وليس رد البدع وإبطالها من باب إثارة الفتن، فإن الله سبحانه وتعالى أمر العلماء بذلك، وأمرهم ببيان ما علموه، ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله لا يجوز أن يلعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد، والخلاف في الفروع، ومثل هذا الكلام مما اعتمدتم فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله،,الله أعلم بمن يعرفه دينه ويقف عند حدوده.
وبعد ذلك فإننا نزعم أنا من جملة حزب الله تعالى، وأنصار دينه وجنده، وكل جندي لا يخاطر بنفسه فليس بجندي.
وأما ما ذكر من أمر باب السلامة فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا من أن السلطان الملك العادل تغمده الله برحمته، إنما فعل ذلك إعزازاً للدين ونصرة للحق، ونحن نحكم بالظاهر، والله سبحانه وتعالى يتولى السرائر، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكان يكتبها وهو مسترسل، من غير توقف ولا تردد ولا تلعثم.
فلما أنهى كتابتها طواها وختمها، ودفعها للرسول، وكان عنده حال كتابتها رجل من العلماء الفضلاء وممن يحضر مجلس السلطان، فوقفه على الرقعة الواردة عليه من السلطان الملك الأشرف، فتغير لونه واعتقد أن الشيخ يعجز عن الجواب، لما شاهد من ورقة السلطان من شديد الخطاب، فلما خط الشيخ الكتاب مسترسلاً عجلاً، وهو يشاهد ما يكتبه، بطل عنده ما كان يحسبه وقال: لو كانت هذه الرقعة التي وصلت إليك وصلت إلى قس بن ساعدة لعجز عن الجواب وعدم الصواب، ولكن هذا تأييد إلهي.
فلما عاد الرسول إلى السلطان رحمه الله تعالى وأوصله الرقعة وفضها، وقرئت عليه، اشتدت استشاطته، وعظم غضبه، وتيقن العدو تلف الشيخ وعطبه.
ثم استدعى الغرز خليلاً، وكان إذ ذاك أستاذ داره، وكان من المحبين للشيخ والمعتقدين فيه، فحمله رسالة إلى الشيخ، وقال له: تعود سريعاً بالجواب.
فجاء الغرز إليه، وجلس بين يديه بحسن تودد وتأدب، ثم قال له: أنا رسول، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، والله لقد تعصبوا عليك، وأعنتهم أنت على نفسك بعدم اجتماعك في مبدأ الأمر بالسلطان، ولو كان رآك ولو مرة واحدة لما تم شيء من هذه الأمور أصلاً، وكنت أنت عنده الأعلى.
فقال له: أد الرسالة كما قيلت لك.
فقال: لا تسأل ما حصل عند السلطان عند وقوفه على ورقتك، ولا سيما أنه وجد فيها ما لايعهده من مخاطبة الناس للملوك، مضافاً إلى ما ذكرته من مخالفة اعتقاده، فقال: اذهب إلى ابن عبد السلام وقل له: إنا قد شرطنا عليه ثلاثة شروط: أحدها أن لا يفتي، والثاني: أنه لا يجتمع بأحد، والثالث: أنه يلزم بيته.
فقال: يا غرز إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة عليَّ، المستوجبة للشكر لله تعالى على الدوام، أما الفتيا فإني والله كنت متبرماً بها وأكرهها وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم، ولولا أني كنت أراها متعينة علي لما أفتيتُ، والآن فقد سقط عني الوجوب وتخلصت ذمتي، والله الحمد والمنة.
وأما ترك اجتماعي بالناس، ولزومي بيتي، فهذا من سعادتي، لتفرغي لعبادة الله تعالى، والسعيد من لزم بيته بكى على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى، وهذا تسليك من الحق وهداية من الله تعالى إليَّ أجراها على اليد السلطان وهو غضبان، وأنا بها فرحان.
والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعتُ عليك ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صلِّ عليها، فقبلها وقبلها، وودعه.
وانصرف إلى السلطان وذكر له ما جرى بينه وبين الشيخ، فقال لمن حضره: قولوا لي ما أفعل به ؟ هذا رجل يرى العقوبة نعمة، اتركوه بيننا وبين الله.
ثم إن الشيخ بقي على تلك الحالة ثلاثة أيام، ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصيري شيخ الحنفية في زمانه، وكان قد جمع بين العلم والعمل، ركب حماراً له وحوله أصحابه، وقصد السلطان، فلما بلغ الملك الأشرف دخول الحصيري إلى القلعة أرسل إليه خاصته يتقلونه، وأمرهم أن يدخلوه إلى دار الإمارة راكباً على حماره، فلما رآه السلطان وثب قائماً ومشى إليه، وأنـزله عن حماره، وأجلسه على تكرمته، واستبشر بوفوده عليه، وكان في رمضان، قريب غروب الشمس.
فلما دخل وقت المغرب وأذن المؤذن صلوا صلاة المغرب، وأحضر السلطان قدح شراب فتناوله وناوله للشيخ، فقال له: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك، فقال له السلطان: يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه.
فقال: إيش بين وبين ابن عبد السلام، وهذا رجل لو كان في الهند أو في أقصى الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده، ويفتخر به على سائر الملوك.
قال السلطان: عندي خطه باعتقاده في فتيا، وخطه أيضاً في رقعة جواب رقعة سيرتها إليه، فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بيني وبينه.
ثم أحضر السلطان الورقتين، فوقف عليهما وقرأهما إلى آخرهما، وقال: هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار، فقال السلطان رحمه الله: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط في حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى الشيخ وطلب محاللته ومخاللته.
وكانت الحنابلة قد استنصروا على أهل السنة وعلت كلمتهم، بحيث إنهم صاروا إذا خلوا بهم في المواضع الخالية يسبونهم ويضربونهم ويذمونهم، فعندما اجتمع جمال الدين الحصيري بالسطلان وتحقق ما عليه الجم الغفير من اعتقاد أهل الحق، تقدم إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام، وأن لا يفتي أحد فيها بشيء، سداً لباب الخصام.
فانكسرت المبتدعة بعض الانكسار، وفي النفوس ما فيها.
ولم يزل الأمر مستمراً على ذلك إلى أن اتفق وصول السلطان الملك الكامل رحمه الله تعالى إلى دمشق، من الديار المصرية، وكان اعتقاده صحيحاً، وهو من المتعصبين لأهل الحق قائلاً بقول الأشعري رحمه الله في الاعتقاد، وكان وهو بالديار المصرية قد سمع ما جرى في دمشق في مسألة الكلام، فراجم الاجتماع بالشيخ، فاعتذر إليه، فطلب منه أن يكتب له ما جرى في هذه القضية مستقصياً مستوفياً، فأمرين والدي رحمه الله تعالى بكتابة ما سقته في هذا الجزء من ألو القصة إلى آخرها، فلما وصل ذلك إليه ووقف عليه أسر ذلك في نفسه إلى أن اجتمع بالسلطان الملك الأشرف رحمه الله تعالى، وقال:
يا خواند، كنت سمعتُ أنه جرى بين الشافعية والحنابلة خصام في مسألة الكلام، وأن القضية اتصلت بالسلطان، فماذا صنعت فيها ؟
فقال: يا خواند، منعتُ الطائفتين من الكلام في مسألة الكلام، وانقطع بذلك الخصام.
فقال السلطان الملك الكامل رحمه الله تعالى: والله مليح !! ما هذه إلا سياسة وسلطنة تساوي بين أهل الحق والباطل، وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكتموا ما أنـزل الله إليهم ؟!!
كان الطريق أن تمكن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم وأن يظهروا دين الله، وأن تشنق من هؤلاء المبتدعة عشرين نفساً ليرتدع غيرهم، وأن تمكن الموحدين من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين.
فعند ذلك ذلَّتْ رقاب المبتدعة وانقلبوا خائبين وعادوا خاسرين (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال) على يد السلطان الملك الكامل رحمه الله تعالى، وانقشعت المسألة للسلطان الملك الأشرف رحمه الله تعالى، وصرح بخجله وحيائه من الشيخ وقال:
لقد غلطنا والله في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة، وصار يترضاه ويعمل بفتاويه وما أفتاه، ويطلب أن يقرأ عليه تصانيفه الصغار مثل "الملحة في اعتقاد أهل الحق" الذي ذكر بعضها في الفتيا، وقرئت عليه "مقاصد الصلاة" في يوم ثلاث مرات تقرأ عليه، وكلما دخل عليه أحد من خواصه يقول للقارئ: اقرأ "مقاصد الصلاة" لابن عبد السلام، حتى يسمعها فلان وينفعه الله بسماعها.
حتى قال والدي: لو قرئت "مقاصد الصلاة" على بعض مشايخ الزوايا أو على متـزهد أو مريد أو متصوف مرة واحدة في مجلسٍ لما أعادها فيه مرة أخرى.
ولقد دخل على السلطان الملك الأشرف الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي، وكان واعظ الزمان، وكان له قبول عظيم، ويحضر مجلسه الألوف من الناس، ولقد شاهدت منه عجباً، كان يطلع على المنبر في بعض الأيام ويحدق الناس إليه، فيطرق ساعة وينتحب ويبكي ويبكي الناس معه، ويقتلون أنفسهم، وينـزل عن المنبر ولا يتكلم بكلمة واحدة، ويذهب هائماً على وجهه، ويذهب الناس من مجلسه وهم سكارى حيارى، وهذا لم أره لأحد غيره، وكان يجلس في الثلاثة الأشهر: شهر رجب وشعبان ورمضان كل سبت، وكان الناس يتأهبون لحضور مجلسه قبل السبت بثلاثة أيام.
فلما دخل على السلطان ناوله "مقاصد الصلاة" وقال له: اقرأها، فقرأها بين يديه واستحسنها، وقال: لم يصنف أحدٌ مثلها، فقال: طرز مجلسك الآتي بذكرها، وحرض الناس على تحصيلها وتعملها، فلما جاء الميعاد طلع على المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال:
اعلموا رحمكم الله أن أفضل العبادات البدنية الصلاة، وهي صلة بين العبد وبين ربه، فعلكم بـ"مقاصد الصلاة"، تصنيف: ابن عبد السلام، فاسمعوها وعوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها أولادكم ومن يعز علكيم، وكانت عروساً وهو ما شطتها، فحلاها عليهم وأهداها إليهم، وكان لها وقع عظيم في ذلك المجلس، وعندما انفض المجلس قصدنا الناس لكتابتها وتعلمها وتحصيلها، فأحالهم والدي عليّ، فعينتُ لهم جماعة من النساخ، وكتبوا منها من النسخ ما لا يحصى عدده، وكان الناس يحصلونها ويسمعونها على الشيخ.
ولم يزل والدي يعظم عند السلطان ويتبرك بأقواله إلى أن مرض مرضة الموت، ويئس من الحياة، فقال لأكبر أصحابه: اذهب إلى ابن عبد السلام وقل له: محبك موسى ابن الملك العادل أبي بكر يسلم عليك، ويسألك أن تعوده وتدعو له وتوصيه بما ينتفع به غداً عند الله تعالى.
فلما وصل الرسول إليه بهذه الرسالة، قال: نعم، إن هذه العيادة لمن أفضل العبادات، لما فيه من النفع المتعدي إن شاء الله تعالى، فتوجه إليه وسلم عليه، فسرَّ برؤيته سروراً عظيماً، وقبل يده، وقال له: يا عز الدين اجعلني في حلٍّ وادع لي وأوصني وانصحني.
فقال له: أما محاللتك، فإني كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس لي عند أحد مظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله تعالى، ولا يكون على الناس عملاً بقوله سبحانه وتعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، فلأن يكون أجري على الله ولا يكون على خلقه أحبُّ إليَّ.
وأما السلطان فإني أدعو له في كثير من الأحيان، لما في صلاحه من صلاح المسلمين والإسلام، والله تعالى يبصر السلطان ما يبيض به وجهه عنده يوم يلقاه.
وأما وصيتي ونصيحتي للسلطان، فقد وجبت وتعينت لقبوله وتقاضيه –وكان قبل مرضه قد وقع بينه وبين أخيه السلطان الكامل واقع ووحشة، وأمر وهو في ذلك المرض ينصب دهليزه إلى صوب مصر، فضرب على منـزلة تسمى الكسوة، وكان في ذلك الزمان قد ظهر التتر بالشرق-، فقال الشيخ للسلطان: الملك الكامل أخوك الكبير، ورحمك، وأنت مشهور بالفتوحات والنصر على الأعداء، والتتر قد أحاطوا ببلاد الإسلام، تترك ضرب دهليزك إلى أعداء الله وأعداء المسلمين، وتضربه إلى جهة أخيك، فينقل السلطان دهليزه إلى جهة التتر، ولا يقطع رحمه في هذه الحالة، وتنوي مع الله تعالى إدالته على الكفار، وكانت في ميزانه هذه الحسنة العظيمة، وإن قضى الله تعالى بلقائه كان السلطان في خفارة نيته.
فقال له: جزاك الله خيراً عن إرشادك ونصيحتك، وأمر –والشيخ حاضر- في الوقت بنقل دهليزه إلى الشرق إلى منـزلة يقال لها القصير، فنقل في ذلك اليوم.
ثم قال له: زدني من نصائحك ووصاياك.
فقال له: السلطان في مثل هذا المرض وهو على خطر ونوابه يبيحون فروج النساء ويضمنون الخمور ويركبون الفجور ويتسرعون في تمكيس المسلمينن ومن أفضل ما يلقى الله تعالى أن يتقدم بإبطال هذه القاذورات، وبإبطال كل مكس ورفع كل مظلمة، فتقدم رحمه الله تعالى للوقت بإبطال ذلك جميعه وقال له: جزاك الله عن دينك وعن نصاحتك وعن المسلمين خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه.
وأطلق له ألف دينار، فردها عليه وقال: هذه اجتماعة لله تعالى، لا أكدرها بشيء من الدنيا، وودع الشيخ السلطان ومضى إلى البلد، وقد شاع عند الناس صورة المجلس وتبطيل المنكرات وباشر بنفسه بتبطيل بعضها، ثم لم يمض الصالح إسماعيل بتبطيل المنكرات؛ لأنه كان المباشر لتدبير الملك والسلطنة يومئذ نيابة، والسلطان الملك الأشرف بعد في الحياة، ثم استقل بالملك بعده وكان أعظم منه في اعتقاد الحرف والصوت، وفي اعتقاده في مشايخ الحنابلة، ثم لم يلبث يسيراً حتى قدم السلطان الكامل رحمه الله تعالى من الديار المصرية بعساكره وجحافله وجيوشه إلى دمشق، وحاصر أخاه إسماعيل بدمشق يسيراً، ثم اصطلح معه، وحضر الشيخ عند السلطان الملك الكامل فأكرمه غاية الإكرام، وأجلسه على تكرمته، والصالح إسماعيل يشاهد ذلك وهو واقف على رأسه.
فقال الملك الكامل للشيخ: إن هذا له غرام برمي البندق، فهل يجوز له ذلك ؟
فقال: بل يحرم عليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال: (إنه يفقأ العين ويكسر العظم).
وأعطاه بعلبك، فتوجه إليها وملكها وصار ملكها، وولي السلطان الملك الكامل رحمه الله الشيخ تدريس زاوية الغزالي بجامع دمئق، وذكر بها الدرس، ثم ولاه قضاء دمشق بعدما اشترط عليه الشيخ شروطاً كثيرة، ودخل في شروطه، ثم عينه للرسالة إلى الخلافة المعظمة، ثم اختلسته المنية رحمه الله تعالى.
وكان موت الملك الأشرف وتملك الصالح إسماعيل لدمشق ثم تملك الملك الكامل لدمشق وموته سنة وكسراً، ثم ملك الملك الجواد دمشق مدة، ثم كاتب الجواد الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، وكان بالشرق على أن ينـزل له عن دمشق ويعوضه الرقة وما والاها، ففعل له ذلك، وقدم الملك الصالح نجم الدين رحمه الله إلى دمشق وملكها وعامل الشيخ بأحسن معاملة، ثم توجه بعسكره إلى نابلس بعد أن اتفاقه مع الصالح إسماعيل على أنه يستخدم رجاله من بعلبك وينجده على المصريين، فاستخدم رجاله لنفسه وخان السلطان وكاتب النواب بدمشق، فقدم عليهم، فسلموها إليه، فلما اتصلت الأخبار بالملك الصالح نجم الدين تخلصت عنه عساكره وتفرقوا عنه، وقصده جماعة من المغتالين فحمل عليهم ونجاه الله تعالى منهم، فالتجأ إلى الملك الناصر داود، فأسره وأقام عنده مدة بالكرك، واصطلح معه على المصريين.
وأما الصالح إسماعيل فإنه كان قد شاهد ما اتفق له مع الملك الأشرف، وما عامله به في آخر الأمر من الإكرام والاحترام، ثم شاهد أيضاً ما عامله به الملك الكامل من الإكرام، فولاه الصالح إسماعيل خطابة جامع دمشق، وبقي على ذلك مدة.
ثم إن المصريين حلفوا للملك الصالح نجم الدين وكاتبوه بذلك، فوصل إليهم وملك الديار المصرية، وسار في أهلها السيرة المرضية، فخاف منه الملك الصالح إسماعيل خوفاً منعه الطعام والشراب والطعام، واصطلح مع الفرنج على أنهم ينجدونه على الملك الصالح نجم الدين أيوب، وسلم إليهم صفد والثقيف وغير ذلك من حصون المسلمين، ودخل الفرنج دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين، فشق ذلك على الشيخ مشقة عظيمة وعلى المتدنيين من المتعيشين بالسلاح، فاستفتوا الشيخ في مبايعة الفرنج السلاح، فقال:
يحرم عليكم مبايعتهم؛ لأنكم تحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين.
وجدد دعاء على المنبر كان يدعو به إذا فرغ من الخطبتين قبل نـزوله من المنبر وهو: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ونعمل فيه بطاعتك، وننتهي فيه عن معصيتك، والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين والنصر على الملحدين، فكاتب أعوان السلطان السلطان بذلك، وحرفوا القول وزخرفوه، فجاء كتابه باعتقال الشيخ.
فبقي مدة معتقلاً، ثم وصل الصالح إسماعيل فأخرجه بعد أن اشترط عليه أنه لا يفتي ويلزم بيته ولا يجتمع بأحد، واشترط الشيخ أيضاً عليه أنه يفسح له في صلاة الجمعة وفي الاجتماع بطبيب أو مزين إن دعت حاجة إليهما، وفي دخول الحمام.
فأجابه إلى ذلك، فأقام مدة في داره بدمشق، ثم انتزح عنه إلى بيت المقدس، فوافاه الملك الناصر داود في الفور، فقطع عليه الطريق وأخذه وأقام عنده مدة، وجرت له معه خطوب، ثم انتقل إلى بيت المقدس وأقام به مدة، ثم جاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حماة وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية، فسير الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ بمنديله، وقال له: تدفع له منديلي وتتلطف معه غاية التلطف وتستنـزله وتعده بعوده إلى مناصبه على أحسن حال، فإذا وافقك فادخل به علي، وإن خاشنك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي.
فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في سياسته وملاطفته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تقبل يد السلطان لا غير.
فقال له: يا مسكين، والله ما أرضاه يقبل يدي، فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
فقال له: قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإلا أعتقلك.
فقال له: افعلوا ما بدا لكم.
فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان، وكان الشيخ يقرأ القرآن والسلطان يسمعه، فقال يوماً لملوك الفرنج: تسمعون هذا الذي يقرأ القرآن، قالوا: نعم، قال: هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى بيت المقدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم.
فقال له ملوك الإفرنج: لو كان هذا قسيساً لغسلنا رجليه وشربنا مرقها.
ثم جاءت العساكر المصرية ونصر الله الأمة المحمدية وقتلوا عساكر الإفرنج، ونجى الله الشيخ، فجاء إلى الديار المصرية، فأقبل عليه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله تعالى، وولاه خطابة مصر وقضاءها، وفوض إليه عمارة المساجد بمصر والقاهرة.
واتفق له في تلك الولايات غرائب وعجائب، ثم عزل نفسه عن الحكم، فتلطف السلطان رحمه الله تعالى في رده إليه، فباشره مدة، ثم عزل نفسه منه مرة ثانية، وتلطف مع السلطان في إمضاء عزله لنفسه، فأمضاه له، وأبقى جميع نوابه من الحكام، وكتب لكل حاكم منهم تقليداً.
ثم ولاه تدريس المدرسة الصالحية بالقاهرة المعزية.
ثم مات الملك الصالح نجم الدين أيوب بالمنصورة رحمه الله تعالى، وهو مجاهد ناصر الدين.
ثم وصل ابنه الملك المعظم تورانشاه إلى الديار المصرية، فملكها وانكسرت الفرنجية في دولته، وعامل الشيخ بأحسن معاملة.
ثم انتقل إلى الله تعالى، فسبحان ملك الملوك ومقدر الهلك، ثم انقضى بني أيوب، وكان كأحلام القائل أو كظل زائل لا يغتر به عاقل.
ثم صارت الدولة إلى الأتراك، وكل منهم عامل الشيخ أحسن معاملة، ولا سيما السلطان الملك الظاهر ركن الدين رحمه الله، فإنه كان يعظمه ويحترمه ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاويه، وأقام الخليفة بحضرته وإشارته.
وكانت وفاة الشيخ في دولته بالمدرسة الصالحية بالقاهرة المحروسة في يوم السبت قبيل العصر، التاسع من جمادى الأولى، في سنة ستين وستمائة، وحزن عليه وشيع أمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنازته وحمل نعشه وحضور دفنه في يوم الأحد بسفح المقطم قبل الظهر.
وهذه إجماليات في زواياها وطوايها خبايا يتعجب منها المتعجب، ولو تفرغت ورمت شرح ذلك وبسطه لجاء منه ما يجري مجرى سيرة والدي رحمه الله تعالى يزاحم السلف ويفوق بها على الخلف، والله تعالى يرحمه ويرضى عنه والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين.