
فايد العليوي
لجينيات ـ قد تبدو للوهلة الأولى الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس خلال هذه الفترة خطيرة جدا وعلى درجة عالية من السرية, وقد تمس الأمن القومي الأمريكي بالصميم,وربما هدد نشرها السلم العالمي والعلاقات الدولية, بل وصل الأمر إلى الاعتقاد بأن نشر مثل هذه الوثائق يعد عارا على أمريكا الدولة العظمى وانتصارا للإنسانية جمعاء.
لكن تعالوا قليلا كي نفكر سوية بعيدا عن الشعور بالانبهار والدهشة.
بداية نشرت وثائق حول انتهاكات حكومة المالكي والقوات الأمريكية لحقوق الإنسان في العراق, بالإضافة إلى انتهاكات القوات الأمريكية في أفغانستان, وقد صرح القائم على الموقع بأن نشر هذه الوثائق في هذه الفترة بالتحديد جاء لمنع المالكي من الترشح لرئاسة الحكومة مرة أخرى!
أليست محاولات منع المالكي من الترشح كانت هدفا أمريكا استراتيجيا؟!
ألا يصب نشر مثل هذه الوثائق وفي هذا الوقت تحديدا في مصلحة الإدارة الأمريكية؟!
كما أن مقاطع الفيديو التي نشرها الموقع والتي كانت تحوي مشاهدا لاستهداف المدنيين في أفغانستان والعراق, لم تكن بتلك الخطورة المتوقعة؛ فطالما رأينا عبر وسائل الإعلام مثل هذه المشاهد و أشنع منها بكثير وليست هي المرة الأولى التي تدان فيها القوات الأمريكية باستهداف المدنيين, بل إن حتى ردة فعل المتحدث الإعلامي باسم القوات الأمريكية كانت وكأن المقطع عرض على شاشة فوكس نيوز إذ قال أنه سيفتح تحقيقا وسيتم التحقق من صحة المقطع وإذا ماثبت فإنه ستتم محاسبة المسؤولين عن ذلك.. وإلى ماهنالك من هذا الكلام.
هذا بخصوص الموجة الأولى من الوثائق المسربة,أما فيما يتعلق بالموجة الثانية والتي تبدو وكأنها الأعنف إذ إنها حملت انطباعات عن بعض القادة والرؤساء وحملت كلاما لعدد من زعماء دول الشرق الأوسط مع الحكومة الأمريكية حول إيران ومراسلات الإدارة الأمريكية مع بعض سفاراتها حول بعض القضايا وتعقيدات المنطقة المزمنة.
لاشك أنه من المدهش إذا ما أمعنت النظر قليلا في الوثائق المسربة,إذ إنه لم تنشر أية وثيقة واحدة تسبب حرجا حقيقيا للإدارة الأمريكية أو لإسرائيل,بل إنني اعتقد جازما بأن مذكرات الرئيس نيكسون قد تكون أكثر إحراجا من هذه الوثائق.
فالانطباعات المنشورة عن رؤساء العالم كقول أن كرزاي ضعيف الشخصية ورئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون ضعيف الوزن والمستشارة ميركل ليست مبدعة كثيرا ووزير خارجيتها ضعيف سياسيا ورئيس الوزراء الإيطالي منهك جسديا وسياسيا ونيكولا ساركوزي انفعالي وسريع الغضب...مثل هذه الانطباعات تجدها في الصحافة الأوروبية بل وبشكل لاذع أكثر مما نشره الموقع.
ومما يثير الشك أيضا عمن يقف وراء نشر الوثائق وجود بعض المعلومات المنافية للواقع كوجود وثيقة تفيد بأن مصر وفتح عارضتا الحرب على غزة!, ألم يكن دحلان وجلاوزته على أبواب المعابر للانقضاض على غزة في حال سقوط حماس؟ كذلك ألم يقل عبدربه علنا: من الخطأ أن توقف إسرائيل القصف؟ كما هي الحال بالنسبة لمصر ألم تنقل بعض وسائل الإعلام الغربية أنباء تفيد بأن عدداً من الضباط المصريين قد استجوبوا جرحى فلسطينيين قسرا لمعرفة أماكن انطلاق الصواريخ..
هذه الوثيقة بالذات نشرت لتلميع صورة حلفاء أمريكا خصوصا في الملف الفلسطيني.
وهناك من الوثائق ما تجد أنه يخدم التحركات الأميركية في المنطقة, كالوثيقة التي تفيد بأن كوريا الشمالية زودت إيران بصواريخ فائقة التطور, ووثيقة تفيد بأن أميركا فشلت في منع تهريب الأسلحة السورية إلى حزب الله! .
وحول إسرائيل فإنك لا تجد من بين الوثائق وثيقة واحدة تدين إسرائيل إدانة حقيقية بدليل أن نيتنياهو صرح قائلا:"بأن إسرائيل لن تتضرر من نشر الوثائق" ومعظم الوثائق التي جاء فيها اسم إسرائيل كانت مجرد محادثات عادية كالتي تظهر لنا في وسائل الإعلام, وحتى الوثيقة التي جاء فيها بأن أميركا وافقت على تزويد إسرائيل بقنابل خارقة للتحصينات لم تكن بالشيء الجديد فمنذ نشأة إسرائيل والمعونات العسكرية الأميركية تعبر إلى إسرائيل جهارا نهار أمام مرأى ومسمع من العالم بأسره.
أما الوثيقة الأكثر مرحا هي التي جاء فيها أن أردوغان يكره إسرائيل! ما السري في ذلك طالما أن أردوغان نفسه قبل أيام هاجم إسرائيل هجوما لاذعا - بالقرب منها في لبنان- ينم عن كره شديد كما في كل مرة يتكلم بها عن الكيان الصهيوني, مالجديد في هذا فحتى شعبان عبدالرحيم يكره إسرائيل!
وحول الوثائق التي تدين أمريكا بالتجسس على الأمم المتحدة,فالكل يعلم أن الأمم المتحدة حقيبة بيد أميركا, كما أن التجسس مباح في العرف الدولي فروسيا تتجسس على أمريكا وأمريكا تتجسس على روسيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى فترة قريبة كما ظهر في وسائل الإعلام.
أما الوثائق التي أدانت بعض المسؤولين الخليجيين حول طلبهم من الإدارة الأميركية بضرب إيران وإفشال مشروعها النووي, فربما تم تسريب هذه الوثائق من أجل جعل الدول الخليجية تتشبث أكثر بالمارينز الأمريكي ومضاعفة صفقات السلاح وجعل الفجوة في اتساع دائم بين دول الخليج وإيران وقطع أية محاولة للتقرب الإيراني من الدول الخليجية, وتدمير مابقي من علاقات شبه جيدة بين قطر وإيران إذ كانت هناك وثيقة تفيد بأن المسؤولين القطريين يقرون بأنهم يكذبون على الإيرانيين والعكس تماما.
هذا بالنسبة لأبرز ماجاء في الوثائق المسربة,فتعالوا نتكهن حول مالم يسرب ويتوافق مع مبدأ الموقع,فالموقع يعري الفساد والفاسدين كما يزعم وكما كشف سابقا عن سوء إدارة مرض الملاريا والسيطرة عليه,فلماذا لم يكشف النفايات النووية للدول العظمى التي ترمى في القرن الأفريقي,أو لماذا لم يتم الكشف عن الأسلحة البيولوجية الفتاكة التي لدى البنتاغون,ثم أين مفاعل ديمونة الإسرائيلي أو أين أسرائيل كلها بين الوثائق؟ ثم لماذا لم نجد مراسلات حساسة بين الدول الأوروبية وأمريكا حول قضايا الشرق الأوسط؟ لماذا اقتصرت المراسلات على زعماء الخليج فقط .
الخلاصة وبالنظر إلى المعطيات السابقة والانتقائية التي لمسناها في تسريب الوثائق والتي تتوافق والصالح الأمريكي بغض النظر عن الغضب الأمريكي من نشر الوثائق والتنديد بذلك الذي كما لو أنه ذرا للرماد في العيون نصل إلى قناعة بأن أمريكا هي المستفيد الأول من نشر مثل هذه الوثائق إن لم تكن هي خلف هذا التسريب المثير,لاسيما وأن موقع ويكيليكس قد حصل على حكم قضائي من المحكمة العليا بالولايات المتحدة التي برأته من أي مخالفة، عندما نشر ما بات يعرف باسم أوراق البنتاغون التي كشفت العديد من الأسرار حول حرب فيتنام..
فسابقا كانت الدول العظمى تضغط على دول المنطقة بورقة المعارضة والمعارضين الذين تحتضنهم, ثم ابتكرت - ولاسيما أميركا - أسلوب الضغط بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات الدينية والعرقية,أما الآن فابتكرت أسلوب الضغط بتسريب الوثائق الذي يجعل زعماء المنطقة تحت رحمة العم ويكيليكس.
[/COLOR]