السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
......
بعد أن تابعنا أيها الأفاضل ، أيتها الفضليات في المشاركات السابقة، و تأكدنا من أن تدوين الحديث الشريف قد وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، رأيت من الواجب التعرض لتفنيد و إبطال بعض الشبهات التي أثارها و روج لها المبطلون و الذين في قلوبهم مرض – عليهم من الله ما يستحقون – حول تدوين السنة النبوية وأن حفظ الأحاديث الشريفة كتابةََ لم يبدأ إلا في القرن الثاني ، مما عرضها للتحريف و التبديل ، مستدلين على ذلك بالآثار الواردة في المنع من كتابة الحديث النبوي ، و هي آثار ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم و أخرى (موقوفة عن بعض الصحابةِ منهم عمرُ وابن مسعودٍ وزيدِ بنِ ثابتٍ وغيرِهم رضي الله عنهم) فلا مجال للتشكيك في صحتها، و منهاالحديث الذي رواه مسلم في صحيحه رقم 5326 : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ قَالَ هَمَّامٌ أَحْسِبُهُ قَالَ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ).
قد يبدو للقارئ الفاضل التناقض بين ما اوردناه من أحاديث نبوية ، و أدلة تؤكد التدوين في العهد النبوي ، و بين هذه الآثار ، لكن تمعن معي – أيها الفاضل – في تخريجات العلماء و الحفاظ جزاهم الله بكل خير لدفع هذا التعارض، و التي سنوردها هنا :
• ذهب كثير من العلماء الى أن النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان في بداية الدعوة الإسلامية كي لا يختلط الحديث بكتاب الله تعالى ، فلما زال هذا الاحتمال وامن اللبس أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة من دون حمل ذلك على النسخ ولا تصريح به ؛ يقول الإمام ابو سعيد السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء بهذا الخصوص : " إن كراهة تدوين الحديث ، إنما كانت في الابتداء ، كي لا تختلط بكتاب الله ،فلما وقع الأمن عن الاختلاط جاز كتابته " .
وممن ذهب الى هذا الرأي الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم فقال : " وقيل كان النهي أولا لما خيف اختلاطه بالقران ،والإذن بعده لما امن من ذلك " .
ونقل صاحب عون المعبود عن الخطابي قوله في توجيه المسألة : " أن يكون النهي متقدما ، وآخر الأمرين الإباحة ".
• ومن العلماء من صرح أن أحاديث الإباحة ناسخة لأحاديث المنع ، حكي ذلك ابن حجر في الفتح فقال: " أو أن النهي متقدم والاذن ناسخ له" . وقال السيوطي في الديباج:" هذا منسوخ بالأحاديث الواردة في الإذن بالكتابة ، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلما امن ذلك إذن فيه" .
• بينما ذهب فريق آخر من العلماء الى أن النهي خاص والإذن عام ؛ " والنهي متعلق بمن يخشى منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ ، والإذن لمن أذن منه ذلك " . قال السمعاني في هذا الخصوص : " وكانوا يكرهون الكتاب أيضا لكي لا يعتمد العالم على الكتاب بل يحفظه" .
وقال النووي رحمه الله : " كان النهي لمن خيف اتكاله على الكتاب وتفريطه في الحفظ ،مع تمكنه منه والإذن لمن لا يتمكن من الحفظ" .
• وذهب فريق خامس من العلماء الى أن النهي متوجه الى منع الجمع بين القران والسنة في صحيفة واحدة ، والإذن وارد في التفريق بينهما ؛ حكا هذا القول الإمام ابن حجر في الفتح فقال: " النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القران في شيء واحد والإذن في تفريقهما" .
وقال الامام السيوطي :" وقيل النهي مخصوص بكتابة الحديث مع القران في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ" . ونقل الشيخ عبد العظيم آبادي في شرحه لسنن أبي داود عن الشيخ علي القارئ ما يؤيد هذا المعنى بقوله: " فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا فلا وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ وقال :" ليبلغ الشاهد الغائب" . فان لم يقيدوا ما يبلغونه تعذر التبليغ ، ولم يؤمن ذهاب العلم ، وان يسقط أكثر الحديث ،فلا يبلغ آخر القرون من الأمة ...فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والله اعلم " ، ويشهد لهذا الرأي ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة من الأمر بتجريد المصاحف وعدم إدخال شيء عليها ؛ يقول الإمام الزيلعي: " عن ابن مسعود أنه قال "جردوا القرآن"ويروى" جردوا المصاحف" قلت :رواه ابن أبي شيبة في مصنفه في الصلاة ، وفي فضائل القران ،...وفي مصنف عبد الرزاق "جردوا القران لا تلحقوا به ما ليس منه".
نخرج من كل هذه النقول لعلمائنا رحمهم الله بان المنع من تدوين الحديث الشريف كان في بدء الدعوة حتى لا يختلط القرآن بالسنة، ولم يستقر الأسلوب القرآني بعد في النفوس، أو كان ذلك النهي بالنسبة لكتاب الوحي خاصة حتى يتفرغوا لمهمة القرآن او الني كان خاصا بكتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة.
و قد أعجبني الطرح الذي قدمه فضيلة الدكتور محمد الطرهوني حفظه الله في محاضرة له ، قال فيها : '' وقد رُوِيَتْ إباحةُ الكتابةِ عن علي - رضي الله عنه - والحسن وأنس رضي الله عنهم .
وكما ذكرنا ونؤكد أن النهيَ أولاً يرجع إلى الحِفاظِ على كتاب الله حتى لا يختلِطَ به غيرُه في ذلك الوقتِ المتقدم ، لأن كلامَ الله معجِزٌ ولفظُه عجيبٌ ، وهو متعبَّدٌ بتلاوته ، وله خواصٌّ كثيرةٌ ليست كغيره ، فهو كلام الله سبحانه وتعالى .
وأما كلامُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو وإن كان معناه وحياً من عند الله كما ذكرنا ، إلا أن اللفظَ فيه لفظٌ بشريٌّ ليس فيه إعجازٌ ولا يتعَبَّدُ بتلاوته . فلو ذهب شيءٌ من لفظه فلن يذهب معناه من صدور الصحابةِ رضي الله عنهم لأن العهدَ قريبٌ والاعتماد فيه على الحفظ لا ضررَ فيه ، وأما القرآن فلا بدَّ فيه من ضبطِ اللفظِ تماماً وليس فيه رواية بالمعنى كما ذكرنا قبل ذلك .
ثم رخَّصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتابة عندما أمِنَ اختلاطُ القرآن بغيره ، وقد كان نزلَ جُلُّ القرآن وكُتِبَ وحَفِظَه جماعةُ .
وفي هذا سرٌّ عجيبٌ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو لم يرخِّصْ في كتابة الحديث لأعرضَ المسلمون في سائر الأزمنةِ عن كتابته ففقدنا الكثيرَ منه وأضِيفَ فيه ما ليس منه .
والخلاصةُ أنه قد حكى أهلُ العلمِ انعقادَ الإجماعِ مؤخَّراً على تجويز كتابة الحديث واندفع الخلاف في ذلك والحمد لله رب العالمين".
و الله أعلم,