ويقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن:
(والإسلام يحسب حساب الفطرة فلا ينكر مشقة هذه الفريضة
ولا يهون من أمرها ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطر بكراهيتها وثقلها,
فالإسلام لا يماري في الفطرة ولا يصادمها ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي
ليس إلى إنكارها من سبيل ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ويسلط عليه نوراً جديداً
إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ولكن وراءه حكمة تهون
مشقته وتسيغ مرارته وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني
القصير.. عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ويكشف
لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب
بالنفس وتشق عليها الأمور إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً ووراء المحبوب شراً,
إن العليم بالغايات البعيدة المطلع على العواقب المستورة هو الذي
يعلم وحده حيث لا يعلم الناس شيئاً من (الحقيقة)
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة
وتتفتح منافذ الرجاء ويستروح القلب في الهاجرة ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين ورضا...
هكذا يواجه الإسلام الفطرة لا منكر عليها ما يطوف
من المشاعر الطبيعية ولا مريداً لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف
ولكن مربياً لها على الطاعة ومفسحاً لها في
الرجاء لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ولترتفع
على ذاتها متطوعة لا مجبرة, ولتحس بالعطف
الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها و يعترف بمشقة
ما كتب عليها ويعذرها ويقدرها ويحد ولها بالتسامي
والتطلع والرجاء. وهكذا يربي الإسلام الفطرة فلا تمل التكليف
ولا تجزع عند الصدمة الأولى ولا تخور عند المشقة البادية ولا تخجل وتتهاوى
عند انكشاف ضعفها أمام الشدة ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها
ويمدها بعونه ويقويها وتصمم على المضي في وجه المحنة فقد يكمن
فيها الخير بعد الضر واليسر بعد العسر والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء
ولا تتهالك على ما تحب وتتلذذ فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة
وقد يكون المكروه مختبئاً خلف المحبوب, وقد يكون الهلال متربصاً
وراء المطمع البراق.
إنه منهج في التربية عجيب, منهج عميق بسيط منهج يعرف طريقه
إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة
بالحق وبالصدق لا بالإيحاء الكاذب والتمويه الخادع,
فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمراً ويكون فيه الخير
كل الخير وهو حق أن تحب النفس أمراً وتتهالك عليه
وفيه الشر كل الشر وهو الحق كل الحق
أن الله يعلم والناس لا يعلمون! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب؟
وماذا يعلم الناس عما وراء الستر المسدل؟
وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور؟!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه
عالماً آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه وتبرز أمامه
عوامل أخرى تعمل في صميم الكون وتقلب الأمور, وترتب العواقب
على غير ما كان يظنه ويتمناه وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعاً في يد القدر,
يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل
وهو راض قرير.. إنه الدخول في السلم من بابه الواسع فما تستشعر النفس
حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله.
وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها
وأن تطلب منه البرهان, إن الإذعان الواثق والرجاء الهادئ والسعي المطمئن.
هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين
آمنوا ليدخلوا فيه كافة وهو يقودهم إليه بهذا المنهج
العجيب العميق البسيط في يسر وفي هوادة وفي رخاء,
يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال,
فالسلم الحقيقي وهو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال.
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني
لا يقف عند حد القتال فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس
, ويكون من ورائه الخير, إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها
ويلقى ظلاله على أحداث الحياة جميعها, إن الإنسان
لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر).
( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم وأخبر
بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم فاستجيبوا له وانقادوا لأمره لعلكم
ترشدون هذا ما قاله بن كثير في تفسيره.
إذن البلاء وسام شرف وعز لا يعطيه الله
إلا للمؤمن أما المنافق والكافر والملحد
فهو أحقر وأحقر من ذلك حيث يجعله في هذه الدنيا مثل البهيمة
ينال فيها كل شهواته حتى يأتي في ذلك اليوم يوم الجوائز السخية
وقد استفرغ كل ماله من حق في النعيم وشهوات الدنيا فيخرج صفر اليدين.
أما المؤمن فالله يختار له ما هو خير وأبقى..
يبتليه ويبتليه ويزيد في بلائه ويضيق عليه
فإن صبر على ما قدر الله تعالى فقد نال من السعادة كمالها.
فليس الإيمان بالتحلي والتمني وليس الإيمان مجرد دعاوي.
فلابد من فحصه لمعرفة حقيقته من زيفه كما يختبرا الذهب بالنار.
وقد ذكر لنا ذلك الله تعالى في قوله:
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَثَلُ الذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَسَّتْهُمُ
البَأْسَآءُ وَالضَّرَاءُ وَزُلْزِلُوا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرُ اللهِ قَرِيبٌ ) [البقرة: ٢١٤].
-زلزلوا- كلمة تدل على شدة البلاء فالزلزال أمر رهيب يفتت الصخر والجبال,
إذن البلاء على المؤمن شديد ورهيب
لكنه لا يستطيع أن يفعل به ما يفعل الزلزال بالجبل لأن الله معه
ومن كان الله معه فلا قوة مهما بلغت تنال منه أبداً والله يقول: إن الله مع الصابرين.
هاهو الله تعالى في هذه الآية يقرر لنا حقيقة وهي أنه
ما كان شدة إلا وبعدها فرج وما كان ضيق إلا وبعده اتساع.
ولكن متى؟
لقد خلق الإنسان عجولاً يسأل متى؟ متى نصر الله؟ متى فرج الله؟