شيء لابد منه - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > قسم الإبداع > قسم الخـــواطر

قسم الخـــواطر قسمٌ مُخصّصٌ لإبداعات الأعضاء النّثريّة.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

شيء لابد منه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2008-07-04, 22:31   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
رشيدة نور
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية رشيدة نور
 

 

 
إحصائية العضو










Smile شيء لابد منه

كانت أمه قد نسته تماما وتخلت عنه ، حينما وجدته وحيدا في ركن مظلم يعاني سكرات الموت ، يئن في صمت ، تحترق آلامه وحيدة ، تنساب مع الهواء خفية و كأنها تخشى شيئا ، تذذوب وسط موجات الأثير و لا أحد يسمعها ، لا أحد يلتقطها و لا أحد يعيرها اهتماما .
وجدته و قد كان رضيعا ، هو لا ذنب له في الحياة سوى أنه موجود ، هو ما أراد أن يأتي لكنه مجبر ، قدر له أن يكون فكان ، و حينما كان كان وحيدا .
عالمه الضيق شبيه بنفق مظلم تمله حتى الخفافيش التي تعشق الظلام ، نهايته باتت مؤكدة .
هو يعلم ذلك لكنه لم يخش شيئا ، فلا الموت و لا الحياة يعنيان له الكثير ، لأنه - و بكل بساطة - لم يدرك معنى هذا الوجود ،
و كيف يدرك ؟
وحدته الشاحبة أكسبت وشاح الموت السواد القاتم ، و بعثرته من حوله فبات الجو كئيبا .

في ذاك الركن حيث وجدته لا يسمع سوى عويل الرياح و لا يرى سوى خيال القمر الشاحب . حزن أبدي يكتنف المكان ،
و ثورة عارمة من الأنين تكتسحه ، هكذا أحسست من الوهلة الأولى حينما وطأت قدماي تلك الزاوية المهجورة من زوايا الحوش القديم حيث كان يقطن جدي - رحمه الله - منذ سنين بعيدة هي أشبه بحبل طويل امتد مع امتداد الزمن .
حملته بلطف و كأني أخشى عليه من يدي المرتجفتين ، و بشيء من الحنان ضممته و تمسك بي و أبى التزحزح عني ، و كأنه كان ينتظر هذه اللحظة أعواما طويلة ... لحظة حنان هارب ماذاقه من قبل .

كان جميلا ودودا تحبه من أول نظرة ، عيناه الصغيرتان بحر حينما تنظر إليهما تحس بمرارة الألم القابع فيهما ، تحس بموجات التساؤل و هي تصارع الأفكار علها تصل إلى بر الأمان ، إلى إجابة مقنعة ترضي فضوله ، و تكبح فيه جماح الهدوء الثائر في آن واحد ..
و مع الهدوء و الثوران ألف فكرة تموج و تسبح ، و بين اللا و النعم ألف ربما تبحث عمن يتبناها و يقتل اليتم فيها .

عيناه دائريتان ، حينما تتغلغل نظراتك فيهما تنسى نفسك ، و تنسى أنك انسان ، تنسى بأنهم يقولون عنك أن لك عينان ...
و لا تذكر سوى أنك لا تملك مثل تينك العينين. عينان سيل البراءة يتدفق فيهما ليكون بحرا قطرة قطرة .
بحر لا يحس به سوى من كان انسانا حقا ، لا شبه انسان يحمل هذا اللقب بالوراثة أبا عن جد .

كلنا جئنا إلى هاته الحياة فوجدناه لصيقا بنا . و نحن صغارا لم نفهم كنهه و لم ندرك معناه الحقيقي ، و لما كبرنا و صرنا في نظر الصغار كبارا ظنننا أننا فهمناه و تعمقنا في فهمه ، فاصبحنا نتباهى به أمام الصغار ، و لا يخلو حديث لنا منه ، و صارت الانسانية صفقة مربحة لكل من أراد ركوب صهوة العالمية و الشهرة ، و في الحقيقة نحن عاجزون عن فهمه و فهم معناه الذي جيء من أجله ، و خلقنا من أجله ، فالانسانية شعور نبيل لا يحسه إلا من كان انسانا حقا .

و حملته و مشيت به مسافة غير بعيدة إلى البيت حيث كنت أقضي عطلة الصيف في مكان أعشقه لحد الموت ، و بين أحضان أحسها دما في عروقي . هي الطبيعة و لوحاتها الخلابة ، هي الأرض و السماء و الجنون الذي يكبلني حينما أكون في حضن الثرى أعيش لحظاتي حرة طليقة ، لا أعين البشر تراقبني و لا كلماتهم السم تعاتبني .
و كل شيء في نظري ناصع البياض ، فلا السواد يعميني و لا الأنات تبكيني ...و أعيش حرة .

حينما حملته كان يرتجف ، عروقه ترتجف ، دمه الفوار فشل في أن يدفىء جسده .. و حرارة الشمس أيضا فشلت ،
و فقط صدري استطاع ذلك فأدركت أن صدري يحمل سرا لا تحمله الطبيعة ، سرا لم يعد بالنسبة لي غامضا ، فقد أدركت أن ذاك هو الحنان ، الحنان كفيل بأن يذيب برودة الصقيع و أن يقتل غلاظة البشر ، و أن ينشر تباريح الهوى في كل مكان و أن....
أن يسرق الزمن و يينتفض و يثور على كل ما يبعث السواد .

