نقض مبحث الجسمية في كتاب الكاشف الصغير لسعيد فودة
" الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى , يحيون بكتاب الله الموتى , ويبصرون بنور الله أهل العمى , فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه , وكم من ضال تائه قد هدوه , فما أحسن أثرهم على الناس , وما أقبح أثر الناس عليهم , ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين , وانتحال المبطلين , وتأويل الجاهلين , الذين عقدوا ألوية البدعة , وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب , يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم , يتكلمون بالمتشابه من الكلام , ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم" والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه أما بعد :
- فلعل المطلع على كتاب الكاشف الصغير لمؤلفه سعيد فودة يكون أحد رجلين :
رجل يعرف مصطلحات أهل الكلام ومعانيها وما يقصدون بها وهؤلاء قلة قليلة جدا قدرهم الغزالي رحمه الله في وقته بواحد من الألف !
أما الغالبية العظمى من المسلمين فهم يمثلون الرجل الثاني الذي لا يعرف هذه المصطلحات ولا المقصود بها ،فلا يعرف معنى الجسم والحيز والجهة والحد ولا غيرها فهي بالنسبة له طلاسم وشخابيط وشفرات لا يعرف معانيها إلا أصحابها .
- والأستاذ فودة قد سمى كتابه الكاشف الصغير ليكشف به على حد قوله عقائد ابن تيمية لا ليرد عليه ،وهذا يعني أنه فقط ينسب إليه القول بأقوال معينه يوصفها هو بأنها تجسيم أو غير ذلك ...
فالكتاب كله مبني على نسبة هذه الأقوال لابن تيمية فحسب ليتوصل فيها بزعمه أن ابن تيمية يقول بأن الله سبحانه وتعالى جسم وان ابن تيمية رحمه الله مجسم .
وعلى من يحقق وراء الأستاذ فودة أن يتحقق ابتداءا من صحة نسبة هذه الأقوال إلى ابن تيمية ثم من صحة توجيه وتوصيفه لها بعد ذلك ...
وعلى هذا فإن نقض الكاشف الصغير إنما يكون أيضا بأن يكشف ما فيه إما من عدم صحة نسبة هذه الأقوال إلى ابن تيمية وإما أن يكشف بطلان توجيه الأستاذ فودة لها ،وليس عليه بالضرورة أن يرد عليه كما فعل هو .
وإن كنت في حقيقة الأمر لا أصدق دعوى أنه لم يرد فإن ما ذكره في كتابه الكاشف لا يخرج عن معنى الرد ، حيث أن ما نقله من كلام ابن تيمية رحمه الله قد لا يتعدى بضعا وعشرين ورقة وكتابه قرب على الخمسمائة صفحة ، ومع ذلك فإنه يحرص في كل مناسبة أن يؤكد أنه لا يرد على ابن تيمية ، فلعله يعلم من بضاعته التي جاء بها في كاشفه هذا أنها لا تصلح لان تكون ردا ، ولكنا على كل حال في شوق إلى هذا الرد لا إلى مجرد الكشف الذي يحمل معنى التشنيع فحسب لاسيما إذا قرن بالافتراء والكذب كما سيأتي .
وبعد الاطلاع على كتاب الكاشف الصغير عدة مرات تبين لي أن كلام الأستاذ فودة يقوم على عدة أصول مزيفة حاول فيها جاهدا أن يؤصلها لانه بدونها ما كان ليستطيع أن يكتب كلمة واحدة في حق ابن تيمية رحمه الله ومن هذه الأصول :
أولا : انه يجزم بنسبة هذه الأقوال لابن تيمية رحمه الله وإن كان يحكيها على لسان غيره بل ويسميها أيضا نصوصا صريحة !
ثانيا : انه يصف من ينقل عنهم ابن تيمية رحمه الله أنهم أهل الحق عنده وتارة بأنهم الكرامية والحنابلة وتارة بأنهم أهل الحديث وتارة بأنهم السلف وأنه لا يخرج عن أقوالهم مع توصيفه لهم غير ما مرة بالمجسمة.
