هذا بعضٌ مما استحضرته من ذاكرتي، "الليالي المِلاح أيام سوق الفلاح"...
السيد علي أبو جويدة له قصة فيها من الطرافة جانب، ومن العُجب جوانب.
من ناحية الأصل، يعد من فقراء الزنقة، تفوق في الدراسة، وعين بعد تخرجه مباشرة ومعفيا من أداء الخدمة الوطنية العسكرية بمديرية الفلاحة في مدينتنا، وترقى في سلالم درجاتها، حتى بلغ منصب المشرف المالي على الأموال السرية.
يتميز عن صعاليك أسرته وأبناء جلدته بالمسكن النظيف، والزوجة التلمسانية الجميلة، والغذاء الطيب المتوفر بمشروباته، وله في مظهره بالكوستيم هيبة منقطعة النظير، وفي مقاماته قطبٌ يقصده ذوو الحاجات لسخائه.
ويختفي ذات ليلة السيد علي أبو جويدة، فلا تراه عين، ولا تسمع به أذن، كأن الأرض انشقت وبلعته.
يتردد السؤال عنه في البيت والمقهى، بين الأقارب والمعارف والحساد، ولا يظفر أحدهم بجواب حاسم،ثمة غموض يكتنف الموضوع ويثير الحيرة والريب معاً، فقيل:
- إن به مرض معد خطير –والعياذ بالله- وقد أبعدته وزارة الصحة عن الاختلاط بالناس.
- لا، هو على سفر في مأمورية وزارية خاصة.
- ليس الأمر كذلك، لأني رأيته قبل مغيبه مع السحرة والدجالين، فلربما جُذب.
- الأمر سياسة يا إخواني، وتعلمون ما يفعل الأخ القائد بومدين بأمثال أبي جويدة.
فقالت عقيلته:
- ليس الرجل مريضا، ولا على سفر، ولا صلة له بالسحر ولا بالسياسة على عجرهما وبجرهما.
فقال والدي (سامحه الله):
- إذن طلقك وتزوج من المدينة.
- لا، والله، ليس ذاك من شيم علي، وأنت أدرى به مني.
فقال أحد طلبة الجامع:
- لم يبق لك إلا أن تقولي لهم الحق: "يا ناس، إن السيد علي مات".
ويظهر السيد علي أبو جويدة بعد شهرين متتابعين، فجأة كما غاب فجأة، ويتزاحم المهنئون في دار أبيه، ويفسر الرجل سر غيابه بخصام احتدم بينه وبين مسؤول كبير (مرتشٍ) في الفلاحة، تطور إلى ملاسنات فاعتداء بالأيدي والأسنان، فقُبض عليه، لكنه أصر على موقفه حتى أُفرج عليه.
ويُصدّق الأهالي ذلك، ويعُدّونه من ضرب البطولات؛ ويُحال السيد علي على التقاعد قبل ميعاده القانوني بعشرة أعوام، فيُعتبر في حومتنا شهيداً، وظهر للعيان استعداد الناس فطريا لسوء الظن بالمسؤولين.
ومع الأيام، تناقل الناس حكاية جديدة عن سر اختفاء السيد علي أبي جويدة، لا أدري كيف نشأت تلكم الحكاية، ولا من كان أول ناشر لها، ولا مدى ما تنطوي عليه من صدق أو بهتان، ورغم ذلك تنتشر وترسِخ وتنضم إلى تاريخ حارتنا.
يُقال، والله أعلم، أن السيد علي استغل مركزه المرموق كمشرف مالي على الأموال السرية بمديرية الفلاحة، فاختلس منها ثلاثة آلاف من الدنانير (يومها كانت وكانت...)، وقيل أكثر من ذلك المبلغ، وأنه ضُبط وحُقق معه واعترف. كان الموقف غاية في الدقة والحرج، فالرجل مُحيطٌ بأسماء من تُوَزَعُ عليهم الأموال السرية في جميع المواقع، وبوسعه أن يثير فضيحة شاملة تعصف بجميع العمال في مديرية الفلاحة، وقد تنتقل العدوى لجميع المديريات. فما العمل؟ طالبوه برد المبلغ نظير العفو الشامل عنه ولكنّه رفض، ألقوا عليه القبض لإرهابه ولكن لم يبال، لم يعثروا للمال على أثر، وتجنبوا تقديمه للقضاء حتى لا يبوح بالأسرار، تلقى حينها كافة التهديدات المعروفة وقتها، وكان يرد بسخرية وتحدٍ:
- مئات وألوف وملايين تُصرف على أوغاد وبائعات الهوى، فما الجريمة في أن أنال فرنكات لنفسي؟إني أرفض أن أرد "دورو" واحد، وأطالبكم بتقديمي للقضاء.
طبعا، لم يكن بوسعهم اعتقاله ولا تحمل المسؤولية أكثر من ذاك، فاتفقوا على حل وسط، أن يلتزم بالصمت إزاء الموضوع صوناً لأمانة المهنة، في مقابل إحالته على التقاعد مبكراً.
وقد اشترى الرجل قطعة أرض بائرة، وشيد فيها منزلا كبيرا، واعتُبِر منذ ذلك الوقت من أعيان حومتنا؛ وبعد سنين طويلة، اغتِيل السيد علي بمحلٍ وسط المدينة، في أحد رمضانات التسعينيات، فتبادر للأذهان عدة استفهامات، وفي ذهني سؤال واحد واضح وصريح:
- كيف أستغل وفاة السيد علي حتى أفوز بقلب ابنته جويدة؟
(كنت مراهقاً، حينها، وكانت هي، كما هي اليوم، من أجمل خلق الله).
انتهى