نوح - عليه السلام - لملك الموت:950 سنة كأنما دخلت من باب وخرجت من آخر..!
يوجد مقام النبي نوح - عليه السلام - خارج الأسوار القديمة لمدينة الكرك الأردنية، التي تبعد عن العاصمة عمان بحوالي 130 كلم، كما يقدر علماء التاريخ أن عمر الكرك يزيد عن 7700 سنة، توالى على حكمها الآراميون والآشوريون، ويعتقد أن نوحا - عليه السلام - صنع سفينته في هذا الموقع، والمكان عبارة عن غرفة مربعة تعلوها قبة جددت في العصر العثماني، ومن القديم جدا اعتبر هذا المكان مباركا، وكانت سفوح التلال المحيطة به تغطيها غابات كثيفة الأشجار تصلح لصناعة السفينة، وبقايا هذه الغابات مازالت باقية لحد الآن، والتنور الوارد في قصة نوح عهو موقع التلة وسط انشقاق أرض عميق، يختلف لونها عن لون الجبال المحيطة بها، خرج منها الماء، وأعلىهذه التلة يدعى (خربة التنور) التي وجدت عليها آثار قديمة باقية لحد الآن.
- ولما وصلنا المكان، تبادر إلى أذهاننا أن من جئنا لمعرفة تاريخه هو النبي نوح - عليه السلام - ومن أولي العزم من الرسل وقصته مع قومه وزوجته وولده العاق الذي عصى أباه.. ما نزال نلحظ أشكالها إلى اليوم في واقعنا العربي والاسلامي، وحتى تتضح الأمور يمكن أن نقول إنه في سالف العصر والزمان كان هناك قوم مؤمنون يعبدون الله وحده ويفعلون الخيرات، ماتوا فحزن عليهم الناس لصلاحهم وأخلاقهم فصنعوا بعض تماثيل لأولئك وكانوا يسمونها بهذه الأسماء: "ود. سواع. يغوث. يعوق. نسر" وَأَنِسَ الناس حالهم بهذه التماثيل وجعلوها رمزا لأولئك الصالحين، وكان أهل المدينة يعظمون هذه الصور قصدا إلىتعظيم أولئك الأموات..
- مضى الصيف وجاء الشتاء، فأدخلوا الصور إلى بيوتهم، وأخذ الجيل الثاني يعبد هذه الصور ويقولون إنها آلهة يجب السجود لها فعبدوها، حينذاك بعث الله إلى أولئك القوم النبي نوح - عليه السلام - ليرشدهم إلى الطريق المستقيم وينهاهم عن عبادة الأصنام.. فجاء نوح إلى قومه فقال لهم (اعبدوا الله مالكم من إله غيره)، فكذبوه ولم يقبلوا منه فأنذرهم بعذاب الله فقال (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) فردوا عليه (إنا لنراك في ضلال مبين) قال (ياقوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم) فتعجب القوم من كلام نوح - عليه السلام - فردوا عليه "ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك
- إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين).
- نوح يدعو قومه ليلا ونهارا
- ولكن نوحا - عليه السلام - لم ييأس منهم، بل كان يأتيهم كل صباح ومساء، ويدعوهم وينذرهم بلطف ولين.. وكان القوم إذا جاءهم نوح للدعوة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) حتى لا يسمعوا كلامه (واستغشوا ثيابهم) تغطوا بها حتى لا يروه. وكثيرا ما هاجموه، وضربوه حتى يغشى عليه! لكنّ نوحا النبي العظيم العطوف الحليم، كان إذا أفاق يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
- وفي مرات أنهكوه ضربا وصفعا، حتىجرت الدماءعن مسامعه الكريمة، وهو مع ذلك كله كان يلطف بهم، ويدعوهم إلى الله تعالى، فكانوا يقولون:لم (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)؟
- حتى علم أنه لا يفيدهم النصح، فتوجه إلى الله تعالى، ضارعا، وبين كيفية ردّهم إياه (قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا)، (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا).
- (ثم إني دعوتهم جهارا)، (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا)، (يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا).