ثالثا : أنه يتجاهل تماما اصطلاحات من ينقل عنهم ابن تيمية ويتكلم على لسانهم بل ينسب إليهم الألفاظ باصطلاحه هو دون أي اعتبار لما اصطلحوا هم عليه .
رابعا : أن يتجاهل موقف ابن تيمية الصريح والذي نص عليه مرارا ببدعية هذه المصطلحات من جهة إثباتها ونفيها في حق الله سبحانه وتعالى بل يصف هذا بأنه خدعة وتناقض من ابن تيمية !
خامسا : أنه يقول في جميع هذه الأقوال باللوازم ويدعي أنها لوازم قريبة تصح نسبتها إلى ابن تيمية حتى وإن نفاها عن نفسه أو قال بعدم لزومها .
فهذه بعض الأصول التي انطلق منها الأستاذ فودة في نسبته هذه الأقوال التي يزعم أنها تدل
على تجسيم ابن تيمية رحمه الله وحاشاه .
-وحيث أن الرد عليه ونقض كلامه سيقوم على إبراز هذه المسائل والأصول وغيرها فلابد أن نضع بين يدي هذا البحث تمهيدا وسيكون من وقفتين:
- نبين في أحدهما طريقة ابن تيمية رحمه الله في رده على طوائف أهل البدع والمخالفين للسنة ، حتى يعلم كيف يورد شيخ الإسلام أقوال هؤلاء وهؤلاء ويرد عليها ..
- ونبين في الثانية من هم أهل الإثبات الذين يزعم الأستاذ فودة أنهم أهل الحق عند ابن تيمية ويستبيح بذلك نسبة أقوالهم إليه بل ويجزم بأنها " نصوص صريحة " لابن تيمية في التجسيم ، ثم بعد ذلك نتناول هذه النصوص نصا نصا ...
الوقفة الأولى :
ما هي طريقة ابن تيمية رحمه الله في مناقشة أقوال أهل البدع عامة ومناقشة الرازي في بيان التلبيس خاصة ؟
والجواب يكون بكلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال :
1- ( وأما مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل فأعظم ما يستفاد منها بيان إبطال بعضهم لمقالة بعض ..... والمقصود هنا أن يكون المقصود بالمناظرة بيان رجحان بعض الأقوال على بعض ولهذا كان كثير من مناظرة أهل الكلام إنما هي في بيان فساد مذهب المخالفين وبيان تناقضهم لأنه يكون كل من القولين باطلا فما يمكن أحدهم نصر قوله مطلقا فيبين فساد قول خصمه وهذا يحتاج إليه إذا كان صاحب المذهب حسن الظن بمذهبه قد بناه على مقدمات يعتقدها صحيحة فإذا أخذ الإنسان معه في تقرير نقيض تلك المقدمات لم يقبل ولا يبين الحق ويطول الخصام كما طال بين أهل الكلام فالوجه في ذلك أن يبين لذلك رجحان مذهب غيره عليه أو فساد مذهبه بتلك المقدمات وغيرها فإذا رأى تناقض قوله أو رجحان قول غيره على قوله اشتاق حينئذ إلى معرفة الصواب وبيان جهة الخطأ فيبين له فساد تلك المقدمات التي بنى عليها وصحة نقيضها ومن أي وجه وقع الغلط وهكذا في مناظرة الدهرى واليهودي والنصراني والرافضي وغيرهم إذا سلك معهم هذا الطريق نفع في موارد النزاع فتبين لهم وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل فإذا خوطبت بين لها أن الحق الذي ندعوكم إليه هو أولى بالقبول من الذي وافقناكم عليه ( المنهاج 2/201
فهذه الطريقة مبينة على مقابلة أقوال الطوائف بعضها ببعض بحسب اختلاف المسائل كمثل محاججة أقوال نفاة للصفات بأقوال المثبتين لها وأقوال الخوارج بأقوال أهل الإرجاء وهكذا وتكون كما ذكر رحمه الله في (مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل) ليتوصل فيها إلى إبطال قول الخصم بقول من يقابله أو يبين تناقضه وصحة قول مخالفة أو قربه إلى الحق وليس في ذلك تقرير لأي من القولين ولا تصحيح لها بل الأمر كما قال رحمه : (بيان رجحان بعض الأقوال على بعض)
2- وقال رحمه الله :
( والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما أو بطلان أحدهما أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها أصول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله ................
فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها ( من ) جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان انه ليس أولئك بأبطل من قول هؤلاء فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيهما جميعا وغن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت المقدمة التي استدل بها المستدل على نفي قول منازعه قد قال بها وبما هو أبلغ منها ؟)2/281 درء التعارض
3- وقال رحمه الله :
( وقد بسطنا كلام هؤلاء وخصومهم في الحكومة العادلة فيما ذكره الرازي في تأسيسه من المجادلة ...) إبطال التحليل 0ج:1/402
فما كان في كتاب بيان التلبيس كان على هذا الوجه من المناظرة فليتأمل .
4
- وقال أخيرا :
(.. ونحن نورد من كلامهم ما يتبين به أن جانبهم أقوى من جانب النفاة وليس لنا غرض في تقرير ما جمعوه من النفي والإثبات في هذا المقام بل نبين أنهم في ذلك أحسن حالا من نفاة انه على العرش فيما جمعوه من النفي والإثبات وقد أجاب هؤلاء عما ألزمهم النفاة من التجسيم الذي هو التركيب والانقسام ....)
بيان تلبيس الجهمية ج: 2 ص: 63
- ففي النص الأول بين طريقة رده على أهل البدع وهي مقابلة اقوالهم بعضها ببعض .
- وبين أنه ليس بالضرورة أن تكون هذه المقابلة للأقوال مقابلة بين الحق والباطل بل تكون أحيانا بين الأقوال الباطلة أو الأقوال الذي يترجح فيها قول على الأخر من جهة العقل أو الشرع .
- أن ترجيح أحد هذه الأقوال على الأخرى بناءا على ما سبق ليس حكما بأحقيتها مطلقا بل حكما يرجحانها على الأخرى فحسب وغن كانت هي في نفسها أيضا باطلة .
- أن القول بان أحد هذه القوال أقرب للحق أو للشرع أو للعقل لا يفيد الحكم بأنها حق مطلقا .
- وأخيرا ان ما في كتاب بيان تلبيس الجهمية هو على هذه الطريقة في المناظرة وهذا بنص كلام ابن تيمية رحمه الله السابق .
- أن ابن تيمية رحمه الل لا يلتزم أحد هذه الأقوال وقد نص على ذلك نصا صريحا لا يمكن لمنصف يخف الله ويرجوا اليوم الأخر أن يتجاهله وينسب اليه ما يشاء .
- فإذا تقرر ما سبق فليعلم أن الكثير من النصوص التي نسبها الأستاذ فودة إلى ابن تيمية رحمه الله كان مستنده فيها أنه قال عنها أنها أقرب للعقل أو اقرب للشرع إلى غير ذلك ...
- وليعلم أيضا أن الأستاذ فودة قد اعتمد أصلا في كتابه الكاشف يبيح له أن ينسب لابن تيمية كل ما يقول به أهل الإثبات الذين ينقل عنهم أقوالهم في رده على الرازي وهو ما سبقت الإشارة إليه من أنهم أهل الحق عند ابن تيمية وهذا ما سيبطله ما جاء في ...
الوقفة الثانية :
من هم أهل الإثبات الذي يذكرهم ابن تيمية في مقابلة أقوال الرازي وحججه ؟
والجواب أن يقال :
مصطلح أهل الإثبات عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يطلق بالاشتراك على طائفتين :
الطائفة الأولى : أهل الإتباع المحض من الصحابة والتابعين والسلف الصالح والأئمة ...
الطائفة الثانية : أهل الكلام ممن يثبت الصفات أو بعضها ، سواء كانوا متكلمة أو ممن تأثر بهم ودخل معهم في الكلام من أهل الحديث والفقه والصوفية وإتباع المذاهب .
- فإذا أطلق ابن تيمية رحمه مصطلح ( أهل الإثبات ) فليس بالضرورة أن يكونوا هم الطائفة الأولى الذين هم السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة لاسيما إذا كان الكلام في نفي أو إثبات مصطلحات أهل الكلام كالجسم والحيز والحد والجهة والتركيب والانقسام والأبعاد الثلاثة والجوهر والعرض .. إلخ .
- والذين قرر ابن تيمية رحمه الله في غير ما موضع أنهم لم يتعرضوا لهذه الألفاظ نفيا ولا إثباتا حيث أن هذه الألفاظ لم تكن مستعملة ولا مشتهرة في وقتهم وإن وجد شيء منها فليست هي على ما اصطلح عليه أهل الكلام ومن أدرك منهم هذه المصطلحات فقد ذمها وذم أهلها وبدعهم.
- قال رحمه الله : (أن لفظ الجسم والعرض والمتحيز ونحو ذلك ألفاظ اصطلاحية وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك حق الله لا بنفي ولا بإثبات بل بدعوا أهل الكلام بذلك وذموهم غاية الذم ) ا. هـ
- فلا يمكن أن يكونوا طرفا في مناظرة حول هذه المصطلحات فينحصر الكلام في الغالب في متكلمة أهل الإثبات - كما سيأتي تفصيلهم - إن كان متعلقا بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا ...
- ولما كانت أقوال متكلمة الصفات قد تتفق أهل في الجملة مع أقوال السلف من حيث التوافق على بعض المعاني الصحيحة والمثبتة بنصوص الكتاب والسنة كان من الممكن أن تنسب إليهم هذه المعاني كالعلو والاستواء وغيره لدلالة النصوص من الكتاب والسنة على إثبات هذه المعاني .
- وهذا ما يخلط فيه الأستاذ فودة وغيره وربما يلتبس عليهم هذا فيظنوا أن ابن تيمية ينسب القول بإثبات هذه الألفاظ إلى السلف والأئمة وفي الحقيقة أنه ينسب بعض معاني هذه الألفاظ مما وافقت صريح المعقول وصحيح المنقول من الكتاب والسنة وتكلم بها السلف والأئمة فيأتي الأستاذ فودة جهلا أو تجاهلا فيقول ابن تيمية ينسب إلى السلف والأئمة القول بهذه الألفاظ والمصطلحات !!!
وهذا خلط يخالف ما نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله في غير موضع .
وسيأتي التمثيل بذلك حين التعرض لنصوص الأستاذ فودة .
وفي الحقيقة فإن الأستاذ فودة لم يتعلم الدقة من ابن تيمية رغم أنه يزعم أنه قد مارس كتبه أو جلها !
- أما كون هؤلاء من أهل الإثبات فلأنهم يثبتون صفات الله سبحانه وتعالى أو بعضها وهذا يشمل من يثبت منهم بعض الصفات وينفي بعضها كالكلابية والاشاعرة ...
- أما كونهم مع ذلك ليسوا من الطائفة الأولى (السلف)أو تبعا لهم ، فذلك لأنهم ولجوا علم الكلام واعتمدوا طرقا مبتدعة للإثبات لم يتكلم بها السلف ولا دل عليها كتاب ولا سنة .
فما أثبتوه من الصفات إنما أثبتوه على غير منهج السلف بل بما سموه حججا عقلية وما نفوه إنما نفوه أيضا بما سموه حججا عقلية، من غير إتباع لما جاء في الكتاب والسنة وما أثبتوه سيبقى حجة وشاهدا ينادي على تناقضهم إلى يوم القيامة ولذلك لتماثل موجب الإثبات والنفي .
- فكتاب الكاشف الصغير من أوله إلى آخره قائم على نسبة أقوال متكلمة أهل الإثبات إلى ابن تيمية حيث أنهم على زعمه أهل الحق عنده وأنه لا يخرج عن قولهم !
فإذا ثبت أنهم ليسوا كذلك فينتقض بذلك كلام الأستاذ فودة جميعه وتبطل نسبة هذا الكلام إلى ابن تيمية
لاسيما إذا عرفت طريقته في إبطال حجج أهل البدع .
