لقد جاءت الحركة الفكرية في السودان تعبيرا عن هذا الإتجاه الفكري ونتاجا طبيعياً لغلبة التيار الإسلامي العربي ، وثمرة لكافة الجهود التي بذلت في هذا السبيل ، سواء من ملوك الفونج ، أو مشايخ العبدلاب ، وزعماء البلاد الآخرين أو العلماء ومشايخ الطرق الصوفية أو عامة الشعب ، لقد أصبحت الوجهة الحقيقية للدولة وجهة إسلامية ، ولم يكن هناك مجال لأي اتجاه آخر. فمنذ البداية اختفي كل نشاط رسمي للمسيحية ( [23]). كما أن محاولات روبيني اليهودي في زيارته المشبوهة للسودان عند قيام دولة الفونج ، لم تحدث اي أثر في الحياة الفكرية في السودان . ولكنها دلالة قاطعة هي ومثيلاتها علي أتجاه السودانيين آنذاك إلي الانصهار في البلاد العربية قاطبة ، وقد كانوا يشعرون ، بأنهم جزء لايتجزأ من العالم العربي( [24]) .
وقد استقبل العالم الإسلامي دولة الفونج الإسلامية ، بما يوحي بهذا الدور الذي اضطلعت به ، والتوجه الإسلامي الذي اتخذته . وقد استطاعت هذه الدولة الجديدة أن تحتوي العنصرين العربي والإفريقي في تكامل ثقافي في بوتقة الحضارة الإسلامية( [25]) . فلم يعد هناك صراع أو تنافر وإنما حدث إنسجام تام وانصهار داخل الوعاء الحضاري الجديد . انبثقت منه كل الاسس الفلسفية والفكرية للمظاهر الحضارية في دولة الفونج الإسلامية .
وقد تشكل النتاج الفكري الثقافي في عهد الفونج ، ممثلاً في الحركة الدينية الثقافية بشقيها العلمي والصوفي، ولكــل منهما أسبابه ومظاهره وتأثيره في المجتمع .
كان الاتجاه السائد في دولة الفونج الإسلامية عدم التدخل في توجيه الحركة الفكرية لمصلحة مذهب ديني معين ، وإنما فتح الباب للجميع من العلماء والفقهاء والمتصوفة ، دون تدخل في تأييد مذهب علي آخر أوطريقة علي طريقة ، وكانت الدولة تكرم الجميع وترحب بهم ،وتسمح بكل نشاط ديني إسلامي ، مالم يهدد سلطانها . ولذا فقد إنتشرت مجموعة من الطرق الصوفية ، إلي جانب العلماء ، كما عرفت مذاهب متعددة منها المذهب المالكي والشافعي .
وكما أشرنا من قبل فقد اتخذت الحركة الفكرية في السودان مظهرين هامين هما : الطرق الصوفية والحركة العلمية ولكل منهما تاثير واضح في المجتمع السوداني في عهد الفونج . إلا أن الثقافة الصوفية بما فيها من اعتدال أو شطط اصبحت هي الغالبة علي الحركة الفكرية في السودان في عهد الفونج حتي صارت سمة عليها( [26]) .
ورغم هذه الهيمنة للثقافة الصوفية ، إلا أن الثقافة العلمية الدينية كانت هي الأسبق في السودان حيث ارتبطت بدخول الإسلام فيه ، قبل قيام دولة الفونج. ولما تأسست دولة الفونج دخلت مجموعة من العلماء والفقهاء وبدات حركة علمية نشطة لتدريس العلوم الإسلامية الشرعية المختلفة وهي علوم القرآن والحديث والفقه والتوحيد وعلوم اللغة العربية ، ويزيد من تأثير هذه الحركة وقوتها ، الحاجة الملحة للتعليم الديني الصحيــح ، ولكن يقلل من فعاليتها اتساع بقاع السودان ، وثقل المهمة التي كانت تنتظر تحويل السودان من بلاد كانت خاضعة للمسيحية إلي بلاد إسلامية .
وإلي هذه الفئة من حملة الفكر والثقافة الإسلامية ، التي اتخذت مجال التعليم الديني ، وحملت لواء الثقافة العلمية وأسست الخلاوي والمساجد والزوايا في كل أنحاء البلاد، يرجع الفضل الأكبر في نشر الإسلام وبث مبادئه الصحيحة في السودان . ومن هؤلاء أولاد جابر الركابي في بلاد الشايقية ، ومدرسة الغبش في بربر ، والمجاذيب فـي الدامر ، ومدارس قوز العلم بمنطقة شندي ومدرسة إسلانج ، وأم عضام ، ومدارس الحلفاية ، ودنقلا العجوز تحت رعاية ابناء سوار الذهب ثم حفير مشو وسنار والهلالية وأربجي ، وهناك كثير غيرها ظلت مشاعل هدي إلي مابعد عهد الفونج ( [27]). وقد ظل مسجد كترانج عامرا بدروس العلم والقرآن خمسة قرون لم تنقطع إلا قليلا ( [28]).