- استهزاء القوم برسولهم
- واختلق بعض أولئك الكفار عذرا تافها.. فقالوا: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)؟ فإن أردت هدايتنا، وإعزازنا لك، فاطرد هؤلاء الأرذلين الذين آمنوا بك عن حوزتك.. فإنا لا نستطيع أن نقرن بهؤلاء فكيف نستجيب لدين يستوي فيه الشريف والوضيع، والكبير والصغير؟
- فأجابهم نوح - عليه السلام -، بلهجة كلها حنان وتذكير: (قال وما علمي بما كانوا يعملون)؟ (إن حسابهم إلا على ربّي لو تشعرون)، (وما أنا بطارد المؤمنين)! (وما أنا بطارد الذين آمنوا) وكيف أطرد جماعة آمنوا بي، وآزروني وساعدوني على نشر الدعوة؟ (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكّرون)؟ (إن أنا إلا نذير مبين) أنذر الناس على حدّ سواء، من غير فرق بين الشريف والوضيع، والغني والفقير، والكبير والصغير.
- ولما انقطع القوم علىالاحتجاج.. ولم يتمكنوا من رد الأدلة التي ذكرها نوح - عليه السلام -، أخذوا يهددونه، بالرجم بالحجارة (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين).
- وقد علم نوح - عليه السلام - أنهم لا يقبلون منطقا، ولا يهتدون، فتضرع إلى الله تعالى، في أن ينجيه من هؤلاء المعاندين (قال ربّ إن قومي كذّبون)، (فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين).
- وحيث كان نوح يخوف قومه من عذاب الله، إن أصروا على الكفر.. قال بعضهم، استهزاء: إلىمتىتهددنا بعذاب الله؟ (فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
- فأجابهم نوح: إن هذا الأمر ليس بيدي.. و (إنما يأتيكم به الله إن شاء).
- ثم توجه إليهم في تحسر، وقال:(لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم..).
- وعند ذاك توقع النصر من الله تعالى.. وانتظر الوحي ليعلم أنه ما ينبغي أن يصنع بهؤلاء القوم؟ فأوحىإليه الله تعالى:(إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون).
- غضب نوح ودعاؤه علىقومه
- وإذا تمت الحجة.. وانقطعت الأعذار، وطالت الدعوة ما يقرب من عشرة قرون، يئس نوح منهم يأسا باتا، وأشفق على أولادهم وأحفادهم أن يأخذوا طريقة الآباء في الكفر والإلحاد، فدعا إلى الله تعالى، قائلا: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا).
- وحينئذا أمره الله تعالى أن يغرس النخل فإذا أثمر نزل عليهم العذاب. وقد كان من مقتضى عدل الله تعالى أن لا يعذب طفلا صغيرا بذنوب الآباء.. فعقم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يولد لهم مولد ولم يبق لهم طفل غير مكلف.
- وفي تلك المدة شرع نوح في غرس النخل، فكان القوم يمرون به ويسخرون منه، ويستهزؤن به، قائلين: إنه شيخ قد أتىعليه تسعمائة سنة، وبعد يغرس النخل! وكانوا يرمونه بالحجارة..
- ولما بلغ النخل، وانقضت خمسون سنة، أمر نوح بقطعه.. فقالوا:إن هذا الشيخ قد خرف.. وبلغ منه الكبر مبلغه! مرّة يقول أنا رسول.. ومرّة يغرس النخل.. ومرّة يأمر بقطعة؟
- سفينة النجاة
- ولما اكتمل الأمر وصارت المدة ألف سنة إلا خمسين عاما، أوحى الله إليه بصنع السفينة (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا)، فأخذ نوح - عليه السلام - يصنع الفلك، وجبريل يعلمه كيف يصنعها.. وإذا كان من الواجب صنع سفينة تسع ملايين المخلوقات، أوحى الله إليه: أن يكون طول السفينة ألفا ومائتي ذراع، وعرضها ثمانمئة ذراع، وارتفاعها ثمانين ذراعا، فيكون الحجم سبعة ملايين، وستمائة وثمانين ألف ذراع.
- لكن نوحا - عليه السلام - سأل الله تعالى أن يعينه على صنع مثل هذه السفينة الكبيرة، قال: يارب من يعينني على اتخاذها؟ فأوحى الله إليه: ناد في قومك، من أعانني عليها، ونجر منها شيئا صار ما ينجره ذهبا وفضة، فأعانوه في صنعها. وكان محل صنع السفينة صحراء وسيعة (ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه)!
- فكان بعضهم يقول: أيها النبي، لم عدلت عن رسالتك إلى النجارة؟
- وبعضهم كان يقول:يا نوح صرت نجارا بعد النبوة؟!
- وبعضهم كان يقول: السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر؟!
- وكانوا يتضاحكون!ويتعجبون! ويرمون نوحا بالجنون والسفه.
- ويجيبهم نوح - عليه السلام - في تأدب ولين: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم)، واشتغل بالعمل جادا، حتى تم صنع السفينة.
- ثم أمر الله سبحانه نوحا أن يحمل في السفينة الذي آمنوا معه.. ومن كل ذي روح زوجين اثنين، لئلا ينقرض نسل الحيوان.. وقد كان نوح هيأ لكل صنف من أصناف الحيوان، موضعا في السفينة، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق في الماء، ولا يتمكن أن يعيش فيه.
- فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الغزال اثنين، ومن البغل اثنين، ومن الفرس اثنين، ومن الأسد اثنين، ومن النمر اثنين، ومن الفيل اثنين، ومن الكلب اثنين، ومن الدّب اثنين.. وهكذا.. وحمل من الحمام اثنين، ومن العصفور اثنين، ومن الصعوة اثنين، ومن الغراب اثنين، ومن الكركي اثنين، ومن البلبل اثنين، ومن الببغاء اثنين، ومن النسر اثنين ومن الهدهد اثنين، ومن الطاووس اثنين .. وهكذا..
- وبالجملة فقد صنع في السفينة أكبر حديقة حيوانية شاهدها العلم. وجمع في السفينة لكل حيوان من طعامه الخاص مبلغا كثيرا. هكذا شاءالله.. ونفذ مشيئته نوح - عليه السلام -.
- وحمل الذين آمنوا به، وكان عددهم ثمانين شخصا.. (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربي لغفور رحيم).
- زوجة نوح تكفر به
- وكان لنوح - عليه السلام - زوجتان، إحداهما مؤمنة، والثانية كافرة.. وكانت الزوجة الكافرة تؤذي نوحا، وتقول للناس:إن زوجي مجنون وإذا آمن أحد، أخبرت الكفار.
- وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى هذه الزوجة، حيث يقول: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين).
- ولما ركب نوح - عليه السلام - السفينة، أركب معه الزوجة المؤمنة، وترك الكافرة، فغرقت مع سائر الكفار.
- حنان النبي علىابنه
- ولما ركب نوح والذين آمنوا معه السفينة، وأركب جميع الحيوانات، كلا في موضعه.. كسفت الشمس، وأخذت السماء تمطر مطرا غزيرا، وطفقت عيون الأرض تنبع بالمياه الكثيرة (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) منصب انصبابا شديدا لا ينقطع (وفجرنا الأرض عيونا) حتى جرت المياه علىوجه الأرض (فالتقىالماء) ماءالأرض وماء السماء، حتىصار العالم كبحر كبير.
- واستمر هطول الأمطار ونبع العيون أربعين يوما، وفي تلك الأثناء، كانت السفينة تجري فوق ظهر الماء حسب هبوب الرياح، وإذا بنوح - عليه السلام - يشرف من السفينة فيرى ولده، يقع مرة، ويقوم أخرى، يريد الفرار من الغرق، فناداه: (يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)، لكن الابن العاق أبىقبول نصيحة والده الشفيق، وأجاب نوحا (قال سآوي إلىجبل يعصمني من الماء).
- فنظر إليه نوح نظر مشفق، وقال: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم)، ولكن عناد الولد، وإصراره على الكفر حال بينه وبين قبول نصح أبيه، فلم يركب السفينة، وكانت السفينة حينذاك (تجري في موج كالجبال).
- وبعد برهة من هذه المحاورة (حال بينهما) بين نوح وولده (الموج فكان من المغرقين)، وأخذت نوح - عليه السلام - الرقة على ولده، فتضرع إلى الله تعالى في نجاة ابنه الغريق، فإن الله تعالى كان قد وعده بنجاة أهله، فقال نوح - عليه السلام -: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين).
- ولكن الله تعالى، كان قد وعد نجاة أهل نوح الذين كانوا من الصالحين، ولذا أجابه: (يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح).
- بعدما غمر الماء جميع الأرض، وهلك كل كافر (قيل يا أرض ابلعي ماءك)! فغاض الماء الذي نبع من الأرض، وأوحى إلى السماء: (يا سماء اقلعي) وكُفي عن الانصباب والمطر، فانقطع المطر (واستوت) السفينة ( على الجودي) وهو جبل، أرست السفينة عليه، وأخذت المياه التي بقيت على الأرض من الأمطار، تتسرب إلىالبحار.
- وأوحى إلى نوح - عليه السلام -: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) فنزل نوح من السفينة، ونزل المؤمنون الذين كانوا معه، وبنوا مدينة، وغرسوا الأشجار، وأطلقوا الحيوانات التي كانت معهم.
- وابتدأت العمارة في الأرض، وأخذ الناس يتوالدون ويتناسلون، وأوحىالله تعالىإلىنوح:يا نوح، إنني خلقت خلقي لعبادتي، وأمرتهم بطاعتي، فقد عصوني، وعبدوا غيري واستوجبوا بذلك غضبي، فغرقتهم.
- نوح - عليه السلام - لملك الموت:950 سنة مرّت كلمح البصر أوهي أقرب..
- حينما بلغ نبي الله نوح - عليه السلام - رسالته، وأزفت ساعة الرحيل، التقاه ملك الموت وقد لبث نوح في قومه عشرة قرون إلا خمسين عاما، وسأله.. كيف وجدت الدنيا.. فرد نوح.. 950 سنة كلمح البصر أو هي أقرب بل كأني دخلت من هذا الباب وخرجت من الآخر كما جاء في بعض الروايات، وهناك عبرة على أن عمر الإنسان مهما طال، فسيأتي يوم يحمل على الأكتاف لا يكلم أحدا ولا يكلمه أحد.. فمثلما جاء الإنسان ذات مرة إلى الدنيا بقماش أبيض، يعود إلى القبر بذات لون القماش حتى حذاءه لا يرافقه معه.. فهل فهمنا مقصد حياتنا؟
- كم من الجزائريين يشبهون عصيان ابن نوح - عليه السلام -؟
- عندما نقرأ بتمعن قصة النبي نوح - عليه السلام - مع قومه وعصيان ولده الذي تكبر، ورفض دعوة والده ليركب السفينة لينجو مع أبيه، تشعر وكأن هذه الواقعة مازالت تتكرر إلى اليوم عندنا في الجزائر.
- فكم من شاب جزائري يخاصم والده، وبل يضربه حينما يأمره بالصلاة، أو ينهاه عن منكر فعله، وكم من جزائري باع حياته للشيطان، فأصبح عبدا لهواه يعبد الشيطان ولا يخشىالرحمن.
- وكم من شاب جزائري لم ينج بنفسه، وأصبح يعترض سبيل الناس ويسرقهم ويقتلهم، فيدعو عليه الضعفاء والمستضعفون بالهلاك والخسران في الدنيا والآخرة.
- وكم يقبع خلف أسوار السجون من شاب اعتدى علىأمه وأبيه وعمه وأخيه ومن يعرفهم جميعا ويريد المزيد.
- ثم نهمس في أذن كل قارئ لهذه القصة، إذا كانت فيه خصلة من خصال ابن نوح - عليه السلام -، فليدعها الآن قبل فوات الأوان.