إن الإنسان معرض خلال حياته إلى العديد من المصائب والمحن والابتلاءات ، وهو لا ينفك عن ذلك ، فهو في بلاء دائم إلى أن يلقى ربه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك2، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }البقرة156.. وهو دائما في كبد {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ }البلد4 ..
فالإنسان بين مرض يتعرض له ، و موت رفيق ، و فقد حبيب ، و بلاء في ماله ، أو ولده ، وغير ذلك من الابتلاءات الدنيوية العديدة التي يصيبه بها المولى عز وجل لير كيف يكون الصبر والشكر ، والثبات على الصراط المستقيم ..
ولابد للمؤمن إذا اعتورته مصائب الحياة واعترضته محنها وابتلاءاتها ، من زاد يتزود به ، ومعتصم يعتصم به ، وركن شديد يأوي إليه ..
ولاشك أن عوامل الثبات عند المصيبة كثيرة متنوعة رأسها الإيمان بالله تبارك وتعالى ، وذكره على كل حال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ }الأنفال45 ، والتمسك بقراءة القرآن الكريم والعبرة بقصص الأولين فيه ، وكيف استقبل المؤمنون المحن على مر العصور والأجيال ، ومراجعة قصص الأنبياء وسير الصحابة والصالحين وما فيها من آيات الصبر ، ودلائل الشكر في السراء والضراء .. { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }البقرة177 ، { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }الحج35 ..
ولعل من أعظم أسباب الثبات عند البلاء ، والصبر عند المصائب ، تذكر المؤمن مصيبته ، ومصيبة الأمة في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فلاشك أنه لا يكتمل إيمان المؤمن حتى يكون رسول الله أحب إليه مما سواه ، أحب إليه من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه والناس أجمعين ..
فإن تذكر مصيبة المؤمن في فقده أحب خلق الله تعالى على قلبه ، يهون عليه ما عداه من المصائب والشدائد والمحن والابتلاءات ..
لقد كان انفراد جيل الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو الجيل القرآني الفريد ، بمزايا جعلته بلا ريب خير قرون البشرية ، وأعظم شخوصها على الإطلاق فضلا وإيمانا ، فهو الذي تربى على يدي المربي الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان القرآن الكريم يتنزل على نبيه بين ظهرانيهم ، ونصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهاجروا ، أو آووا ونصروا ، وخاضوا معه المواجهات الضارية الدامية التي شنها عليهم الباطل وأهله .. وحملوا الخير والهداية إلى العالم دعوة وجهادا وفتحا وسلوكا .. فكانوا أعلام الهدى ومنارات الخير ، ونجوم الدجى ، رضي الله عنهم أجمعين ..
غير أن صفة معينة انفرد بها هذا الجيل الفريد جعلته يتبوأ تلك المكانة السامقة في تاريخ البشرية إلى قيام الساعة ، ألا وهي حبهم الجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حبا دفعهم إلى التضحية في سبيل نجاته وحياته وسلامته ، بالأرواح والمهج ، بالنفس والمال والولد .. فيضعون نحورهم دون نحره صلى الله عليه وسلم : نحري دون نحرك يا رسول الله .. أي باللهجة المعاصرة الدارجة : عنقي فداؤك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ..
في عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد ، حين نزل البلاء بالمسلمين ، وصدمتهم المصيبة ، واتخذ الله تعالى منهم الشهداء ، مر بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأبوها وأخوها بأحد ، فلما نعوا لها قالت :
فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا : خيرا يا أم فلان ، وهو بحمد الله كما تحبين ..
قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير إليها ، حتى إذا رأته قالت :
كل مصيبة بعدك جلل ـ تريد صغيرة ـ [2]
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو ، وسعد آخذ بلجام فرسه ، فقال يا رسول الله أمي ،
فقال : مرحبا بها ، ووقف لها ، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ .
قالت : أما إذا رأيتك سالما ، فقد اشتويت المصيبة . ـ أي استقللتها ـ[3]
هذه أم تستشوي مصيبتها وتستقلها في فقد ابنها الشهيد ، إذا قاستها بنجاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وامرأة بني دينار ، تستقل فقدان زوج وأب وأخ ، في سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ولقد أجمع أغلب كتاب السير على أن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة[4] ..
ففي رواية السيدة عائشة رضي الله عنها عن اللحظات الأخيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم : رجع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع في حجري ، فدخل علي رجل من آل أبي بكر وفي يده سواك أخضر ، فنظر رسول الله إليه في يده نظرا عرفت أنه يريده ، فقلت يا رسول الله أتحب أن أعطيك هذا السواك ؟
قال نعم . فأخذته فمضغته حتى لينته ثم أعطيته إياه .. فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ثم وضعه .
ووجدت رسول الله يثقل في حجري ، فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول : ( بل الرفيق الأعلى من الجنة ) ،
فقلت خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق ! وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم [5]
وهو يقول : ( قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ويردد : ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه [6]
هذه هي اللحظات الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعظم الخلق على الله ، وأحب البشر إليه ، وأحبهم إلى المؤمنين من عباده الصالحين .. وهذه هي وفاته صلى الله عليه وسلم ..
فهل بعد مصيبة وفاته صلى الله عليه وسلم ، تقوم لمصيبة في هذه الدنيا قائمة ؟
فما أقل وأصغر كل مصيبة بعد مصيبة فقدك يا رسول الله ، وما أقل وأصغر كل حب بعد حبك صلى الله عليك وسلم ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله .. نفتدي حبك بكل حبيب ، ونرجو لقاءك على الحوض ..