وقد استطاعوا بقوة الصبر وقوة العزيمة والإحتمال ، والجهد المتصل أن يدفعوا عن البلاد ظلام الجهل والضلال ، ويشيعوا في أرجائها نور الإيمان والهداية ، وبفضل هؤلاء العلماء انقشع ظلام الجهل وتقدم الوعي الديني وارتفعت مدارك الناس الدينية وصلح إسلامهم ( [29]).
ولابد أن نذكر بالتقدير دور الفونج في هذه الحركة الفكرية والذين كان دورهم يمثل جانبا من أهم هذه الأدوار جميعا ، فهم الذين حسموا قضية الصراع الفكري في البلاد لمصلحة الإسلام ، وهيأوا المناخ الصالح للحركة الثقافية بشقيها الصوفي والعلمي ، وشجعوا الفقهاء والعلماء من جميع البلاد دون حجر علي بلد دون بلد ، وفكر دون فكر ، وفتحوا لهم قلوبهم وقصورهم وخزائنهم وتأييدهم المطلق وتشجيعهم حتي أصبح السودان في وقت قريب قطرا إسلاميا يحتل مكانة بين البلاد الإسلامية ، وينعم اليوم بفضل هذا العمل الفكري والديني الكبير ، كما أسس العبدلاب المراكز الثقافية والرواقات فـي الحجاز ومصر لتشجيع طلاب العلم ، وساهموا في هذه الحركة الفكرية بجهد كبير .
تدهور دولة الفونج وسقوطها :
بلغت دولة الفونج أوج قوتها واتساعها في عهد السلطان بادي أبوشلوخ ، إذ تحققت في عهده أعظم انتصاراتها علي الحبشة وكردفان غير أن هذا العهد كان يحمل في طياته بداية النهاية لهذه الدولة فقد طغي الملك بادي وانغمس في اللهو والفساد مما أدي إلي تحويل السلطة للهمج بزعامة الشيخ محمد أبولكيلك قائد الجيش في كردفان ، وتم عزل السلطان بادي ، وتولي الملك ابنه ناصر سنة1751م وكان ضعيفا ، فصار الحـــل والربط بين الهمج وتغلبوا علي الفونج ( [30]). وبدأ عهد الضعف والإنهيار ، وأصبحت القوة هي الطابع الأساسي الذي ينظم علاقة الحاكم بشعبه ، وبدأ عهد الصراع بين الوزراء والملوك ، وانتهي عهد الشوري ، وامتد الصراع إلي الهمج أنفسهم فكثر القتل والعزل بين الملوك والوزراء والخلافات والحروب الأهلية . حتي إذا دخلت جيوش محمد علي باشا بقيادة ابنـــه اسماعيل لم نجد أي مقاومة تذكر( [31]).
ولم يسع زعماء سنار الا التسليم والطاعة ، ووقع بادي السادس آخر ملوك سنار تنازلا عن جميع سلطاته لخليفة المسلمين بالقسطنطينية مبايعا له في 13 يونيو سنة 1821( [32]) .
وكان ذلك ختاما ونهاية لدولة الفونج الإسلامية التي ظلت تحكم السودان مايزيد علي ثلاثة قرون .
تقويم الدور الحضاري لدولة الفونج الإسلامية :
والآن وفي ختام هذا المقال عن مظاهر الحضارة في دولة الفونج الإسلامية وقد تتبعنا دورهم الحضاري الذي قدموه ، ووقفنا علي ماقاموا به من نشاط وجهد في جوانب الحضارة المختلفة ، السياسية والإدارية والعسكرية ، والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والدينية ، ووقفنا علي النتائج الإيجابية والسلبية في هذا الجهد ، رغم ما كان يعوق مسيرة الدولة من عوامل الضعف والتدهور، الآن يخطر لنا سؤال هام ، ما مدي أثر الفونج في موكب الحضارة في السودان ؟.
خاصة وانهم احتلوا حقبة كبيرة من تاريخ السودان ، في وقت يعتبر في كثير من بقاع العالم عصر تحول من الضعف إلي القوة ، وعبور من عصر النهضة إلي العصور الحديثة بما فيها من تطور وتقدم.
