الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه.. وبعد.
اعلم أخي الحبيب أن هذه الحياة الدنيا انفاس معدودة في أماكن محدودة . وأن هذه الحياة بحر والأنفاس مراكب تقربنا إلى الشاطىء . وأن الحياة سفر ، وهو إن طال او قصر لا بد ان ينتهي إلى المنزل والمستقر في نهاية المطاف: إما إلى جنة أبداً ،أو إلى نار أبداً. فهل من مشمر إلى الجنة؟ أم تريد القعود مع القاعدين؟ منازلنا الاولى وفيها المخيم
لقد دق ناقوس الرحيل ،وتهيا الركب للمسير، فوضعوا الزاد، وملئت المزاد ، وحملت الإبل.. وأنت لم تزل في الرقدة الاولى بعد!
كلنا لا بد ان يركب قطار الآخرة ويسافر. فهل تريد أن ترحل كريما ، ويحسن استقبالك، وتنزل منزلاً كريما؟
أم تريد ان تذهب مخفورا ؟ وتستقبل مهانا؟ وتلقى ملوما مدحورا؟
إن من أراد سفراً سأل ونقر، اعد له العدة وفكر ، وهيأ له الزاد وقدر. فما بالنا نغفل عن السفر الطويل إلى الآخرة ؟.
إن الايام تسير بنا وإن لم نسر ، والأنفاس مراحل تقربنا
إلى القبر الذي هو أول منازل الآخرة .وبعد ذلك أهوال وأهوال .
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
فماذا تراك قد أعددت لهذا السفر الطويل الذي بدأ بالفعل
أيام عمرك تذهب وجميع سعيك يكتب
ثم الدليل عليك منك فأين أين المهرب؟
فالبدار البدار.. فلا يوجد ثم طريق للهرب أو الفرار.
*وقال رسول الله صلى الله عليه سلم: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ }. فالفراغ نعمة عظيمة لمن شغلها بطاعة الله تعالى. فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك هي بالباطل.
لقد هاج الفراغ عليك شغلاً
يحكى ان رجلا كان يحاسب نفسه، فحسب يوما سني عمره ، فوجدها ستين سنة .فحسب ايامها ، فوجدها واحدا وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم.
فصرخ صرخة ، وخر مغشيا عليه . فلما أفاق قال : يا ويلتاه ، أنا آتي ربي بواحد وعشرين ألف ذنب ؟...
يقول هذا لو كان يقترف ذنباً واحدا في كل يوم ، فكيف بذنوب كثيرة لا تحصى ؟.
ثم قال : آه علي ، عمرت دنياي ، وخربت أخراي ، وعصيت مولاي ، ثم لا أشتهي النقلة من العمران الى الخراب .انشد:
منازل دنياك شيدتها وخربت دارك في الآخرة
فاصبحت تكرهها للخراب وترغب في دارك العامرة
وفي الحديث : اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك. واعلم اخي الحبيب ان لك موضعين تندم عندهما حيث لا ينفع الندم:
الاول:عند الاحتضار ، حيث تريد مهلة من الزمن لتصلح ما أفسدت ، وتتدارك ما ضيعت ، ولكن هيهات.
الثاني: عند الحساب ، حيث توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه ، نقص فيه أجلي ، ولم يزد فيه عملي ....
وقال سعيد بن جبير : إن كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة. إن الليل والنهار راس مال المؤمن ، ربحها الجنة وخسرانها النار . والسنة شجرة : الشهور فروعها ، والايام اغصانها، والساعات اوراقها ، والأنفاس ثمارها.فمن كانت انفاسه في معصية ، فثمرته حنظل والعياذ بالله. قال الحسن: من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه ، خذلانها من الله عز وجل .
وقال ابو حازم : إن بضاعة الآخرة كاسدة ، يوشك ان تنفق ، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير . ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والاسف عليه ، ويتمنى الرجوع الى حال يتمكن فيها من العمل ، فلا تنفعه الامنية. يا هذا .. الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك الى آخر سفرهم. فإن استطعت ان تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها ، فافعل . فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو ، والامر اعجل من ذلك . فتزود لسفرك ، واقض ما انت قاض من امرك ، فكأنك بالأمر قد بغتك. قال الحسن رحمه الله:ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له : ابن آدم ، إني يوم جديد ، وعلى عملك شهيد ، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك ، فقدم ما شئت تجده بين يديك ، وأخر ما شئت فلن يعود ابداً إليك.
