على إحدى الموائد المنتشرة في أرجاء المقهى الفسيح ، المتربع في وسط المدينة ، جلس يرتشف قهوته في تؤدة و ملء عينيه نظرات حالمة ، منطلقة في شرود نحو السماء الزرقاء الصافية ، وفي حنايا نفسه آمال عريضة وأحلام بيضاء كأنها الزهور .
نادى النادل بصوت مرتخ وطلب منه كأس ماء :و راح يحدق على مهل في أفواج الداخلين و الخارجين ...الكل يغدو و يروح ،يرغي و يزبد ،و يسب و ينتقد ...
لا شك أن هذه الأمواج البشرية تسيبر على غير وعي منها ، إنها أشبه ماتكون بقطعان البهائم ، تحيا حياة بليدة ، لاهم لها إلا الجري وراء لقمة العيش إ و اللهث وراء متع الحياة و ملذاتها ، حتى إذا قضت وطرها و استوفت حاجياتها ، رحت تثرثر و تتشدق ، و تهرف بما لا تعرف .
لقدعاش يحلم و يحلم ، ويبني في أرض خياله الشاسعة صروح العدل و السلام ، ويشيد معالم الحب و الحرية ...كان يمني نفسه بعالم مثالي ، ترق فيه المشاعر ، وتلين الطباع ، و تنمحي منه الأنلنية و النفاق ، و يزول الكذب و الخداع ن وتتكاثف عناصره كلها في وحدة متراصة ،تداس تحت أقدامها فوارق الجدنس و الجاه ...
عالم لا يهدر فيه حق ، و لايضيع واجب ...
عالم كله بر و وفاء ، وإخلاص و صدق و صفاء ...
عالم الحب و الجمال و الحرية ...
جالت هذه الخواطر في فكره بينما ترقرقت على وجنتيه دمعتان كأنهما اللؤلؤ ...أسند رأسه بين ذراعيه على الطاولة محاولا إخفاء أشجانه عن الناظرين حتى لايظن به شيئا .
رفع رأسه نحو السماء ،و أرسل من صدره الكظيم زفرة طويلة ن ومضىيهرول وسط الزحام ن محاولا الإفلات من اختناق الشارع الطويل النكتظ بالسيارات و الشاحنات الاتي لا ينقطع صفيرها و دوي محركاتها .
إنه يعرف ملجأه الوحيد كلما جاشت خواطره و استبد به الشوق و الحنين...
هناك بين أحضان المروج الخضراء ، والجداول الرقراقة ، المنسابة بين الأشجار المتشابكة الأغصان ، و التي تتراقص على أنغام البلابل و الشحلرير ...و الكل يشدو نشيدا خالدا قدسيا ،لا تفقه معناه إلا الأرواح النورانية الصافية ... هناك فقط يجد راحته و طمأنينته ...
وقف فوق ر بوة صغيرة ، جاثمة وسط سنابل القمح الخضراء ،و راح يغني و يترنم بأحلى الأغاني القادمة من ذاكرة الطفولة السعيدة ..تماوجت السنابل من حوله شمالا و يمينا على وقع هبات النسيم المداعبة كأنها حشود من الجماهير تتمايل طربا على وقع أغاني مطرب عظيم، و ألحانه العذبة. رفع يديه ملوحا بالتحيات ، ثم ارتمى بين أحضان السنابل و الحشائش ، تلفه أزهار الأقحوان وتحيطه شقائق النعمان ...و ذاب في عالمه الطفولي البريئ ، الذي بقيت أصداؤه تتردد في جنبات نفسه القلقة .
[r]
عبد الحليم