ولقد اختلفت الآراء في تقويم دور الفونج في الحضارة السودانية ، وتقدير الإسهام الذي شاركوا به في بناء المجتمع السوداني ، فبعض الباحثين يري ان الفونج ليست لهم اي يد كبيرة في التطور الحضاري في السودان ، ويجردهم نهائيا من أي مساهمة في الحضارة السودانية . فيقول : " إن الحياة العامة منذ أوائل القرن السادس عشر ، لم تتطور في السودان تطورا ملموسا ، وإن كان هناك أي تقدم أو تطورفهو تطور طبيعي يحدث لكل المجموعات البشرية حينما لانجد عوائق لهذا التطور "( [33]) !!
وفي مقابل ذلك نجد آراء تبرز أهمية دور الفونج الحضاري في السودان ، وأن هذه الفترة تعتبر من أهم فترات الحكم في السودان ، وخاصة فيما حدث من تحول حضاري في السياسة والدين والاجتماع( [34]) . بل يذهب بعضهم إلي أن " هذه الفترة تمثـل لنا ، أهم فترة من فترات الثقافة الدينية في السودان( [35]). وأنها يمكن ان تكون نبراسا لنا نستمد منها الدروس فـــي تخطي بعض مشكلات اليوم ( [36]).
قد تكون هناك بعض السلبيات خلال المسار الحضاري لدولة الفونج الإسلامية وهذا امر طبيعي ، وخاصة في جوانب الاقتصاد التي لم يلحقها تطور كبير ملموس وتعرض البلاد لكوارث المجاعات والأمراض . كما أن المسار الثقافي والفكري شابه شيء من هيمنة التصوف وتأثيره علي أفكار الناس ، وأن الوحدة القومية لم تكتمل بالصورة التي تتجاوز التفكك إلي دولة متماسكة البنيان وقد يصدق مثل هذا النقص علي كثير من الجوانب الاخري ، ولكن رغم ذلك ليس من السهل أن نجرد هذه الدولة من جهدها الحضاري نهائيا ونحكم عليها حكما سلبيا ، يحرمها من أي تاثير في مسيرة الحضارة والتقدم في السودان :
إن دور الفونج وإسهامهم الحضاري في السودان ، ينبغي أن ينظر إليه في ضوء مؤشرين هامين :
المؤشر الأول : الظروف التي نشأت وعاشت فيها دولتهم ، والمؤشر الثاني وهو الأهم ، المعيار الذي يحدد مفهوم العطاء الحضاري لأي دولة من الدول وإغفال أي واحد من هذين المؤشرين قد يؤدي إلي عدم وضوح الرؤيا والتقليل من أهمية الإنجازات الحضارية التي تمت في عهدهم.
1- أما المؤشر الاول : وهو ظروف نشأة الدولة واستمرارها فهو أمر يرتبط بالمصادر التاريخية ، والتي كانت نادرة ، ولقد كان لهذه الندرة في المصادر ، وبعد الفترة عنا نسبيا عند قيام دولة الفونج ، أثر كبير فوت علينا كثيرا من المعلومات الهامة – ونري أننا في حاجة ماسة لتكثيف الجهد ، للكشف عن المزيد من تاريخ هذه الحقبة، وأما المصادر التي وصلتنا – وهي من ابرزها كتاب الطبقات لود ضيف الله ، ومخطوطة كاتب الشونة فقد كتبت متأخرة ، فكتاب الطبقات وهو أهم مرجع سوداني كتب في عهد ضعف الدولة وسيطرة الهمج حيث توفي مؤلفه عام 1224هـ . وأما مخطوطة كاتب الشونة فقد كتبت سنة 1838 م بعد نهاية دولة الفونج ، وهذه الكتب التي ذكرتها اعتمدت علي معلومات سماعية ، في مايختص بما هو خارج مشاهداتهم ولهذا ذهبت أخبار كثيرة لم تصلنا .
