و خير جليس في الأنام كتاب.
الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك ، و الصديق الذي لا يغريك، و الرفيق الذي لا يملك، و المستميح الذي لا يستريثك، و الجار الذي لا يستبيطك، و الصاحب الذي لا يريد اخراج ما عندك بالملق، و لا يعاملك بالمكر، و لا يخدعك بالنفاق، و لا يحتال لك باكذب.
و الكتاب هو الذي ان نظرت فيه اطال امتاعك ، و شحذ طباعك، و بسط لسانك و جود بنانك ، و فخم ألفاظك ، و بحبح نفسك و عمر صدرك و منحك تعظيم العوام و صداقة الملوك ، و عرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، و مع السلامة من الغرم، و من كد الطلب ، و من الوقوف بباب المكتسب من التعليم و الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا ، و أكرم منه عرقا ، و مع السلامة من مجالسة البغضاء و مقارنة الأغنياء.
و الكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته في النهار، و يطيعك في السفر كطاعته في الحضر، و لا يعتل بنوم ولا يعتريه كلل السهر ، و هو المعلم الذي ان افتقرت اليه لم يخفرك، و ان قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، و ان عزلته لم يدع طاعتك، و ان هبت ريح أعاديك لم تنقلب عليك، و متى كنت معه متعلقا بسبب او معتصما بأدنى حبل كان لك فيه غنى من غيره، و لم تضرك معه وحشة الوحدة الى جليس السوء، و لو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك الا منعه لك من الجلوس على بابك، و النظر الى المارة بك، مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تُلزم و من فضول النظر و من عادة الخوض فيما لا يعنيك و من ملابسة صغار الناس، و حضور ألفاظهم الساقطة و معانيهم الفاسدة، و أخلاقهم الرديئة و جهالتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة من الغنيمة، و احراز الأصل مع استفادة الفرع ، و لو لم يكن في ذلك الا أنه يشغلك عن سخف المنى، و عن اعتياد الراحة و عن اللعب ، و كل ما أشبه اللعب ، لقد كان على صاحبه أسبغ النعمة و أعظم المنة.
و الكتاب نعم الجليس و العمدة ، و نعم الأنيس ساعة الوحدة ، و الكتاب وعاء ملء علما، ان شئت كان أعيى من باقل ، و ان شئت كان أبلغ من سحبان وائل، و ان شئت سرتك نوادره ، و شجتك مواعظه، و بعد ما رأيت بستانا يُحمل في رُدن ، و روضة تُنقل في حجر ، و لا أعلم جارا امن ، و لا خليطا أنصف، و لا رفيقا أطوع ، و لا معلما أخضع، و لا صاحبا أقل املالا من الكتاب.
الكتاب للجاحظ.