الحمدُ للهِ
أُمِرَ النَّبيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنْ يُبلِّغَ الدِّينَ للناسِ كافَّةً،قالَ اللهُ-سُبْحَانَهُ وتَعَالَى- وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ) سـبأ :28 .
فَصَدَعَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بما أُمِرَ بهِ،ودَعَا قَوْمَهُ ومَنْ حَوْلَهُ أولاً ،وعندما استتبَّ له الأمرُ،ودَخَلَ العَرَبُ في دينِ اللهِ أفواجاً,قامَ بدعوةِ غيرِهم,وأرسلَ الرُّسلَ, وبعثَ البُعُوثَ للمُلوكِ والأُمراءِ .
رَوَى مُسْلِمٌ (1774) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ وَإِلَى النَّجَاشِيِّ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ,يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
قال الحافظ في الفتح :
وَكَاتَبَ النَّبيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّجَاشِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ,وَصَلَّى عَلَيْهِ لَمَّا مَاتَ,ثُمَّ كَاتَبَ النَّجَاشِيَّ الَّذِي وَلِيَ بَعْده,وَكَانَ كَافِراً. أهـ .
فَبَعَثَ النَّبيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَبْدَ اللَّه بْنَ حُذَافَة إِلَى كِسْرَى , وَدِحْيَةَ إِلَى قَيْصَر ملكِ الرُّومِ، وَسَلِيطَ بْنَ عَمْروٍ إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ بالْيَمَامَةِ ,وَالْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى بِهَجَر, وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَر وَعَبَّاد اِبْنَيْ الْجَلَنْدِيِّ بِعُمَانَ, وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى اِبْنِ أَبِي شمر الْغَسَّانِيِّ , وَحَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ . وكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ فأسلمَ ، ولمَّا ماتَ صَلَّى عليهِ،ثُمَّ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ الذي تملَّكَ بعدَهُ,وبَعَثَ إليه عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ .
فدعَاهُم رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-إلى الإسلامِ,وإلى عبادةِ اللهِ وَحْدَهُ .
وانظر : "زاد المعاد" لابنِ القَيِّمِ (3/688-697),فَقَدْ ذَكَرَ نُصُوصَ كُتُبِ النَّبيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-,ومَا رَدَّ بهِ أولئكَ الملوكُ .
وكان نصُّ كتابِ رسولِ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى هِرَقْلَ ملكِ الرُّومِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ . سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى . أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ, يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ (أي أتباعه ورعاياه الذين يُتابعونَهُ عَلَى الكُفْرِ).
و{َيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(1)}. رواه البُخاريُّ (7) ومُسْلِمٌ (1773) .
ولم يؤمنْ مِنْ هؤلاءِ الملوكِ إلا النَّجاشيُّ ملكُ الحبشةِ الأولِ ، وملكُ عُمَانَ وأخوه .
وكاد هِرَقلُ أنْ يُسلِمَ ، لولا أنه خافَ على نفسِهِ مِنْ قومِهِ ،وخَافَ على ذهابِ مُلكِهِ ، وهكذا فَعَلَ الآخرونَ,آثروا الحياةَ الدُّنيا عَلَى الآخرةِ ،فخابُوا وخَسِرُوا.
فَقَدْ ثَبَتَ في البُخاريِّ ومُسْلِمٍ في الحديثِ السَّابقِ أنَّ هِرَقْلَ لمَّا سألَ أبا سُفيانَ عَنْ صفاتِ النَّبيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وما يدعُو إليه,عَرَفَ أنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقَّاً،وقال (فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ ، وسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ،وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ،لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ).
(لَتَجَشَّمْتُ) أَيْ : تَكَلَّفْتُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لا يَسْلَمُ مِنَ الْقَتْلِ إِنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-,ورُويَ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ ( أَعْرِفُ أَنَّهُ كَذَلِكَ,وَلَكِنْ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ,إِنْ فَعَلْتُ ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّوم),ورُويَ عَنْهُ–أيضاً-( وَاَللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ,وَلَكِنِّي أَخَافُ الرُّومَ عَلَى نَفْسِي,وَلَوْلا ذَلِكَ لاتَّبَعْتُهُ ) .
وذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ في"زاد المعاد"(3/694) أنَّ هِرَقْلَ لمَّا بَلَغَهُ إسلامُ النَّجاشيِّ,قال: واللهِ لولا الضَنُّ بِمُلكي(أي لولا التَّمسُّكُ بهِ),لصنعتُ كَمَا صَنَعَ .
فمنعَهُ خَوْفُهُ عَلَى نفسِهِ ومُلْكِهِ مِنَ الإسلامِ والهِجْرةِ إلى النَّبيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
لَكِنْ لَوْ تَفَطَّنَ هِرَقْلُ لِقَوْلِهِ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ ( أَسْلِمْ تَسْلَمْ),وَحَمَلَ ذلكَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛لَسَلِمَ لَوْ أَسْلَمَ مِنْ كُلِّ مَا يَخَافُهُ, وَلَكِنَّ التَّوْفِيقَ بِيَدِ اللَّهِ–تَعَالَى-. وقَدْ أسلمَ النَّجاشيُّ مَلِكُ الحبشةِ,ولم يَزُلْ مُلْكُهُ عَنْهُ .
انظر:"فتح الباري",شرح حديث رقم (7),وشرح مسلم للنَّوويِّ, حديث رقم (1773).
منقوول للفائدة المرجوّة