أما متكلمة أهل الإثبات فينقسمون إلى قسمين :
القسم الأول :
طوائف ممن ينفون الجسمية عن الله سبحانه وتعالى ومع ذلك فهم يثبتون الصفات وينفون لوازم هذا الإثبات الذي يزعمه النفاة من أن الإثبات يلزم منه التجسيم فهم ينفون الجسمية ويثبتون الصفات .وهؤلاء هم طوائف من نظار المتكلمين من الكلابية والاشاعرة وأتباع المذاهب وغيرهم .
القسم الثاني :
طوائف ممن يثبتون الجسمية لله سبحانه وتعالى وهم ينقسمون أيضا إلى صنفين :
الأول : طوائف من نظار أهل الكلام وعلماءهم يفسرون الجسم بالموجود القائم بنفسه الموصوف بالصفات أو المشار اليه ويقولون الجسم هو ما له ذات والقابل للصفات والله سبحانه وتعالى قائم بنفسه موصوف بالصفات فهو جسم ولكنه غير مماثل للأجسام فهو جسم لا كالأجسام ويثبتون ما ينفيه النفاة من هذه الألفاظ ويعارضون أقوالهم بالحجج العقلية والأدلة الكلامية .
الثاني : المجسمة الغلاة الذين يقولون بأن الله سبحانه جسم ويزعمون أنه حقيقته مماثلة لسائر الأجسام ويصفونه بما توصف به سائر الأجسام فيقولون ما يحكى عنهم من الأقوال الشنيعة وهؤلاء متفق على ضلالهم وبطلان أقوالهم .
فإذا تركنا المجسمة الغلاة جانبا للاتفاق على رد قولهم وبطلانه ...
فيبقى لنا طائفتان من متكلمة أهل الإثبات :
الأولى : تنفي أن يوصف الله سبحانه بأنه جسم ومع ذلك فهم يثبتون الصفات .
الثانية : تثبت أن الله سبحانه وتعالى جسم وأيضا يثبتون الصفات وهذان هما من يعارض بهما وبأقوالهم ابن تيمية رحمه الله أقوال النفاة وحججهم .
- قد يقول قائل : ما الفائدة من أقوال القسم الأول الذين ينفون الجسمية كما ينفيها الرازي ؟
والجواب : أن هؤلاء النظار من المتكلمين عندما يثبتون الصفات مع نفيهم لكون الله سبحانه وتعالى جسم فهذا يعني أنهم لا يقولون بهذه اللوازم التي يقول بها الرازي من إثبات هذه الصفات ...
فمثلا هم يثبتون المباينة لله سبحانه وتعالى من خلقه فيقولون بالاستواء والعلو .
- فيقولون هو سبحانه فوق العرش بائن من خلقه وليس بجسم..
- أما الرازي فيقول ليس فوق العرش رب أصلا لان إثبات المباينة والفوقية والاستواء يلزم منه التجسيم لان هذا كله من خصائص الأجسام فمن أثبت العلو الذي يسميه جهة فقد لزمه التجسيم على قوله !
فيرد عليه ابن تيمية بقول هؤلاء الذين أثبتوا العلو والاستواء ومع ذلك هم ينفون الجسمية .فيبين من هذه المعارضة أن لوازم التجسيم التي يجعلها لازمة للعلو والاستواء والفوقية ليست بلوازم صحيحة وإنما هي لوازم باطلة لان من سبقه من المتكلمين والنظار الأئمة في المذهب الأشعري والكلابية وغيرهم لم يقولوا بهذه اللوازم مع نفيهم للجسمية .فغما أنهم مجسمة وإما أنها ليست بلوازم صحيحة فتكون المعارضة على هذا الوجه
- - وقد يقول قائل أيضا وكيف يحتج ابن تيمية رحمه الله بقول من يقول بأن الله جسم ويثبت لله سبحانه وتعالى الحيز والحد والجهة ونفي حدوث جميع الأجسام ؟
والجواب هو أن نقرر ابتداءا موقف ابن تيمية من هذه الألفاظ بكلامه الصريح والواضح وذلك بقوله ( وإثبات لفظ الجسم ونفيه بدعة لم يتكلم به أحد من السلف والأئمة كما لم يثبتوا لفظ التحيز ولا نفوه ولا لفظ الجهة ولا نفوه ولكن أثبتوا الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة ونفوا مماثلة المخلوقات)
فموقف ابن تيمية قد أبان عنه رحمه الله فهو في هذه المصطلحات لا ينفيها ولا يثبتها تبعا للشريعة التي لم تتعرض لها بنفي ولا إثبات فهو في حقيقة خصم معارض لكلا الفريقين المثبتين والنفاة وهذا مقتضى صريح قوله .
- أما معارضته بأقوال هؤلاء فهي من باب المحاججة والمناظرة والمقابلة بين الأقوال التي يزعم أهلها أنها " عقلية ضرورية " فيظهر بإثبات هذا بطلان نفي هذا ، وبظهور حجة هذا ضعف حجة الآخر ... فهذا يثبت عقلا بان الله سبحانه وتعالى جسم والآخر ينفي ذلك عقلا ايضا وكلاهما يزعم أن هذا هو المعقول وهذا هو عين الكمال له سبحانه ، وهذا يثبت الجهة وهذا ينفيها وهذا يرد على هذا بأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا مباينا منفصلا عن غيره ممن يقوم بنفسه والآخر يرد عليه بأن ثمة موجود لا مباين ولا محايث وكلا الفريقين من المتكلمين وكلاهما يدعي أن حكمه هو حكم العقل القاطع وقد يكون ثمة قرب لأحدهما للعقل والشرع على الأخرى فيقر له بالمعنى الموافق للشريعة كإثبات العلو والاستواء وإثبات الصفات الخبرية كالحب والرضى والغضب وغيرها ...
لكن في النهاية لدينا موقفا صريحا صحيحا موافقا للكتاب والسنة قد قرره ابن تيمية رحمه الله وهو بدعية هذه المصطلحات وعدم جواز نفيها او إثباتها لله سبحانه وتعالى .
فإذا فهم ذلك لم يكن لأحد يدعي التحقيق والإنصاف أن ينسب إلى ابن تيمية رحمه الله أيا من هذه الأقوال التي نص على موقفه منها صراحة فتجاهل ذلك دليل العناد والإصرار على الكذب .
فهو تارة يعارض أقوال الرازي وغيره بأقوال أمثالهم ممن ينفون الجسمية ويثبتون هذه الصفات .طعنا فيما جعلوه لوازم الإثبات بزعمهم ! فيقول لهم هؤلاء اثبتوا الصفات ولم يقولوا بهذا اللوازم فإما أن هذه اللوازم لا تلزم أصلا وإما أن هؤلاء الأئمة السابقين لكم والمؤسسين لمذهبكم مجسمة وإما أنكم متعارضون مختلفون في معنى الجسمية الذي تنفونه جميعا
.
- وتارة يعارض أقوالهم بأقوال من يثبت الجسمية على المعنى الذي ذكروه ويقابل بحججهم حجج هؤلاء النفاة في مثل مسائل الحدوث والمباينة وانحصار المجودات إلى غير ذلك .
و هذه بعض النصوص التي تعرض فيها ابن تيمية لذكر أهل الإثبات على نحو ما ذكرت :
قال رحمه الله :
( ولا ريب أن المثبتين لهذه الصفات أربعة أصناف :
1- صنف يثبتونها وينفون التجسيم والتركيب والتبعيض مطلقا كما هي طريق الكلابية والأشعرية وطائفة من الكرامية كابن الهيصم وغيره وهو قول طوائف من الحنبلية والمالكية والشافعية والحنفية كأبي الحسن التميمي وابنه أبي الفضل ورزق الله التميمي والشريف أبي علي ابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الجسن ابن الزاغوني لا حصى كثرة يصرحون بإثبات هذه الصفات وينفي التجسيم والتركيب والتبعيض والتجزئ والانقسام ونحو ذلك وأول من عرف أنه قال هذا القول هو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب ثم اتبعه على ذلك خلائق لا يحصيهم إلا الله .
