلَى تَأْلِيهِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، بَلْ تَمْكِينُهُ عَبْدَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَإِعَانَتُهُ عَلَيْهَا ، وَسَتْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَوَطَرَهُ مِنْهَا ، وَكَلَاءَتُهُ وَحِرَاسَتُهُ لَهُ ، وَيَقْضِي وَطَرَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، يُعِينُهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهَا بِنِعَمِهِ - مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَى مَحَبَّتِهِ ، فَلَوْ أَنَّ مَخْلُوقًا فَعَلَ بِمَخْلُوقٍ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَمْلِكْ قَلْبَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ ، فَكَيْفَ لَا يُحِبُّ الْعَبْدُ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ [ ص: 230 ] مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ ، مَعَ إِسَاءَتِهِ ؟ فَخَيْرُهُ إِلَيْهِ نَازِلٌ ، وَشَرُّهُ إِلَيْهِ صَاعِدٌ ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ ، وَالْعَبْدُ يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ ، فَلَا إِحْسَانُهُ وَبِرُّهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَيْهِ يَصُدُّهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَلَا مَعْصِيَةُ الْعَبْدِ وَلُؤْمُهُ يَقْطَعُ إِحْسَانَ رَبِّهِ عَنْهُ .

فَأَلْأَمُ اللُّؤْمِ تَخَلُّفُ الْقُلُوبِ عَنْ مَحَبَّةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ ، وَتَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ .

وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ تُحِبُّهُ مِنَ الْخَلْقِ أَوْ يُحِبُّكَ إِنَّمَا يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ وَغَرَضِهِ مِنْكَ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُكَ لَكَ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ : [ عَبْدِي كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لَكَ ] ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِي الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ رَبُّهُ لَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ ، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ ، مَشْغُولٌ بِحُبِّ غَيْرِهِ ، قَدِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ ؟

وَأَيْضًا ، فَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ مِنَ الْخَلْقِ إِنْ لَمْ يَرْبَحْ عَلَيْكَ لَمْ يُعَامِلْكَ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبْحِ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَامِلُكَ لِتَرْبَحَ أَنْتَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الرِّبْحِ وَأَعْلَاهُ ، فَالدِّرْهَمُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ، وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ وَهِيَ أَسْرَعُ شَيْءٍ مَحْوًا .

وَأَيْضًا هُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَكَ لِنَفْسِهِ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَمَنْ أَوْلَى مِنْهُ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَرْضَاتِهِ ؟

وَأَيْضًا فَمَطَالِبُكَ - بَلْ مَطَالِبُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا - لَدَيْهِ ، وَهُوَ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ ، أَعْطَى عَبْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ فَوْقَ مَا يُؤَمِّلُهُ ، يَشْكُرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ وَيُنَمِّيهِ ، وَيَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ وَيَمْحُوهُ ، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ، لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ ، وَلَا تُغَلِّطُهُ كَثْرَةُ الْمَسَائِلِ ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ ، بَلْ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ ، وَيَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ حَيْثُ لَا يَسْتَحِي الْعَبْدُ مِنْهُ ، وَيَسْتُرُهُ حَيْثُ لَا يَسْتُرُ نَفْسَهُ ، وَيَرْحَمُهُ حَيْثُ لَا يَرْحَمُ نَفْسُهُ ، دَعَاهُ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَيَادِيهِ إِلَى كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ ، فَأَبَى ، فَأَرْسَلَ رُسُلَهُ فِي طَلَبِهِ ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَعَهُمْ عَهْدَهُ ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ نَفْسُهُ ، وَقَالَ : مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ كَمَا قِيلَ : " أَدْعُوكَ وَلِلْوَصْلِ تَأْبَى ، أَبْعَثُ رَسُولِي فِي الطَّلَبِ ، أَنْزِلُ إِلَيْكَ بِنَفْسِي ، أَلْقَاكَ فِي النَّوْمِ " .

وَكَيْفَ لَا تُحِبُّ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ ، وَلَا يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ ، وَيُقِيلُالْعَثَرَاتِ ، وَيَغْفِرُ الْخَطِيئَاتِ ، وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ ، وَيَكْشِفُ الْكُرُبَاتِ ، وَيُغِيثُ اللَّهَفَاتِ ، وَيُنِيلُ الطَّلَبَاتِ سِوَاهُ ؟ .

فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ ، وَأَحَقُّ مَنْ شُكِرَ ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ ، وَأَحَقُّ مَنْ حُمِدَ ، وَأَنْصَرُ مَنْ ابْتُغِيَ ، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ ، وَأَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى ، وَأَرْحَمُ مَنْ اسْتُرْحِمَ ، وَأَكْرَمُ مَنْ قُصِدَ ، وَأَعَزُّ مَنِ الْتُجِئَ إِلَيْهِ وَأَكْفَى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ ، أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ [ ص: 231 ] بِوَلَدِهَا ، وَأَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ التَّائِبِ مِنَ الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إِذَا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ ثُمَّ وَجَدَهَا .

وَهُوَ الْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَالْفَرْدُ فَلَا نِدَّ لَهُ ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَنْ يُطَاعَ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَنْ يُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِهِ ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ ، وَبِتَوْفِيقِهِ وَنِعْمَتِهِ أُطِيعَ ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ وَيَعْفُو ، وَحَقُّهُ أُضِيعَ ، فَهُوَ أَقْرَبُ شَهِيدٍ ، وَأَجَلُّ حَفِيظٍ ، وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ ، وَأَعْدَلُ قَائِمٍ بِالْقِسْطِ ، حَالَ دُونَ النُّفُوسِ ، وَأَخَذَ بِالنَّوَاصِي وَكَتَبَ الْآثَارَ ، وَنَسَخَ الْآجَالَ ، فَالْقُلُوبُ لَهُ مُفْضِيَةٌ ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ ، وَالْغَيْبُ لَدَيْهِ مَكْشُوفٌ ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِلَيْهِ مَلْهُوفٌ ، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِنُورِ وَجْهِهِ ، وَعَجَزَتِ الْقُلُوبُ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ ، وَدَلَّتِ الْفِطَرُ وَالْأَدِلَّةُ كُلُّهَا عَلَى امْتِنَاعِ مِثْلِهِ وَشِبْهِهِ ، أَشْرَقَتْ لِنُورِ وَجْهِهِ الظُّلُمَاتُ ، وَاسْتَنَارَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ، وَصَلُحَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ ، لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ :

مَا اعْتَاضَ بَاذِلُ حُبِّهِ لِسِوَاهُ مِنْ عِوَضٍ وَلَوْ مَلَكَ الْوُجُودَ بِأَسْرِهِ

كَمَالُ اللَّذَّةِ فِي كَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ الْمَحَبَّةِ


وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ يَجِبُ عَلَى اللَّبِيبِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ ، وَهُوَ أَنَّ كَمَالَ اللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ وَابْتِهَاجِ الرُّوحِ تَابِعٌ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَمَالُ الْمَحْبُوبِ فِي نَفْسِهِ وَجَمَالِهِ ، وَأَنَّهُ أَوْلَى بِإِيثَارِ الْمَحَبَّةِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ .

وَالْأَمْرُ الثَّانِي : كَمَالُ مَحَبَّتِهِ ، وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي حُبِّهِ ، وَإِيثَارُ قُرْبِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ .

وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّذَّةَ بِحُصُولِ الْمَحْبُوبِ بِحَسَبِ قُوَّةِ مَحَبَّتِهِ ، فَكُلَّمَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ أَقْوَى كَانَتْ لَذَّةُ الْمُحِبِّ أَكْمَلَ ، فَلَذَّةُ الْعَبْدِ مَنِ اشْتَدَّ ظَمَؤُهُ بِإِدْرَاكِ الْمَاءِ الزُّلَالِ ، وَمَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ بِأَكْلِ الطَّعَامِ الشَّهِيِّ ، وَنَظَائِرُذَلِكَ عَلَى حَسَبِ شَوْقِهِ وَشَدَّةِ إِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ .

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَاللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ وَالْفَرَحُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ ، بَلْ هُوَ مَقْصُودُ كُلِّ حَيٍّ وَعَاقِلٍ ، إِذَا كَانَتِ اللَّذَّةُ مَطْلُوبَةً لِنَفْسِهَا فَهِيَ تُذَمُّ إِذَا أَعْقَبَتْ أَلَمًا أَعْظَمَ مِنْهَا ، أَوْ مَنَعَتْ لَذَّةً خَيْرًا مِنْهَا وَأَجَّلَ ، فَكَيْفَ إِذَا أَعْقَبَتْ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ ، وَفَوَّتَتْ أَعْظَمَ اللَّذَّاتِ [ ص: 232 ] وَالْمَسَرَّاتِ ؟ وَتُحْمَدُ إِذَا أَعَانَتْ عَلَى لَذَّةٍ عَظِيمَةٍ دَائِمَةٍ مُسْتَقِرَّةٍ لَا تَنْغِيصَ فِيهَا وَلَا نَكَدَ بِوَجْهٍ مَا ، وَهِيَ لَذَّةُ الْآخِرَةِ وَنَعِيمُهَا وَطِيبُ الْعَيْشِ فِيهَا ، قَالَ تَعَالَى : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ سُورَةُ الْأَعْلَى : 16 - 17 ] .

وَقَالَ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ لَمَّا آمَنُوا :

فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ سُورَةُ طه : 72 - 73 ] .

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ لِيُنِيلَهُمْ هَذِهِ اللَّذَّةَ الدَّائِمَةَ فِي دَارِ الْخُلْدِ ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَمُنْقَطِعَةٌ ، وَلَذَّاتُهَا لَا تَصْفُو أَبَدًا وَلَا تَدُومُ ، بِخِلَافِ الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ لَذَّاتِهَا دَائِمَةٌ ، وَنَعِيمَهَا خَالِصٌ مِنْ كُلِّ كَدَرٍ وَأَلَمٍ ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مَعَ الْخُلُودِ أَبَدًا ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أَخْفَى اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِيهَا مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، بَلْ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ النَّاصِحُ لِقَوْمِهِ :

يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 38 - 39 ] .

فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا يُسْتَمْتَعُ بِهَا إِلَى غَيْرِهَا ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ الْمُسْتَقَرُّ .

وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا مَتَاعٌ ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى لَذَّاتِ الْآخِرَةِ ، وَلِذَلِكَ خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا ، فَكُلُّلَذَّةٍ أَعَانَتْ عَلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ وَأَوْصَلَتْ إِلَيْهَا لَمْ يُذَمَّ تَنَاوُلُهَا ، بَلْ يُحْمَدُ بِحَسَبِ إِيصَالِهَا إِلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ .

رُؤْيَةُ اللَّهِ

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَأَعْظَمُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَلَذَّاتِهَا : هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ مِنْهُ ، وَالْقُرْبُ مِنْهُ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ : فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : إِنَّهُ إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ وَرَأَوْهُ ؛ نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ .

[ ص: 233 ] وَفِي النَّسَائِيِّ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ : وَأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا : كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ ، إِذَا سَمِعُوهُ مِنَ الرَّحْمَنِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَبْلَ ذَلِكَ .

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَأَعْظَمُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحَصِّلُ هَذِهِ اللَّذَّةَ هُوَ أَعْظَمُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَهِيَ لَذَّةُ مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَذَّةُ مَحَبَّتِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ جَنَّةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا الْعَالِي ، وَنِسْبَةُ لَذَّاتِهَا الْفَانِيَةِ إِلَيْهِ كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ ، فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ وَالْبَدَنَ إِنَّمَا خُلِقَ لِذَلِكَ ، فَأَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَأَلَذُّ مَا فِي الْجَنَّةِ رُؤْيَتُهُ وَمُشَاهَدَتُهُ ، فَمَحَبَّتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ قُرَّةُ الْعُيُونِ ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ ، وَبَهْجَةُ الْقُلُوبِ ، وَنَعِيمُ الدُّنْيَا وَسُرُورُهَا ، بَلْ لَذَّاتُ الدُّنْيَا الْقَاطِعَةُ عَنْ ذَلِكَ تَتَقَلَّبُ آلَامًا وَعَذَابًا ، وَيَبْقَى صَاحِبُهَا فِي الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ ، فَلَيْسَتِالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ إِلَّا بِاللَّهِ .

وَكَانَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ تَمُرُّ بِهِ أَوْقَاتٌ فَيَقُولُ : إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ : لَوْ يَعْلَمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ .

وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَحَبَّةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ ، يَقُولُ فِي حَالِهِ :
وَمَا النَّاسُ إِلَّا الْعَاشِقُونَ ذَوُو الْهَوَى فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ

وَيَقُولُ غَيْرُهُ :

أُفٍّ لِلدُّنْيَا إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ *** صَاحِبُ الدُّنْيَا مُحِبًّا أَوْ حَبِيبًا

وَيَقُولُ آخَرُ :

وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي نَعِيمِهَا *** وَأَنْتَ وَحِيدٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ عَاشِقِ

وَيَقُولُ الْآخَرُ :

اسْكُنْ إِلَى سَكَنٍ تَلَذُّ بِحُبِّهِ *** ذَهَبَ الزَّمَانُ وَأَنْتَ مُنْفَرِدُ

وَيَقُولُ الْآخَرُ :

تَشَكَّى الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي *** تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي
فَكَانَتْ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّهَا *** فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْدِي

فَكَيْفَ بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ ، وَلَيْسَ لِلْقَلْبِ لَذَّةٌ ، وَلَا نَعِيمٌ ، وَلَا فَلَاحٌ ، وَلَا حَيَاةٌ إِلَّا بِهَا ، وَإِذَا فَقَدَهَا الْقَلْبُ كَانَ أَلَمُهُ أَعْظَمَ مِنْ أَلَمِ الْعَيْنِ إِذَا فَقَدَتْ نُورَهَا ، وَالْأُذُنِ إِذَا فَقَدَتْ سَمْعَهَا ، وَالْأَنْفِ إِذَا فَقَدَ شَمَّهُ ، وَاللِّسَانِ إِذَا فَقَدَ نُطْقَهُ ، بَلْ فَسَادُ الْقَلْبِ إِذَا خَلَا مِنْ مَحَبَّةِ فَاطِرِهِ [ ص: 234 ] وَبَارِئِهِ وَإِلَهِهِ الْحَقِّ أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ الْبَدَنِ إِذَا خَلَا مِنْهُ الرُّوحُ ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ فِيهِ حَيَاةٌ ،

وَمَا لِجُرْحِ مَيِّتٍ إِيلَامُ

وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ أَعْظَمَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا هُوَ السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى أَعْظَمِ لَذَّةٍ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَذَّاتُ الدُّنْيَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ :

فَأَعْظَمُهَا وَأَكْمَلُهَا : مَا أَوْصَلَ لَذَّةَ الْآخِرَةِ ، وَيُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ اللَّذَّةِ أَتَمَّ ثَوَابٍ ، وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يُثَابُ عَلَى مَا يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ ، مِنْ أَكْلِهِ ، وَشُرْبِهِ ، وَلِبَاسِهِ ، وَنِكَاحِهِ ، وَشِفَاءِ غَيْظِهِ بِقَهْرِ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ ، فَكَيْفَ بِلَذَّةِ إِيمَانِهِ ، وَمَعْرِفَتِهِبِاللَّهِ ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ ، وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ ، وَطَمَعِهِ فِي رُؤْيَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ؟

النَّوْعُ الثَّانِي : لَذَّةٌ تَمْنَعُ لَذَّةَ الْآخِرَةِ ، وَتُعْقِبُ آلَامًا أَعْظَمَ مِنْهَا ، كَلَذَّةِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، وَيَسْتَمْتِعُونَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، كَمَا يَقُولُونَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا لَقُوا رَبَّهُمْ :

رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّرَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 128 - 129 ] .

وَلَذَّةُ أَصْحَابِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْعُلُوِّ بِغَيْرِ الْحَقِّ .

وَهَذِهِ اللَّذَّاتُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هِيَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لِيُذِيقَهُمْ بِهَا أَعْظَمَ الْآلَامِ ، وَيَحْرِمَهُمْ بِهَا أَكْمَلَ اللَّذَّاتِ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدَّمَ لِغَيْرِهِ طَعَامًا لَذِيذًا مَسْمُومًا ؛ يَسْتَدْرِجُهُ بِهِ إِلَى هَلَاكِهِ ، قَالَ تَعَالَى : سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 182 - 183 ] .

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا : كُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثْنَا لَهُمْ نِعْمَةً : حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 44 - 45 ] .

وَقَالَ تَعَالَى لِأَصْحَابِ هَذِهِ اللَّذَّةِ : أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ : 55 - 56 ] .

[ ص: 235 ] وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ : فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [ سُورَةُ التَّوْبَةِ : 55 ] .
وَهَذِهِ اللَّذَّةُ تَنْقَلِبُ آخِرًا آلَامًا مِنْ أَعْظَمِ الْآلَامِ ، كَمَا قِيلَ :
مَآرِبُ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لِأَهْلِهَا *** عَذَابًا فَصَارَتْ فِي الْمَعَادِ عَذَابًا

النَّوْعُ الثَّالِثُ : لَذَّةٌ لَا تُعْقِبُ لَذَّةً فِي دَارِ الْقَرَارِ وَلَا أَلَمًا ، وَلَا تَمْنَعُ أَصْلَ لَذَّةِ دَارِ الْقَرَارِ ، وَإِنْ مَنَعَتْ كَمَالَهَا ، وَهَذِهِ اللَّذَّةُ الْمُبَاحَةُ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ ، فَهَذِهِ زَمَانُهَا يَسِيرٌ ، لَيْسَ لِتَمَتُّعِ النَّفْسِ بِهَا قَدْرٌ ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَشْتَغِلَ عَمَّا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ مِنْهَا .

وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ.

فَمَا أَعَانَ عَلَى اللَّذَّةِ الْمَطْلُوبَةِ لِذَاتِهَا فَهُوَ حَقٌّ ، وَمَا لَمْ يُعِنْ عَلَيْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ .

الْحُبُّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ


فَهَذَا الْحُبُّ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ ، بَلْ هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْحُبِّ ، وَكَذَلِكَ حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِنَّمَا نَعْنِي الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ ، الَّتِي تَشْغَلُ قَلْبَ الْمُحِبِّ وَفِكْرَهُ وَذِكْرَهُ بِمَحْبُوبِهِ ، وَإِلَّا فَكُلُّ مُسْلِمٍ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، لَا يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ إِلَّا بِهَا ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ تَفَاوُتًا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ ، فَبَيْنَ مَحَبَّةِ الْخَلِيلَيْنِ وَمَحَبَّةِ غَيْرِهِمَا مَا بَيْنَهُمَا ، فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُلَطِّفُ وَتُخَفِّفُ أَثْقَالَ التَّكَالِيفِ ، وَتُسَخِّي الْبَخِيلَ ، وَتُشَجِّعُ الْجَبَانَ ، وَتُصَفِّي الذِّهْنَ ، وَتُرَوِّضُ النَّفْسَ ، وَتُطَيِّبُ الْحَيَاةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، لَا مَحَبَّةُالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَإِذَا بُلِيَتِ السَّرَائِرُ يَوْمَ اللِّقَاءِ ، وَكَانَتْ سَرِيرَةُ صَاحِبِهَا مِنْ خَيْرِ سَرَائِرِ الْعِبَادِ ، كَمَا قِيلَ :

سَيَبْقَى لَكُمْ فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا سَرِيرَةُ حُبٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُنَوِّرُ الْوَجْهَ ، وَتَشْرَحُ الصَّدْرَ ، وَتُحْيِي الْقَلْبَ ، وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ كَلَامِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ عَلَامَةِ حُبِّ اللَّهِ ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ، فَانْظُرْ مَحَبَّةَ الْقُرْآنِ مِنْ قَلْبِكَ ، وَالْتِذَاذَكَ بِسَمَاعِهِ أَعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ أَصْحَابِ الْمَلَاهِي وَالْغَنَاءِ الْمُطْرِبِ بِسَمَاعِهِمْ ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ مَحْبُوبًا كَانَ كَلَامُهُ وَحَدِيثُهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ : [ ص: 236 ]

إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ حُبِّي فَلِمَ هَجَرْتَ كِتَابِي ؟ أَمَا تَأَمَّلْتَ مَا فِيهِ مِنْ لَذِيذِ خِطَابِي
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُنَا لَمَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَشْبَعُ الْمُحِبُّ مِنْ كَلَامِ مَحْبُوبِهِ وَهُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِ ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : اقْرَأْ عَلَيَّ ، فَقَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ النِّسَاءِ ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَوْلَهُ : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 41 ] ، قَالَ : حَسْبُكَ الْآنَ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَذْرِفَانِ مِنَ الْبُكَاءِ .

وَكَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا وَفِيهِمْ أَبُو مُوسَى يَقُولُونَ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا ، فَيَقْرَأُ ، وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ ، فَلِمُحِبِّي الْقُرْآنِ - مِنَ الْوَجْدِ ، وَالذَّوْقِ ، وَاللَّذَّةِ ، وَالْحَلَاوَةِ ، وَالسُّرُورِ - أَضْعَافُ مَا لِمُحِبِّي السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ ، فَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ ، ذَوْقَهُ ، وَوَجْدَهُ ، وَطَرَبَهُ ، وَتَشَوُّقَهُ إِلَى سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ دُونَ سَمَاعِ الْآيَاتِ ، وَسَمَاعِ الْأَلْحَانِ دُونَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ ، كَمَا قِيلَ :

تُقْرَأُ عَلَيْكَ الْخَتْمَةُ وَأَنْتَ جَامِدٌ كَالْحَجَرِ ، وَبَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ يُنْشَدُ تَمِيلُ كَالسَّكْرَانِ .

فَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى فَرَاغِ قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ ، وَتَعَلُّقِهِ بِمَحَبَّةِ سَمَاعِ الشَّيْطَانِ ، وَالْمَغْرُورُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ .

فَفِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرَ السَّائِلُ مِنْ فَوَائِدِ الْعِشْقِ وَمَنَافِعِهِ ، بَلْ لَا حُبَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنْفَعَ مِنْهُ ، وَكُلُّ حُبٍّ سِوَى ذَلِكَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يُعِنْ عَلَيْهِ وَيَسُقِ الْمُحِبَّ إِلَيْهِ .

مَحَبَّةُ الزَّوْجَاتِ


وَأَمَّا مَحَبَّةُ الزَّوْجَاتِ : فَلَا لَوْمَ عَلَى الْمُحِبِّ فِيهَا بَلْ هِيَ مِنْ كَمَالِهِ ، وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ : [ ص: 237 ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [ سُورَةُ الرُّومِ : 21 ] .

فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ سَكَنًا لِلرَّجُلِ ، يَسْكُنُ قَلْبُهُ إِلَيْهَا ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا خَالِصَ الْحُبِّ ، وَهُوَ الْمَوَدَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالرَّحْمَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عُقَيْبَ ذِكْرِهِ مَا أُحِلَّ لَنَا مِنَ النِّسَاءِ وَمَا حُرِّمَ مِنْهُنَّ : يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 26 - 28 ] .

ذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ : كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى النِّسَاءِ لَمْ يَصْبِرْ .

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً ، فَأَتَى زَيْنَبَ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا ، وَقَالَ : إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ فَوَائِدَ :

مِنْهَا : الْإِرْشَادُ إِلَى التَّسَلِّي عَنِ الْمَطْلُوبِ بِجِنْسِهِ ، كَمَا يَقُومُ الطَّعَامُ مَكَانَ الطَّعَامِ ، وَالثَّوْبُ مَقَامَ الثَّوْبِ .

وَمِنْهَا : الْأَمْرُ بِمُدَاوَاةِ الْإِعْجَابِ بِالْمَرْأَةِ الْمُوَرِّثِ لِشَهْوَتِهَا بِأَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ ، وَهُوَ قَضَاءُ وَطَرِهِ مِنْ أَهْلِهِ ، وَذَلِكَ يَنْقُضُ شَهْوَتَهُ لَهَا ، وَهَذَا كَمَا أَرْشَدَ الْمُتَحَابِّينَ إِلَى النِّكَاحِ ، كَمَا فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَرْفُوعًا : لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابِّينَ مِثْلُ النِّكَاحِ .

فَنِكَاحُ الْمَعْشُوقَةِ هُوَ دَوَاءُ الْعِشْقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ دَوَاءً شَرْعًا ، وَقَدْ تَدَاوَى بِهِ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَرْتَكِبْ نَبِيُّ اللَّهِ مُحَرَّمًا ، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَضَمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ لِمَحَبَّتِهِ لَهَا ، وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ بِحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ ، وَلَا يَلِيقُ بِنَا الْمَزِيدُ عَلَى هَذَا .

وَأَمَّا قِصَّةُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ : فَزَيْدٌ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَمْ تُوَافِقْهُ ، وَكَانَ يَسْتَشِيرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِرَاقِهَا ، وَهُوَ يَأْمُرُهُ بِإِمْسَاكِهَا ، فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مُفَارِقُهَا لَا بُدَّ ، فَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا إِذَا فَارَقَهَا زَيْدٌ ، وَخَشِيَ مَقَالَةَ النَّاسِ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ زَوْجَةَ ابْنِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَبَنَّى زَيْدًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُشَرِّعَ شَرْعًا عَامًّا فِيهِ مَصَالِحُ عِبَادِهِ ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدٌ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ ، أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ ، فَجَاءَ زَيْدٌ وَاسْتَدْبَرَ [ ص: 238 ] الْبَابَ بِظَهْرِهِ ، وَعَظُمَتْ فِي صَدْرِهِ لَمَّا ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهَا مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ : يَا زَيْنَبُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُكِ ، فَقَالَتْ : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي ، وَقَامَتْ إِلَى مِحْرَابِهَا فَصَلَّتْ ، فَتَوَلَّى اللَّهُ عِزَّ وَجَلَّ نِكَاحَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ ، وَعَقَدَ النِّكَاحَ لَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ ، وَجَاءَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 37 ] .

فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَقْتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا ، فَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ، وَتَقُولُ : أَنْتُنَّ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، فَهَذِهِ قِصَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ زَيْنَبَ .

وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ حُبِّبَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ ، لَا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ : حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ ، زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : أَصْبِرُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ ، وَقَدْ حَسَدَهُ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا : مَا هَمَّهُ إِلَّا النِّكَاحُ ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَافَحَ عَنْهُ ، فَقَالَ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 54 ] .

وَهَذَا خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ كَانَ عِنْدَهُ سَارَّةُ أَجْمَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، وَأَحَبَّ هَاجَرَ وَتَسَرَّى بِهَا .

وَهَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً ، فَأَحَبَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَتَزَوَّجَهَا فَكَمَّلَ الْمِائَةَ ، وَهَذَا سُلَيْمَانُ ابْنُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَطُوفُ فِي اللَّيْلَةِ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً .

وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَ عَنْ خَدِيجَةَ : إِنِّي رُزِقْتُ حُبَّهَا .

فَمَحَبَّةُ النِّسَاءِ مِنْ كَمَالِ الْإِنْسَانِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ يَوْمَ جَلُولَاءَ جَارِيَةٌ كَأَنَّ عُنُقَهَا إِبْرِيقٌ مِنْ فِضَّةٍ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَمَا صَبَرْتُ عَنْهَا أَنْ قَبَّلْتُهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ ، وَبِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْمَسْبِيَّةِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ انْفِسَاخَ الْمِلْكِ لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمَسْبِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ ، فَقَدْ يَنْفَسِخُ فِيهَا الْمِلْكُ ، فَيَكُونُمُسْتَمْتِعًا بِأَمَةِ غَيْرِهِ .

[ ص: 239 ] وَقَدْ شَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَاشِقٍ أَنْ تُوَاصِلَهُ مَعْشُوقَتُهُ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ فَأَبَتْ ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُغِيثٍ وَبَرِيرَةَ لَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي خَلْفَهَا وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَوْ رَاجَعْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ : أَتَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : لَا ، إِنَّمَا أَشْفَعُ ، فَقَالَتْ : لَا حَاجَةَ لِي بِهِ ، فَقَالَ لِعَمِّهِ : يَا عَبَّاسُ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيَرَةَ ، وَمِنْ بُغْضِهَا لَهُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ حُبَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ .

وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَاوِي بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسْمِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ يَعْنِي فِي الْحُبِّ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 129 ] ، يَعْنِي فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ .

وَلَمْ يَزَلِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالرُّحَمَاءُ مِنَ النَّاسِ يَشْفَعُونَ لِلْعُشَّاقِ إِلَى مَعْشُوقِهِمُ الْجَائِزِ وَصْلُهُنَّ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِغُلَامٍ مِنَ الْعَرَبِ وُجِدَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِاللَّيْلِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا قِصَّتُكَ ؟ قَالَ : لَسْتُ بِسَارِقٍ ، وَلَكِنِّي أَصْدُقُكَ :

تَعَلَّقْتُ فِي دَارِ الرِّيَاحِيِّ خُودَةً يَذِلُّ *** لَهَا مِنْ حُسْنِ مَنْظَرِهَا الْبَدْرُ
لَهَا فِي بَنَاتِ الرُّومِ حُسْنٌ وَمَنْظَرُ *** إِذَا افْتَخَرَتْ بِالْحُسْنِ خَافَتْهَا الْفَخْرُ
فَلَمَّا طَرَقْتُ الدَّارَ مِنْ حَرِّ مُهْجَتِي *** أَبَيْتُ وَفِيهَا مِنْ تَوَقُّدِهَا الْجَمْرُ
تَبَادَرَ أَهْلُ الدَّارِ بِي ثُمَّ صَيَّحُوا *** هُوَ اللِّصُّ مَحْتُومًا لَهُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ

فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شِعْرَهُ ، رَقَّ لَهُ ، وَقَالَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ رَبَاحٍ : اسْمَحْ لَهُ بِهَا ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، سَلْهُ مَنْ هُوَ ؟ فَقَالَ : النَّهَّاسُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ : خُذْهَا فَهِيَ لَكَ .

وَاشْتَرَى مُعَاوِيَةُ جَارِيَةً فَأُعْجِبَ بِهَا إِعْجَابًا شَدِيدًا ، فَسَمِعَهَا يَوْمًا تُنْشِدُ أَبْيَاتًا مِنْهَا :

وَفَارَقْتُهُ كَالْغُصْنِ يَهْتَزُّ فِي الثَّرَى *** طَرِيرًا وَسِيمًا بَعْدَ مَا طَرَّ شَارِبُهُ

فَسَأَلَهَا ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا تُحِبُّ سَيِّدَهَا ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ وَفِي قَلْبِهِ مِنْهَا .
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي رَبِيعَةَ أَنَّ زُبَيْدَةَ قَرَأَتْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ عَلَى حَائِطٍ :

أَمَا فِي عِبَادِ اللَّهِ أَوْ فِي إِمَائِهِ *** كَرِيمٌ يُجْلِي الْهَمَّ عَنْ ذَاهِبِ الْعَقْلِ
لَهُ مُقْلَةٌ أَمَّا الْأَمَاقِي قَرِيحَةٌ *** وَأَمَّا الْحَشَا فَالنَّارُ مِنْهُ عَلَى رِجْلِ

فَنَذَرَتْ أَنْ تَحْتَالَ لِقَائِلِهَا إِنْ عَرَفَتْهُ حَتَّى تَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُحِبُّهُ ، فَبَيْنَا هِيَ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، [ ص: 240 ] إِذْ سَمِعَتْ مَنْ يُنْشِدُهُمَا ، فَطَلَبَتْهُ ، فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَهُمَا فِي ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ نَذَرَ أَهْلُهَا أَنْ لَا يُزَوِّجُوهَا مِنْهُ ، فَوَجَّهَتْ إِلَى الْحَيِّ ، وَمَا زَالَتْ تَبْذُلُ لَهُمُ الْمَالَ حَتَّى زَوَّجُوهَا مِنْهُ ، وَإِذَا الْمَرْأَةُ أَعْشَقُ لَهُ مِنْهُ لَهَا ، فَكَانَتْ تَعُدُّهُ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهَا ، وَتَقُولُ : مَا أَنَا بِشَيْءٍ أَسَرَّ مِنِّي مِنْ جَمْعِي بَيْنَ ذَلِكَ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ .

وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ : وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ يَتَحَابَّانِ ، فَكَتَبَ الْغُلَامُ إِلَيْهَا يَوْمًا :

وَلَقَدْ رَأَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّمَا *** عَاطَيْتِنِي مِنْ رِيقِ فِيكِ الْبَارِدِ
وَكَأَنَّ كَفَّكِ فِي يَدِي وَكَأَنَّنَا *** بِتْنَا جَمِيعًا فِي فِرَاشٍ وَاحِدِ
فَطَفِقْتُ يَوْمِي كُلَّهُ مُتَرَاقِدًا *** لِأَرَاكِ فِي نَوْمِي وَلَسْتُ بِرَاقِدِ
فَأَجَابَتْهُ الْجَارِيَةُ :
خَيْرًا رَأَيْتَ وَكُلُّ مَا أَبْصَرْتَهُ *** سَتَنَالُهُ مِنِّي بِرَغْمِ الْحَاسِدِ
إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مُعَانِقِي *** فَتَبِيتُ مِنِّي فَوْقَ ثَدْيٍ نَاهِدِ
وَأَرَاكَ بَيْنَ خَلَاخِلِي وَدَمَالِجِي *** وَأَرَاكَ فَوْقَ تَرَائِبِي وَمَجَاسِدِي

فَبَلَغَ سُلَيْمَانَ ذَلِكَ فَأَنْكَحَهَا الْغُلَامَ وَأَحْسَنَ حَالَهُمَا عَلَى فَرْطِ غَيْرَتِهِ .

وَقَالَ جَامِعُ بْنُ بِرْخِيَّةَ : سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ مُفْتِي الْمَدِينَةِ : هَلْ فِي حُبٍّ دَهَمَنَا مِنْ وِزْرٍ ؟

فَقَالَ سَعِيدٌ : إِنَّمَا تُلَامُ عَلَى مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الْأَمْرِ ، فَقَالَ سَعِيدٌ : وَاللَّهِ مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ عَنْ هَذَا ، وَلَوْ سَأَلَنِي مَا كُنْتُ أُجِيبُ إِلَّا بِهِ .


أَقْسَامُ عِشْقِ النِّسَاءِ

فَعِشْقُ النِّسَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ ، وَهُوَ عِشْقُ امْرَأَتِهِ وَجَارِيَتِهِ ، وَهَذَا الْعِشْقُ نَافِعٌ ؛ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى الْمَقَاصِدِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ لَهَا النِّكَاحَ ، وَأَكَفُّ لِلْبَصَرِ وَالْقَلْبِ عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَلِهَذَا يُحْمَدُ هَذَا الْعَاشِقُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَعِنْدَ النَّاسِ .

وَعِشْقٌ : هُوَ مَقْتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَبُعْدٌ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَهُوَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَهُوَ عِشْقُ الْمُرْدَانِ ، فَمَا ابْتُلِيَ بِهِ إِلَّا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ ، وَطُرِدَ عَنْ بَابِهِ ، وَأُبْعِدَ قَلْبُهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجُبِ الْقَاطِعَةِ عَنِاللَّهِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِذَا سَقَطَ الْعَبْدُ مِنْ عَيْنِ [ ص: 241 ] اللَّهِ ، ابْتَلَاهُ بِمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي جَلَبَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ مَا جَلَبَتْ ، فَمَا أُتُوا إِلَّا مِنْ هَذَا الْعِشْقِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سُورَةُ الْحِجْرِ : 72 ] .

وَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءِ : الِاسْتِعَانَةُ بِمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ، وَصِدْقُ اللَّجَأِ إِلَيْهِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِهِ ، وَالتَّعْوِيضُ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ ، وَالتَّفَكُّرُ فِي الْأَلَمِ الَّذِي يُعْقِبُهُ هَذَا الْعِشْقُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي تَفُوتُهُ بِهِ ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ ، وَحُصُولُ أَعْظَمِ مَكْرُوهٍ ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ نَفْسُهُ عَلَى هَذَا وَآثَرَتْهُ ، فَلْيُكَبِّرْ عَلَى نَفْسِهِ تَكْبِيرَ الْجِنَازَةِ ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ .

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْعِشْقُ الْمُبَاحُ ، وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، كَعِشْقِ مَنْ وُصِفَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ ، أَوْ رَآهَا فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، فَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا ، وَلَمْ يُحْدِثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ مَعْصِيَةً ، فَهَذَا لَا يُمْلَكُ وَلَا يُعَاقَبُ ، وَالْأَنْفَعُ لَهُ مُدَافَعَتُهُ ، وَالِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُ ، وَيَجِبُ الْكَتْمُ وَالْعِفَّةُ وَالصَّبْرُ فِيهِ عَلَى الْبَلْوَى ، فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيُعَوِّضُهُ عَلَى صَبْرِهِ لِلَّهِ وَعِفَّتِهِ ، وَتَرْكِهِ طَاعَةَ هَوَاهُ ، وَإِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ .


أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِشْقِ



وَالنَّاسُ فِي الْعِشْقِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ :

مِنْهُمْ : مَنْ يَعْشَقُ الْجَمَالَ الْمُطْلَقَ ، وَقَلْبُهُ يَهِيمُ فِي كُلِّ وَادٍ ، لَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُرَادٌ .

وَمِنْهُمْ : مَنْ يَعْشَقُ الْجَمَالَ الْمُقَيَّدَ ، سَوَاءٌ طَمِعَ فِي وِصَالِهِ أَوْ لَا .

وَمِنْهُمْ : مَنْ لَا يَعْشَقُ إِلَّا مَنْ يَطْمَعُ فِي وِصَالِهِ .

وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ تَفَاوُتٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ .

فَعَاشِقُ الْجَمَالِ الْمُطْلَقِ ، يَهِيمُ قَلْبُهُ فِي كُلِّ وَادٍ ، وَلَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُرَادٌ :
فَيَوْمًا بِحَزْوَى ، وَيَوْمًا بِالْعَقِيقِ وَبِالْ عَذِيبِ يَوْمًا وَيَوْمًا بِالْخُلَيْصَاءِ وَتَارَةً يَنْتَحِي نَجْدًا وَآوِنَةً
شِعْبَ الْعَقِيقِ وَطَوْرًا قَصْرَ تَيْمَاءَ
فَهَذَا عِشْقُهُ أَوْسَعُ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ كَثِيرُ التَّنَقُّلِ :

يَهِيمُ بِهَذَا ثُمَّ يَعْشَقُ غَيْرَهُ **** وَيَسْلَاهُمْ مِنْ وَقْتِهِ حِينَ يُصْبِحُ

وَعَاشِقُ الْجَمَالِ الْمُقَيَّدِ أَثْبَتُ عَلَى مَعْشُوقِهِ ، وَأَدْوَمُ مَحَبَّةً لَهُ ، وَمَحَبَّتُهُ أَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ الْأَوَّلِ ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي وَاحِدٍ ، وَلَكِنْ يُضْعِفُهُمَا عَدَمُ الطَّمَعِ فِي الْوِصَالِ ، وَعَاشِقُ الْجَمَالِ الَّذِي يُطْمَعُ فِي وِصَالِهِ أَعْقَلُ الْعُشَّاقِ وَأَعْرَفُهُمْ ، وَحُبُّهُ أَقْوَى لِأَنَّ الطَّمَعَ يَمُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ .



حَدِيثُ " مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ "


وَأَمَّا حَدِيثُ : " مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ " فَهَذَا يَرْوِيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ حُفَّاظُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ .

قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ : هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ مَا أُنْكِرَ عَلَى سُوَيْدٍ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ طَاهِرٍ فِي الذَّخِيرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ ، وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَعَدَّهُ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ عَلَى تَسَاهُلِهِ ، وَقَالَ أَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْهُ .

قُلْتُ : وَالصَّوَابُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، فَغَلِطَ سُوَيْدٌ فِي رَفْعِهِ .

قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ خَلَفِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَزْرَقِ عَنْ سُوَيْدٍ بِهِ ، فَعَاتَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَأَسْقَطَ ذِكْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يُسْأَلُ عَنْهُ فَلَا يَرْفَعُهُ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا كَلَامَ النُّبُوَّةِ .