تؤمل في الدنيا طويلاً ولا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة
وكم من مريض عاش دهراً إلى دهر
وقال أبو نصر آبادي :مراعاة الاوقات من علامات التيقظ. وقال مورق العجلي :يا ابن آدم ..تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن ،وينقص عمرك وانت لا تحزن ، وتطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك. لقد كان السلف الصالح مشغولين دائما بالآخرة ، منتبهين لقيمة الوقت.
قال ابن مهدي :كنا مع سفيان الثوري جلوسا بمكة ، فوثب وقال : النهار يعمل عمله.
وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ، ولكل منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فاليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب بلا عمل. أخي الحبيب..ينبغي أن تذكر نفسك دائما بهذا السؤال : لماذا خلقنا ؟ ويجيب رب العزة : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ثم تأمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه: لو لا ثلاث ما أحببت العيش يوما واحدا : الظمأ لله بالهواجر ، والسجود لله في جوف الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : إن الدنيا ليست بدار قراركم ، كتب الله عليها الفناء ،وكتب على أهلها الظعن . فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة ، باحسن ما بحضرتكم من النقلة ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . ولا بد للإنسان من حمل عدة
ولا سيما إن خاف صولة قاهر
قال الحسن: ابن آدم ، إنك بين مطيتين يوضعانك :الليل إلى النهار ، والنهار إلى الليل ، حتى يسلمانك إلى الآخرة .فمن أعظم خطراً منك ؟.
يا هذا ، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك . وإنما أنت أيام معدودة ، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب سأل الفضيل رجلاً: كم أتت عليك ؟ قال :ستون سنة. فقال : فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك ، ويوشك أن تبلغ . فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون .
وقال داود الطائي :يا ابن آدم، فرحت ببلوغ أجلك، وإنما بلغته بانقضاء مدة أجلك . وسوفت بعملك ، كأن منفعته لغيرك ...
وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل
أخي الحبيب.. إن الزمان أشرف شيء ، فلا تضيعه في البطالة . احرص على الطاعات ، واغتنم الاوقات قبل الفوات .
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله
قال الحسن : لقد أدركت أقواما كان أحدهم أشح بعمره من أحدكم بدرهمه
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه
يحكى أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه اجتهد قبل موته، فقيل له : لو رفقت بنفسك ؟ فقال : إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها . والذي بقي من أجلي أقل من ذلك .
وما المرء إلا راكب ظهر عمره
على سفر يطويه باليوم والشهر
بعيدا عن الدنيا قريبا من القبر يا هذا .. أمس أجل، واليوم عمل ، وغدا أمل . فلا يلهينك الأمل عن العمل .
كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه :ويحك يا يزيد ، من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت ؟ من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت ؟ من ذا الذي يرضي ربك عنك بعد الموت ؟ ثم يقول : أيها الناس ، ألا تبكون وتنوحون على انفسكم باقي حياتكم ؟ . قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنكم في ممر من الليل والنهار ، في آجال منقوصة ، وأعمال محفوظة ، والموت يأتي بغتة . فمن يزرع خير فيوشك أن يحصد رغبة ، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة ، ولكل زارع ما زرع.
تمر الليالي والحوادث تنقضي
قال يحيى بن معاذ : لست أبكي على نفسي إن ماتت ، إنما أبكي لحاجتي إن فاتت
هل آن الآوان لكي تبادر وتشمر في جمع الغنائم الباردة قبل أن تمنعها ؟
قال أحمد بن عاصم الأنطاكي : {هذه غنيمة باردة :أصلح ما بقي من عمرك ، يغفر لك ما مضى}.
طوبى لمن سمع ووعى ، وحق ما ادعى ، ونهى النفس عن الهوى ، وعلم أن الفائز من ارعوى ن وأن للإنسان وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
.
.
.
.
.
.
.منقول