2- وصنف يثبتون هذه الصفات ولا يتعرضون للتركيب والتجسيم والتبعيض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة لا بنفي ولا إثبات لكن ينزهون الله عما تزه عنه نفسه ويقولون إنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ويقول من يقول منهم مأثور عن ابن عباس وغيره أنه لا يتبعض فينفصل بعضه عن بعض وهم متفقون على أنه لا يمكن تفريقه ولا تجزيه بمعنى انفصال شيء منه عن شيء وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة وأئمتها وعليه أئمة الفقهاء وأئمة أهل الحديث وأئمة الصوفية وأهل الاتباع المحض من الحنبلية على هذا القول يحافظون على الألفاظ المأثورة ولا يطلقون على الله نفيا وإثباتا إلا ما جاء به الأثر وما كان في معناه
3- وصنف ثالث يثبتون هذه الصفات ويثبتون ما ينفيه النفاة لها ويقولون هو جسم لا كالأجسام ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم وهذا قول طوائف من أهل الكلام المتقدمين والمتأخرين
4- وصنف رابع يصفونه مع كونه جسما بما يوصف به غيره من الأجسام فهذا قول المشبهة الممثلة وهم الذين ثبت عن الأمة تبديعهم وتضليلهم
فلفظ الجسم لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف في حق الله لا نفيا ولا إثباتا ولا ذموا أحدا ولا مدحوه بهذا الاسم ولا ذموا مذهبا ولا مدحوه بهذا الاسم وإنما تواتر عنهم ذم الجهمية الذين ينفون هذه الصفات وذم طوائف منهم كالمشبهة وبينوا مرادهم بالمشبهة)
بيان التلبيس 1/46
وهذا كله مصداق ما ذكرته من تقسيم أهل الإثبات .
وقال رحمه الله :
- ( فإن أهل الإثبات من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم.) .اقتضاء الصراط 1/419
وقال رحمه الله :
3- ( ومتكلمة أهل الإثبات للصفات والقدر مثل الكرامية والكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه فأما السلف والأئمة وأكابر أهل الحديث والسنة والجماعة فهم أولى الطوائف بموافقة المعقول الصحيح والمنقول والصحيح...)
ومن الدلائل الواضحة على عدم دخول ابن تيمية رحمه الله في مسمى أهل الإثبات أو المثبتين الذي يذكره في كتاب بيان التلبيس في رده على الرازي قوله رحمه الله :
4- ( قلت والكلام على هذا مع العلم بأن المقصود ذكر القول والفصل والحكم العادل فيما يذكره النفاة من الحجج والجواب عما ذكره من جهة منازعه ليس المقصود استيفاء حجج المثبتة بل إذ تبين أن هذا الذي هو الإمام المطلق في المتأخرين من هؤلاء النفاة المتكلمين والفلاسفة وعرف فرط معاداته لهؤلاء المثبتة الذين ذكرهم وذكر حججهم مع ما هم عليه من ضعف الحجج وقلة المعرفة بالسنن ومذاهب السلف ومع ما فيهم من الانحراف ثم تبين ظهور حججهم العقلية التي ذكرها دع السمعية على ما استوفاه من حجج النفاة العقلية والسمعية مع استعانته بكل من هو من النفاة حتى المشركين الصابئين مثل أرسطو وأبي معشر وشعيتهما من الفلاسفة والمنجمين والمعتزلة وغيرهم.) بيان تلبيس الجهمية 2/330 )
فهل بعد كل ما سبق يجوز لمسلم أن ينسب ابن تيمية رحمه الله إلى هؤلاء الذين ينعتهم بضعف الحجج وقلة المعرفة بالسنن ومذاهب السلف بل وينعتهم بالانحراف ؟!
فإذا أتفق على ما جاء في هاتين الوقفتين ابتداءا فلستصحب مضمونهما حين محاكمة الأستاذ فودة في إيراده لما يزعمه نصوصا عن ابن تيمية صريحة في التجسيم والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .