قال إبراهيم بن المهدي يرثي ابناً له أصيب به بالبصرة وهو واليها. وكان فيما يؤثر عنه يستحق أن يرثي وأن يوصف، وشعره هذا يستحق أن يبكي القلوب، ويستنزل الدموع لحسن لفظه، وصحة معناه، وشرف قائله، وأنه إذا سمع علم أنه عن نية صادقة. قال:نأى آخر الأيّام عنك حبيب ... فللعين سحٌّ دائمٌ وغروب
دعته نوىً لا يرتجى أوبةٌ لها ... فقلبك مسلوبٌ وأنت كئيب
يؤوب إلى أوطانه كلّ غائبٍ ... وأحمد في الغيّاب ليس يؤوب
تبدّل داراً غير داري وجيرةً ... سواي وأحداث الزّمان تنوب
أقام بها مستوطناً غير أنّه ... على طول أيّام المقام غريب
تولّى وأبقى بيننا طيب ذكره ... كباقي ضياء الشّمس حين تغيب
خلا أنّ ذا يفنى ويبلى وذكره ... بقلبي على طول الزّمان قشيب
كأن لم يكن كالدّرّ يلمع نوره ... بأصدافه لمّا تشنه ثقوب
كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضّحى ... سقاه النّدى فاهتزّ وهو رطيب
كأن لم يكن زين الفناء ومعقل النّس ... اء إذا يومٌ يكون عصيب
وريحان قلبي كان حين أشمّه ... ومؤنس قصري كان حين أغيب
قليلاً من الأيّام لم يرو ناظري ... بها منه حتّى أعلقته شعوب
كظلّ سحابٍ لم يقم غير ساعةٍ ... إلى أن أطاحته فطاح جنوب
أو الشّمس لمّا عن غمامٍ تحسّرت ... مساءً وقد ولّت وحان غروب
كأنّي به إذ كنت في النّوم حالمٌ ... نفى لذّة الأحلام عنه هبوب
فلست خطوب الدّهر أحفل بعده ... ولو كان ما منه الوليد يشيب
ولا لي شيءٌ عنه ما عشت لذّةٌ ... ولو نلت ما هبّت عليه هبوب
وكان نصيب العين من كلّ لذّةٍ ... فأضحى وما للعين منه نصيب
وكان وقد آزى الرجال بعقله ... فإن قال قولاً قال وهو مصيب
بما تتهاداه الرّكاب لحسنه ... ويفحم منه الكهل وهو أريب
وكانت يدي ملأى به ثمّ أصبحت ... بعدل إلهي وهي منه سليب
وكنت به في النّائبات إذا عرت ... وظهري ممتدّ القناة صليب
بحال الّذي يجتاحه السّيل بغتةً ... فيفتقد الأدنين وهو حريب
جمعت أطبّاء العراق فلم يصب ... دواءك منهم في البلاد طبيب
ولم يملك الآسون دفعاً لمهجةٍ ... عليها لأشراك المنون رقيب
سأبكيك ما أبقت دموعي والبكا ... بعينيّ ماءً يا بنيّ يجيب
وما لاح نجمٌ أو تغنّت حمامةٌ ... أو اخضرّ في فرع الأراك قضيب
وأضمر إن أنفدت دمعي لوعةً ... عليك لها تحت الضّلوع وجيب
حياتي ما كانت حياتي فإن أمت ... ثويت وفي قلبي عليك ندوب
يعزّ عليّ أن تنالك ذرّةٌ ... يمسّك منها في الممرّ دبيب
وما زال إشفاقي عليك عشيّةً ... حواك بها بعد النّعيم قليب
وما زال إشفاقي عليك عشيةً ... وسادك فيها جندلٌ وجبوب
فما لي إلاّ الموت بعدك راحةٌ ... وليس لنا في العيش بعدك طيب
قصمت جناحي بعدما هدّ منكبي ... أخوك، ورأسي قد علاه مشيب
فأصبحت في الهلاّك إلاّ حشاشةً ... تذاب بنار الشّوق فهي تذوب
تولّيتما في حجّةٍ فتركتما ... صدىً يتولّى تارةً ويثوب
ولا رزء إلاّ دون رزئك رزؤه ... ولو فتّتت حزناً عليك قلوب
وإنّي وإن قدّمت قبلي لعالمٌ ... بأني وإن أبطأت منك قريب
وإنّ صباحاً نلتقي في مسائه ... صباحٌ إلى قلبي الغداة حبيب