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ لَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ : حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا ، حَدَّثَنَا قُطْبَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا ، فَمِنْ أَبْيَنِ الْخَطَأِ وَلَا يَحْمِلُ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَ هَذَا عِنْدَ مَنْ شَمَّ أَدْنَى رَائِحَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ ، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ مَا حَدَّثَتْ بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ ، وَلَا حَدَّثَ بِهِ عُرْوَةُ عَنْهَا ، وَلَا حَدَّثَ بِهِ هِشَامٌ قَطُّ .

وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، فَكَذِبٌ عَلَى ابْنِ الْمَاجِشُونِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَذَا ، وَلَا حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ تَرْكِيبِ بَعْضِ الْوَضَّاعِينَ ، وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ ! كَيْفَ يَحْتَمِلُ هَذَا الْإِسْنَادُ مِثْلَ هَذَا الْمَتْنِ ؟ فَقَبَّحَ اللَّهُ الْوَضَّاعِينَ .

وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عِيسَى ، عَنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَرْفُوعًا ، وَهَذَا غَلَطٌ قَبِيحٌ ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ الْخَرَائِطِيُّ ، وَوَفَاتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، فَمُحَالٌ أَنْ يُدْرِكَ شَيْخَهُ يَعْقُوبَ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ رَوَاهُ فِي كِتَابِ الِاعْتِدَالِ ، عَنْ [ ص: 243 ] يَعْقُوبَ هَذَا عَنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، وَالْخَرَائِطِيُّ هَذَا مَشْهُورٌ بِالضَّعْفِ فِي الرِّوَايَةِ ، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ .

وَكَلَامُ حُفَّاظِ الْإِسْلَامِ فِي إِنْكَارِ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْمِيزَانُ ، وَإِلَيْهِمْ يُرْجَعُ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، وَلَا صَحَّحَهُ وَلَا حَسَّنَهُ أَحَدٌ يُعَوَّلُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ ، وَيُرْجَعُ فِي التَّصْحِيحِ إِلَيْهِ ، وَلَا مَنْ عَادَتُهُ التَّسَامُحُ وَالتَّسَاهُلُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُصَفِّ نَفْسَهُ لَهُ ، وَيَكْفِي أَنَّ ابْنَ طَاهِرٍ الَّذِي يَتَسَاهَلُ فِي أَحَادِيثِ التَّصَوُّفِ ، وَيَرْوِي مِنْهَا الْغَثَّ وَالسَّمِينَ ، قَدْ أَنْكَرَهُ وَشَهِدَ بِبُطْلَانِهِ .

نَعَمِ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُنْكَرُ ذَلِكَ عَنْهُ .

وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْهُ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَيِّتِ عِشْقًا ، فَقَالَ : قَتِيلُ الْهَوَى لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا قَوَدَ .

وَرُفِعَ إِلَيْهِ بِعَرَفَاتٍ شَابٌّ قَدْ صَارَ كَالْفَرْخِ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُهُ ؟ قَالُوا : الْعِشْقُ ، فَجَعَلَ عَامَّةَ يَوْمِهِ يَسْتَعِيذُ مِنَ الْعِشْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

فَهَذَا نَفْسُ مَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ .

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَّ الشُّهَدَاءَ فِي الصَّحِيحِ ، فَذَكَرَ الْمَقْتُولَ فِي الْجِهَادِ ، وَالْمَبْطُونَ ، وَالْحَرِقَ ، وَالنُّفَسَاءَ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا ، وَالْغَرِقَ ، وَصَاحِبَ ذَاتِ الْجَنْبِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُهُ الْعِشْقُ .

وَحَسْبُ قَتِيلِ الْعِشْقِ أَنْ يَصِحَّ لَهُ هَذَا الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَصْبِرَ لِلَّهِ ، وَيَعِفَّ لِلَّهِ ، وَيَكْتُمَ لِلَّهِ ، لَكِنَّ الْعَاشِقَ إِذَا صَبَرَ وَعَفَّ وَكَتَمَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَعْشُوقِهِ ، وَآثَرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَخَوْفَهُ وَرِضَاهُ ، هَذَا أَحَقُّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ سُورَةُ النَّازِعَاتِ : 40 - 41 ] .

وَتَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ سُورَةُ الرَّحْمَنِ : 46 ] .

فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ ، رَبَّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ، أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ آثَرَ حُبَّهُ عَلَى هَوَاهُ ، وَابْتَغَى بِذَلِكَ قُرْبَهُ وَرِضَاهُ .










رد مع اقتباس
قديم 2011-05-06, 07:15   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










افتراضي

الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية










رد مع اقتباس
قديم 2011-05-06, 08:04   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
مرام94
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية مرام94
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

شكرا جزيلا لك اخي

بوركت خيرا










رد مع اقتباس
قديم 2011-05-07, 05:25   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










M001

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مرام94 مشاهدة المشاركة
شكرا جزيلا لك اخي

بوركت خيرا
عفوا و جزاك الله خيرا









رد مع اقتباس
قديم 2011-05-20, 10:05   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










افتراضي

شكرا علي المرور










رد مع اقتباس
قديم 2011-06-10, 05:55   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










افتراضي

.................................................. ....................










رد مع اقتباس
قديم 2011-07-02, 22:25   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










افتراضي

اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما










رد مع اقتباس
قديم 2011-07-02, 23:39   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
radia_32
عضو متألق
 
الصورة الرمزية radia_32
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

شكرا جزيلا لك










رد مع اقتباس
قديم 2011-07-03, 05:03   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة radia_32 مشاهدة المشاركة
شكرا جزيلا لك
عفوا
شكرا لمرورك الطيب









رد مع اقتباس
قديم 2011-08-03, 17:50   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
*ابو محمد الجزائري*
مشرف سابق
 
الأوسمة
المرتبة الاولى 
إحصائية العضو










افتراضي

اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علما










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
العشق...؟؟؟


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 12:06

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc