تسود في مجتمعاتنا في هذه الفترة أجواء الامتحانات في المدارس والجامعات، وتسود كالعادة محاولات ''الغش'' و''التنقال'' التي تفنن تلاميذنا في ابتكار الأساليب الأحدث والأكثر فعالية التي بوسعها قيادتهم إلى تحصيل أعلى العلامات، وذلك باستخدام طرق ''شيطانية'' خاصة مع توفر الوسائل التكنولوجية المتطورة والتي استغلها هؤلاء في الغش مع اطمئنانهم لاستحالة كشفهم من طرف الأساتذة المراقبين. يعتبر بعض الطلبة أن الغش في الامتحان تصرف طبيعي من جانب الطالب لكثافة البرنامج الدراسي ومعاناته من ضغط الامتحانات الذي يعرضه للحظات حرجة، كما أن بعض الطلبة يقيّم الغش في الامتحانات على أنه نباهة وشطارة، أو مساعدة للآخرين، وأن المراقبين هم الطرف السيئ. من جانب آخر، يصرّ التربيون على مخاطر الغش وانتشار ''النقل والتنقال'' في الامتحانات، لأنها تقضي على مصداقية الامتحان وتحرم الجهة التربوية أو التعليمية من فرصة تقييم الطالب تقييماً عادلاً ومنصفاً، إلى جانب مخاطر شيوع الغش في الامتحانات على صعيد المجتمع، إذ تسود لدى الطالب قناعة بأنه قد يستطيع تجاوز كل العقبات التي تقف في طريقه عبر الغش، كما تسود لديه مشاعر اللامبالاة بالدراسة والتحصيل العلمي، لأنه سيتمكن من النجاح عبر هذه الوسيلة. وبالرغم من كون ديننا الحنيف عموماً يحرّم الغش بكل أنواعه ومستوياته، إلا أن ذلك لا يبدو أنه يحمل أي أثر لدى كثير من الطلبة في مجتمعنا، وفي مختلف المستويات والتخصصات، فبعضهم يعتقد أن الغش المحرّم لا يشمل ذلك السائد في الامتحانات. وكثيرة هي العبارات والأمثال والأدعية التي يتداولها التلاميذ فيما بينهم والتي تدور في فلك ''التنقال'' على شاكلة ''من نقل انتقل ومن اعتمد على نفسه بقي في قسمه''، معتبرين هذا الفعل سلوكا طبيعيا حتمته منهجية التعليم الحالية المعتمدة على الكم عوض الكيف. كثافة المقررات الدراسية وعدم الاستعداد للامتحان أسباب ساهمت في انتشار ''الغش'' إن توصيف آفة الغش بالظاهرة، يعني أن قاعدة الممارسين لها اتسعت إلى أن كسرت كل الاستثناءات في ظل نظام تربوي يعتمد على أداة وحيدة لتقويم التلاميذ، حيث يجعل من الامتحان محطة عزة أو مهانة، وغاية عوض أن يكون وسيلة، وبالتالي تصبح المخاطرة والمغامرة كيفما كان الثمن، هي السبيل الذي يمكن أن يؤدي إلى النجاح، انطلاقا من هذا استطلعت ''الحوار'' وجهة نظر الطلاب والتربويين فيما يخص أسباب الغش في أقسامنا المختلفة. وفي هذا الصدد أجمع العديد من التلاميذ على أن الأسباب المباشرة للغش بالنسبة لهم، مرتبطة أساسا بطبيعة المقررات الدراسية التي تعتمد على الكم عوض الكيف، الشيء الذي يربك حساباتهم ويجعلهم يقبلون بتشجيع بعضهم البعض على الغش، وهذا مرتبط حسب ما صرحت به مجموعة منهم لـ''الحوار''، ببيداغوجية الإملاء المتداولة حاليا في مؤسساتنا التعليمية والتي يكون فيها الدارس والمدرس في سباق مع الزمن من أجل إتمام المقررات، وأصبحت بذلك علاقة الأساتذة بالتلاميذ مختصرة في السرد والشروحات السريعة للدروس عوض مناقشتها وتحليلها، ما يجعل التلميذ يفقد خيط الربط ويعجز عن التحكم في الكم الهائل من المعلومات، ويصبح بالتالي أكثر استعدادا للنقل والتدوين بدل الاستنتاج والاستنباط والفهم والتحصيل. وأمام هذا، لا يغدو التلميذ سوى آلة كاتبة يتعامل بالمثل مع الدروس المطروحة أمامه من خلال تركيزه على الاحتفاظ بـ''البضاعة'' كما هي، لردها إلى أصحابها، وفي الغالب يكون ذلك بواسطة ما نطلق عليه في عاميتنا بـ''لحجابات''، التي أصبحت مجال تنافس وإبداع بين طلابنا. وأبرز محمد (طالب جامعي)، أن ''المسؤولية في ذلك يتحملها إلى جانب التلميذ الأستاذ والمنظومة التعليمية، باعتبار أن لجوء التلميذ إلى الغش، ما هو إلا نتيجة طبيعية لضبابية المناهج وعدم فعالية بعضها، بل ماذا عسى الطالب أن يفعل في ظل استعداد غير مبني على أسس تربوية وعلمية سليمة سوى ركوب موجة الغش، وكيف يمكن له (يقول محدثنا) أن يواجه الكم الهائل من المقررات والبرامج الدراسية التي يجد صعوبة في استيعابها، بالنظر إلى الإضرابات التي يشهدها مشهدنا التعليمي، وعدم توفق العديد من الأساتذة في تلقين الدروس بشكل منهجي''، فهناك أساتذة، يقول ياسين (طالب جامعي)، ''يرفضون أي اجتهاد للطالب، ويتعاملون معه بمنطق ''بضاعتنا ترد إلينا''، وهذا ما يزيد من تخوف الطلبة، الذين يجدون أنفسهم أمام ضغط الوقت، غير قادرين على هضم محتوى المقرر، بالإضافة إلى الخوف من الأسئلة ومن التنقيط ومن الأجواء غير المتوقعة التي ستمر فيها الامتحانات''. وأكد بالإضافة إلى ذلك أن ''التلميذ يعيش في هذه الفترة حالة استنفار قصوى، يكون من نتائجها النسيان والارتباك، وهذا ما يضطر العديد من التلاميذ إلى اللجوء لتدوين بعض الدروس في أوراق صغيرة، ليس للغش ولكن للإحساس بالأمان والاطمئنان''، وفي رده على هذه الحالة، قال إطار تربوي ''إن المشكل ليس في كون المواد المعرضة كثيرا للغش هي المواد التي تعتمد على الحفظ، بل في سوء فهم وغياب التواصل بين المدرسين والتلاميذ، حيث إن كل المواد مفروض أن تلقن بمنهجية هي في حد ذاتها ''علمية''، والتنقيط عليها يعتمد على ضوابط علمية، أي أن التنقيط لا يهتم بالكم بل بالكيف. آخر صيحات المحمول.. أحدث الساعات والـ''إم بي''3 .. طرق عصرية للحصول على العلامات ابتكر التلاميذ المولعون بالتكنولوجيا والمتتبعون لمستجداتها طرقا ''شيطانية'' للغش باستخدام الوسائل الحديثة التي وفرت لهم أعلى درجات الأمان والاطمئنان، بالنظر إلى صعوبة اكتشاف أمرهم من طرف الأساتذة المراقبين، هذا ما أكده مديرو مدارس وطلاب شاهدوا زملاء لهم يستعدون لخوض الامتحانات قبل دقائق من موعدها، من خلال التأكد من سلامة الوصلات، ومستوى صوت أجهزتهم العصرية. وحسب ما ذكروه لـ''الحوار'' فإن هناك طرقاً حديثة للغش، يمارسها طلاب الثانويات وحتى الجامعات، منها الغش عن طريق استخدام الهاتف النقال، إذ يُربط الهاتف بسماعة ''بلوتوث'' صغيرة جداً توضع داخل الأذن، ولا تُرى إلا عن قرب، وبتركيز شديد، ويتصل الطالب بشخص ما، مثل صديقه، أو أي شخص آخر، لتلقينه الإجابات بكل دقة. وقال أحد الأساتذة: ''إن هناك طرقاً عدة أخرى، مثل استخدام ساعة يد متطورة من أجود الماركات لتصوير كل صفحات الكتاب، ويقلب الطالب الصفحات المخزنة على ساعة يده وهو جالس في قاعة الامتحان بسهولة. كما يمكن استخدام كاميرا دقيقة، صغيرة الحجم، لتصوير ورقة الامتحان، إذ توضع في الساعة.. وتكون متصلة بجهاز التليفون النقال، وسماعة صغيرة توضع في الأذن، إضافة إلى استخدام جهاز ''إم بي ,''3 بعد تسجيل المعلومات عليه، ولصق أوراق الغش أو ''لحجابات'' أسفل الحذاء وبين الثياب. هذا إضافة إلى ظاهرة تشويه المظهر العام للأقسام بالكتابة على الطاولات وحتى الجدران، الأمر الذي أكدته لنا ''آسيا'' طالبة جامعية قائلة: ''ينهمك عدد لابأس به من الطلبة في القسم الذي أدرس فيه في تدوين أهم المعلومات والدروس التي يتوقع أن تشتمل عليها أسئلة الامتحان، على الطاولات والجدران''. وقال ''مولود'' طالب في الاكمالية إن تبادل الأوراق والحديث أثناء الامتحان مشاهد متكررة خاصة في امتحانات مواد الحفظ الأدبية وعلى رأسها مادتا التاريخ والجغرافيا. من جهتها تحدثت الأستاذة ''جميلة'' عن دور الأستاذ المراقب داخل قاعة الامتحان والذي لابد له من فرض سيطرته وهيبته للحد من هذه الآفة الآخذة في الانتشار في أوساط الطلاب. سلوك غير تربوي حوّل التعليم إلى مهزلة ومن أجل القضاء على ظاهرة الغش، يرى جمال (أستاذ)، ''أن أسلوب الزجر والردع والعقاب الذي تمارسه الإدارة التربوية لم ولن يكون حلا لتنامي ظاهرة الغش التي تطورت بشكل ملفت، لأن المعالجة يجب أن تكون مبنية بدءا بالتركيز على المهارات والمفاهيم المهيكلة للدروس والاهتمام بالمواضيع التي تتيح للتلاميذ إمكانية التفسير والتقويم وإشراكهم في بناء الدروس وذلك بتكليفهم بتجميع الوثائق والبحث عن المعلومات''. وحتى لا نتوه في بحث مضن عن إجابات محتملة يجب علينا الإشارة إلى ضرورة الانكباب على حل معضلة التعليم ببلادنا، فالتفشي المهول لظاهرة الغش والانقطاع الدراسي والتسرب والهدر، كل هذا لا يعتبر إلا انعكاسا مرا لواقع الأزمة التعليمية التي تستوجب تعبئة شاملة، ومهما اختلفت الردود، فإن إصلاح واقع التعليم يظل مطلبا رئيسا لوقف فصول هذه المهزلة.