أما الرحالة الذين زاروا السودان في تلك الفترة ، وكتبوا مذكرات عنها فكثير من معلوماتهم يحتاج إلي اعادة النظر ، لانها لاتخلو من الغرض أو المبالغة. وجزء هام من هذه المعلومات تكونه زيارات تمت في عهد سيطرة الهمج وضعف الدولة . ومن هؤلاء بروس الذي زار السودان سنة 1772م وبوركهارت سنة 1814م . ولقد أبرزت هذه المصادر التي كتبها هؤلاء الرحالة في عهد الضعف والتدهور ، كثيرا من السلبيات ، وصورتها بصورة توحي بأنها حقيقية ، وذلك لانها كانت ماثلة للعيان والمشاهدة ، بينما كان نصيب عهد القوة الإهمال او التحريف والتزييف ، لأنه غائب عن مشاهدة هؤلاء الرحالة ، فضلا عن ماكانوا يضمرونه من الغرض والهوي والمبالغة وعليه فنحن في حاجة للمزيد من البحوث للكشف عن هذه الحقبة الهامة في تاريخ السودان.
وما وصلنا من معلومات علي قلته ، واضطرابه ، يشير إلي أن هناك جهدا حضاريا لاباس به قد بذل في مختلف جوانب الحضارة ، وأن تحولا في المجتمع السوداني قد تم ، وأن بعض التطور قد حدث في معظم مظاهر الحضارة في السودان ســواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفكرية ، ولانعدو الصواب إذا قلنا أنه بنهاية القرن الثامن عشر الميلادي عم انتشار الثقافة الإسلامية والعربيــة في أجزاء كبيرة من السودان الأوسط والشمالي( [37]) .
وأما المؤشر الثاني : وهو المعيار الحضاري الذي نقيس به جهد الدولة ودورها الحضاري , فهو أمر عظيم الأهمية ، لأنه يتعلق بالمفهوم الحضاري ، وإذا كانت الحضارة كما يري مصطفي الرافعي هي " تجسير للنشاط العقلي عند الإنسان ، وتاريخ الحضارة سجل لتطور هذا العقل ، ومدي فعاليته في مختلف نواحي الحياة ( [38]) . فإن تقويم الدور الحضاري يصبح متسعا فسيحا ليشمل الجـوانب الخفية ذات الخطر في تاريخ الحضارة( [39]) .
ومن هنا يترجح لنا ان المعيار الصحيح لتقويم الدور الحضاري لاي دولة يجب الا يقتصر علي الجوانب المادية ، وإنما يتجاوز ذلك إلي تحسس المنطلق الفكري والشعور بالقوانين الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تنطوي عليها الحادثات الظاهرة ( [40]).
وبذلك تصبح أكثر الدول عطاء في الموازين الحضارية هي تلك التي حسمت قضية الحضارة في جوانبها المختلفة ووضعتها في المسار الصحيح وفق مصلحة شعبها ، وأهدافه ، وطموحاته ، وحينها تكون مسألة الجوانب العمرانية والمادية الملموسة أثرا من آثار الإتجاه الفكري ، ونتيجة تتحقق وفق معطيات الوقت والزمن .
يتحدث أحمد شلبي عن معطيات الحضارة الإسلامية وأثرها في إفريقيا فيقول: " شملت الحضارة بإفريقيا النواحي النظرية والنواحي العمرانية ( [41]) " ويفيض في ذكر الجوانب النظرية فيذكر أنها في الحكم ممثلة في الشوري ونظام البيعة ، وفي الاقتصاد ، حق الفقير في مال الغني ( الزكاة ) ونظام بيت المال ، ورد الأمانات إلي أهلها ، ومنها الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر والإلتزام بترك المحرمات وأداء الصلوات والآداب الاجتماعية ، وحقوق المرأة المستمدة من الإسلام ، وقوانين الزواج والطلاق والميراث والوصية ، ومفاهيم القضاء الإسلامي والحرية والمساواة . وأما في النواحي العمرانية ، فقد عرفت إفريقيا المدن الفسيحة والمساجد والبيوت والقصور ، ومعاهد العلم والمدن التجارية المقامة علي طراز مدن الشمال ، ذات الأبهة والجمال( [42]) .
ومن هنا يتضح لنا أن الآثار الحضارية لدولة الفونج الإسلامية في السودان ، وهي واحدة من أهم الدول الإفريقية التي ساهمت في هذه الإنجازات للحضارة الإسلامية ، كانت علي قدر كبير من الإهمية والقدر.
وقد يكون نصيب الجوانب العمرانية والمادية في الانجازات الحضارية لعهد الفونج أقل مما كنا نرجوه ونهدف إليه ، ولكن في ضوء المعيار السابق وضخامة الانجازات النظرية والمعنوية نستطيع أن نرجح الراي الذي أورده محمد عوض بقوله :" إن إنشاء دولة الفونج حادث من أخطر الحوادث في تاريخ السودان( [43]) " وذلك فيما نري للدور الحضاري الكبير الذي قامت به في السودان .
لقد حسمت دولة الفونج قضية الصراع بين الإسلام والممالك المسيحية لمصلحة الإسلام ، وحددت اتجاه التطور في السودان نحو الحضارة الإسلامية واقامت أسس الحكم والإدارة والقضاء والاقتصاد والسياسة والاجتماع علي النهج الإسلامي ( [44]). حتي اصبح السودان جزءاً من الكيان الإسلامي العام ، وأقامت العلاقات الوثيقة مع الأقطار الإسلامية وهيأت المناخ للنهضة الفكرية باتاحتها الفرصة لرواد الثقافة والعلم ، كما رأينا دون تحيز لمذهب بعينه ، وإنما استشعرت المصلحة الإسلامية عموما، فتغلب مذهب أهل السنة ، كما غلب مذهب الإمام مالك في الفقه.
وتمكنت الحركة الفكرية من أن تحدد مستقبل المسار الفكري للمجتمع السوداني في آخر المطاف نحو الحضارة الإسلامية ، وقد أشار محمد المكي إبراهيم إلي هذه الحقيقة بقوله : " إن دولة الفونج قد أسهمت إسهاما حاسماً في صياغة الفكر السـوداني ، وتقرير اتجاهاته ، وسوف يظل تأثيرها واضحا وملموسا ، مهما اتسعت المسافة بينها وبين أجيال السودانيين( [45]) " ويشير مكي شبيكة إلي الدور الهام الذي تم في عهد الفونج " والأثر الحضاري الذي قدمته هذه الدولة فيقول : " حفظ للإسلام والعروبة اسمهما وتقاليدهما في حوض النيل الاعلي وروافده " ( [46])
وتعتبر دولة الفونج الإسلامية من الدول الكبري في وسط إفريقيا والتي أسهمت إسهاما واضحاً في تقرير مستقبل الإسلام في السودان وإفريقيا ، حيث ارتكز عليها كيان السودان الحديث ( [47]).
ولانستطيع هنا أن نعدد كل الجهود التي بذلت في ترقية الحضارة في السودان في عهد دولة الفونج الإسلامية ، ولكن يمكن أن نشير إلي أن ما قدمته هذه الدولة في الميادين الحضارية المختلفة يعد انتصاراً عظيماً للحضارة الإسلامية والعربية في السودان ، في عهد ساد فيه الركود كثيراً من البلاد الإسلامية والعربية ، كما أن الأنظمة الحضارية التي انتهجها الفونج في السياسة والثقافة والاقتصاد والاجتماع ، هي في معظمها افضل مايمكن أن نتوقع حدوثه في تلك المرحلة التاريخية .
ويمكننا أن نرجح في اطمئنان تام أن السودان مدين لدولة الفونج في كل اتجاهاته الدينية والفكرية والسياسية ، وأن حاضر اليوم يستمد وجوده ومقوماته وأهدافه ومثله من ذلك المسار الذي رسمت معالمه دولة الفونج طريقا للتطور والتقدم في السودان ألا وهو الحضارة الإسلامية ، ومامن دولة في السودان استطاعت أن تقوم بمثل هذا الدور في عملية التحول الحضاري في السودان، لقد اصبح هذا التحول الحضاري الإسلامي الذي بدأته دولة الفونج واقعاً ملموساً في حياة أهل السودان ممثلا في المشروع الحضاري الإسلامي والأخذ بقوانين الشريعة الإسلامية أساسا للتطور والتقدم في كل جوانب الحياة .
----------------------------------------------------------
بعض المصادر :
[1] بابكر فضل المولي حسين : مظاهر الحضارة في دولة الفونج الإسلامية : منشورات الخرطوم عاصمة للثقافة العربية2005م ، مطبعة دار السعادة 2005م ص 7
[2] يوسف فضل : مقدمة في تاريخ الممالك الإسلامية في السودان الشرقي ، الطبعة الثانية ، الدار السودانية للنشر 1972م – ص 43
[3] أحمد بن الحاج أبوعلي ، مخطوطة كاتب الشونة في تاريخ السلطنة السنارية ، مطبعة عيسي البابي الحلبي وشركاه ، القاهرة 1961م تحقيق الشاطر بصيلي عبدالجليل ، مراجعة الدكتور محمد مصطفي احمد ص 6 و7 .
[4] محمد صالح محي الدين ، مشيخة العبدلاب ، الطبعة الأولي ، الدار السودانية ، دار الفكر بيروت 1972م ص . 16
[5] Mundour El Mahadi : A short History of the Sudan , P. 36