![]() |
|
قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها ..... |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود
مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة
( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
الأنثروبولوجيا البدايات والاتجاهات
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | ||||
|
![]() الأنثروبولوجيا النظرية -1- البدايات الأولى للتنظير الأنثروبولوجي الاتجاه التطوري: البدايات الأولى البدايات الأولى للتنظير الأنثروبولوجي خلال القرنين 15 و16 كان الرحالة الأوربيون قد جلبوا معهم لدى عودتهم من أسفارهم معلومات جديدة عن شعوب ما كان للأوربيين سابق معرفة بها. وخلال القرون اللاحقة امتدت حركة التوسع الكشفي التجاري والاستعماري التى خرج معها العالم الأوربي من مكتبات جامعاته ليتجول في أصقاع غير مكتشفة له ليصل إلى إدراك حقيقة إخوة له من بنى الإنسان يختلفون عته مأكلاً ومشرباً وسلوكاً. فكانت الدهشة الأولى: إنهم "البدائيون" الذين تكتشفهم الأنثروبولوجيا الجديدة. وبعد أن لبس العالم ثوب البدائي وحكى لغته وعاش معه لفترات...كانت الدهشة الثانية. هذا "البدائي" ليس متخلفاً كما صورته المعلومات المختزنة في العقل الأوربي منذ فترات...إن له طريقة حياته التى تختلف عن حياة الأوربي، وله منطقه الخاص. وبعد جولات جديدة جاءت دهشة ثالثة...يختلف منطق "البدائي" عن منطق الأوربي، لكنه منطق متماسك، إن له عالمه الخاص المتماسك بقيمه وبمنطقه وشعائره وطرق إيمانه. هكذا أخذت في الظهور كتابات يؤلف بعضها خامة جيدة لدراسة بعض العناصر الثقافية. من أهم تلك الكتابات الدراسة الضخمة المكونة من أربعة مجلدات قام بوضعها المبشر الفرنسي الأب جوزيف لافيتو في النصف الأول من القرن الثامن عشر نتيجة تجربة خمس سنوات قضاها بين أفراد الهنود الأمريكيون الإيروكيز في شمال شرقي الولايات المتحدة الأمريكية. انتهت دراسة لافيتو إلى أن التنظيمات الاجتماعية عند الإيروكيز تساوى التنظيمات البدائية لبنى الإنسان. واكتشف لافيتو وجود تشابه بين النظام الأمومي عند الإيروكيز مع ذلك النظام ما قبل التاريخى الذى وصفه هيرودوت (480-425 ق.م.) عند سكان ليكيا في آسيا الصغرى. ولكون لافيتو حاول تفسير وجود هذا التشابه باحتمال انتشار هذا النظام من آسيا الصغرى إلى أمريكا فإنه يجوز عد لافيتو من أوائل القائلين بمبدأ الانتشار الثقافي diffusion of culture. أثارت كتابات لافيتو والرحالة والمبشرين الذين سبقوه من أمثال بارتولوميو دى لاس كازاس (1502)، تاجر الرقيق الذى تحول إلى الرهبنة والتبشير في أمريكا الوسطى، والدببلوماسى النمساوي سيجموند هربرشتاين الذى كتب عن الروس والفينو-اوجريين (1577)، وشيفر الذى كتب عن النظم الشامانية في شمال سكاندنافيا (1675)، ودابر الذى سافر كثيراً في أفريقيا وكتب عن الأفارقة وعاداتهم (1686)، وبينز كالب الذى وضع مؤلفاً عن شعب الهوتنتوت (السان) في جنوب أفريقيا (1700) وغيرهم، أثارت رد فعل بين الفلاسفة والمفكرين الأوربيين في القرنين 17و18 والذين حاولوا صياغة قوانين عامة يمكنها أن تشرح بطرق طبيعية تطور المجتمعات البشريَّة عبر مراحل من التقدم. وشكلت أعمال أولئك الفلاسفة والمفكرين الأساس الذى نشأت عليه التطورية الثقافوية اتجاهاً نظرياً في الأنثروبولوجيا في القرن 19 بخاصة لدى لويس هترى مورغان وادوارد برنت تايلور. ففي إيطاليا قدم جيامباتستا فيكو (1668-1744) نظريته حول الدورة التاريخية التى يشير فيها إلى أن المجتمع لا بدَّ أن يتطور وفقاً لقوانين داخلية معينة. طبقاً لذلك رأى فيكو أن كل أمة تمر بثلاث مراحل في تطورها: المرحلة الإلهية، والمرحلة البطولية، والمرحلة الإنسانية، وهى مراحل تمثل دورة الحياة الإنسانية- الطفولة والشباب والنضج. وتمثل الدولة التى لا تنشأ إلا في المرحلة البطولية، سيطرة الأرستقراطية. ويحل محل الدولة في المرحلة الإنسانية مجتمع ديمقراطي تنتصر فيه الحرية و"العدالة الطبيعية". ويتبع هذا، وهو ذروة التقدم الإنساني، انهيار بحيث يعود المجتمع إلى حالته الأولى الإلهية، ثم يستأنف حركته الصاعدة مجدداً لتبدأ دورة جديدة. تظهر بعد ذلك تأملات شارل دى مونتسكيو (1689-1755) التى تجعله من مؤسسي نظرية الحتمية الجغرافية بادعائه أن السيماء الأخلاقية للشعوب وطابع قوانينها وأشكال حكوماتها يحددها المناخ والتربة ومساحة الإقليم. في كل عمل مونتسكيو تنتشر فكرة أن القوانين تؤلف نظاماً "ثمة أشياء عديدة تحكم الناس: المناخ والدين والقوانين والمبادئ الأساسية للحكومة وأمثلة الأشياء الماضيَّة والطبائع والآداب". قد تبدو اللائحة للوهلة الأولى مجرد تعداد، لكن مونتسكيو يدخل معياراً يسمح بتمييز الطريقة التى تؤثر فيها هذه الضغوط المختلفة على الأنواع المتباينة للقوانين. كلما كان التمايز في المجتمع أقل، كلما كان الأساس "التشكلى" (المناخ والبيئة والبنية الديموغرافية) أكثر إلزاماً. كلما كان الناس أكثر "تمدناً" كلما ازداد استناد قانونية النظام الاجتماعي على القوانين والطبائع والآداب. يميز مونتسكيو التعابير الثلاثة، لكنه يميز أولاً الاثنين الأخيرين عن الأول. إن الصين حيث ينم الانتظام عن طريق "الآداب" و"العبادات والطقوس"، تختلف عن إسبارطة حيث الأولوية كانت دائماً "للطبائع"، أي لقواعد السلوك إزاء الآخر. فبعد أن ميز بينها يعود فيجمع الطبائع والآداب التى يضعها معاً في مواجهة القوانين التى هي "أعراف أقرها المُشرع". إن الشعوب الحرة هى التى يحكمها القانون، في حين أن البلدان التى تسيطر فيها الطبائع والآداب تكون عرضة للاستبداد والطغيان. لكن الضبط عن طريق القوانين هو نفسه معقد وموضع خلاف. صحيح أن الحرية السياسية، كما يوحى بذلك مثل إنجلترا، يمكن أن تنتج طبائع وآداب حرة في نطاق التجارة والحياة الخاصة. ولكن يمكن أن يحصل كذلك، كما في إسبرطة وروما، أن لا تكون القوانين إلا اصطناعا من المُشرع الذى يسعى إلى استعادة "العادات القديمة"، أي إلى استعادة الطبائع والآداب، سلطة كانت قد فقدتها. وبما أن قوانين كل بلد تشكل نظاماً، فإننا نستطيع أن نقارن بين هذه البلدان. يقارن مونتسكيو إنجلترا بروما، والصين باسبرطة، لكنه يبدى حذره لكي يحدد تحت أية علاقة يقارنها، يمكن لمجتمعين أن يتشابها تحت علاقة ما، في حين أنهما مختلفان تحت علاقة أخرى. ونادى آن روبير جاك تيرغو (1727-1781) بالفكرة القائلة بأن تقدم المجتمع يرتبط ارتباطا وثيقاً بتطور الحياة الاقتصادية. وكان تيرغو يعترف بأهمية النمو الاقتصادي وتقدم العلم والتقنية لما فيه صالح التطور الاجتماعي، واعتقد بأن "الناتج الصافي"، أي فائض القيمة يتم خلقه في مجال الإنتاج لا في مجال التداول، وقدم بعض الأفكار عن التقسيم الطبقي للمجتمع وجوهر الأجور. أما جان أنطوان كوندورسيه (1743-1794) ففقد دعا إلى طرح الخرافات جانباً وتطوير المعرفة العلميَّة. يتصور كوندورسيه التاريخ نتاجاً للعقل الإنساني معلناً بأن النظام البورجوازي هو قمة المعقولية و"الطبيعة". قسم كوندورسيه التاريخ إلى عشر فترات على أساس الصفات الاتفاقية، وأخذ على عاتقه مهمة تبرير أن الرأسمالية تضمن تقدماً لا نهائياً. وعارض كوندورسيه نظام المقاطعات الاجتماعية، وحارب من أجل المساواة السياسية داعياً إلى استئصال الحكم الدكتاتوري وإلى التطور الحر للفرد. لكنه اعتقد في الوقت نفسه أن عدم المساواة فيما يتعلق بالملكية أمراً مفيداً. وأقام كلود هنرى سان سيمون (1760-1825) مبدأ الفلسفة الطبيعية، أى دراسة الطبيعة في مواجهة التقاليد المثالية بخاصة المثالية الألمانية. واعتنق الحتميَّة بصورة حاسمة ومدَّ نطاقها إلى تطور المجتمع البشرى موجهاً اهتماما خاصاً بدعم الفكرة القائلة بأن التاريخ تحكمه قوانين. وكان يعتقد أن التاريخ لا بدَّ أن يسهم في التقدم البشرى بالقدر الذى تسهم به العلوم الطبيعية. فكل نظام اجتماعي هو خطوة للأمام في التاريخ. ولكن القوى المحركة للتطور الاجتماعي هي تقدم المعرفة العلمية والأخلاق والدين. وبالتالي فإن التاريخ يمر بثلاث مراحل: لاهوتية (وهى فترة سيطرة الدين) وتشمل النظامين العبودي والإقطاعي، وميتافيزيقية (وهى فترة سقوط النظامين العبودي والإقطاعي)، ووضعية (وهى النظام الاجتماعي المستقبلي القائم على العلم). وقد ساعده مفهومه الاجتماعي على أن يبين أن كل نظام اجتماعي ينبثق انبثاقا طبيعياً من التطور التاريخى السابق له. وسوف يقوم المجتمع المستقبلي على أساس صناعة واسعة النطاق منظمة تنظيماً علمياً، ولكن مع الاحتفاظ بالملكية الخاصة والطبقات، وسوف يكون الدور الرائد فيه من نصيب العلم والصناعة وسينهض به العلماء ورجال الصناعة. وينبغي أن يعطى حق العمل لكل إنسان كل حسب قدرته. وفي عام 1859 ظهر عمل شارلس داروين (1809-1882) "أصل الأنواع" الذى جاء إيذاناً باندلاع عاصفة لم تنقشع حتى يومنا هذا. لقد تم بفضل عمل داروين تفسير لغز الأنواع: الأنواع غير ثابتة بل هي متحولة تطورت عن أنواع أخرى عبر بميكانيزم الاصطفاء الطبيعي. وشرح داروين في كتابه المذكور مفهوم التطور في خمس نقاط يمكن اختزالها في الآتي: أولاً، أن كل الأنواع قادرة على إنتاج نسل بصورة أسرع مما هو عليه الحال بالنسبة للزيادات في إنتاج الطعام. ثانياً، تظهر كل الكائنات الحية تنوعات، فليس هناك من فردين للنوع الواحد متشابهين تماماً. ثالثاً، بما أن عدد الأفراد الموجودين أكثر مما يفترض بقاءه فإن صراعاً مريراً ينشأ تكون الغلبة فيه لأولئك الأفراد الذين يؤلفون نوعاً إيجابياً كماً، وقوة، ومقدرة على الجري أو أية خصائص إيجابية أخرى ضرورية للبقاء. رابعاً، تنتقل تلك التنوعات الإيجابية بالوراثة إلى الجيل اللاحق. خامساً، تنتج تلك الأنواع الناجحة، على مدى فترات من الزمن الجيولوجي، اختلافات تؤدى إلى ظهور أنواع جديدة. وكان العلماء في وقت سابق يرون في الأنواع وحدة غير متغيرة إذ أنه إذا تبدلت الأنواع فلن تكون أنواعاً. فالأنواع كانت، إذن، في أساس المناقشات حول النباتات والحيوانات ولم تكن للأفراد أهمية في داخل الأنواع. من هنا صَعُّب على العديد من العلماء رؤية الكيفية التى يمكن بها حدوث التغير. وكان داروين يرى أن تنوع الأفراد هو ما قد يفسر كيفية حدوث التغير. التنوعات الأكثر كفاءة تم اصطفاءها عن طريق الطبيعة للبقاء بينما الأقل كفاءة تم استثناءها. ومن ثم فإن مفكري علم السكان أصبحوا يؤكدون على تفرد كل شئ في العالم العضوي. الأهم بالنسبة لهم هو الفرد لا النوع. إنهم يؤكدون على أن كل فرد من الأنواع التى تعيد إنتاج نفسها جنسياً هو نوع مختلف فرداً عن كل الآخرين. ليس هناك فرد نموذجي في تصورهم. وقد تم التأكيد على تفرد الفرد (أي التنوع الذى يحدث في كل المجموعات السكانية- بمعنى أن السكان هم مجموعة من الأفراد المتفاعلين، لا نوعاً) وهذا هو ما قاد داروين إلى مفهوم الاصطفاء الطبيعي ميكانيزماً مكن التطور من أن يكون فاعلاً. فالاصطفاء الطبيعي يفعل في الأفراد، إيجاباً أو سلباً، لكن السكان هم الذين يتطورون. وحدة الاصطفاء الطبيعي أصبحت انطلاقا من هذا الفهم هى الفرد بينما أصبح السكان هم وحدة التطور. هكذا فإن نظرية التطور في الطبيعة الحية كما صاغها داروين يمكن اختزالها في أن العوامل الرئيسة في تطور الكائنات الحيَّة هي التحول والوراثة والاصطفاء الطبيعي. الأصلح بين الكائنات الحية هو وحده الذى يبقى ويتكاثر في الصراع من أجل البقاء تحت تأثير البيئة الخارجية. ويُحسن الاصطفاء الطبيعي بصورة مستمرة بنيان الكائنات العضوية ووظائفها دافعاً قدرتها على التكيف مع الأشياء الخارجية المحيطة...هكذا لم يعد العلم بعد داروين كما كان عليه أبداً. الاتجاه التطوري: البدايات الأولى على قاعدة هذا التقدم الفكري والعلمي المحقق في القرن 18 والنصف الأول من القرن 19 بدأ ظهور الأنثروبولوجيا الحديثة مفهوماً وموضوعاً ومنهجاً. ففي الفترة 1860-1880 انبثقت التطورية الثقافوية اتجاها نظرياً رئيساً في الأنثروبولوجيا. كان مؤلف باخوفن "حق الأم"، ومؤلف هنرى مين "القانون القديم" الذين صدرا كلاهما في عام 1861 باكورة مؤلفات المدرسة التطورية في الأنثروبولوجيا. أعقبهما في عام 1865 مؤلف تايلور "أبحاث في التاريخ المبكر للجنس البشرى". وفي عام 1869 ظهر مؤلف مورغان "أنظمة القرابة والمصاهرة في الأسرة البشرية". وظهر مؤلف تايلور "المجتمع البدائي" في عام 1871، ومن ثم مؤلف مورغان "المجتمع القديم" في العام 1877. أحرزت الأنثروبولوجيا بمفهومها الحديث وتوجهها النظري التطوري تقدماً ملحوظاً منذ النصف الثاني من القرن 19 تحديداً مع بدايات الحركة الإمبريالية التى مكنت الكثير من دول أوربا الغربية في فرض سيادتها على العديد من المجتمعات غير المعقدة والمنعزلة جغرافياً وثقافياً، وهى المجتمعات التى أطلق عليها الأنثروبولوجيون في المراحل السابقة تسميات متنوعة: "المجتمعات البدائية" و"الطبيعية" و"المتوحشة". أتاحت حركة التوسع الإمبريالي الغرب أوربي الفرصة لعلماء الأنثروبولوجيا الأوربيين التعرف على العديد من المجتمعات غير المعقدة والمنعزلة جغرافياً ودراستها وتحليل بنياتها الثقافية والاجتماعية. وقد دفعهم إلى ذلك عدة أسباب نذكر منها: (1) محاولة ربط ما تم الكشف عنه من معطيات نتيجة تقدم أعمال التنقيب الآثارى في مواقع ما قبل التاريخ الأوربية والعالمية بثقافات الجماعات "البدائية" المنعزلة وذلك عن طريق التعرف على بنياتها وعاداتها وتقاليدها وطقوسها الدينية وفنونها الخ. (2) اختبار الفرضيَّات القائلة بكون تلك الثقافات "البدائية" المعاصرة تمثل المراحل الأولى للتطور الثقافي لبنى الإنسان عموماً، أي تسخير الدراسات الأنثروبولوجية للتعرف على خصائص أنماط الحياة البدائية بحسبانها نموذجاً حياً معاصراً من أنماط الحياة السابقة "الطبيعية" في المراحل التاريخية الوحشية والبربرية.."الاهتمام من ناحية اجتماعية على جماعة الفلاحين البدائيين الذين تختلف حياتهم عن طرق حياة الأوربيين والحضارة الغربية..دراسة هذه الجماعات البدائية ليست مثيرة فقط ومهمة للمشتغلين في البلدان المختلفة، ولكنها تنير طريق دراسة العادات والمعتقدات الأوربية". (3) نتيجة لما توفره تقارير الرحالة والمبشرين عن تلك الجماعات التى عاشوا وسطها وتعرفوا على ثقافاتها، سعت الدراسات الأنثروبولوجية إلى سد النقص في سلسلة المعارف والمعلومات عن مجتمعات غير غربية يختلف نمط حياتها عن نمط الحياة الأوربية. (4) سياسياً تساعد تلك الدراسات السلطات الاستعمارية في إحكام قبضتها على المجتمعات المقهورة المستعمرة إدارياً..."لقد قمنا بدراسة شعوب الأراضي المنخفضة بشكل لم يقم به منتصر آخر، وبشكل لم تدرس أو تفهم فيه قبيلة خاضعة للسيطرة. فنحن نعرف تاريخهم وعاداتهم وحاجاتهم ونقاط ضعفهم بل وأحكامهم المسبقة، وهذه المعرفة الخاصة قد أتاحت لنا توفير قاعدة للإرشادات السياسية التى يمكن ترجمتها بالحذر الإداري والإصلاح اللازم في حينه، وهذا ما يرضى الرأي العام". (5) استغلال الأنثروبولوجيا لأغراض "الاستعمار العلمي"..وصف شروط الوجود البدائي في المرحلة السابقة لدخول الاستعمار، بحيث تصف نمط هذا الوجود قبل أن يصار للقضاء عليه، أو تتناول وصف شروط هذا الوجود كما خلقه الاستعمار، أى يتحول حقل الأنثروبولوجيا إلى دراسة التغير الاجتماعي أو "التثاقف". من أهم ما يميز النصف الثاني للقرن 19 هو سيادة نظرية التطور الداروينية. من خلال الداروينية نمت الأنثروبولوجيا الفيزيقية نمواً هائلاً. في فرنسا قام بول بروكا بفصل جمعية باريس الأنثروبولوجية في عام 1859 عن الجمعية الاثنولوجية التى كانت قد أنشئت منذ العام 1939. وفي بريطانيا أنشأ جيمس هنت الجمعية الأنثروبولوجية البريطانية. وظهرت في فرنسا دراسات بوشيه دى برث عن آثار ما قبل التاريخ التى تم الكشف عنها في وادي السوم والتي تركت تأثيراً كبيراً على تقدم الاتجاه التطوري الثقافوى في دراسة الثقافات الإنسانية. وفي ألمانيا بدأت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة على يد تيودور فايتز الذى أكَّد في الجزء الأول من كتابه "أنثروبولوجية الشعوب الطبيعية" الصادر في عام 1858(قبل عام من نشر عمل داروين) على أن اختلاف الشعوب فيما بينها يرجع إلى تأثيرات البيئة عامة والمناخ خاصة، وإلى نوعية الغذاء ونمط الحياة وإلى التطور الثقافي والطفرات. ويؤكد فايتز أن كافة الشعوب قد بدأت من درجة الصفر: الإنسان الطبيعي بدون مدنية. ويؤكد أن الاختلافات في درجات التطور لا ترجع إلى هبات أو قدرات عقلية، فهذه متساوية عند جميع الناس. نجمت الاختلافات عن اختلاف الفرص التى هيأتها الظروف الطبيعية وخاصة المناخ والموقع الجغرافي والعلاقات التاريخية. وتعرض فايتز لمبدأ الانتشارية في مواجهة النشأة المستقلة لكثير من العناصر الثقافية المتشابهة. وأشار إلى ظاهرة الكوفادة التى يتكرر ظهورها في مجتمعات متباعدة جغرافياً: أفريقيا، وإقليم الباسك الأسباني، والأناضول القديمة، وأندونيسيا، وأمريكا الجنوبية. ولم يحاول فايتز تفسير الكوفادة أو غيرها من الظواهر الثقافية. يميل فايتز عموماً إلى مبدأ الانتشارية بخاصة عند معالجته للتشابهات الثقافية الكبرى مثل تلك الملاحظة بين كل من أمريكا الشمالية وسيبريا، والهند وبولونيزيا. ويؤكد أن التشابه في نظام تقسيم السنة عند الآسيويين والمكسيكيين يعود إلى الانتشار رافضاً احتمال استقلالية النشأة في كل من المنطقتين على حدة. ويحدد مسار حركة الانتشار من آسيا إلى أمريكا عبر مضيق بيهرنج مع عدم استبعاد لإمكنية حدوث الانتشار من آسيا إلى المكسيك عبر جزر المحيط الهادي مباشرة. وفي عام 1861 ظهر كتاب عالم الأنثروبولوجيا النمساوي يوهان ياكوب باخوفن (1815-1887) المعنون "حق الأم". وضع باخوفن في هذا الكتاب تتابعاً زمنياً لنظم الزواج والأسرة والميراث والتركيب الاجتماعي. وتتلخص آراء باخوفن في أنه كانت هناك عدة مراحل أقدمها مرحلة "الاختلاط الجنسي"، تليها مرحلة ثورة المرأة على هذه الأوضاع وتأسيسها لما يسمى بمرحلة النظام الأمومي الذى تثبت فيه صلات الأمهات بالأبناء، ويسمى باخوفن هذه المرحلة ب"الأمازونية". ويربط باخوفن هذا النظام بمجموعة من الوظائف الاجتماعية: الأسرة الأمومية، والنسب الأموي، والإرث الأموي، ونظم دينية تسيطر عليها آلهة الأرض، وتقوم فيها النساء بدور رئيس في النظام الكهنوتي، بالإضافة إلى شيوع عادات وطقوس الخصوبة. وأخيراً يسيطر القمر (بصيغته مؤنثاً) على الشمس. ثم تأتى المرحلة الثالثة حيث تسقط وظيفة المرأة السياسية والدينية ويحل محلها النظام الأبوي. وتظهر في هذه المرحلة الأسرة الحقيقية وتسيطر آلهة السماء على آلهة الأرض والشمس على القمر. لكن بقايا النظام الأمومي لا تزال تظهر في بعض العناصر الثقافية مثل نظام وراثة ابن الأخت للخال (وهو ما كان سائداً في كوش حتى بداية عصرها الإسلامي)، ونظام الكوفادة، ونظام الزواج الأموي المكان ..الخ. ولا شك أن المراحل الثلاث تلك هي مجرد تركيب نظري بحت بخاصة المرحلة الأولى. وقد اعتمد باخوفن على كتابات هيرودوت عن النظام الأمومي في ليكيا. ورغم أن لافيتو كان قد سبق باخوفن في دراسة النظام الأمومي كما أسلفنا، فإن دراسة الأول كانت ذات طبيعة تاريخية محضة لتطور النظام عند الإيروكيز، هذا في حين جاءت دراسة باخوفن نابعة عن وظيفة النظام الأمومي ودوره في التركيب الاجتماعي. الاتجاهات النظرية في الأنثروبولوجيا - 2 - لويس هنري مورغان(1818-1881) محام وعالم إنسان أمريكي اهتم في بداية حياته بدراسة أمريند الايروكيز وغيرهم من سكان الشمال الشرقي الأمريكي الأصليين. حاول مورغان إعادة تركيب صورة المجتمعات الإنسانية وتصنيفها بغية التعرف على تاريخ المجتمع الأوروبي والمراحل التي مرَّ بها وصولاً إلى ما هو عليه في عصره. وقد تأثر مورغان بكتاب باخوفن "حق الأم" وبأبحاث لافيتو. نشر مورغان في عام 1851 بحثاً بعنوان "عصبة الايروكيز" أبرز فيه النظام الأمومي السائد وسط الايروكيز. وكان اهتمام مورغان بنظم القرابة والنظم الاجتماعية والسياسية كبيراً مما دفعه للقيام برحلات واسعة بين الأمريند، وراسل المبشرين العاملين في جهات مختلفة من العالم مستفسراً عن أنظمة القرابة والتنظيمات الاجتماعية لدى الشعوب التي يبشرون بينها. كما وأطلع على كتاب هنري مين "القانون القديم" الذي نشر في عام 1861. نتيجة تلك الأبحاث والقراءات أصدر مورغان مؤلفة عن "أنظمة القرابة والمصاهرة في العائلة البشرية" في عام 1871 وألحقه في عام 1877 بمؤلفه "المجتمع القديم". نجح مورغان في إقامة البرهان، عموماً، على أنَّ علاقات القرابة تسيطر على تاريخ الإنسان البدائي، وعلى أنَّ لهذه العلاقات تاريخاً ومنطقاً. واكتشف مورغان أن أنظمة القرابة في المجتمعات البدائية طباقية وليست وصفية وأن نقطة ارتكازها تبادل النساء بين الجماعات، وان الزواج الخارجي (الاغترابي/الاكسوجامي) لا يتنافى والزواج اللحمي (الداخلي/ الاندوجامي) لأن الزواج الاغترابي بين العشائر هو تكملة الزواج اللحمي بين القبائل. ولقد أوضح مورغان أنَّ العشيرة هي الشكل السائد من أشكال التنظيم الاجتماعي لدى جميع الشعوب التي تجاوزت مرحلة التوحش. وميز مورغان شكلين من أشكال العشيرة، العشيرة التي تنتسب إلى الأم والعشيرة التي تنتسب إلى الأب، وقال بالأسبقية التاريخية والمنطقية لأنظمة قرابة الأم على أنظمة قرابة الأب متبنياً بذلك واحدة من فرضيات باخوفن. انطلق مورغان في تحليله لأنظمة القرابة من واقعة لاحظها لدى الايروكيز الذين عاش معهم واطلع على حياتهم بشكل واسع. لقد كان نظام القرابة السائد لدى الايروكيز "متناقضاً مع علاقاتهم العائلية الفعلية".. ففي الوقت الذي لم يكن فيه شك في حقيقة الأشخاص الذين كانوا آباءهم وأمهاتهم وبناتهم وإخوتهم يسميهم مورغان (بحسبانه أوروبي يعتمد النظام الوصفي للقرابة) أعمام وخالات … إلخ. وكان أبناء العم المتوازين يعدون عند الايروكيز أشقاء وشقيقات، وكان أبناء العم المتصالبون (أي المتحدرون من أخوات الأب ومن إخوة الأم) هم وحدهم الذين يسمون بأبناء العم. ولقد تولدت لدى مورغان القناعة، بعد استقصاء ومراجعة أكثر من 250 قائمة بمصطلحات القرابة عبر العالم بأسره، بأن التناقض المميز لنظام القرابة لدى الايروكيز موجود أيضاً في الهند وفي أمريكا الشمالية. ولتفسير هذه الظاهرة العامة افترض مورغان أن نظام القرابة يتطابق مع شكل عائلي منقرض يمكن إعادة بنائه فيما لو تم التوصل إلى فك لغز ذلك النظام. كان هذا التناقض تعبيراً عن السرعة المتفاوتة لتطور الأسرة، العنصر الحركي الفعال، ولتطور أنظمة القرابة، العنصر السالب المنفصل. لقد خيل لمورغان، وهو يقيم مقارنة بين 250 من أنظمة القرابة وأشكال الأسرة التي قام بجمعها، أنه اكتشف في الأسرة الهاوائية (جزيرة هاواي) الشكل العائلي الذي يتطابق مع مصطلحات القرابة لدى الايروكيز، لكن لما كان نظام القرابة في هاواي لا يتطابق هو الآخر مع الشكل العائلي الهاوائي لم يكن هناك مفر من الرجوع تدريجياً إلى "شكل عائلي أكثر بدائية أيضاً، شكل لم يقم البرهان على وجوده في أي مكان، ولكن لابدَّ أن يكون قد وجد لأن نظام القرابة ما كان ليوجد دونه" وذلك على حد تعبير مورغان. هذا الشكل البدائي الأصلي لا يمكن أن يكون، في رأى مورغان، غير حالة من "الاختلاط الجنسي" بين أعضاء "القطيع البدائي". ففي هذه الحالة كان جميع الأخوة والأخوات، والآباء والأولاد أزواجاً وزوجات، ولم يكن للمحارم من وجود وشهدت المرحلة التالية ولادة تحريم الزواج بين الفروع والأصول، بينما بقى الأخوة والأخوات في كل جيل أزواجاً وزوجات. ولا بدَّ أن الأسرة كانت حينها "عصبية". ورغم أن مورغان يرى بأنه حتى أكثر الشعوب بدائية لا تقدم أمثلة قاطعة على هذا النوع من الأسرة فإنه يقول: "لابدَّ أن تكون هذه الأسرة قد وجدت لأن تطور الأسرة اللاحق يفترضها جبراً ويرغمنا النظام الهاوائي على القبول بذلك". وكان التقدم الثاني حظر الزواج بين الأخوة والأخوات من نسل الأم، ثم بين الأخوة والأخوات من قرابة الحواشي. ويصبح الرجال في هذا الشكل من الأسرة أزواجاً مشتركين لزمرة من نساء لسن بأخوات لهم، وتصبح الأخوات بالمقابل الزوجات المشتركات لرجال ليسوا بإخوة لهن. هكذا يرى مورغان بأن هذا الشكل العائلي يفسر نظام القرابة لدى الايروكيز، وأن هذا النظام يتعايش مع شكل عائلي مغاير، "العائلة "القرينة" التي يكون فيها عدد محرمات الزواج أكبر أيضاً ويتخذ فيها الزوجان المزيد من الأهمية. وفي جميع الأشكال السابقة من الزواج الجماعي ما كان ممكناً تحديد عامود النسب عن غير طريق الأم. عندها اتخذ التنظيم الاجتماعي الذى كانت تتطابق معه العائلة "القرينة" شكل عشيرة، أي مجموع فروع أم واحدة حُرَّمَ عليهم من الآن فصاعدا الزواج فيما بينهم. إن العشيرة في شكلها الأول ما كان يمكن أن تقوم إلا على عامود نسب الأم. وقد شكلت العشيرة، على حد تعبير مورغان، "قاعدة النظام الاجتماعي لغالبية الشعوب البربرية، إن لم نقل جميعها، ومنها ننتقل فوراً إلى المدنية في اليونان كما في روما". وقد حلت محل العشيرة التي تقوم على نسب الأم العشيرة التي تقوم على نسب الأب والتي لم تدرك كامل تطورها إلا في العالم القديم بعد أن أدى ظهور تربية الماشية إلى تغير أصاب علاقات الإنتاج وأشكال الملكية لصالح الرجال. وقد أدى تطور تربية الماشية ثم الزراعة إلى ولادة الأسرة الأبوية، وأدى تطور هذه الأخيرة إلى ولادة الأسرة الزوجية الحديثة. ولقد تطور بدءاً من نظام العشائر التنظيم القبلي ثم إتحاد القبائل، وهذه أعلى نقطة أدركها، في رأى مورغان، الهنود الأمريكيون الأصليون الأكثر تطوراً: الإيروكيز والأزتيك والإنكا. والقبيلة، طبقاً لمورغان، هي جملة من عشائر لها أرضها ولهجتها الخاصة، ولها تصورات دينية وعبادات مشتركة. وهي تنتخب زعماءها، ويدير شئونها المشتركة مجلس القبيلة، وعلى رأسه زعيم أعلى محدود السلطات. وللشعب دوماً الحق للتدخل في المناقشات. كان هذا التنظيم، في رأي مورغان، تنظيم "ديمقراطية عسكرية" ينطوي بحكم طابعه العسكري على أشكال استثنائية من السلطة موقوفة على القادة الحربيين، لكنه يتنافى في الوقت نفسه، بحكم طابعه الديمقراطي، مع وجود طبقات متصارعة ودولة. وعلى هذا يرى مورغان أن الممالك والإمبراطوريات والملوك والأمراء التي أكتشفها الأسبان في المكسيك لم تكن إلا من اختراع مخيلتهم وجهلهم وآرائهم الغربية المسبقة على نحو يتعارض تماماً مع كل المعارف العلمية المتراكمة عن بنية المجتمع العشائري لدى الهنود الأمريكيين. وافترض مورغان عدداً من المراحل التطورية الاجتماعية ، وربط كل مرحلة من تلك المراحل بنمط معين طبقاً لمراحل التطور الثقافي، أي أن كل مرحلة تميزها علاقات ثقافية تتمظهر في أشكال من النظم بحيث تتوافق مع المراحل الفرعية. وافترض مورغان أن جميع المجتمعات الإنسانية تخضع في تطورها لقانون واحد طالما أن تاريخ الجنس البشري واحد "وحدة أصل الإنسانية وتوحد الحاجات الإنسانية على الدرجة نفسها من التطور وذلك حين تكون العلاقات الاجتماعية على الدرجة نفسها من المساواة". هكذا يرى مورغان أن الثقافة الإنسانية انتهجت في تطورها مساراً أُحادياً، أي أنها تنتقل عبر التاريخ وفق سلسلة متتابعة الحلقات، بمعنى وجود مراحل محددة وحتمية لا بدَّ أن تمر بها كل ثقافة من الحالات الدنيا إلى الحالات الراقية فالأكثر رقياً. وافترض مورغان وسعى إلى إيجاد علاقة عنصرين كبيرين في مرحلة ما قبل التاريخ هما: مرحلة التوحش ومرحلة البربرية وقسم كل مرحلة منها إلى مراحل فرعية دنيا ووسطي وعليا قبل الوصول إلى مرحلة المدنية. وبذلك استعاد التاريخ البدائي تلاحماً شاملاً وعمقاً .. تعدد الوجوه يبدو كالتالي: 1- مرحلة التوحش الدنيا: يرى فيها مورغان طفولة البشرية حيث عاش الإنسان في مرحلة أشبه بالحيوانية هائماً على وجهه متغذياً بجذور النباتات وبعض الثمار البرية … جامعاً وملتقطاً. 2- مرحلة التوحش الوسطى: مرحلة تقدم فيها الإنسان قليلاً عما كان عليه في المرحلة السابقة باهتدائه إلى اكتشاف النار واستخدامها في طهي الطعام وإضاءة الكهوف. نتج عن ذلك تعرف الإنسان على أنواع جديدة من الأطعمة بخاصة اللحوم والأسماك. 3- مرحلة التوحش العليا: اكتشف فيها الإنسان القوس والسهم مما ساعده على تغيير غذائه واقتصاده بشكل عام، أصبح الإنسان في هذه المرحلة صائداً للحيوانات يعتمد على لحومها، أي أن الإنسان بدأ في هذه المرحلة في تحقيق الانتقال من جامع للطعام وملتقط له إلى منتج لطعامه. ويفترض مورغان ارتباط هذا التقدم في الاقتصاد بتقدم مماثل في شكل التنظيم الاجتماعي والديني. 4- مرحلة البربرية الدنيا: تتميز بوصول الإنسان إلى إبداعات جديدة أهمها صناعة الفخار، وبخروج الإنسان من عزلته الضيقة وانتشاره في مناطق أكثر اتساعا، وبداية نشوء جماعات اجتماعية. 5- مرحلة البربرية الوسطى: تمكن فيها الإنسان إلى صهر المعادن وصناعة الأدوات والآلات المعدنية، وبداية اكتشاف الكتابة الصورية. ويرى مورغان أنه وبعد اجتياز الست مراحل تلك توصل الإنسان إلى مرحلة المدنية التي تتميز باختراع الحروف الهجائية والكتابة، وهي المرحلة التي لا زالت ممتدة حتى الوقت الراهن. ويؤكد مورغان على هذا التتابع المميز للتطور الثقافي ويراه ضرورياً لمطابقته مع الواقع. وحاول مورغان تطبيق تلك المراحل على بعض الثقافات الإنسانية المعاصرة له فرأى أن سكان أستراليا الأصليين يمكن أن يمثلوا مرحلة التوحش الوسطى، في حين يمثل البولينيزيون مرحلة المتوحش العليا، ويمثل الايروكيز ما بعد مرحلة البربرية العليا. أما الثقافة الأوروبية في عصره فتمثل المرحلة السابعة – المدنية. تبقى المرحلة الأولى – الوحشية الدنيا التى لم يجد لها مورغان من يمثلها. وعارض مورغان المدنية بتاريخ الإنسان البدائي بأشكاله الوحشية والبربرية وشبه هذا التعارض بين المجتمعات اللا طبقية المنظمة تبعاً لعلاقات القرابة وبين المجتمعات الطبقية التي تهيمن عليها الدول والتي تقوم على أساس الملكية الخاصة والتبادل وتراكم الثروات. وتصور مورغان مرحلة المدنية نفسها بحسبانها عصراً انتقاليا في تطور الإنسانية لا بدَّ أن يفضي، بحكم قوانين التطور، إلى "بعث الحرية والمساواة والإخاء كما عرفتها العشائر القديمة". ادوارد برنت تايلور(1832-1917) عالم إنسان بريطاني أصبح أستاذاً لعلم الإنسان في جامعة أكسفورد منذ عام 1896 وظل بها حتى تقاعده في عام 1913. أسهم إسهاماً كبيراً في دراسة الثقافة وكان أحد رواد الاتجاه التطوري، وقال بالنظرية البيولوجية، وأسهم في تطوير الدراسات المقارنة للأديان. يرى تايلور أن الثقافة تطورت من الشكل غير المعقد إلى الأشكال المعقدة مبدياً اتفاقه مع مورغان بشأن مراحل التتابع الثقافي من الوحشية إلى البربرية فالمدنية. وكان كتابه "أبحاث في التاريخ المبكر للبشرية وتطور المدنية" في عام 1869 والذي أعقبه كتابه"المجتمع البدائي" في عام 1871 قد انطلقا من وجهة نظر تطورية. ويرجع الفضل إلى تايلور في ابتكار مصطلح الثقافة مفهوماً أنثروبولوجياً بحسبانه "كل ما يفهم من العلم والعقيدة، والفن والأخلاق، والتقاليد والأعراف، وأية قدرات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع". وقد عُدَّ تعريف تايلور للثقافة في حينه أحد أهم التعريفات لكنه ومع تقدم المناهج العلمية وتوسع الأبحاث والدراسات الميدانية لم يعد هذا التعريف مناسباً. تبدو محدودية هذا التعريف في كونه اعتمد على الدراسات الاثنوغرافية الوصفية التي سجلها الرحالة ولم يتجاوز مجرد كونه سرداً وصفي لعناصر الثقافة ومحتواها. عدَّ تايلور الثقافة عنصراً مساعداً لفهم تاريخ بني الإنسان طالما أن الثقافة ظاهرة تاريخية تميز بها الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى، ويكتسبها الإنسان بالتعلم من مجتمعه الذى يعيش فيه. بهذا الفهم يرى تايلور أن الثقافة تكون دوماً ثقافة جماعة – مجتمع. لكنه في الوقت نفسه لا يهمل دراسة العمليات العقلية للفرد بحسبان الثقافة حصيلة أعمال فردية كثيرة. هكذا يفترض تايلور أن دراسة الثقافة هي دراسة تاريخ تطور الفرد في المجتمع بحسبانها العملية التاريخية العقلية لتطور عادات الإنسان وتقاليده من حالتها غير المعقدة إلى حالتها المعقدة فالأكثر تعقيداً. لكن يلاحظ أن تايلور، خلافاً لمورغان، لا يصر على عد مراحل تطور الثقافة من الوحشية إلى البربرية فالمدنية بمثابة حتمية ملزمة محتفظاً في الوقت نفسه بمبدأ التقدم التطوري من الأدنى إلى الأعلى حقيقة وضعية. وكان تايلور أول من درس طرق إشعال النار عند البدائيين، وطريقة الطهي بالحجارة الساخنة عند الجماعات التي لم تتعرف على صناعة الفخار. كما انه درس بعناية نظام الزواج الاغترابي المحلي، ونظام الزواج مع أنساب الأم (ابن الخال أو الخالة). وقد اتفق تايلور مع فرضية أدولف باستيان التي ترى في التفسيرات النفسانية للنمو الثقافي. ويقول تايلور أن الثقافة، مثلها مثل النباتات، تتصف بالانتشار أكثر من كونها تتطور، ويرى بأن الناس أخذوا من جيرانهم أكثر مما اخترعوا أو اكتشفوا بأنفسهم. ويرى بأن هناك عدداً من الاكتشافات التي نشأت في مكان واحد وانتشرت منه إلى أماكن أخرى: مثال ذلك الفخار الذى يرى بأنه انتشر في أمريكا من المكسيك، والقوس والسهم والشطرنج الذى نشأ في الهند وانتشر في العالم الجديد عبر المحيط الهادي إلى المكسيك. تؤلف هذه الآراء تناقضاً في كتابات تايلور التطورية التي تنبع من اعتقاده بوحدة النفس البشرية والتي تصبح انعكاساتها متشابهة في الظروف المتماثلة في أي مكان. لكنه ورغم تجلي بعض مثل تلك الأقوال بشأن الانتشار الثقافي لبعض المظاهر فإن تايلور، بالنظر لمجمل أفكاره، تطوري النزعة، ومن دعاة التطور البسيط من الأسفل إلى الأعلى، من غير المعقد إلى المعقد، من اللا معقول إلى المعقول. ومع أنه أرخَّ للنظم الثقافية تاريخاً تطورياً فإنه اعترف في الوقت نفسه بوجود حالات من الركود والارتداد الثقافي دون أن يمثل ذلك تحولاً جذرياً في الصورة العامة للتطور من أسفل إلى أعلى. فالنظام الأمومي أقدم من النظام الأبوي، وطقوس الكوفادة مرحلة وسطية بين النظامين يختلط فيهما النظام الأمومي بالنظام الأبوي حيث تمثل طقوس الكوفادة "بقايا ثقافية" تشير إلى وجود الشكل السابق في أحشاء الشكل القائم. وقدم تايلور، في مجال دراسة المعتقدات، مفهوم الأنيمية (الأرواحية) نظرية لتفسير الديانة وتطورها العالمي. فقد استنتج من دراسته الميدانية لقبائل الهنود الأمريكيين من شعب البويبلو بجنوب غربي الولايات المتحدة أن جميع العقائد الدينية ظهرت نتيجة للتفسير الخاطئ لبعض الظواهر التي يتعرض لها الإنسان مثل الأحلام والأمراض والنوم والموت. ويرى أن ظاهرة الأحلام وظاهرة الموت كان لهما الأثر الأكبر في توجيه الفكر الاعتقادي لدى الإنسان. فالأحلام هي التي أوحت للإنسان بفكرة الروح والجسد ذلك أن البدائي يتخيل نفسه متنقلاً من مكان إلى آخر وهو نائم، بل وقد يرى نفسه وهو يؤدي أعمالاً يعجز عن القيام بها وهو في حالة اليقظة. ومن ثم نشأت لديه اعتقادات بأن الروح تفارق الجسد أثناء النوم مبتعدة إلى عوالم أخرى ثم تعود مرتدة إليه عند اليقظة. ويعني عدم رجوع الروح إلى الجسد الموت. واكتشف تايلور أن تلك الأفكار ارتبطت بالطقوس والعادات كما ارتبطت أيضاً بعادة تقديم القرابين لأرواح الأجداد. ومن هنا طرح مصطلحه الأنيمية (الأرواحية) أي الاعتقاد بوجود الأرواح والآلهة والجن والشياطين وغيرها من الصور اللا منظورة التي عدها تايلور الأصل الثقافي للمعتقدات الدينية على اختلاف أنواعها والتى تطورت إلى فكرة الإله العالي في مرحلة المدنية. وإذا كان علماء القرن الثامن عشر قد نظروا إلىالممارسات الطقوسية المرتبطة بالمعتقدات عند الأوروبين بحسبانها غيبيات، فإن تايلور قد نظر إليها بحسبانها شعائر ثقافية لابدَّ من فهمها انطلاقا من معناها الداخلي وبمقارنتها مع مجمل درجات التقدم. وقد عبر تايلور عن ذلك "أنه ليس لمرحلة قانون البقاء أية دلالة علمية، ذلك أن أكثر ما نسميه معتقدات غيبية إنما ينتمي لهذا القطاع بحيث يمكن إعطاء تفسير عقلي لها". فإذا لم تكن الممارسات والشعائر ذات الطابع الغيبي شيئاً آخراً سوى بقايا مرحلة تطور سالفة، فعلينا أن نتساءل عما تعبر عنه هذه البقايا". يقول تايلور أن بعض الممارسات يجب أن تعد بقايا، أن لها سبباً علمياً، أو أنها تخدم، على الأقل ، شعائر لها صلتها بمكان نشأتها وزمانها، وهي إن بدت عبثية فذلك لاستعمالها في ظروف مجتمعية جديدة، بذلك تبدو كأنها فقدت معناها … بتفسير من هذا النوع، أى بالعودة إلى دلالة منسية، يمكن توضيح معظم الشعائر التي لا يمكن القول عنها سوى انها حماقات أو ممارسات نادرة. لا يشك تايلور في تفوق هذا التحليل الوضعي الذى يؤدى إلى فهم حقيقي فبمساعدة هذه الطريقة يعاد اكتشاف "دلالات منسية" أو ضائعة كانت تعد إلى وقت طويل ممارسات غيبية لا معنى لها. فمع هذا التحليل الوضعي تحول الكهنة في المجتمعات البدائية/ طبقاً لتايلور، إلى سحرة يعلمون شيئاً ما، لكن علمهم هذا، رغم ما يبدو منه، لا يساوى في الواقع شيئاً. ومن ثم يكتب تايلور قائلاً: "إن السحر لا يعود في أصوله إلى الشعوذة والاحتيال، ولم يمارس في البداية من هذه المنطلقات. يتعلم الساحر مهنته في العادة بروح طيبة، ويحافظ على هذه الروحية في ممارسته لعلمه من البداية حتى النهاية. إنه مثل الخادع والمخدوع في آن واحد ، يضيف طاقة المؤمن إلى حيلة المنافق. وإذا كانت العلوم السرية قد وجدت منذ البداية من أجل الخداع، فإن بعض الأشياء العبثية قد تكفي لذلك، لكن ما نجده بالفعل هو بمثابة علم خاطئ تطور بشكل منهجي كامل. إنه عبارة عن فلسفة صادقة، لكنها خاطئة، طورها الذهن الإنساني بطريقة يمكننا إدراكها إلى حد كبير، وتعود في أصلها إلى تركيبة الإنسان الذهنية". تختفي في مثل هذا المفهوم القدرة العقلية الكامنة في كل فرد، كما تختفي إمكانية إدراك ممارساته ومعتقداته، حين لا ينتبه إلى لعبة الكهنة يسود بدلاً عن ذلك الزعم بصعوبة إدراك لغة البدائي أو فهم تصرفاته، كما ويسود الزعم بانغلاق مكانته الذهنية. بالمقابل، تعد ميزة الانغلاق هذه بالنسبة للنظرية الأنثروبولوجية المدخل والشرط لفهم "الخرافة" وتفسيرها..هكذا يوضح تايلور.."فمعنى الخرافة لا يمكن حصره بالحدود التي اقترحها منظرو القرن الثامن عشر والذين رأوا فيها مجرد دلالة خلقية ساذجة ومسطحة، أو علم سرى منظم لأن قوانين الخرافة ليست سوى قوانين اللغة وقوانين المخيلة وهى قوانين منطقية وتشكل نظاماً له دلالته". يرى تايلور بأن معنى الممارسات بالنسبة للبدائيين، كما هو الأمر بالنسبة لكهنتهم، ليست ناتجاً عن التأثير الذي تمارسه اللغة على العقل الإنساني. فقط في العلم الوضعي يصبح ممكناً فهم اللغة وعدها موصلة إليه. ومن ثم فإن النظرية الأنثروبولوجية هي الوحيدة، في رأى تايلور، القادرة على تقديم علم يتعلق بالمحتوى الذهني للخرافة، وعلى فهم الثقافات غير الغربية بشكل عام. إنها في الواقع ثمرة "التمحور التاريخي والمعرفي" الفريدة: "هنالك نوع من الحدود يجب أن تكون إلى جانبها من جهة التفاعل مع الخرافة ولنتخطاها من الجهة الثانية ليتسنى لنا فهمها. ومن حسن الحظ أننا إلى جانب هذه الحدود، وإنه يمكننا اجتيازها أيضاً بإرادتنا"، هكذا يصرح تايلور. والأمر بهذا القدر من الوضوح فإن تايلور يصل إلى أن النظرية الأنثروبولوجية هي الوحيدة "المعقلنة" من هذه الزاوية، لا الثقافة البدائية بحد ذاتها. تذوب الثقافات البدائية في التحليل التايلوري، بحسبانها بقايا أو عقلنة ميتة، ومن ثم يجب أن تختفي من الممارسة ومن الحياة العملية. عليها أن تزول، وذلك كما يقول "بسبب ترابطها مع المراحل المتدنية من تاريخ العالم العقلي". النظرية التطورية الثقافوية بعد هذا العرض لأفكار رائدين من رواد الاتجاه التطوري في الأنثروبولوجيا نحاول تحديد الخطوط العامة لهذه النظرية كما تضح من أطروحتهما. في المقام الأول يلاحظ أنه وبالنسبة لهذا الاتجاه لا يمكن فهم العقل الإنساني إلا من خلال ربطه بالعقل التاريخي. إن فهم الممارسة النظرية ممكن فقط من خلا ل التاريخ بحسبانه تاريخ بشر متجانسين تحتويهم دائرة واحدة عامة. أما التمايز فهو وليد ظرف تاريخي محدد. تمثل المجتمعات الإنسانية تواصلاً متجانساً مؤلفاً من طبقات تطورية وأقسام موازية. إن مفهوم درجات التطور التاريخي هو معيار أساسي بالنسبة للتطور الذى يسير بخط مستقيم. وطور البشر تبعاً لذلك، من خلال توحدهم ضمن مجال حياة معين وضمن شروط محددة، ومن خلال ما ينتج عن ذلك من ممارسات ومن اقتصاد، وحدة ثقافية ومجتمعية. لقد رأى أنصار الاتجاه التطوري في التقدم ثمرة التكامل في الأدوات المادية وثمرة التعقيد في العلاقات خلال مراحل تطورية معقدة. يتمظهر التقدم من خلال الانتقال من المرحلة الحيوانية إلى المرحلة البدائية ومن هذه إلى البربرية فالتمدن. وفي مرحلة الثورة الصناعية صار معيار التقدم يقاس بدرجة التطور التقني. إن مبدأ وحدة الجنس البشرى أساسه عالمية المعرفة التقنية كما عبر عن ذلك مورغان حيث كتب "نجد وحدة في فكر البدائيين البرابرة وإنسان المدنية. إنها هي نفسها ما ساعد البشر على ابتكار الأدوات نفسها والأواني ذاتها عندما يخضعون للعلاقات نفسها، وما يساعد أيضاً على اختراع المنشآت الاجتماعية نفسها وتطويرها انطلاقا من بدايات لا يمكن رؤيتها: من العصر الحجري والسهام التي التمعت صورتها في ذهن البدائي، إلى مزج المعادن، وفيه يتمثل ذكاء البربري، وأخيراً إلى تحريك القطار الحديدي، هذا هو انتصار المدن". هكذا يترك كل من النمو والتقدم بصماته على مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. وكان مورغان قد وصف ذلك في كتاباته كما يلي: "يتحدد الذكاء بالاختراع والاكتشاف"، و"تطور القانون الاجتماعي"، "وتطور مفهوم الأسرة"، و"تطور مفهوم الملكية". بذلك يمكن عد كل وحدة، كل مجموعة إنسانية/ مجتمعاً بقدر ما تكون شروط حياة المجموعة المادية والذهنية. ويمكن وضعها في الدرجة الاجتماعية نفسها طالما أنها نتاج الطبقة نفسها. يتضح من ذلك أن مورغان عدَّ التطور بمثابة خط مستقيم. فالبدائية حالة سبقت البربرية التي سبقت بدورها المدنية، وهذا ما يجده مورغان عند البشريَّة بمجموعاتها المختلفة كلها. إن تاريخ الجنس البشرى قد عرف شكلاً موحداً في نشأته، وفي تجربته، وفي تقدمه (وهذا هو رأى تايلور أيضاً). وبمكاننا رد التشكل نفسه الذي يشمل مراحل التمدن إلى المؤثرات والأسباب الأولية نفسها. أما مختلف درجات التشكل فهي بمثابة درجات التطور بحيث تكون كل دورة وليدة سابقتها وإسهاماً في تشكيل تاريخ المستقبل. هكذا يجوز القول بأن آراء التطوريين تتلخص في أن تاريخ الإنسانية وتاريخ الثقافة يمثل خطاً متصاعداً من العادات والتقاليد والعقائد والتنظيمات والأدوات والآلات والأفكار. وأن البشرية مرت بمراحل ثقافية تتدرج من الأشكال غير المعقدة إلى الأشكال المعقدة فالأكثر تعقيداً، وأن هذا الخط المتصاعد من الأسفل إلى الأعلى متشابه في أجزاء العالم نتيجة الوحدة النفسية لبني الإنسان في كل مكان وزمان وهو ما جعل التطوريين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر شغلتهم فكرة تطور الثقافة والمجتمع الإنساني عبر مراحل التبدل من حالة إلى حالة، أكثر مما شغلتهم فكرة اكتشاف القوانين الأساسية التى تحكم عملية تطور الثقافة. إيجازاً نشير إلى أن مولد الأنثروبولوجيا مهنة ارتباطا باتجاهات نظرية محددة قد حدث في النصف الثاني للقرن التاسع عشر في جو فكرى سادت فيه الفروض والنظريات التطورية في مجال التاريخ الطبيعي للكائنات الحية وفي مجال المجتمعات الإنسانية على حد سواء، وذلك جنباً إلى جنب مع ازدياد السيطرة الغربية على شئون العالم. ولقد كان للإنجازات العظيمة التي أحرزتها العلوم الطبيعية أثرها في حث المشتغلين بالمسائل الاجتماعية والأخلاقية آنذاك، في أن يتبنوا تطبيق أساسيات المنهج العلمي في دراساتهم. فقد شغل بال المفكرين عامة، ومن بينهم الاجتماعيون وعلماء الأنثروبولوجيا بصفة خاصة، سؤالاً معيناً هو كيف نشأت ثقافات العالم وتطورت؟ وبالرغم من سيادة الفكر التطوري في إطار نشأة المجتمعات وتطورها (أي الثقافات) الإنسانية في خط واحد، إلا أنه كان هناك أيضاً إجابة أخرى لهذا التساؤل وذلك في إطار النظرية الانتشارية التي تمتد جذورها إلى مفكرين سابقين على القرن التاسع عشر. النظرية الانتشارية يفترض دعاة هذا الاتجاه أن الاتصال بين الشعوب المختلفة قد نتج عنه احتكاك ثقافي وعملية انتشار لبعض السمات الثقافية أو كلها وهو ما يفسر التباين الثقافي بين الشعوب. وينطلق دعاة هذا الاتجاه من الافتراض بأن عملية الانتشار تبدأ من مركز ثقافي محدد لتنتقل عبر الزمان إلى أجزاء العالم المختلفة عن طريق الاتصالات بين الشعوب. وبما أن نظرية الانتشار الثقافي تسعى إلى الكشف عن حلقات لربط الثقافات معاً نتيجة تفاعلها جغرافياً وزمنيا فإنها تلتزم أيضاً بالمبدأ التاريخي في علاقات الثقافات بعضها بالبعض الآخر. وقد ظهرت في أوروبا مدرستان للانتشار الثقافي. كان فريدريك راتزل رائداً للمدرسة الأولى وتبني منهجاً تاريخياً-جغرافياً بتأثير المدرسة الجغرافية الألمانية وركز على أهمية الاتصالات والعلاقات الثقافية بين الشعوب ودور تلك العلاقات في نمو الثقافة. وادعى راتزل بأن الزراعة اعتمدت إما على الفأس أو المحراث وهو ما يفسر الاختلافات بين الثقافات الزراعية. وتبعه في ذلك هان، المتخصص في الجغرافيا البشرية، وادعى الأخير بأن تدجين الحيوانات أعقب اكتشاف الزراعة المعتمدة على الفأس. ومع اعتراف هان بأن الزراعة المعتمدة على الفأس يمكن أن تكون قد ظهرت عدة مرات في أجزاء مختلفة من العالم إلا انه يؤكد على أن زراعة المحراث وتدجين الحيوانات واكتشاف عجلة الفخاري قد تمت كلها في الشرق الأدنى القديم ثم انتشرت منه إلى بقية أجزاء العالم. أما هاينرينج شورتز فقد أبرز فكرة وجود علاقات ثقافية بين العالم القديم (اندونيسيا وماليزيا) وبين العالم الجديد (الأمريكتين). وقد طور ليو فروبينيوس فكرة انتقال الثقافات عبر المحيطات بادعائه حدوث انتشار ثقافي من اندونيسيا إلى أفريقيا. فقد حاول في كتابه الذي نشره في عام 1898 بعنوان "أصل الثقافات الأفريقية" إثبات وجود دائرة ثقافية ماليزية زنجية في غرب أفريقيا فسرها بوصول نفوذ ثقافي اندونيسي في صورة موجة ثقافية إلى ساحل أفريقيا الشرقي، ومن ثمَّ عبورها إلى غرب أفريقيا حيث لا تزال بقايا تلك الموجة موجودة في حين أن بقاياها قد اندثرت في شرق أفريقيا نتيجة هجرات البانتو والحاميين اللاحقة. بهذا يكون ليو فروبينيوس أول من أدخل مفهوم "الدائرة الثقافية" في الاثنولوجيا وهو المفهوم الذي نال تطوره اللاحق في أعمال جرايبز فكرة أحادية منشأ الثقافة الإنسانية مفترضاً وجود عدة مراكز ثقافية أساسية في جهات مختلفة من العالم.. وبفعل التقاء الثقافات نشأت دوائر ثقافية وحدثت بعض عمليات الانصهار وبرزت تشكيلات مختلفة وهو الأمر الذي يفسر الاختلافات البادية في الثقافات الأساسية. وفي عام 1905 نشر جرايبز بحثه عن "الدوائر الثقافية والطبقات الثقافية في جزر المحيط الهادي" والذي استخدم فيه عدد لا يحصى من العناصر الثقافية التي ترتبط بعضها بالبعض الآخر لتؤلف دائرةً ثقافية. وباستخدام التتابع الزمني وانتشارها في أستراليا وجزر المحيط الهادي. وفي عام 1911 نشر جرايبز كتابه "منهج الاثنولوجيا" الذى رسم فيه الخطوط العامة لمدرسته الانتشارية. أما فلهلم شميدت فقد نشر مع فيلهلم كوبرز خلاصة آراء مدرسة "فينا" وأكدا على وجود ثقافات أزلية تمثل أقدم أنواع المجموعات الثقافية المعاصرة. وكانت هذه الثقافات الأزلية (أقزام أفريقيا وآسيا والفيدا في سيريلانكا، والسينوى في الملايو، والكوبو في سومطرة) تمثل الدائرة الثقافية الأولى. وتمثلت الدائرة الثانية في الثقافات الرعوية في مناطق سيبيريا وأواسط آسيا (حيث دجن الساموييد في شمال سيبيريا الرنة، ودجن التركمان الحصان، ثم المجموعات التي دجنت الماشية والماعز … إلخ). وتنطوي فكرة الدائرة الثقافية على نقطتين هما: وجود الدائرة الثقافية وكينونتها، والدائرة الثقافية بحسبانها منهجاً بحثياً اثنولوجياً. ويعرف شميدت الدائرة الثقافية بقوله: "إذا احتوت ثقافة كاملة على كل شيء: النواحي المادية والاقتصادية والاجتماعية والاعتيادية والدينية، فإننا نطلق عليها اسم الدائرة الثقافية لأنها متكاملة وتعود على نفسها مثل الدائرة. إنها تكفي نفسها بنفسها، ومن ثم تؤمن استقلال وجودها. وهى – أي الثقافة- في حالة إذا ما أهملت أو فشلت في إرضاء واحد أو أكثر من الاحتياجات الإنسانية الهامة تتيح حدوث تعويض من ثقافة أخرى. وكلما زاد عدد عناصر التعويض تقل هذه الثقافة عن أن تكون دائرة ثقافية (مستقلة). ويضيف شميدت بأن كل مفردات الثقافة متماسكة تماسكاً عضوياً وليست مجرد ارتباطات تلقائية، غالباً ما يسيطر واحد من مظاهر الثقافة في الدائرة على بقية المظاهر، ومن ثم تدمغ هذه المظاهر بصبغتها الخاصة ويسوق مثالاً النسب الأموي المرتبط بالجماعات الأموية النسب غالباً ما تعبد القمر، بينما إله السماء هو الإله المسيطر عند الرعاة وإله الشمس عند الجماعات الطوطمية الأبوية النسب. وقد لخص كوبرز في بحثه الذى نشره عن "الانتشارية: الانتقال والتقبل" ضمن كتاب "الأنثروبولوجيا المعاصرة" الذى أشرف عليه توماس وطبع في عام 1956، أهم وجهات نظر المدرسة الانتشارية – النمساوية وقد ترجم محمد رياض تلك النقاط في كتابه "الإنسان : دراسة في النوع والحضارة". 1- حيث أن الثقافة والإنسان (منذ نشأته) متزامنان فإن التاريخ في أوسع معانيه يشتمل على كل الفترة التى ظهر فيها الإنسان على الأرض حتى اليوم. 2- لا ينكر أي باحث – قديماً وحديثاً – أن الانتشار الثقافي، ودرجة انتقاله تقبله حقيقة واقعة. 3- إن الانتشارية مبدأ هام في الدراسات الاثنولوجية ودراسات ما قبل التاريخ. ونتيجة لنقص الوثائق المكتوبة فإن الأمر يحتاج إلى دراسات مقارنة للصفات الثقافية من أجل الحصول على العوامل المكانية والزمانية والسببية. 4- يجب أن يستخدم الانتشاريون مقياس الشكل والعدد المعروف عن المنهج التاريخي. ولا شك أن هذا المنهج لن يؤدى إلى تاريخ مماثل لما نجده في الكتابات التاريخية العلمية. يمثل العنصر الثقافي هنا دليلاً قائماً على الصلات، كما يزداد هذا الدليل قوة نتيجة لمدى ترابط العنصر الثقافي ببقية الثقافة. ولا يمكننا أن نهمل هذه الأدلة على إنها تمثل جزءاً من العملية التاريخية. 5- الانتشار الثقافي لا يمثل كل أحداث التاريخ، فدراسة العناصر الثقافية لا تحل محل الوثائق التاريخية لكنها تعطي إضافات هامة في هذا الاتجاه التاريخى. وفي حالة نقص الوثائق التاريخية، كما هو الحال عند دراسة ما قبل التاريخ والجماعات البدائية، يصبح من غير المعقول أن نمتنع عن تفسير الحقائق في الاثنولوجيا وعلم الآثار. 6- تقوم الدراسات الانتشارية على المتشابهات الثقافية، حتى في الحالات التى لا نستطيع فيها التأكد من وجود ارتباطات وهجرات بين المتشابهات الثقافية، فلا شك أن تأكيدنا بأن الظاهرتين المتشابهتين قد نشأتا نشأة مستقلة يصبح غير مقبول لأنه يفترض شيئاً أبعد تحققاً من الارتباطات السابقة. وعلى العموم يمكننا أن نترك الباب مفتوحاً دون اتخاذ قرار. 7- إن الانتشار والنقل والتقبل لا تسير كلها حسب قواعد معينة هناك دائماً فرص متعددة للقبول أو التعديل ، وهى فرصة الاختيار الحر عند غالبية الجماعات. 8- يترتب على ذلك أن كل حالة من حالات الانتشار الثقافي يجب أن تعالج قائمة بذاتها وحسب ظروفها. والجدير بالذكر أن فكرة الدوائر الثقافية كانت في مجموعها وسيلة ومنهجاً أدق وأحسن من أفكار المدرسة الانتشارية الثانية التى تأسست في بريطانيا على يد عالم التشريح البريطاني اليوت سميث الذى كان مهتماً بالآثار والهياكل البشرية. وكان سميث وكذلك تلميذه بيري قد اعتقدا بأن الثقافة الإنسانية نشأت على ضفاف النيل وازدهرت في مصر القديمة منذ حوالي خمسة ألف سنة قبل الميلاد تقريباً. وعندما توافرت الظروف وبدأت الاتصالات بين الجماعات والشعوب انتقلت بعض مظاهر تلك الثقافة المصرية القديمة إلى بقية العالم. ففي كتابه "هجرة الحضارات" الذى نشره عام 1915 يؤكد سميث من خلال دراسته للمتشابهات الاثنوغرافية خارج مصر بأن مصر كانت مركزاً للثقافة ومنها انتقلت إلى عالم البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وأفريقيا والهند واندونيسيا وعالم المحيط الهادي والأمريكتين. وفي عام 1923 نشر بيري كتابه " أطفال الشمس" الذى حدد فيه عنصراً واحداً سيطر على مجمل الثقافة المصرية … الاعتقاد في ألوهية الملوك أبناء الشمس، وبالتالي عبادة الشمس. واهتم بيري بعدة عناصر ثقافية مصرية في توزيعها العالمي مثل التحنيط وبناء الأهرام والقيمة التي يعطيها المصريون القدماء للمعادن النفيسة بحسبانها قوة مانحة للحياة المديدة… إلخ. أما في أمريكا فإن الاتجاه الانتشاري وجد تعبيراً له في كتابات فرانز بواس العالم الطبيعي الألماني الذي استهوته الأنثروبولوجيا بعد زيارة قام بها إلى جزيرة بافن في كندا في عام 1883. فقد أشار بواس إلى أنه من خلال دراسة الشكل والتوزيع الجغرافي لمصدر السمات الثقافية وهجرتها واستعارتها عن طريق الاتصال بين الشعوب، يمكن للباحث أن يستدل على كيفية نشأة السمات الثقافية وتطورها، وبالتالي يمكن الوصول إلى نظرية تتوفر فيها عناصر الصدق والبرهان لتفسير المجتمعات الإنسانية وتطور النظم الاجتماعية أو السمات الثقافية. وانطلاقا من هذا الفهم استخدم بواس مصطلح المناطق الثقافية الذى يشير إلى مجموعات من المناطق الجغرافية التي تتصف كل منها بنمط ثقافي معين غض النظر عن احتواء أي من هذه المناطق على شعوب أو جماعات. ويشير مفهوم المنطقة الثقافية إلى طرق السلوك الشائعة بين عدد من المجتمعات التي تتميز باشتراكها في عدد من مظاهر الثقافة نتيجة لدرجة معينة من الاتصال والتفاعل. وفق هذا الإطار النظري سعت المدرسة الأمريكية بزعامة بواس إلى إنجاز الدراسة التاريخية الدقيقة للعناصر المختلفة لثقافة محددة وتحليل كل جزء أو عنصر من حيث مصدر نشأته وتطوره واستخدامه وتتبع عمليات هجرته أو استعارته بين الشعوب المختلفة. وكان من نتيجة هذا الاتجاه الانتشاري أن أخذ علماء الإنسان في النظر إلى الثقافات الإنسانية بحسبان أنها تؤلف كيانات مستقلة من حيث المنشأ والتطور ومن حيث ملامحها الرئيسة التى تميزها عن غيرها، وهو ما يضع الاتجاه الانتشاري على عكس الاتجاه التطوري الذى يرى أن الثقافات متشابهة وأن الاختلاف الوحيد بينها يكمن فقط في درجة تطورها التقني والاقتصادي. لقد زعزعت المدرسة الانتشارية إن لم يكن إشكالية الاتجاه التطوري فعلى الأقل طريقته. فالاتجاه الانتشاري قد ابتعد على الأقل عن الفهم الخطى للتاريخ، ومن ناحية ثانية جعل نظرية التاريخ لاحقة لتحليل التواريخ الجزئية لكل مجتمع بحسبانه كلاً مستقلاً، هكذا كتب بواس قائلاً "حين نوضح تاريخ ثقافة واحدة ونفهم مؤثرات المحيط والشروط النفسيَّة التى تنعكس فيها، نكون قد خطونا خطوة إلى الأمام . كذلك يمكننا أن نبحث في الأسباب المؤثرة أثناء تكونه، أو إبانة تطور تلك الثقافة . وهكذا، وبفهمنا لمقاطع النمو، يمكننا اكتشاف قوانين عامة. هذه الطريقة أكثر ضماناً من الطريقة المقارنة (التطورية). والتي غالباً ما تمارس، فبدل وضع فرضية تتناول نمطاً لتطور، يقدم التاريخ الفعلي قاعدة الاستنتاجات. اعتقادنا أن جل الأنثروبولوجيا الثقافية كامن في هذا النص: مفهوم الثقافة، والتحليل الوصفي للمحيط المادي، والتفسير النفسي، والشك بالتاريخ. اهتم بواس في عبارته بالتساؤل عن المنهج الذى يتحكم بالعمل الأنثروبولوجي التقليدي. ومع ذلك فثمة نقد لمفهوم الطبقات، والشرائح. ونجد في كتاب لوفي "المجتمع البدائي" (1920) رفضاً كاملاً لمفاهيم مورغان الأساسية : تتابع ذو خط واحد لطبقات التطور، مفهوم نسق القرابة، مفهوم الأصل … إلخ. استخلص مالينوفيسكي وراد كليف بروان، كما سنرى، هذه النتائج في ما لها من أبعاد. النظرية الوظيفية يعد الاتجاه الوظيفي من الاتجاهات النظرية الأساسية في علم الإنسان وفي علم الاجتماع. أخذ هذا الاتجاه في التبلور منهجاً نظرياً لدراسة الثقافات الإنسانية في الوقت الذى نشأ فيه الاتجاه الانتشاري في كل من أوروبا وأمريكا كرد فعل على منطلقات الاتجاه التطوري. إلا أن فكرة الوظيفة قديمة وجدت تعبيراً لها في أعمال الفلاسفة والمفكرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. اقترن الاتجاه الوظيفي بصور ة أساسية بالأنثروبولوجيا الاجتماعية في بريطانيا بأسماء مالينوفسكى ورادكليف بروان. اقترنت الوظيفية بالاتجاه العضوي في العلوم الطبيعية عرف الاتجاه الوظيفي في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بتركيزه على دراسة الثقافات الإنسانية كل على حدة وفق واقعها المكاني والزماني ذلك أن الوظيفية ليست دراسة متزامنة بقدر ما هي آنية. وفي ذلك اختلف الاتجاه الوظيفي عن الدراسات التاريخية النزعة المميزة لكل من الاتجاهين التطوري الانتشاري. وقد تجلى الاتجاه الذى صار يعرف باسم المماثلة العضوية بداية في أعمال الفلاسفة الأخلاقيين الاسكتلنديين من أمثال آدم سميث وديفيد هيوم وغيرهما من الذين رأوا في المجتمع نسقاً طبيعياً ينشأ من الطبيعة البشرية لا من العقد الاجتماعي. وقد استخدم مونتسكيو مفهوم النسق في كتابه "روح القوانين" بوضعه أسس النسق الاجتماعي الكلى بناءً على ارتباط أجزاء المجتمع ارتباطا وظيفياً. وأصبحت فكرة النسق الاجتماعي العامل القوى في إرساء دعائم علم الاجتماع المقارن والأنثروبولوجيا الاجتماعية. أصبح التحليل الوظيفي مدخلاً أساسياً في تحليلات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية للربط بين النظام الاجتماعي ووظيفته وبين خصائص سلوك الأفراد الذين يؤلفون ذلك النظام. يشتمل النسق الاجتماعي على عدد من النظم يقوم كل نظام بوظيفته المعينة بغية الحفاظ على سلامة النسق. وينظر الوظيفيون إلى المجتمعات البشرية أنساقاً اجتماعية تعتمد أجزاؤها بعضها على بعض ويدخل كل جزء منها في عدد من العلاقات الضرورية مع الأجزاء الأخرى. وقد ذهب هربرت سبنسر في موضوع المماثلة إلى أبعد من ذلك حيث شبه المجتمع من حيث البناء والوظيفة بالكائن الحي بحسبان أن المجتمع ينمو ويتطور تماماً كما ينمو الأول ويتطور. واستخدم سبنسر إصطلاحات العلوم الطبيعية في تحليلاته البنائية الوظيفية للمجتمع والحياة الاجتماعية مثل الفسيولوجيا والمورفولوجيا والإيكولوجيا…إلخ. وأشار بوضوح إلى أن البناء يتألف من الأجزاء التى تدخل في تركيبه وفي عناصر جزئية لا حصر لعددها تؤدى دورها في عملية التساند بين جميع الأجزاء التى تدخل في تركيب البناء الكلى. ويعد إميل دوركايم بحق حلقة الوصل بين الفكر الذى كان سائداً في القرن التاسع عشر والاتجاهات الجديدة للفكر الاجتماعي التى ظهرت في بداية القرن التاسع عشر والاتجاهات الجديدة للفكر الاجتماعي التى ظهرت في بداية القرن العشرين. اتخذ دوركايم موقفاً رافضاً للتفسيرات العضوية التى قال بها أنصار الاتجاه العضوي من أمثال هربرت سبنسر، مستبعداً إمكانية تفسير الظواهر الاجتماعية من خلال المماثلة العضوية. وكان دوركايم يسعى إلى تحرير الظواهر الاجتماعية من محتوياتها النفسية وإلى تجريدها من أصولها البيولوجية بالتركيز على دراسة تلك الظواهر من وجهة نظر اجتماعية صرفة في حدود علم الاجتماع. يرى دوركايم أن الظاهرة الاجتماعية يجب أن تتمتع باستقلالها بحسبانها ظاهرة قائمة بذاتها، أي أنَّ لها وجودها المستقل عن الظواهر البيولوجية ولا يمكن لها ان تتأثر إلا اجتماعيا ولا تفسر إلا على أسس اجتماعية. وفي كتابه "تقسيم العمل" استخدم دوركايم الوظيفة بمعنيين اثنين: أولاً بالإشارة إلى نسق من الحركات الحيوية اللازمة لحياة الكائن العضوي، وثانياً بالإشارة إلى العلاقة التى تربط بين تلك الحركات الحيوية وبين حاجات الكائن العضوي (وظيفة التنفس، والهضم على سبيل المثال). استخدم دوركايم مفهوم الدور مرادفاً لمفهوم الوظيفة ذلك أنه حين يتحدث عن وظيفة الدين مثلاً فإنه يشير إلى الدور الذي يقوم به الدين في الحياة الاجتماعية. ويوصى دوركايم تلاميذه بكلمته: إذا كنت ترغب في دراسة ظاهرة اجتماعية فعليك أن تصل إلى السبب الذى أدى إلى الوظيفة التى تقوم بها الظاهرة. برونيسلو مالينوفسكي(1884-1942) تمثل إسهام مالينوفسكى في النظرية الوظيفية في طرحه لتوجيه نظري يقوم على فرضية مفادها أن جميع السمات الثقافية تشكل أجزاء مقيدة للمجتمع الذى توجد فيه، أي أن كل نمط ثقافي، وكل معتقد ديني، أو موقف من المواقف يمثل جزءاً من ثقافة المجتمع يؤدى وظيفة في تلك الثقافة. ويرى مالينوفسكي أن ثقافة أي مجتمع تنشأ وتتطور في إطار إشباع الاحتياجات البيولوجية للأفراد، وحصرها في التغذية، والإنجاب، والراحة البدنية، والأمان والاسترخاء، والحركة والنمو. ويرى مالينوفيسكى الثقافة بأنها "ذلك الكل من الأدوات وطبائع الجماعات الاجتماعية والأفكار الإنسانية والعقائد والعادات التى تؤلف في مجموعها الجهاز الذى يكون فيه الإنسان في وضع يفرض عليه أن يكيف نفسه مع هذا الجهاز الكلى لكي يحقق حاجاته الضرورية". ويؤكد مالينوفسكى أن كل ثقافة هي كيان كلى وظيفي متكامل ويشبهها بالكائن الحي بحيث لا نستطيع فهم أي جزء من الثقافة إلا في ضوء علاقته بالكل، وأن الوظيفة التى يؤديها بعناصر الثقافة الأخرى، أي أن الثقافة تدرس كما هي موجودة بالفعل وليس من الضروري أن نبحث في تاريخ نشأتها وتطورها. ويؤكد مالينوفسكى على الأسس البيولوجية التى تقوم عليها النظرية الأنثروبولوجية ذلك أن البشر في كل زمان ومكان عليهم أن يشبعوا حاجاتهم الضرورية التى تؤهلهم على البقاء، أي أن على البشر أن يشبعوا حاجاتهم الضرورية من غذاء وهواء، وعليهم أن يتناسلوا، وأن يزودوا أنفسهم بالراحة والصحة والأمن وغيرها من الحاجات الضرورية التى تحفظ للنوع البشرى البقاء والاستمرار، أي أن الإنسان ليس مثل بقية الحيوانات يعيش فقط على الدوافع الجسمية، وإنما على الدوافع الثقافية. ونرى في كل مجتمع أنواعاً من الاستجابات الثقافية لكل تلك الاحتياجات الضرورية ذلك أنه وفقاً لرأي مالينوفسكى "لا يمكن تعريف الوظيفة إلا بإشباع الحاجات عن طريق النشاط الذى يتعاون فيه الأفراد ويستخدمون الآلات ويستهلكون ما ينتجونه". يرى مالينوفسكى أن الاستجابات الثقافية للحاجات البيولوجية الضرورية هي التى فرضت على الإنسان عدداً من الضرورات الناتجة عن هذه الاحتياجات الضرورية التي تتمثل في: أولاً: نتيجة للحاجة الضرورية للغذاء ظهرت استجابات ثقافية تتمثل في الحصول على الغذاء والذي يعرف بالتنظيم الاقتصادي أياً كان هذا التنظيم ساذجاً غير معقد أو معقداً أو شاملاً لعدد من القواعد المنظمة للنشاط الاقتصادي والمتمثلة في صنع الآلات والأدوات اللازمة لإنتاج الغذاء واستخدامها لأغراض أخرى مختلفة، إلى جانب ظواهر أخرى مصاحبة مثل ملكية الأرض وتقسيماتها وتوزيع الثروة بين أفراد المجتمع وتقسيم العمل وما إلى ذلك. ثانياً: تظهر الضرورة الثانية، وهى ضرورة معيارية أي ثقافية، استجابة للاحتياج لتفسير الثقافة ذاتها بقصد الوصول إلى الوظيفة الأساسية للثقافة البشرية المتمثلة في عمليات التعاون والحياة المشتركة مع ما يتطلبه ذلك من مظاهر العمل المشترك بين أفراد المجتمع من أجل المصلحة العامة، وتظهر بفعل ذلك قواعد اجتماعية معينة. ثالثاً: التنظيم السياسي الذى يحدد السلطات في أي مجتمع، ويرتبط في معظم المجتمعات بالتسلط والقهر، ويرمى إلى تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع فيما بينهم، وينظم علاقاتهم بغيرهم من المجتمعات، ويوفر لهم الحماية ضد الاعتداءات التى قد تقع عليهم من الخارج. رابعاً: الضرورة التى تمثلها الطرق والوسائل التى ينتقل بها التراث الاجتماعي الثقافي من جيل إلى جيل، أي التربيَّة المسئولة عن إعداد أفراد المجتمع تربوياً وتزويدهم بالمعارف اللازمة التى تؤهلهم للقيام بأدوارهم المحددة في المجتمع، وهى تمثل القوانين المنظمة للسلوك الإنساني من جميع جوانبه. ظهرت كتابات مالينوفسكى عن جماعات جزر تروبرياند بماليزيا فيما بين 1922-1935 وقد شكلت تلك الدراسات،كما يرى الكثيرون من العلماء، جل إنتاجه العلمي في الفترة التى أمضاها مدرساً بجامعة لندن، وقد شكلت معلوماته التى جمعها من جزر تروبرياند جوهر محاضراته ودروسه التى ألقاها في لندن بخاصة ما تعلق منها بخبرته في جمع تلك المعلومات وطريقته التي انتهجها في الدراسة الحقلية. يلاحظ أن مالينوفسكى سعى لتحقيق بعض الغايات من خلال ما نشره، ويمكن أن يكون من بين تلك الغايات التأكيد على رأيه القائل بأن مظاهر الثقافة لا يمكن دراستها في ذاتها، أي بمعزل عن الغايات التى تسعى لتحقيقها، بمعنى أنه يجب على الباحث فهمها في حدود استخداماتها: فالقارب، على سبيل المثال، عند جماعات التروبرياند لا يُعد في حد ذاته أكثر من مجرد قطعة مادية، لكنه مصنوع لعدة أغراض. عند صناعته يواجه الناس بعدة صعوبات قد لا يمكن التغلب عليها إلا في حدود العمل التطوعي الجماعي، كما أن لكل خطوة من خطوات صناعة القارب طقوسها الخاصة بها وأن تلك الطقوس والاعتقادات لا تكمن في مجرد خطوات صناعة القارب وإنما حتى عند استخدامه في الإبحار، وفي مجابهة الأخطار، وفي نجاح التجارة وما إلى ذلك. ويلاحظ مالينوفسكى بفعل خبرته الدقيقة بقضايا منهج الأنثروبولوجيا الاجتماعية أنه يجب على الباحث ألا يعتمد كثيراً على العموميات، كما ويجب عليه ألا يعَّول كثيراً على شروح مخبره المرافق له في الدراسة الحقليَّة من أجل الوصول إلى فهم الحقيقة الاجتماعية وذلك لأن الناس دائماً يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً مغايراً. ويسدى مالينوفيسكى نصيحة لطلاب الأنثروبولوجيا الاجتماعية مفادها أن الإنسان البدائي الذى صُور لنا على أنه إنسان متوحش هو في الواقع إنسان مثلنا يتمتع بعقل ويستخدم هذا العقل مثلنا، على أن مالينوفسكى كان قد استخلص هذه المبادئ في دراساته التي قام بها في جزر تروبرياند حيث اكتشف حقيقة الإنسان البدائي وعقليته، وأن مسألة العقلانية هذه مهمة جداً عند مالينوفسكى إذ كتب في مقدمة كتابه "الجريمة والعادة في مجتمع متوحش" أن الباحث الأنثروبولوجي الحديث قد جبل على طريقة الوصول إلى بعض القواعد العامة في بعض المسائل مثل قضية ما إذا كان العقل البدائي يختلف عن عقولنا أو أنه مثل عقولنا، أو ما إذا كانت حياة الجماعات المتوحشة كلها مسيَّرة وبصورة دائمة بعالم الغيبيات أو بقوى ما وراء طبيعية أو على العكس من ذلك إلى غير ذلك من القضايا. على أن هذه المشكلات العقلانية العامة، أي القوى والقواعد العامة وغيرها يمكن أن تكون من وجهة نظر مالينوفسكى الأساس لنظرية عالمية للإنسان الاجتماعي. يقدم مالينوفسكى في كتابه "أبطال المحيط الهادي الغربي" تحليلاً يجوز عده نموذجاً من نماذج الأنثروبولوجيا الحديثة وإن كانت بعض تفسيراته موضع اعتراض اليوم. يعرض مالينوفسكى تداخل عناصر ثقافة جماعات تروبرياند من خلال وصف النظام الاقتصادي للأسر الأموية حيث يلتمس الفرد أصله وقرابته عن طريق الأم وحيث لا يرتبط الابن بأبيه وإنما بخاله الذى هو عشيرته. الفرد من التروبرياند يعمل بجد واجتهاد في بستانه لكي يعول أخته وأولادها وليس زوجته وأولاده، وأن أكثر من 75% من إنتاجه يوزع على أقاربه من أمه. هنا يتضح تداخل النظام الاقتصادي بنظام القرابة في مجتمع التروبرياند كما يحلله مالينوفسكى من واقع حياتهم الاجتماعية. يسمح هذا النظام الاجتماعي للزعماء بتعدد الزوجات، ويفضل الزعماء الزواج بالنساء اللائي لهن إخوة أغنياء ليكون لهم عدد من الأصهار الأثرياء وبما أن النظام الأمومي في تروبرياياند يضع واجبات على الأخ نحو أخته فإن الزعيم يجد نفسه غارقاً في الثروة التى تقدم لزوجاته من أخواتهن. ما يتحصل عليه الزعيم من ثروة لا يخزنه، بخاصة السلع الغذائية، بل يقوم بتوزيعه في عدد من المناسبات والاحتفالات. أنه من خلال التزام الزعيم بالتوزيع المستمر للثروة في مثل تلك الاحتفالات فإنه يعنى بالمهام المناط بها زعيماً من جهة، ومن جهة ثانية فإن استمرار هذا الالتزام يعتمد على استمرار النظام القرابى. يقدم تحليل مالينوفسكى للسلطات التى يمارسها الزعيم في قرية أوماركانا التى تهيمن على مقاطعة كيريوينا إشارة إلى أن القرية تمثل الوحدة السياسية الأساسية لمجتمع تروبرياند، ويمارس حتى أكثر الزعماء شأناً سلطتهم على قريتهم بصورة رئيسة، وعلى مقاطعتهم بصورة ثانوية. تستثمر المشاعة القروية بساتينها جماعياً وتشن الحرب، وتقيم الاحتفالات الدينية، وترسل البعثات التجارية. يبقى استقلالها الذاتي السياسي والاقتصادي على جانب كبير من الأهمية. يمارس زعيم القرية شيئاً من السلطة على المقاطعة، أي على مجموعة من القرى تنضم إلى قريته في الحرب وفي الاحتفالات الدينيَّة الكبيرة. يتوزع جميع الرجال من ذوى الرتب في شكل هرم يترأسه زعيم أوماركانا. هذا الزعيم هو سيد أقوى القوى السحريَّة التى تتحكم بالمطر والشمس. يتحلى الرجال ذوو الرتب بحلي مميزة، لكنهم يتميزون قبل كل شئ عن العوام بوجود محرمات (تابو) يتكاثر عددها كلما ارتقينا سلم الهرم. لا يتمتع الأشخاص من ذوى الرتب العالية والزعماء بأي سلطة قضائية أو تنفيذية على الأفراد من ذوى الرتب الدنيا في القرى غير المرتبطة بقريتهم. عندما يطلب زعيم من الزعماء من أفراد قريته أو مقاطعته أو من الأجانب بذل الخدمات فإنه يكون ملزماً بالتعويض عن هذه الخدمات. وكما أوضحنا فأن الزعيم يتحصل على الموارد الضرورية عن طريق تعدد الزوجات الذى هو امتياز الزعماء، وعن طريق الهبة التى يدين بها كل صهر لزوج أخته. الزعيم ذو الرتبة يتزوج واحدة من أخوات كل زعيم من زعماء قرى مقاطعته فيصبحون مدينين له بجزء من محاصيلهم وأشيائهم الثمينة. يستخدم الزعيم ذو الرتبة هذا الثراء في إقامة الاحتفالات الكبيرة، وبوجه عام في دمج عدد من القرى بـ "اقتصاد المقاطعة". وبهذا فأن الزعيم هو الأداة لاقتصاد أوسع نطاقاً من اقتصاد القرية. لا يتمتع الزعيم بأية قوة عامة لتسوية المنازعات التى تظل من اختصاص الأنساب. يتمتع الزعيم بسلاح أوحد هو السحر، ويكون خيرة السحرة تحت تصرفه. وعلى هذا لا يعرف مجتمع تروبرياند حكومة مركزية. إن مجتمع تروبرياند يجسد مثالاً لتسلسل هرمي وراثي يربط بين مختلف الأنساب والمشاعات القروية المحلية من دون أن يؤدى الوظيفة التي تؤديها بنية سياسية ظاهرة. أن سلطة الزعماء هي ركيزة العلاقات الاقتصادية والدينية التى تتخطى إطار المشاعات القروية الخصوصية من غير أن تدمج مع ذلك هذه المشاعات في شبكة اقتصادية واحتفالية واحدة تغطى الجزيرة بأسرها. ويتمتع الزعماء بأقوى السلطات السحرية التى ينبغي عليهم أن يضعوها في خدمة مشاعاتهم . ولهذا فأن إمتيازاتهم هى الوجه الآخر لواجباتهم والمكافأة على الخدمات الاستثنائية التى يبذلونها لمشاعاتهم على كافة المستويات وهمية كانت أم فعلية. ويمثل مجتمع تروبرياند أشهر مثال على الأهمية والشكل اللذين قد تتلبسهما المبادلات في المجتمعات البدائية المجزأة. فعلاوة على تبادل القلائد والأساور، تتيح البعثات البحرية الكبيرة إمكانية التموين بالمواد الأولية الضرورية من حجارة للفؤوس وخيزران وصلصال وما إلى ذلك. لقد كانت شبكة توزيع الكولا تؤلف رابطة سياسية واسعة تربط بين مجتمعات مجزأة يتوجب عليها أن تكفل الانتظام لتجارة حيوية من دون مساعدة حكومة مركزية تحفظ السلام وتوطده. حاول مالينوفسكى لدى تحليل نظام شبكة توزيع الكولا توضيح النشاطات الاقتصادية ومزجها بالنظام الطقوسي المتمثل في السحر والشعوذة. تمارس جماعات تروبرياند الزراعة وبناء القوارب وصيد الأسماك من خلال أسلوب لتقسيم العمل بين الأفراد وفق أنواع النشاطات الاقتصادية الشئ الذى يدفعهم إلى تبادل السلع بين جزر تروبرياند المختلفة عن طريق شبكة توزيع الكولا. يحلل مالينوفسكى شبكة الكولا بحسبانها أنساق مركبة من الشعائر الدينية والطقوس والاحتفالات التى يتم فيها تبادل بعض المواد الطقوسية بين أفراد الجماعات التى تنتمى إلى شبكة كولا معينة. ورغم النسق المركب لشبكة الكولا فإنها تمارس دوراً تجارياً ذلك أنه عندما يرغب أحد الأفراد في شبكة ما زيارة شريكه في جزيرة أخرى عليه أن يحمل معه منتجاته ومصنوعاته التى يرى ضرورة حملها معه. يحلل مالينوفسكى طقوس الاستقبال والاحتفالات الدينية التى يتم خلالها تبادل السلع وكذلك تقديم الهدايا بمدى رضا الإنسان المتحصل على الهديَّة. هكذا يفسر مالينوفسكى فلسفة جماعات تروبرياند من توزيع سلعهم من خلال تحليله لشبكة توزيع الكولا. راد كليف بروان(1881-1955) حاول رادكليف براون أن يطور الأنثروبولوجيا الاجتماعية إلى علم طبيعي يقوم على الدراسة العلمية المقارنة للأنساق الاجتماعية عند الشعوب البدائية. أسهم إسهاماً بناءً في دراسة البناء الاجتماعي وأنساق القرابة. يعد هو ومالينوفسكى المؤسسين لمدرسة الأنثروبولوجيا البريطانية الحديثة. ألف كتاب: "جزر الاندمان" (1922). وجمعت مقالاته العلمية ومحاضراته في ثلاثة كتب: "البنية والوظيفة في المجتمع البدائي" (1952)، "علم طبيعي للمجتمع" (1957)، "المنهج في الأنثروبولوجيا الاجتماعية" (1958). من أهم الاتجاهات التي تأثر بها بروان وهيمنت على أفكاره مسألة المماثلة بين الكائنات الحية والحياة الاجتماعية، أي على أساس المشابهة بين الحياة الاجتماعية والحياة العضوية البيولوجية كما كان الحال عند إميل دور كايم. يرى بروان أن المجتمع مثله مثل الكائن الحي يتألف من أجزاء أو وحدات تتداخل وظيفياً وتعتمد على بعضها البعض، فمثلاً أنه كما تتعاضد أعضاء الكائن الحي للحفاظ على الكائن حياً تعمل نظم المجتمع وتقاليده بدورها على بقاء المجتمع واستمراره. يُعرِّف بروان الوظيفة بأنها الدور الذى يؤديه أي نشاط جزئي في النشاط الكلى الذى يكون هو جزء فيه. هكذا تكون وظيفة أي نظام اجتماعي كامنة في الدور الذي يؤديه في البنية الاجتماعية المكونة من أفراد يرتبطون ببعضهم في كلٍ واحدٍ متماسكٍ للعلاقات الاجتماعية المحددة، ووظيفة أية عادة اجتماعية هي الدور الذى تقوم به العادة المعينة في مجمل الحياة الاجتماعية على أساس أن هذه الحياة هي عماد النسق الاجتماعي الكلى. يعطى براون أهميَّة للحياة الاجتماعية في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية طالما أن النسق الاجتماعي يؤلف، في رأيه، وحدة كيان ووظيفة، أي أنه ليس مجرد تجمع أو حشد وإنما هو كل متكامل مثله مثل الكائن العضوي. رأينا كيف أن مالينوفسكى اهتم بمفهوم الثقافة وجعلها محوراً وأساساً لدراساته وتحليلاته الوظيفية. أما براون فيهتم بالمجتمع عاداً إياه نسقاً طبيعياً. اهتم براون من ثم بالأشخاص Persons عاداً إياهم وحدات بنيوية حيث أن هذه الوحدات تكوَّن الكل وتجعل منه بنيَّة، هذه الأهميَّة التى أولاها براون للأشخاص جعلته يفرق بينهم وبين الأفراد Individuals. الأشخاص أعضاء المجتمع يمكن أن يكون كل منهم مواطناً له مهنة معينة، أي أن الشخص عند براون يجسد مجموعة علاقات اجتماعية، في حين أن الفرد هو كائن بيولوجي بمعنى أنه يجسد مجموعة من العمليات الفسيولوجية والسلوكية ويقوم علماء الفسيولوجيا وعلماء النفس بدراسته. أما الأشخاص فأن دراستهم تقع في نطاق البنية الاجتماعية ولا يمكن دراسة أية بنية اجتماعية ودونهم بحسبانهم وحدات البنية الرئيسة. لهذا فأن دراسة المجتمع عند براون بمعناها البنيوي تشير إلى الترابط الداخلي الذى يربط بين البنية الاجتماعية وبين صيرورة الحياة الاجتماعية. عليه فأن استخدام مفاهيم مثل صيرورة Process، وبنية Structure ، ووظيفة Functionما هي إلا محاور بنى عليها براون نظريته في تفسير الأنساق الاجتماعية. تقوم فكرة الوظيفة بمعناها البنيوي عند براون على أساس أن البنية تؤلف مجموعة من العلاقات التى تربط بين تلك الوحدات البنيوية بدرجات متفاوتة. فالأسرة عند براون هي بمثابة وحدة بنيوية والعلاقات الأسرية القائمة بين أفرادها هي علاقات بنيوية تستحيل رؤيتها في عموميتها في أية لحظة لكننا نستطيع ملاحظتها. أن أهمَّ ما يميز تفسيرات براون وتحليلاته الوظيفية هو تركيزها على البنية الاجتماعية هو تركيزها على البنية الاجتماعية ووظيفتها وهو ما أدى إلى انبثاق اتجاه جديد في الأنثروبولوجيا صار يعرف بالاتجاه البنيوي الوظيفي. اضطر رادكليف براون، في محاولته إعطاء الأنثروبولوجيا نقاءً جديداً ومنهجية، أن يذوب هذا العلم في النظرية العامة المتعلقة بالمجتمعات، أي في علم الاجتماع، وفي الوقت نفسه أعطى براون الأنثروبولوجيا تمايزاً معرفياً. وبما أن المجتمعات غير المعقدة (البدائية/غير المعقدة) نسبياً هي مادة موضوع دراسة الأنثروبولوجيا، فقد ارتأى براون إمكانية أخذ مفاهيم علم الاجتماع الأساسية (بنية، ووظيفة، ومجتمع الخ. كما أشرنا). هكذا تبدى لبراون بأنه يمكنه، انطلاقا من أجزاء طفيفة في علم الاجتماع، إثراء طريقته. الأمر كذلك يجوز القول بأن فكرة البنية الاجتماعية ظهرت في الأنثروبولوجيا مع التحليلات التى قدمها براون ومع تعريفه لمفهوم البنية. الحق يقال فأن مفهوم البنية شابه قدر من الغموض لوروده بأشكال عديدة في أعمال الكثيرين من علماء الاجتماع. تعددت الآراء وتنوعت حول هذا المفهوم لدرجة استحالت معها فرصة الوصول إلى تعريف واحد شامل ومحدد يتفق حوله العلماء. ففي كتابه "البنية الاجتماعية" (1965) يرى موردوك أن مفهوم البنية الاجتماعية يدل على تماسك المؤسسات الاجتماعية إذ ليست تلك المؤسسات تجمعاً عشوائياً بل أن لها بنية. أحد أغراض هذا النوع من التحليل هو بالتحديد فهم تماسك المؤسسات الاجتماعية وإظهار تبعيتها المتبادلة، ولذلك فإنه يلاحظ استبعاد هذه الفكرة في شكل التحليل البنيوى الوظيفي. بصورة أعم غالباً ما ينال مفهوم البنية عند الوظيفيين والبنيويين تفسيراً قريباً من مفهوم النمط. في حالات يتم استخدام مفهوم البنية بمواجهة تعبيرات أخرى أو بالعلاقة معها إذ نجد أن غورفتش في مقال نشره بعنوان "مفهوم البنية الاجتماعية" (1955) يميز مثلاً المجموعات المبنية عن المجموعات المنظمة وهكذا فإنه يعتقد بإمكانية أن تكون الطبقات الاجتماعية "متبنية" دون أن تكون "منظمة". ويواجه مفهوم البنية في ظروف أخرى بمفهوم المصادفة. كذلك فأن مفهوم البنية غالباً ما يشير إلى العناصر الثابتة لنظام معين مقابل عناصره المتغيرة … وهكذا تشير فكرة المفهوم إلى نموذج معين، إما إلى ثوابت النموذج، وإما إلى مجمل الثوابت والوظائف التى تربط المتغيرات فيما بينها، وإما أيضاً إلى مجمل الثوابت والوظائف. وفي حالات أخرى أيضاً يستعمل مفهوم البنية بشئ من التردد لتمييز الأساسي من الثانوي والجوهري من غير الجوهري والأصلي من المشتق … هكذا يرى مانهايم أن البنية الاجتماعية هي "نسيج القوى الاجتماعية في نشاطها المتبادل والذي تخرج منه مختلف نماذج الملاحظة والفكر"…في هذه الحالة فأن مفهوم البنية الاجتماعية يشير بصورة ضمنية إلى مجمل العناصر لنظام اجتماعي معين يخمن عالم الاجتماع أنه يسيطر عليها ويحدد الأخرى. بالنسبة لمانهايم يتعلق الأمر بالعناصر المادية (التى يشار إليها بغموض بعبارة "القوى الاجتماعية" التى تسمح بتفسير العناصر الفكرية، وهو ما يذكرنا بالتمييز الذى يقيمه ماركس بين البنية التحتية والبنية الفوقية. ويستعمل بعض علماء الاجتماع مفهوم البنية الاجتماعية بحسبانه مرادفاً "لنظام التدرج" وتعد متغيرات التدرج في هذه الحال أولية وحاسمة. وقد رفض علماء الأنثروبولوجيا من أمثال كروبر وايفانز برتشارد وراد كليف بروان عد بعض فئات المتغيرات بصفتها حاسمة بحيث أصبح مفهوم البنية الاجتماعية عندهم مرادفاً بسيطاً لمفاهيم أخرى، مثل مفاهيم التنظيم الاجتماعي أو تنظيم العلاقات الاجتماعية. هكذا يمكن أن يظهر مفهوم البنية مترابطاً مع مفهوم النظام إذا اعتبرنا أن النظام هو مجمل "العناصر ذات التبعية المتبادلة". ولكن يمكن أن يظهر كذلك وكأنه معَّرف ضمنياً أو صراحة بمواجهة مجموعة أخرى من المفاهيم أو من التصاق بها، في اتجاهات متنوعة جداً ربما يستطيع الوضع العام وحده أن يحددها. على كل فقد اقترن مفهوم البنية عند أصحاب الاتجاه الوظيفي بالدراسات الحقليَّة المعمقة بخاصة تلك التى قام مالينوفسكى في جزر تروبرياند وكذلك راد كليف بروان في جزر الاندمان حيث ظهرت تبعاً لذلك تعريفات للبنية الاجتماعية بعيدة عن الارتباط بالوظيفة عند براون وآخرين وظهور اتجاه جديد يجمع بين البنية والوظيفة عرف بالاتجاه البنيوي الوظيفي. يرى بروان أن مفهوم البنية يشير بالضرورة إلى وجود نوع من الترتيب بين الأجزاء التى تدخل في تركيب الكل وذلك لأن ثمة علاقات وروابط معينة بين الأجزاء التى تؤلف الكل وتجعل منه بنية متماسكة ومتمايزة. ومن ثم تكون الوحدات الجزئية التى تدخل في تكوين البنية الاجتماعية هم الأشخاص أعضاء المجتمع الذين يحتل كل منهم مركزاً معيناً في المجتمع ويؤدى دوراً معلوماً في الحياة الاجتماعية. وكما أشرنا سابقاً فأن هذه تشكل النقطة الأساسية في نظرية راد كليف بروان عن البنية الاجتماعية لأن الإنسان فرداً لا يعد جزءاً مكوناً للبنية التى تتألف من أشخاص هم أعضاء المجتمع لا من حيث أنهم أفراد. الإنسان فرداً هو كائن بيولوجي يتكون من مجموعة كبيرة من وحدات وعمليات عضوية ونفسية وبالتالي مداراً لبحث البيولوجيا وعلم النفس. أما الإنسان شخصاً فهو مجموعة من العلاقات الاجتماعية تتحد طبقاً لمكانته الاجتماعية مواطناً، وزوجاً، وأباً، وعضواً في مجتمع الخ. من هنا يصبح الإنسان "الشخص" لا "الفرد" هو موضوع بحث الأنثروبولوجيا الاجتماعية التى تستمر باستمرار النظام الاجتماعي الذى ينظم أدوار الأشخاص ويشخص علاقاتهم بين بعضهم البعض ويحددها … هذا ما يفسر، في رأي براون، استمرار العشيرة، والقبيلة، والأمة بحسبانها تجسيداً لتنظيمات معينة من الأشخاص رغم التغير الذى يصيب الوحدات المؤلفة له من وقت إلى آخر . يقصد براون بالبنية الاجتماعية الآتي: أولاً: الجماعات الاجتماعية الموجودة لفترة طويلة وكافية، وهى الأشكال المورفولوجية للمجتمع الإنساني والتي تمثل تجمع الأنساق في وحدات اجتماعية مختلفة الأحجام. ثانياً: التباين القائم بين أفراد وجماعات مجتمع من المجتمعات، ويحدد ذلك التباين الأدوار الاجتماعية التى يقوم بها الأفراد والجماعات في المجتمع الواحد، مثل اختلاف المركز الاجتماعي بين الرجال والنساء، وبين الشيوخ والشباب، وبين الشباب والأطفال، وبين الرئيس والمرؤوس، وبين صاحب العمل والعمال. ثالثاً: كل العلاقات الاجتماعية التى تقوم بين شخص وآخر من البنية التى تتكون من العلاقات الثنائية مثل العلاقات بين الأب وابنه، وابن الخال وابن أخته الخ. ويعد النظام القرابى في المجتمعات غير المعقدة أهم النظم الاجتماعية وهو الذى يحدد شبكة العلاقات الاجتماعية للمجتمع. وتتميز البنية الاجتماعية وفقاً لبروان بعدة خصائص: 1- البنيةالواقعية التى هي مجموعة من العلاقات الواقعيَّة بين شخصين على الأقل، وقد تضم عدداً كبيراً من الأشخاص. ما يميز هذه العلاقات طابعها المتغير سواء بين الأشخاص أو الجماعات، بمعنى أنها غير ثابتة بفعل دخول أعضاء جدد في المجتمع عبر الولادة أو الهجرة إلى المجتمع، والهجرة من المجتمع، والوفيات. تشمل البنية الاجتماعية الواقعية أيضاً جميع العلاقات الاجتماعية الجزئية المتغيرة بين أعضاء أي مجتمع من المجتمعات البشرية. 2- الصورة البنيوية التي تتميز بالثبات النسبي لفترة زمنية تطول أو تقصر وفق متغيرات معينة. وتتعرض الصورة البنيوية للتغير في حالات بصورة فجائية أو تدريجية … فالثورة أو الغزو الخارجي قد يؤديان إلى حدوث تغير فجائي عارم. 3- لا يمكن رؤية البنية الاجتماعية بصورة مباشرة، لكن يمكن للباحث ملاحظة البنية في صورة علاقات اجتماعية محسوسة بين أفراد وجماعات مجتمع من المجتمعات …. ثم أن دراسة البنية الاجتماعية شئ ودراسة العلاقات الاجتماعية شئ آخر. يستخدم بعض الأنثروبولوجيين مصطلح البنية الاجتماعية للإشارة إلى الجماعات الاجتماعية الثابتة فقط مثل الأمم، والقبائل، والعشائر…إلخ التى تحتفظ باستمراريتها وكياناتها بالرغم من التغيرات التى تتعرض لها عضويتها زيادة أو نقصاناً. 5- يدرس الباحث الأنثروبولوجي البنية الاجتماعية بهدف الوصول إلى نتائج موضوعية مستخدماً منهجاً شمولياً، أي دراسة تشمل جميع أجزاء البنية الاجتماعية وكافة مظاهرها ذلك أن عناصر البنية وأجزاءها تتفاعل ككل وعلى الباحث أن يكشف عن العلاقات المباشرة وغير المباشرة التي تربط تلك العناصر والأجزاء. بمعنى آخر عليه أن يحدد عملية التأثيرات المتبادلة بين وحدات البنية الاجتماعية. 6- استمرار البنية الاجتماعية وبقائها فترة طويلة من الزمن، وهى خاصة تميز البنية وتؤهلها للقيام بوظيفتها الاجتماعية الأساسية المتمثلة في الحفاظ على تماسك المجتمع وبقائه، ويكون بقاء البنية بقاءً متجدداً لا جامداً، بمعنى أنه متغير وليس ساكن. لقد أصبحت البنيوية الوظيفية دراسة لا لنمط الحياة بل لنمط وجود فعلى متخطية نزعة المركزة الاثنية التى ميزت الأنثروبولوجيا في النصف الأول للقرن التاسع عشر والتي لم تر في المجتمعات الأخرى إلا أنواعاً من الحياة التى تخطاها التطور. وتعد البنيوية الوظيفية أن كل مجتمع، بحسبانه نظام مؤسسات وممارسات لها دلالتها، قادر على الاستمرار في حركته وتحولاته والقيام بوظيفته رغم التغيرات الظاهرة داخلياً وخارجياً على المستوى "الشخصي"، وقادر على الممارسات غير الهامة. فالمجتمع ليس مجرد ركام لا عضوي كما تصور أنثروبولوجيو النصف الأول من القرن التاسع عشر، بل هو "نظام" وظيفي من مؤسسات تلبى حاجات إنسانية أساسية. فالوظيفة الإنسانية والاجتماعية لهذه المؤسسات هي التى تعطيها شبه شرعيتها وديمومتها. وقد عبرت عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية لوسى ماير عن ذلك بقولها: "أن تفسير الثقافة الإنسانية بحسبانها آلية تضامن تهدف لتحقيق الحاجات الاجتماعية بحيث يرتبط كل عنصر فيها بالباقي ويظل مشروطاً به، يفرض ضرورة الاهتمام بجدية أكثر بالمؤسسات غير المعقدة للشعوب غير المتحضرة أكثر مما تم في الماضي، وطالما أننا نؤكد أن القبائل مازالت تعيش شروط البربرية غير المنتظمة،و هى شروط تعترف بقسوتها حتى القبائل، يصبح يسيراً علينا أن نتطلع إلى انتصار المدنية مع ما يلحق بها من حسنات، وأن تعد كل مقاومة حيوية مؤقتة سترتفع حين يتبنى السكان الأصليون مفهوماًُ أكثر عقلانية". ![]()
|
||||
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc