إن الحديث عن القضاء الإداري ودوره في حماية مبدا مشروعية الأعمال الإدارية يفرض أولا التطرق لهذا المبدأ وإبراز أهميته القانونية. لذا فضلنا التطرق أولا لمبدأ المشروعية اعتبارا أن كل المنازعات الإدارية تدور حوله. وأن دور القاضي الإداري هو الحافظ الأمين على هذا المبدأ وهو من يتصدى لكل محاولة إدارية من شانها المساس بهذا المبدأ أو النيل منه.
وقسمنا هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
المطلب الأول
تعريف مبدأ المشروعية
إن السمة البارزة للدولة الحديثة أنها دولة قانونية تسعى إلى فرض حكم القانون على جميع الأفراد في سلوكهم ونشاطهم، وكذلك فرضه على كل هيئات الدولة المركزية و المحلية وسائر المرافق العامة. ومن هنا تبرز العلاقة بين مفهوم الدولة القانونية و مبدأ المشروعية ، ذلك أن إلزام الحكام و المحكومين بالخضوع لقواعد القانون، و تحكم هذا الأخير في تنظيم و ضبط سائر التصرفات و النشاطات، لهو مظهر يؤكد قانونية الدولة أو وجود ما يسمى بدولة القانون .
ويقصد بمبدأ المشروعية الخضوع التام للقانون سواء من جانب الأفراد أو من جانب الدولة. و هو ما يعبر عنه بخضوع الحاكمين و المحكومين للقانون و سيادة هذا الأخير و علو أحكامه و قواعده فوق كل إرادة سواء إرادة الحاكم أو المحكوم.*
إذ لا يكفي أن يخضع الأفراد و حدهم للقانون في علاقاتهم الخاصة، بل من الضروري أن تخضع له أيضا الهيئات الحاكمة في الدولة على نحو تكون تصرفات هذه الهيئات و أعمالها و علاقاتها المختلفة متفقة مع أحكام القانون و ضمن إطاره.*
وإذا كانت دراسات تاريخ القانون قد أثبتت أن الأفراد منذ قيام الدولة، و من قديم الزمان يخضعون للقانون على الوضع الغالب، بحكم تبعيتهم لسلطة تملك أمرهم، و توقع عليهم الجزاء عند المخالفة ، غير أن خضوع الهيئة الحاكمة للقانون لم يكن أمرا مسلما به في العصور القديمة، و التي أعفت الدولة نفسها من الخضوع للقانون محاولة فرضه بالنسبة للأفراد .
ويعد مبدأ المشروعية أحد أهم مبادئ القانون على الإطلاق، لما له من أثر على صعيد علم القانون ككل بمختلف فروعه و أقسامه العامة و الخاصة . وكلما ظهر مبدأ المشروعية و بدت آثاره و معالمه و نتائجه كلما اختفت مظاهر الدولة البوليسية.
ذلك أن مبدأ المشروعية يمثل الضابط العام للدولة في علاقاتها المختلفة مع الأفراد. فلا يجوز لها طبقا لهذا المبدأ أن تأتي سلوكا مخالفا للقانون بإصدار قرار غير مشروع.وإن بادرت إلى فعله تعين على القضاء بعد رفع الأمر إليه التصريح بإلغاء هذا القرار محافظة على دولة القانون.
و يمثل مبدأ المشروعية من جهة أخرى صمام آمان بالنسبة للحقوق و حريات الأفراد. و هو الحصن الذي يكفل صيانتها و حمايتها من كل اعتداء . فلو أخذنا على سبيل المثال حق الملكية و هو حق من حقوق الإنسان كفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة17 منه. و ثبته العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية. و هو حق ثابت أيضا في دساتير الدول على اختلاف نظامها السياسي، و مكرس في القوانين المدنية ، فإن الاعتداء على هذا الحق بمباشرة إجراء نزع الملكية للمنفعة العامة من قبل أحد الجهات الإدارية المخولة و دون مراعاة جوانب إجرائية ، فإن قرار النزع على النحو صدر مخالفا لما قرره القانون، بما يصح معه نعته بالقرار الغير مشروع . ومآل القرار الغير مشروع هو البطلان و الإلغاء إما من جانب سلطة إدارية أو سلطة قضائية.*
ومن هنا تبين لنا أنه لولا مبدأ المشروعية لضاع حق الملكية، بل و كل حق أي كانت طبيعته.لذلك ذهب الفقه في فرنسا إلى إبراز دور القاضي الإداري في الربط بين القرار المطعون فيه، وبين القواعد القانونية باعتباره الحارس الأمين لقواعد القانون من أن تنتهك نتيجة عمل من أعمال الإدارة.*
و لا يكفل مبدأ المشروعية حماية حقوق الأفراد فقط ، بل يحمي أيضا و يصون حرياتهم. ذلك أن السلطة الإدارية إن كان معترف لها في كل الأنظمة القانونية باتخاذ إجراءات الضبط للمحافظة على النظام العام ، فإن ممارسة هذه السلطة مقيد بمراعاة مبدأ المشروعية . فلا يجوز للسلطة الإدارية اتخاذ إجراءات الضبط خارج إطار و دواعي النظام العام. فإن ثبت ذلك تعين النطق بإلغاء القرار الإداري، إما من جانب القضاء بعد رفع الأمر إليه، أو من جانب السلطة الإدارية ( الولائية أو الرئاسية) .*
وتأسيسا على ما تقدم فإن دولة القانون تبدأ بتكريس مبدأ المشروعية في أرض الواقع على نحو يلزم كل هيئات الدولة بمراعاة حكم القانون في نشاطاتها و تصرفاتها و في علاقاتها المختلفة . إذ ما الفائدة أن ينظم القانون علاقات و روابط الأفراد و تتحرر هيئات الدولة من الخضوع إليه. إن مثل هذا الأمر إذا كرس في أرض الواقع لنجم عنه العودة بالمجتمع البشري إلى مراحله الأولى و التي سادت فيها الدولة البوليسية. من أجل ذلك ذهبت الدراسات الدستورية إلى تقسيم الدول من حيث خضوعها لمبدأ المشروعية إلى حكومات و دول استبدادية و أخرى قانونية.
ولم يخفي مجلس الدولة الفرنسي في العديد من قراراته وجود علاقة متينة بين دعوى الإلغاء وبين مبدأ المشروعية. فهذه الدعوى بالتحديد هي تمكن القاضي الإداري من أن يمارس دوره في المحافظة على مبدأ المشروعية وسلامة الأعمال الإدارية وملائمتها لقوانين الدولة. من ذلك قراره بتاريخ 17 فبراير 1950 القضية رقم 86949.
وتكريسا لمبدأ المشروعية في أرض الواقع أقر المشرع المصري مبدأ خضوع الإدارة للقانون في مختلف قوانين مجلس الدولة كان آخرها القانون رقم 47 لسنة 1972. حيث قضت المادة العاشرة منه بأن يختص القضاء بإلغاء القرارات الإدارية المخالفة لمبدأ المشروعية وكذالك التعويض عن الأضرار الناجمة عنها. وعلى ضوء ذلك أكد القضاء المصري بسط رقابته على أعمال الإدارة حتى في حالات الضرورة.إذ ذهبت المحكمة الإدارية في حكم لها بجلسة 27/3/2004 الطعن 7943/46 ق أوضحت من خلاله أن وصف الخطر الذي يبيح استخدام السلطات المنصوص عليها في المادة 74 من الدستور لم يكن محقا وقت صدور القرار المطعون فيه بإلغاء ترخيص إحدى المجلات والتحفظ على أموالها ومقرها وبالتالي ما كان يسوغ اتخاذ الإجراء الوارد بها.*
وليس المشرع المصري فقط هو من أقر خضوع الإدارة في أعمالها لرقابة القضاء،بل المشرع الجزائري، والتونسي، والمغربي، وسائر التشريعات العربية الأخرى.كما تبنت مبدأ خضوع الإدارة للقانون مختلف الأنظمة القانونية على اختلاف طبيعة نظامها القضائي.
المطلب الثاني
نطاق مبدأ المشروعية و مجاله
أولا: من حيث تدرج القواعد*
لا يقصد بمبدأ المشروعية خضوع الدولة للقانون بمعناه الضيق كمجموعة نصوص رسمية صادرة عن السلطة التشريعية ، وإنما المقصود به خضوعها للقانون بالمفهوم العام و الشامل و الواسع الذي يضم مختلف القواعد القانونية في الدولة، بدءا بالقواعد الدستورية و القواعد الواردة في المعاهدات و الاتفاقيات الدولية و قواعد القانون العادي بل و نصوص التنظيم أو ما يطلق عليه باللوائح.
و يمتد سريان مبدأ المشروعية ليشمل كل مصادر المشروعية من قواعد مكتوبة و غير مكتوبة . فيشمل التشريع لما يحتويه من قواعد متدرجة من حيث القوة و الإلزام من قواعد الدستور و المعاهدات و التشريع العادي و اللوائح.
وتأكيدا لذلك ذهبت محكمة القضاء الإداري في مصر إلى القول أن ما انعقد عليه الإجماع من أن الدولة إن كان لها دستور مكتوب وجب عليها التزامه في تشريعها وفي قضائها وفيما تمارسه من سلطات إدارية، وتعين اعتبار الدستور فيما يشمل عليه من نصوص وفيما ينطوي عليه من مبادىء هو القانون الأعلى الذي يسمو على جميع القوانين والدولة في ذلك إنما تلتزم أصلا من أصول الحكم الديمقراطي هو الخضوع لمبدأ سيادة التشريع. وهذا ما قضت به محكمة القضاء الإداري في مصر في حكم تاريخي صادر عنها في 21 يونيه 1952 الطعن رقم 109. . وذات الأمر أكدته محكمة العدل العليا في الأردن في قرارها رقم 63/66 وقرارها 107/64 .
ولم تحد المحكمة الإدارية في تونس عن المبادىء السابقة في أحكام وقرارات كثيرة منها القرار الصادر بتاريخ 2 ديسمبر 1980 القضية عدد 365 تس. والقرار التعقيبي بتاريخ 14 جويلية 1983 القضية عدد 212. والقرار التعقيبي بتاريخ 26 مايو 1983 القضية عدد 191 .
كما يشمل مبدأ المشروعية المصادر الأخرى لمبدأ المشروعية كالعرف والمبادىء العامة للقانون . وهذا ما يمكن التعبير عنه بنطاق مبدأ المشروعية من حيث تدرج النصوص القانونية .
ثانيا : من حيث سلطات الدولة*
أما عن سريان المبدأ من حيث سلطات و هيئات الدولة فمبدأ المشروعية ملزم لكل الهيئات و هياكل الدولة بصرف النظر عن موقعها أو مركزها أو نشاطها و حتى طبيعة قراراتها .
فالمبدأ ملزم :*
أ- للسلطة التشريعية :*
إن السلطة التشريعية في كل الدول منوط بها اقتراح القوانين ومناقشتها و المصادقة عليها بحسب ما تقره القواعد الواردة في الدستور و في قوانين الدولة . فهي إذن محكومة حال قيامها بالعملية التشريعية بمبدأ المشروعية . فإذا حدد لها الدستور مجالا للتشريع فليس لها أن تتجاوزه. وإذا حدد لها نصابا معينا لاقتراح القوانين فوجب الخضوع له. وإذا حدد لها القانون جهة داخلية معينة تمارس سلطة تسيير الهيئة التشريعية وتبين قواعد عملها و العلاقة فيما بينها وبين الحكومة و رسم الجوانب الإجرائية للعملية التشريعية و جب في كل الحالات الخضوع لهذه القواعد سواء كان مصدرها الدستور أو القانون .
ب- للسلطة التنفيذية :*
إن السلطة التنفيذية في كل الدول هي السلطة الأكثر امتلاكا للهياكل و الأكثر استخداما للأعوان العموميين . وهي سلطة مكلفة بتنفيذ القوانين و إشباع حاجات الأفراد و المحافظة على النظام العام. و هي الأخرى ملزمة في عملها بمراعاة مبدأ المشروعية.
فإذا كان القانون يجيز لها مثلا نزع الملكية للأفراد لمقاصد عامة ، أو اتخاذ إجراءات الضبط، أو الإشراف على العمليات الانتخابية و تنظيمها أو تقديم الرخص و غيرها، فإنها في كل هذا النوع من الأعمال وجب أن تخضع لمبدأ المشروعية . وأن أي خروج و انتهاك لقاعدة قانونية من جانبها ينجم عنه بطلان التصرف.
ونسجل للقضاء المصري إصداره لقرار تاريخ باعتقادنا لأنه لم يلتزم فيه بتطبيق القانون فقط، بل ذهب باتجاه الدعوة لتصويب النصوص الدستورية. ويتعلق الأمر بالقرار الصادر عن المحكمة الإدارية العليا في جلسة 6/9/2005 والتي أرست من خلاله مبدأ عاما أن القاضي الإداري هو الحارس الأمين على مبدأ المشروعية. وقالت المحكمة في ذات القرار" إن مبدأ المشروعية لا يتفق وتحصين قرارات لجنة الانتخابات المشرفة على انتخاب رئيس الجمهورية من رقابة القضاء باعتبارها قرارات إدارية مما يختص القضاء الإداري بفحص مشروعيته، إلا أن القاضي الإداري التزاما منه بمبدأ المشروعية أعلن التزامه بتطبيق النص الدستوري الذي حصن قرارات تلك اللجنة." و ذهبت المحكمة للدعوة لتصويب النص الدستوري وتعديله بما يجعل للقضاء الإداري ولاية كاملة تشمل كل القرارات الإدارية تطبيقا لمبدأ المشروعية وحفاظا على حقوق الأفراد بقولها " والمحكمة إذ تقضي بذلك ، فإنها تهيب بالمشرع الدستوري أن يعيد النظر جديا في نص المادة 76 من الدستور في ضوء ما تقدم بحيث يرجع النص إلى الأصل العام والمبادىء المستقرة في شأن عدم تحصين أي قرار من رقابة القضاء الإداري"*
ونسجل للمحكمة الإدارية بمصر العديد من القرارات المهمة من ذلك قرارها بتاريخ 25/02/2005 الطعن 7711/47 ق حيث انطلقت المحكمة من نص المادة 41 من الدستور التي لا تجيز منع الأفراد من التنقل والسفر إلا بأمر من القاضي المختص أو من النيابة العامة وذلك وفقا لأحكام القانون.ونظرا لوجود فراغ تشريعي ناجم عن الحكم بعدم دستورية القانون الذي كان ينص على سلطة وزارة الداخلية في المنع من السفر،فإن ما تصدره النيابة العامة من قرارات منع السفر دون وجود قانون ينظم هذه السلطة يجعل ما تصدره النيابة مجرد إجراء فاقد لسنده الدستوري والقانوني .
ومارس القضاء الإداري في مصر كما في دول أخرى دور حماية الحقوق الفردية منها حق الملكية باعتباره حقا دستوريا وحقا مدنيا. ففي قرار للمحكمة الإدارية بمصر بتاريخ 18/01/1998 الطعن 288 لستة 33 ق ذهبت المحكمة إلى القول " ومن حيث أن قضاء هذه المحكمة جرى على أنه وفقا لأحكام الدستور والقانون فإنه بالنسبة لنزع ملكية العقارات اللازمة للمنفعة العامة، يتعين مراعاة قاعدة أساسية أساسها الموازنة بين مصلحة الدولة وحقها في الاستيلاء على العقارات المملوكة ملكية خاصة لمشروعاتها العامة وبين حق الملكية الخاصة لذوي الشأن من ملاك هذه العقارات. وتتمثل هذه القاعدة الجوهرية في أن تكون العقارات بالحتم والضرورة لازمة للمنفعة العامة بحيث يجب أن يكون المشروع المحقق للمنفعة العامة في حاجة حقيقية وضرورية لهذه العقارات..."*
ج- للسلطة القضائية :*
إذا كان منوط بالسلطة القضائية في كل الدول الفصل في الخصومات و المنازعات المعروضة عليها طبقا للإجراءات و بالكيفية التي حددها القانون، فإن هذه السلطة هي الأخرى مكلفة بالخضوع لمبدأ المشروعية في أعمالها . فإذا كان القانون قد رسم قواعد الاختصاص النوعي و نظم عمل جهات قضائية معينة كأن وزع الاختصاص بين جهات القضاء العادي و الإداري ، فإنه لا يجوز لجهة قضائية ذات طبيعة إدارية مثلا أن تفصل في خصومة مدنية هي من اختصاص المحاكم المدنية.
فكأنما مبدأ المشروعية يلزم كل سلطة من السلطات بأن تعمل في إطار قانوني محدد فإن حادث عنه، عد عملها غير مشروع و نجم عنه البطلان . من أجل ذلك تدخل المشرع ضابطا مجال اختصاص السلطات الثلاث المذكورة بقواعد جزائية تكفل قانون العقوبات بتحديدها .
و بهدف تفعيل مبدأ المشروعية أقرت مختلف الأنظمة القانونية أطرا رقابية معينة كالرقابة على دستورية القوانين التي تمارسها المحاكم الدستورية أو المجالس الدستورية. و الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة من خلال آليات الأسئلة الشفوية و المكتوبة و من خلال لجان التحقيق. و الرقابة الإدارية التي تمارسها الوزارات المختلفة و الهيئات و اللجان الخاصة بالكيفية التي حددها القانون. والرقابة القضائية التي تمارسها المحاكم على اختلاف درجاتها . و الغرض الأساس من خلال ممارسة كل هذه الأشكال من الرقابة هو العمل على تجسيد دولة القانون في أرض الواقع و التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال مبدأ المشروعية.