و أحس المسكين بالدفء و ظنه - لسذاجته - دفء أمه . و لكن أمه عنه تخلت و رفعت رايات الهروب و قالت للطبيعة لا ، لا أريده ،
و آثرت الرحيل و الابتعاد تاركة إياه يصارع نوائب الزمن . هي ليست بأم لأنها فقدت طعم الأمومة و تخلت عن طبيعتها و باعت عواطفها مقابل هروب ساذج .
و ما العجيب في ذلك و نحن في زمن فقدنا فيه كل شيء حتى الاحساس بالآه ، بالألم ، بالحب ، بالوجود ...
في زمن ليس بالبعيد كان من المستحيل أن تتنكر الطبيعة لما خلقت لأجله ، و اليوم صار التخلي عن أشياء نحبها موضة نمشي عليها .

حملته و وسط لفافة وضعته ، سقيته ماءا باعتباره الوجود ، و ما ان شربه حتى رنت أجراس الحياة في عروقه ، و استفاق من دوامة الغثيان التي كان يتخبط فيها و ولت سكرات الموت أدراجها و أعلنت استسلامها ، فقد كان دافع الحياة أقوى .

رفع عينين يلفهما الحزن و رمقنيبنظرة شجينة و حدق في عيني طويلا و كأنه يسألني هل أنت أمي ؟
و أجبته بنظرات مبتسمة " لست أمك " و لكني سأكون ، رغم أنه من الجنون أن أكون أمك ، و الجنون في ذلك ؟
أهو الجنون لأنه في نظر الناس كذلك ؟ أم أنه الجنون لأن الطبيعة لم تفرضه ؟
ليكن الجنون إذن ، فلا يهم ما دمت أملك قلبا يغدق الحب دون أن ينضب حنانه .
هكذا قلت له ، هو بالطبع لم يفهمني لكنه تنحنح قليلا ، و أطلق زفرات هي شبيهة بالعويل إلى حد ما ، هي ليست كذلك ، لكني أحسها سكينا يخرق صدري ، متاهات تتربع على عرشي ، و تنسيني ذاتي لأهيم وسط ضرب من الخيال لا حدود له و لا نهاية له ، خيال مستبد ، فضاء واسع هو ضرب من الجنون .

و تتالت الأيام لتجعل منا عاشقين هو و أنا ، فبات الحب أكبر منا ، و ألفته و ألفني و صار قطعة مني بل كلي الذي لا أستطيع الانفصال عنه .
ببراءته المعهودة كان يجري و يجري ، و يقفز هنا و هناك قلا يترك شبرا إلا و يضفي عليه لمسة من لمسات خطاه . هو كالطائر الحر يسبح في الفضاء الطلق ، هو كيأفوفة تزهو بأحلى الألوان ، هو كطاووس ينفخ ريشه يتباهى به .
هو كوردة نرجسية ناصع بياضها يلوح من بعيد ، يخطف الأنظار يزغللها ، يجعلها تعيش أجمل لحظات عمرها .

هكذا كان ، و هكذا أحببته و صرت كالعاشقة المجنونة ليس في عقلها سواه ، و لا تنطق شفتاها إلا باسمه ، و لا تنظر عيناها إلا لجماله ،
و لا يسبح خيالها إلا في فضائه البريء .

كنت حينما أفتح عيني أرى صورته أمامي فأهرع إليه أتفقده ، أضمه ، أطعمه كما لو كان فلذة كبدي . الكل من حولي مندهش ، فهذا أخي يوبخني لأني أهملت أوامره بعدما انشغلت برعاية ذاك الإبن على حد تعبير أمي ، و هذا ابن أخي الصغير يهددني بضربه إن لم أكف عن الاهتمام به و تحويل كل تلك الرعاية إليه ، و هذه زوجة أخي تلومني لأني أدخلته إلى بيتها . و الكل غاضب ، لا أدري لما ؟
ألأن الإنسانية عندي أكبر من أي شيء ؟ ألأن الحب في قلبي كبير جدا ؟ ألأني على خطأ و الكل على صواب ؟ ألأني مجنونة ؟
ربما في نظرهم هكذا بت أنا ، لماذا ؟ لا أدري .
في الحقيقة لا يهمني رأيهم مادمت أعلم جيدا أن الانسانية فوق كل اعتبار و أنها أجمل شيء في الوجود .

و توالى الزمن لتنتهي عطلة الصيف و أجبر على الرحيل ، لأعود من حيث أتيت ، لأنفصل من جديد عن عالم عشقته ، لأعود إلى عالم القلم و الدراسة .
ساعتها كنت مضطرة لأن أترك كل شيء ورائي حتى ذاك الذي أحببته ، و حانت ساعة الفراق ، لأخلفه وحيدا كما كان في أول حياته .

و في يوم ما ، يوم أعلن القدر فيه حكمه - و لا راد لحكم القدر - شيء لابد منه ، كان لابد منه ، و حدث فعلا لأنه من نسج القدر .
مات ذاك الذي أحسسته قطعة مني ، و ماتت معه الساعات و الدقائق . مات لأنه افتقد الانسانية .



هذه قصة جرو مسكين تركته أمه يصارع أنات الموت ، فتكفلت به ، و لما عدت للدراسة رايته في الحلم و قد أصبح لونه وديا و هو يمسك بطرف فستاني كأنه يترجاني لأبقى معه ، و بعد أيام سمعت أنه مات .
مات لأنه افتقد الرعاية .









 


رد مع اقتباس
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 05:59

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc